حديث التقريب ..

حوافز في خطاب الامام الخميني (رض) تجاه القضية الفلسطينية

حوافز في خطاب الامام الخميني (رض) تجاه القضية الفلسطينية

المشاركة الجماهيرية العامة في يوم القدس (آخر جمعة من شهر رمضان المبارك)، لها دلالاتها الكبيرة على أنّ الإمام الخميني (رض) انطلق من مقدَّسَين (رمضان والقدس) ليكونا من حوافز خطابه.


في ظروف تصاعد طوفان الأقصى وبلوغ وحشية العدوّ الصهيوني أقصى مداه نستذكر الحوافز التي تجلت في خطاب الإمام الخميني (رض) تجاه القضية الفلطسينية، وهي نفسها التي يحتاجها خطاب المناصرين لهذه القضية في عالمنا المعاصر.

الدفاع عن المقدسات
القدس حاضرة في كل أدبيات الثورة الإسلامية بشأن فلسطين وفي فنونها وإعلامها. فبيت المقدس والأقصى يرمزان إلى المقدس في القضية الفلسطينية، والمقدس بما له من بعد غيبي لا متناه يشدّ الفرد والجماعة البشرية نحوه إيمانياً، ويزوّد المسيرة بعطاء متواصل، ويدفع إلى التضحية من أجل الحفاظ عليه.

حتى النظم الوضعية تحتاج إلى قدسية تجسّدها في العَلَم وفي الدستور وفي تراب الوطن من أجل شدّ الجماهير بالنظام.

والمقدس في القضية الفلسطينية يستوعب كل ذرة من تراب هذا الوطن الإسلامي، لكنه يضمّ أيضاً رموزاً تشكل عامل شد وتحريك لكل المسلمين، إلى جانب ما فيها من رموز مقدسة يشترك فيها المسيحيون والمسلمون.

والمقدس يمكن أن يكون وسيلة لقياس مافي الأمة من حياة ويستطيع العدوّ من خلاله أن يجسّ النبض ويعرف مستوى الحيوية. من هنا فإن احتلال الصهاينة للقدس وتدنيسها بأقدام القتلة كان يستهدف الإعلان عن انتهاء هذه الأمة.

لكن ردود الفعل المناسبة وخاصة انتفاضة الأقصى بدّدت آماله، ولهذا رأى الشارع الإيراني في انتفاضة الأقصى أنها إعلان عن وجوده هو، ودفاع عن كرامته هو، وهذا التفاعل مع الانتفاضة في إطار الدفاع عن المقدس من أهم رموز حضور القضية الفلسطينية في الشارع الإيراني.

المشاركة الجماهيرية العامة في يوم القدس (آخر جمعة من شهر رمضان المبارك)، لها دلالاتها الكبيرة على أنّ الإمام الراحل (رض) انطلق من مقدَّسَين (رمضان والقدس) ليكونا من حوافز خطابه.

في مسابقة «طريق القدس» التي أجراها مركز الدراسات الفلسطينية ولجنة الدفاع عن الثورة الإسلامية الفلسطينية بطهران في موضوع رسوم الأطفال تقدم 13422 متسابقاً من تلاميذ الابتدائية والتوجيهية والثانوية الإيرانيين، وقدّموا لوحات رسوم ترتبط بانتفاضة الشعب الفلسطيني، وقلّما نجد لوحة تخلو من صورة بيت المقدس ببنائه المضلع وقبته، مما يدلّ على عمق المقدس الفلسطيني في وجدان الشارع الإيراني.

كما أن رسوم الفنانين الإيرانيين والأناشيد الفلسطينية الإيرانية قلّما تخلو من القدس وبيت المقدس وقبة الصخرة والأقصى، وكلنا نتذكر عمليات «طريق القدس» في ردّ العدوان على الجمهورية الإسلامية وما حققته باسم هذا المقدس من انتصار. وهكذا انشداد الإيرانيين بمسلسل «طريق القدس» يحكي عن التعاطف النفسي مع الأمير العربي الحمداني في الدفاع عن المقدسات، ووجود «ساحة القدس» و«شارع القدس» إلى جانب «ساحة فلسطين» و«شارع فلسطين» في طهران والمدن الإيرانية الأخرى، تنمّ عن رموز القدسية في قضية فلسطين لدى المجتمع الإيراني.

مظلومية الشعب الفلسطيني
أظنّ أن أدبيات الثورة الإسلامية ووسائل إعلامها تنفرد في إطلاق صفة «المظلومية» على الشعب الفلسطيني والانتفاضة الفلسطينية، فهذه الصفة قد تكون سلبية في كثير من الأذهان، لكن الذهنية الإيرانية الإسلامية يتداعى لها «مظلومية» كل أصحاب الحقّ في التاريخ، وخاصة في لتاريخ الثوري الإسلامي وفي قمته تاريخ واقعة كربلاء. والمظلوم وفق هذه الذهنية ليس المقهور والمهزوم، بل هو طالب الحق الذي قَلّ عدده وعدّته، لكنه يأبى الذلّ ويرضى أن يتعرّض لألوان الظلم دون أن يتنازل عن حقّه.

