[290] 3 ـ هل أنّ اسم رسول الإسلام كان (أحمد) إنّ الإسم المعروف للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) هو (محمّد) والسؤال الذي يطرح هنا أنّ الآيات مورد البحث قد ذكرته باسم (أحمد). فكيف يمكن التوفيق بين هذين الإسمين؟ وللإجابة على هذا السؤال يجدر الإلتفات إلى النقاط التالية: أ ـ جاء في كتب التأريخ أنّ لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إسمين منذ الطفولة، حتّى أنّ الناس كانوا يخاطبونه بهما أحدهما (حمد) والآخر (محمّد)، الأوّل إختاره له جدّه عبدالمطلّب والآخر إختارته اُمّه آمنة. وقد ذكر هذا الأمر بصورة تفصيلية في سيرة الحلبي. ب ـ والمعروف أنّ من جملة الأشخاص الذين كانوا ينادون رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)باسم (أحمد) هو عمّه أبو طالب، حيث نجد في كتاب (ديوان أبي طالب) أشعاراً كثيرة يذكر فيها الرّسول الكريم بهذا الإسم كما في الأبيات التالية: أرادوا بقتل أحمد ظالموهم وليس بقتله فيهم زعيم وقال: وإن كان أحمد قد جاءهم بحقّ ولم يأتهم بالكذب(1) ولأبي طالب شعر آخر في مدح رسول الله نقله ابن عساكر في تاريخه: لقد أكرم الله النبي محمّداً فأكرم خلق الله في الناس أحمد(2) ج ـ كما يلاحظ هذا التعبير في شعر (حسّان بن ثابت) الشاعر المعروف في عصر الرّسول كقوله: مفجعة قد شفها فقد أحمد فظلّت لآلاء الرّسول تعدّد(3) والأشعار التي ورد فيه ذكر اسم (أحمد) بدلا عن (محمّد) كثيرة، ولا يوجد مجال لذكرها جميعاً لذا فإنّنا سننهي بحثنا بما ورد من شعر علي بن أبي طالب(عليه السلام). أتأمرني بالصبر في نصر (أحمد) ووالله ما قلت الذي قلت جازعاً سأسعى لوجه الله في نصر (أحمد) نبي الهدى المحمود طفلا ويافعاً(4) د ـ إنّ المتتبع للرّوايات التي جاءت حول معراج الرّسول كثيراً ما يلاحظ أنّ الله سبحانه قد خاطب رسول الإسلام في تلك الليلة الكريمة بـ (أحمد) ومن هنا يمكن القول أنّ النبي قد إشتهر في السماء بـ (أحمد) وفي الأرض بـ (محمّد). وجاء في حديث عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) في هذا الشأن "إنّ لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عشرة أسماء، خمسة في القرآن وخمسة ليست في القرآن، فأمّا التي في القرآن، محمّد، وأحمد، وعبدالله، ويس، ون"(5). هـ ـ عدم إعتراض أهل الكتاب ـ وخاصّة النصارى منهم ـ على النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه الناحية، حيث لم يقولوا له: بعد سماع المشركين وسماعهم آيات سورة الصفّ: إنّ الإنجيل قد بشّر بمجيء (أحمد) وأنت اسمك (محمّد) وعدم الإعتراض هذا دليل على شهرة هذا الإسم بينهم، ولو وجد مثل هذا الإعتراض لنقل لنا، خاصّة أنّ مختلف الإعتراضات قد دوّنت في كتب التأريخ صغيرها وكبيرها. لذا نستنتج من مجموع ما تقدّم في هذا البحث أنّ اسم (أحمد) كان أحد الأسماء المعروفة لرسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم)(6). * * * الآيات وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإسْلَـمِ وَاللهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَـفِرُونَ (8) هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) التّفسير يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم: لاحظنا في الآيات السابقة موقف الإصرار والعناد لجموع أهل الكتاب من دعوة الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) رغم ما بشّر به المسيح (عليه السلام) حول ظهور رسول الإسلام، وما اقترن بذلك من بيّنات ودلائل ومعاجز واضحة. وتبيّن الآيات ـ مورد البحث ـ عاقبة هؤلاء ومصيرهم السيء ونتيجة عملهم الخائب. فيقول تعالى: ( ومن أظلم ممّن افترى على الله الكذب وهو يعدى إلى الإسلام). نعم، إنّ أمثال هؤلاء المكذّبين لدعوة الرّسول