حديث التقريب ..
المولوي اسحاق مدني يتحدث بمناسبة تكريمه
اسحاق مدني من علماء أهل السنّة في إيران درس في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وألف وشارك في المؤتمرات العالمية، وكان لثلاثة عقود مستشارًا لرؤساء الجمهورية وهو الآن رئيس المجلس الأعلى للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
في الثالث من مايو أيار 2023، جرى حفل تكريم للمولوي "محمد اسحاق مدني" في الجامعة الدولية للمذاهب الإسلامية؛ وبهذه المناسبة ينشر «حديث التقريب» مقابلة جرت معه بشأن أهل السنة في إيران وما يرتبط بحركة التقريب بين المذاهب الإسلامية.
■ باعتبارك من أهل السنة في إيران كيف تقوّم العلاقة بين أهل السنة والشيعة في هذا البلد؟
□ مرّت هذه العلاقة بظروف تاريخية صعبة أيام عصور الجهل والانحطاط. فالنزاع السياسي بين الدولة الصفوية «الشيعية» والدولة العثمانية «السنية» ترك آثارًا سيئة على هذه العلاقات وبقيت رواسبها حتى بعد سقوط الدولتين. وغير خاف عليكم تدخل القوى الطامعة لإضرام هذا النزاع، ومن المؤسف أن الأعداء نجحوا في خلق صراع بين أكبر دولتين إسلاميتين آنذاك، كان بإمكانهما لو اتحدا أن يخلقا أكبر قوة عالمية، غير أن بريطانيا والصهيونية والماسونية أوقعت بينهما، وأدى الأمر بالتالي إلى إبادتهما، وإلى ترك آثار نفسية سيئة بين السنة والشيعة، لا نزال نعاني منها إلى يومنا هذا.
وسياسة التفرقة الطائفية كانت قائمة في إيران أيضًا خلال عصر الطاغوت البهلوي. فقد اقتضت سياسة أمنه الداخلي أن يهمل مناطق أهل السنة الحدودية، فبقيت هذه المناطق تعيش حالة مزرية من التخلّف التعليمي والثقافي والاقتصادي والديني، وأصبحت مرتعًا خصبًا لأنواع الانحرافات.
ثم شاء الله أن ينتصر الإسلام في إيران، وأن تقوم دولة الإسلام التي اتجهت في أول أيام انتصارها إلى انتشال مناطق أهل السنة من حالتهم المأساوية.
■ كيف كان موقف أهل السنة من الثورة الإسلامية التي قامت بقيادة إمام شيعي؟
□ القيادة الإسلامية في إيران كانت ولا تزال تنظر بعين الأبوة إلى كل الإيرانيين وغير الإيرانيين وإلى السنة والشيعة، بل وإلى أصحاب الأديان السماوية من غير المسلمين. وهذه الأبوة ملموسة محسوسة مشهودة في مواقف عملية لها مفرداتها الكثيرة.
هذه المواقف العملية هي التي جعلت أهل السنة في إيران لا يشعرون بأي انفصال طائفي عن الثورة الإسلامية، بل تفاعلوا معها وقدموا تضحيات في سبيلها مثل سائر أبناء إيران. لقد اشتركت مدنهم وقراهم في الثورة وقدموا قوافل الشهداء، ثم انخرطوا بعد الانتصار الإسلامي في الحرس وقوات التعبئة وأبلوا بلاء حسنًا في الدفاع عن الدولة الإسلامية. ولا يزالون حماة لثغور البلد الإسلامي، ودعاة لوحدة المسلمين.
■ هذا بالنسبة لموقف أهل السنة من الدولة الإسلامية، فما موقف الدولة من أهل السنة؟
□ في الواقع المواقف الإيجابية لأهل السنة في إيران إنما جاءت نتيجة مواقف عملية إيجابية من الدولة الإسلامية المباركة تجاههم. اتجهت الثورة ـ كما قلت ـ أول ما اتجهت إلى إنقاذ الوضع المتردي في مناطق أهل السنة. وما يوجد اليوم في هذه المناطق من خدمات رفاهية إنما حدث بعد انتصار الثورة الإسلامية. لقد خصصت ميزانيات باهظة لهذه المناطق من أجل نشر التعليم فيها، وإنشاء الطرق وتوفير الخدمات الصحية والترفيهية والمعيشية. وتحسن الوضع الاقتصادي فيها بشكل لا يمكن مقارنته مع عصر الطاغوت. وعمليات مكافحة الأمية وتثقيف أبناء تلك المناطق وتأهيلهم في الأعمال الصناعية والزراعية تجري بشكل حثيث وعلى قدم وساق. وافتتحت حتى الآن آلاف المشاريع الصناعية في المنطقة مما وفّر فرص عمل عظيمة لأبنائها.