يظهر من العمق النفسي الإيراني أنه تعرض على مرّ التاريخ القديم لألوان الظلم من السلالات الحاكمة التي كانت تسخّر الشعب لأهوائها وفتوحاتها، ولعلّ هذا هو العامل الذي جعل الإيرانيين يحتضنون بضعة آلاف من المسلمين في الفتح الإسلامي ويساعدونهم على تسخير إيران رغم كل ما كان لكسرى من قدرة عسكرية تنافس قدرة الروم. ولعلّ هذا أيضاً هو العامل الذي حال دون أن يستطيع المسلمون فتح بلاد الديلم في القرن الأول والثاني، لأن الديلم كانوا لا يفرقون بين هؤلاء الفاتحين الجدد وبين المقاتلين من أجل الهيمنة والنفوذ، لذلك ظلوا على دينهم حتى جاءهم «المظلومون» من العلويين الفارين من السلطة العباسية، فاحتضنونهم، ودانوا بدينهم ومذهبهم ، ثم انتصروا لهم بعد أن أسسوا الدولة البويهية في إيران والعراق.

الإمام الخميني انطلق من هذه الخلفية النفسية للإيرانيين حين استثارهم في مسألة «الفيضية». فقد أضرم النار في الشارع الإيراني حين تحدث بصوت باك عن مظلومية طلبة المدرسة الفيضية.. كما أنّ صورة «المظلومية» التي أحيط بها بعد أن أجبر على مغادرة النجف، فظلّ حائراً حتى ألقته المصادفات في باريس، هذه الصورة كانت المسمار الأخير الذي دقّ نعش الشاه وأقامت إيران ولم تقعدها إلاّ بعودة الإمام من منفاه إلى أرض الوطن.

وحين تصاعد التآمر الداخلي في بداية الثورة ضد الخط الإسلامي الملتزم ومن رموز هذا الخط الشهيد الدكتور بهشتي، تحدّث الإمام في اليوم التالي لانفجار الحزب الجمهوري الإسلامي بلغة قلبت المعادلة تماماً لصالح الخط الإسلامي. وما كانت هذه اللغة سوى «مظلومية» الشهيد بهشتي.

والمظلوم بسبب هذه الخلفية النفسية التاريخية محبّب إلى نفوس الإيرانيين، وإن كان محبباً لدى كل الذين يقفون في صفّ المظلومين لمقارعة الظالمين، لكنه لدى الإيرانيين يرتبط أيضاً بكل من يقدسونهم في التاريخ من أمثال علي وفاطمة والحسن والحسين وزينب وأبي ذر وياسر وسميّة وعمّار وغيرهم من الصحابة والتابعين.

الرسوم والأفلام والمسلسلات الإيرانية حول فلسطين تحكي عن شعب وادع هادئ يتعرّض للإرهاب والوحشية، وتتحدث عن مقتل الأطفال والنساء والشيوخ. وتتحدث عن أرض سليبة وعوائل مهجّرة ومخيمات مبثوثة، وعن مجازر تعرّض لها المشردون في المخيمات، وكلها تلتقي مع الوجدان الإيراني المتعاطف مع المظلوم، وتبقي القضية حيّة في النفوس وفي يوميات الإنسان الإيراني.

حتمية انتصار المستضعفين
هذه سُنّة قرّرها القرآن الكريم، لكنها في الوجدان الشعبي الإيراني عميقة الجذور، ترتبط بما واجهه على مرّ التاريخ من مرارة لم ينهزم أمامها لإيمانه بأن «بايان شب سيه سفيدي است» = نهاية الليل القاتم الصباح الأبلج. وهذا الإيمان المتجذّر التقى مع فكرة المهدي المنتظر عليه السلام، فأصبحت قضية المهدي تعيش جنباً إلى جنب مع قضية كربلاء في وجدان الإنسان الإيراني.

مرّت على الإيرانيين طوال التاريخ ظروف ترغم كل شعب على اليأس والقنوط والاستسلام، لكنه التفّ على هذه الظروف وحوّلها لصالحه. وفي العصر الحديث مرّ بتجارب كثيرة رسخت هذا الإيمان في أعماقه. من ذلك الانتصار الإسلامي الذي تحقق في أرض الهيمنة الأمريكية والصهيونية، ومن ذلك نجاح المقاومة في صدّ حرب عالمية ضد إيران استمرت ثماني سنوات. ومن ذلك نجاح التصدي للمقاطعة الاقتصادية والإرهاب والمحاصرة السياسية.

