حديث التقريب ... مقاصد الشريعة والتقريب
من العوامل التي تستطيع أن تقرّب الأفكار والقلوب بين المسلمين الاهتمام بمقاصد الشريعة. المقاصد هي التي تكرّس التوجّه نحو الأهداف الكبرى للإسلام، وتبعد عن الانغماس في الفرعيات وعن الاشنغال في الخلافات الجانبية، وبذلك تكون عاملاً هامًا في التقريب بين المذاهب الإسلامية.
وكان ضياع المقاصد من أكبر الأسباب التي خلقت الانحرافات بين المسلمين، بل وأوجدت الحوادث الدموية في تاريخهم، كان ذلك منذ عصر الرسالة الأول. على سبيل المثال:
عن أبي نعيم قال: كنت شاهدًا لا بن عمر وسأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض. فقال: ممّن أنت؟ فقال: من أهل العراق . قال: انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض. وقد قتلوا ابن النبي(ص) وسمعت النبي(ص) يقول: هما ريحانتاي من الدنيا».
وقال الشرّاح في ذلك:
إن الرجل سأل ابن عمر (رض) هل يجور للرجل إذا كان مُحرمًا أن يقتل الحشرات الصغيرة مثل البعوض؟ فقال: مستغربًا من اهتمام أمثال هذا الرجل بتوافه الأمور مع جرأتهم على ارتكاب الكبائر، وكلام ابن عمر هو من باب التقريع ويتضمن معنى أن من لم يظهر التبرؤ مما فعله قومه وجماعته فهو موافق لهم في فعلهم.
في عصرنا أمثال هؤلاء كثير أشير إلى بعض ما ذكره العلامة الشيخ الكبير محمد الغزالي في كتابه القيّم «دستور الوحدة الإسلامية» يقول فيما قال:
« سألني صيدلي عن حكم من أدرك الإمام راكعًا ولم يقرأ الفاتحة، أتسقط الركعة عنه أم يعيدها؟
قلت: الجمهور على سقوط الركعة عنه، وهناك من يرى قضاءها، فاختر لنفسك ما يحلو.
قال: أعرف ذلك ولكن أريد مناقشة من يرى عدم قضاء الركعة..!
قلت له: ما جدوى ذلك عليك؟ ولماذا تتكلف ما لا تحسن وتترك ما تحسن..؟ قال : ما معنى ماتقول؟
قلت: أنت صيدلي، وجميع الأدوية في دكانك من صنع الصهيونيين أو الصليبيين أو الشيوعيين، فإذا تركت أنت وزملاؤك هذا الميدان، ميدان صناعة الدواء، واشتغلت باللغو، أفتحسب ذلك يرفعك عند الله وعند الناس؟ إنك للأسف تسهم في سقوط الأمة وتجعلها غير جديرة بالحياة.
قال: إنني أبحث في حكم شرعي ولا أشتغل باللغو.
قلت: الحكم الشرعي كما قرّره أهل الذكر بين أمرين، خذ منهما ماشئت، ولا يجوز أن تحوّل الموضوع إلى لُبان يمضغه الفارغون. إن كل ما يصرفك عن ميدان الدواء هو في حقيقته عبث أو عيب أو ذنب تؤاخذ به.
أما أن تؤلف رابطة عنوانها «جماعة من يقضون الركعة إذا لم تقرأ الفاتحة» فهذا سخف. ما قيمة هذا الرأي أو ذاك حتى يحشّى به عقول الناس؟
إن المسلمين المعاصرين نسوا ضياع التركستان والقرم، ولم ينسوا الخلاف على الجهر بالبسملة أول الفاتحة.
لحساب من تستثار المشاعر المشبوبة وراء رأي فقهي؟ إن كان خطأ أو صوابًا، فهو مأجور. وماذا يبقى من مشاعر الناس بـإزاء العقائد الأولى، والوحدة الجامعة، والتماسك في وجه أعداء لاينامون حتى يقضوا علينا..؟
إن التعصب لرأى أحد الفقهاء غباء، اعمل به إن شئت، ولا تستحمق إذا رأيت غيرك يعمل بضده.
وإذا وجد مجال لبحث وجوه النظر وقيم الأدلة ـ لمن يقدرون على ذلك ـ فلا حرج! ثم يصير كل إلى ما يرى. إنني استيقنت من أن التعصب الشديد لمسألة ثانوية يتم على على حساب الدماء والأموال والأعراض وكرامة الأمة وحياتها.
وأذكر صحفيًا ممن شهدوا القبض على الجماعة التي احتلت الحرم المكي، قال لي: عندما أخذنا صورًا لهم رأيت بعضهم يتململ، فقلت له: ما لَك؟ قال لا تصورونا فالتصوير حرام!
قلت له: ترى أن التصوير حرام، وقتل الأبرياء في المسجد وامتهان قداسته مباحان!!
هذه هي عقلية المتشبثين ببعض الأفكار والفتاوى، وذلك مبلغهم من العلم، يعمون عن العظائم ولا يرون إلا ما يضخمون من وجهات نظر، قد يكون خطؤها أجلى من صوابها».
إن الرساليين انطلقوا من مقاصد الشريعة حين كرسوا اهتمامهم بالوحدة الإسلامية وبالتقريب بين المذاهب الإسلامية. انطلقوا من مقاصد الشريعة في مساعيهم لإقامة حياة اسلامية تتحقق فيها عزّة الإسلام وكرامة المسلمين، ومن هذا المنطلق أيضًا يقفون اليوم في جبهة المقاومة، مهما كلفهم الثمن، للدفاع عن المقدسات وعن الشعب الفلسطيني المظلوم. ومن هذا المنطلق أيضًا يقاومون الهجوم الإعلامي الشرس المعادي للإسلام والمسلمين، ومنه أيضًا يسعون لأن تكون الجمهورية الإسلامية الإيرانية مكتفية في الغذاء والدواء والسلاح، مقاصد الشريعة تدعو إلى أن ينظر المسلمون إلى الشريعة الإلهية بأنها المشروع الإلهي الذي يتحقق بموجبه ما يرنون إليه من عزّة وكرامة وقوّة وسؤدد، ومن تقارب بين شعوبهم ومذاهبهم الإسلامية.
المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
الشؤون الدولية