■ يشاع بأن الدولة الإسلامية في إيران تسعى من وراء مشاريعها الرفاهية في المنطقة إلى فرض المذهب الشيعي هناك فما مدى صحة هذه الإشاعات؟
□ هذا غير صحيح على الإطلاق، ولا أدل على ذلك أن الدولة الإسلامية خصصت أموالاً ضخمة لبناء المساجد لأهل السنة حتى في قراهم، والأئمة في هذه المساجد كلهم من أهل السنة، كما شارك أبناء المنطقة في بناء المدارس العلمية لتدريس فقه مذاهب أهل السنة وخاصة المذهب الحنفي فيها. والعمل يجري في المدارس هناك لتعليم الفقه وفق مذهب أهل السنة. الدولة الإسلامية تحمل الهمّ الرسالي في المنطقة، وتستهدف أن يهيمن الدين الإسلامي والخلق الإسلامي والتربية الإسلامية هناك بغض النظر عن نوع المذهب السائد. والحوزات العلمية لأهل السنة اتسعت في إيران كثيرًا فأصبحت أكثر من عشرة أضعاف ما كانت عليه قبل انتصار الثورة، من حيث عدد الحوزات وعدد الطلبة والأساتذة. وتعمل الدولة على دعم إنشاء المكتبات المتخصصة في فقه أهل السنة وعقائد أهل السنة في المساجد والمدارس العلمية هناك.
وفي موسم الحج يُخَصّص جناح لعلماء أهل السنة الإيرانيين في بعثة ولي أمر المسلمين بمكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة، يجلس فيه هؤلاء العلماء الذين تتحمل نفقة سفرهم بعثة الحج الإيرانية للإجابة على أسئلة أهل السنة الإيرانيين بشأن مناسك الحج وفق مذاهبهم الفقهية.
■ ما هو سهم أهل السنة في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية وفي المؤسسات الرسمية الحساسة؟
□ دستور الجمهورية الإسلامية يركز على الأسس الإسلامية العامة التي يتفق عليها أهل السنة والشيعة في حقل التوحيد والنبوة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية ومسائل نظام الدولة السياسي والقضائي والتشريعي. فأهل السنة مشتركون مع الشيعة في معطيات كل مواد الدستور. غير أن هناك فقرة واحدة تقول إن دين الدولة الرسمي الإسلام والمذهب هو المذهب الشيعي الاثنا عشري. ولابد لإدارة البلد من تعيين مذهب فقهي معين. ودساتير البلدان الإسلامية تنص عادة على مذهب فقهي خاص يجري العمل به في القضاء والأحوال الشخصية. والأكثرية الساحقة في إيران على المذهب الشيعي ولابد إذن أن يتعين هذا المذهب في الدستور، ثم إن نفس المادة نصت على أن المحاكم وقوانين الأحوال الشخصية تكون في المناطق السنية وفق مذهب أهل السنة، وهذا غاية العدل والإنصاف وذروة تجاوز الحالة الطائفية.
أما بالنسبة لمواقع أهل السنة في المراكز الحكومية الحساسة فأقول باختصار، إن مجلس الشورى الإسلامي يضم الآن 14 نائبًا من أهل السنة انتخبوا من مناطقهم ودخلوا المجلس ويمكن أن يزداد هذا العدد إذا كسب عدد أكبر من هؤلاء ثقة الناخبين في المدن المختلفة. وأشغل أنا منصب مستشار لرئيس الجمهورية وعضو في مجلس الخبراء، كما أن الكفاءة والالتزام وحدهما ملاك تسلم المسؤولية في الجمهورية الإسلامية لا الانتماء الطائفي.
■ يشاع أن أهل السنة يعانون من ضغوط سياسية فما رأيكم في ذلك؟
□ أنا أيضا أسمع هذه الإشاعات من إذاعة بريطانيا، ويبدو أن هذه الإذاعة تريد أن لا تكف عن مواصلة سياسة الإمبراطورية العجوز في إثارة التفرقة والخلاف بين أبناء البلدان الإسلامية. والغريب أن الإعلام المضلّل يُجري مقابلات في هذا الشأن مع عناصر ذات ماض سيّء جدًا في الارتباط بالسافاك والتعاون مع الموساد، قد هربت من إيران وتعيش على موائد أسيادها في أوربا.
وهنا لابد أن أشير إلى حقائق مؤلمة تتعلق بهذه العناصر التي تنتمي إلى المناطق السنية الإيرانية والتي تتحدث زيفًا وكذبًا باسمها في أوربا.