من هنا لا يمكن أن تسود في الشارع الإيراني يوماً فكرة انتهاء القضية الفلسطينية حتى في أحلك ظروف استسلام القيادات أو البطش الصهيوني، بل يرى أن نهاية النصر قد اقتربت كلما ادلهمت الخطوب وتفاقمت الأوضاع.

وعبارة: وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (الاسراء:81) تحتل مساحة واسعة في الأدبيات والإعلام والشعار وفي رسوم الأطفال، معبرةً عن حتمية انتصار الحق على الباطل. ومن المسلمات التي لا ترديد فيها أن الشعب الفلسطيني قد حُرِم من حقّه في أرضه وفي عودته ومن سائر حقوقه بوطنه. ولا يمكن أن يفرض الواقع نفسه مهما طال الزمن في تغييب فكرة «الحق» لدى الإنسان الإيراني، فالحق مقدس عنده، الحق هو الله في الأدب الفارسي وفي الخطاب اليومي الإيراني، والحق ارتبط بشخصية علي في مواجهة الباطل، لذلك فإن عبارة «حق با علي» = الحق مع علي، من التعبير الشائع في الشارع الإيراني، وقد يكون مستلهماً من الحديث الشريف: «علي مع الحق والحق مع علي».
فالحق مقدّس والمدافعون عن الحق منتصرون لا محالة، مهما قلّ الناصر، وعبارة: «الدم منتصر على السيف» = «خون بر شمشير بيروز است» جاءت من الإمام لتنسجم مع نبض الشارع الإيراني، فتحولت إلى شعار للثورة، ثم إلى شعار للقضية الفلسطينية. ثم إن ثورة الحجارة تندرج في سياق القدرة الفائقة للحجر على ردّ كيد المعتدين، وعلى مفعولـه المعجز في الانتصار على الدبابة كما يُرى في رسوم الإيرانيين ومسرحياتهم عن الانتفاضة.

والفجر الذي يظهر في كثير من الأعمال الفنية الإيرانية بشأن فلسطين، والحصان الأبيض الذي يُرى في بعضها الآخر يدلّ على الأمل في المستقبل وحتمية انتصار الحقّ في النهاية.

عالمية الخطر الصهيوني الأمريكي
النظرة الشعبية لإسرائيل أنها جزء من ظاهرة عالمية تريد أن تسيطر على مقدرات العالم، وهذه النظرة تنطلق من معاناة الإيرانيين من الصهيونية في زمن الشاه، وسيطرة الصهاينة وأمريكا على مقدّرات إيران. من هنا فإن الخلاف مع الصهاينة ليس على هذا الجزء أو ذاك الجزء من أرض فلسطين ولا أيضاً على أرض فلسطين بأجمعها، بل الخلاف على المخطط الصهيوني للاستعلاء على كل العالم وجرّ البشرية إلى حالة من الانحدار بحيث يمكن السيطرة عليها.

ولهذا فإن الشارع الإيراني رفض كلّ ما يسمى بمحادثات السلام جملة وتفصيلاً، وخطابه هو الخطاب الوحيد الذي يعلن أن حلّ مسألة فلسطين يكمن فقط بتحريرها من براثن الصهيونية.

ولذلك لا تجد الفئة التي تعتقد بانفصال القضية الفلسطينية عن المصالح الوطنية الإيرانية، أو التي تدعو إلى موقف إيراني يبعد عن إيران خطر هجوم إسرائيلي صدى في الشارع الإيراني، بسبب هذا الفهم لطبيعة الصهيونية.

والملفت للنظر في موقف الشارع الإيراني من أمريكا أنه ينفرد في المجموعة الإسلامية بعدم انجراف فئاته الإسلامية منذ الخمسينيات مع المشروع الأمريكي الذي استهدف تعبئة المشاعر الدينية لمواجهة الخطر الشيوعي. كل الفصائل الإسلامية في إيران كانت ترفض ما يسمى بالإسلام الأمريكي الذي لا يقبل إلاّ إسلاماً يكافح الشيوعية  دون أن يصطدم بالأطماع الأمريكية والغربية. النظرة لأمريكا أنها وراء تثبيت نظام الشاه ووراء الغزو الصهيوني للمنطقة، ووراء محاولة إغراق الشباب في المفاسد والموبقات، من هنا كانت المجابهة الشعبية تتجه إلى مثلث أمريكا – الصهيونية – الشاه.

ولقد شهدت الساحة فيما بعد أحداث انقلاب أمريكا على حلفائها القدماء من التيارات الإسلامية بعد أن استنفدت أغراضها منهم، ثم شهدت الوقوف الأمريكي الصارخ في دعم إسرائيل حتى في أشد ظروف بطشها وإرهابها.

عبارة«الشيطان الأكبر» أدخلها الإمام الخميني (رض) في أدبيات الثورة الإسلامية وإعلامها حتى أصبحت الكلمة مرادفة لأمريكا على الصعيد العالمي أيضاً.

المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية/
الشؤون الدولية