لقد كان نظام الشاه البائد قد اشترى ذمم بعض أبناء المنطقة، فصيّر منهم جواسيس وعملاء لتثبيت نظام حكمه.
ولما قامت الثورة تلبس هؤلاء بلبوس اليساريين والأحرار، وحاولوا أن يثيروا القلاقل بوجه الثورة الإسلامية، وأن يعرقلوا مسيرة البناء في المناطق الحدودية، وحين طردهم أبناء المنطقة فرّوا إلى أوربا ليواصلوا «نضالهم»! من هناك. والمؤسف أكثر والمؤلم أكثر أن هناك من الأوساط التي تدعي الإسلام وتدعي الدفاع عن السلفية الإسلامية، تلهث وراء استماع هذه الأصوات ونشرها في وسائل الإعلام بدافع طائفي ضيّق، ناسين أو متناسين أنهم بذلك يشككون في أنصع تجربة إسلامية حديثة في حقل تجاوز الحالة الطائفية، وإعلاء الراية الرسالية.
■ باعتباركم من أعضاء المجلس الأعلى للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية ما مدى نجاح المجمع في حقل التقريب؟
□ السعي في المجمع حثيث على هذا الطريق. فلا يكاد يمرّ شهر إلا وهناك مشروع جديد للتقريب، إما على صعيد تجمع العلماء من أصحاب المذاهب المختلفة في إيران وخارج إيران وإجراء حوار هادف بنّاء بينهم، أو على صعيد تنفيذ مشاريع علمية في استخراج المشتركات بين المذاهب، أو على صعيد توسيع نطاق الدراسات العلمية والأكاديمية المقارنة في حقل الفقه والكلام والتفسير.
أما نجاح هذه المساعي فيتوقف أولاً على درجة إخلاصنا في مساعينا ونسأل الله سبحانه الإخلاص في النية، ويتوقف ثانيًا على مقدار قدرتنا أن نغلب معاول الهدم التي تعمل ليل نهار لتمزيق الصف الإسلامي.
ولكن المُشاهد هو أن فكرة التقريب رغم قلة العاملين في سبيلها تجد لها مسلكًا ممهّدًا في العالم الإسلامي، وتشق طريقها بسهولة إلى القلوب والنفوس، رغم ما تمتلكه فكرة «التمزيق» من إعلام واسع وأموال طائلة ودعم متواصل عالمي كبير.
وفي اعتقادي أن العالم الإسلامي بأجمعه مُهيأ لتقبل فكرة الوحدة الإسلامية وتجاوز الحالة الطائفية غير أن الحواجز والسدود السياسية ومعادلات الهيمنة الدولية تحول دون تحقق هذه الفكرة في القريب العاجل.
■ هل من كلمة أخيرة
□ أطالب كل المسلمين أن ينظروا بعين البصيرة إلى الهجوم الإعلامي المضلّل ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وخاصة ما يرتبط بعلاقة أهل السنة والشيعة في إيران. وأناشد الذين يتحدثون باسم أهل السنة ويتباكون على أهل السنة في إيران أن يكفوا عن استفزازهم. إننا نعمل هنا جميعًا لبناء دولة الإسلام القائمة على أساس القرآن والسنة. نريد أن نعيش الإسلام في حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية، وليس في كل هذه الأهداف اختلاف في وجهات نظر أهل السنة والشيعة. ولي أمر المسلمين وقائد الثورة الإسلامية له من العلاقات مع علماء أهل السنة في زاهدان مالا تقل عن علاقاته بعلماء الشيعة في قم، وهذا الولي الفقيه ترجم كتب سيد قطب السني إلى الفارسية وهو في السجن بلهفة وتفاعل دون أن يكون للاختلاف المذهبي أي تأثير عليه. والجمهورية الإسلامية الإيرانية تتبنى قضايا المسلمين في فلسطين، وتتعرض جراء هذا التبني لسخط الاستكبار العالمي ونقمته، وهي ماضية في هذا التبني دون أن تميز بين سني وشيعي في مواقفها المبدئية.
لماذا هذا الهجوم الطائفي على الجمهورية الإسلامية، لماذا هذا التباكي على أهل السنة في إيران وهم يعيشون في ظلال نعمة دولة الإسلام؟ ولماذا لم ترتفع أصوات المدافعين عن أهل السنة في زمن الطاغوت حين كانوا، يتعرضون لا فظع ألوان الإهمال والتحقير والإهانة ؟!!
نسأل الله سبحانه أن يرد كيد الكائدين إلى نحورهم وأن ينصر كلمة الحق ويدحض الباطل ويزهقه إنه كان زهوقًا.
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية/
الشؤون الدولية