الإلهي، الذين يعتبرون ما يأتي الرّسول به من إعجاز سحراً، وما يتحدّث به من مبادىء إلهية سامية ضلالا وباطلا .. فإنّ هؤلاء هم أظلم الناس، لأنّهم يصدّون أنفسهم عن طريق الحقّ والهداية والنجاة، ويصدّون سائر عباد الله عن منابع الفيض الإلهي ويحرمونهم من السعادة الأبدية. ويضيف سبحانه في نهاية الآية: ( والله لا يهدي القوم الظالمين). إنّ عمل الله سبحانه هو الهداية للحقّ، وإنّ ذاته المقدّسة الطاهرة هي النور والضياء السامي: ( الله نور السماوات والأرض) ولابدّ للهداية من إستعداد وأرضية مناسبة في النفس الإنسانية كي تؤثّر فيها، وهذا ما لا يحصل بالنسبة إلى الأشخاص الذين يجانبون الحقّ ويعرضون عن الحقيقة ويعادونها. والآية الكريمة تؤكّد مرّة اُخرى على حقيقة أنّ الهداية والضلالة بالرغم من أنّها من الله سبحانه، إلاّ أنّ مقدّماتها وأرضيتها لابدّ أن تبدأ من الإنسان نفسه، ولذا فلا جبر هنا. جملة "وهو يدعى إلى الإسلام" إشارة إلى أنّ دعوة النبي الأكرم تتضمّن السلام في الدنيا والآخرة ونجاة الناس، ومع ذلك فمثل هذا الإنسان يحطّم أساس سعادته بيده. لقد تكرّرت عبارة (من أظلم) خمس عشر مرّة في القرآن الكريم وكانت آخرها في الآية مورد البحث، بالرغم من أنّ ذكرها كان في موارد مختلفة حسب الظاهر. ولعلّ هذه المسألة كانت منشأ لهذا التساؤل، وهو: هل من الممكن أن يكون (أظلم الناس) يمثّل أكثر من صنف أو أكثر من جماعة، وأنّها جاءت متكرّرة بلحاظ تعدّد أقسام الظالمين؟ إنّ الملاحظة الدقيقة للآيات الكريمة تبيّن لنا أنّ السبب الأساس لذلك يرجع إلى مسألة منع الناس عن طريق الحقّ، وتكذيب الآيات الإلهية، وهذا هو منتهى الظلم، كما أنّ الصدّ عن الوصول إلى الهدى والسعادة الأبدية وقيم الخير، يمثّل أسوأ عمل وأعظم ظلم، حيث المنع عن الخير كلّه وفي كافّة المجالات. ثمّ يستعرض القرآن الكريم نقطة اُخرى ويبيّن لنا أنّ أعداء الحقّ ليسوا بقادرين على الوقوف بوجه مبادىء السماء والأنوار الإلهيّة العظيمة، حيث يقول سبحانه: ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمّ نوره ولو كره الكافرون). وهنا تشبيه رائع لعمل هؤلاء الأشخاص الذين يحاولون عبثاً إطفاء نور الشمس التي تضيء العالم كلّه بنفخة، إنّهم كالخفافيش التي تتصوّر أنّها قادرة على تحدّي وهج الشمس وأشعّتها الساطعة بالنوم نهاراً بعيداً عن نورها، والظهور في ظلمة الليل وعتمته. وتأريخ الإسلام صورة ناطقة لهذا التنبّؤ القرآني العظيم، فرغم ضخامة المؤامرات التي حيكت ضدّه والجهود الجبّارة المقترنة بالإمكانات الهائلة من الأعداء لطمس معالم هذا الذين والقضاء عليه منذ اليوم الأوّل لظهوره إلى يومنا هذا .. فإنّ جميعها كانت خائبة وخاسئة وذهبت أدراج الرياح .. وقد عمد هؤلاء إلى أساليب عدّة في حربهم القذرة ضدّ الإسلام: فتارةً اتّبعوا اُسلوب الأذى والسخرية. واُخرى عن طريق الحصار الإقتصادي والإجتماعي .. وثالثة فرض الحروب، كـ (أُحد والأحزاب وحنين) وتجهيز الجيوش القوية لذلك. ورابعة عن طريق التآمر الداخلي، كما كان عمل المنافقين. وأحياناً عن طريق إيجاد الإختلافات في داخل الصفّ الإسلامي. وأحياناً اُخرى الحروب الصليبية. وتارةً إحتلال الأراضي كما في القدس المقدّسة قبلة المسلمين الاُولى. وأحياناً إعتماد اُسلوب تجزئة الوطن الإسلامي الواحد إلى أجزاء عديدة تربو على الأربعين جزءاً. وتارةً التأثير على شباب هذه الاُمّة وإضعاف متبنّياتها المبدئية والسلوكية بعيداً عن الإلتزام بخطّها العقيدي الأصيل والأخلاقية القرآنية. وتارةً تشجيع الرذيلة والفساد الأخلاقي بين صفوف المجتمع وإشاعة وسائل الميوعة والإنحراف خاصّة بين الشباب. وتارةً السيطرة الإستعمارة عسكرياً وسياسياً وإقتصادياً. إلى غير ذلك من الأساليب والوسائل الماكرة. إلاّ أنّ هذه الجهود والمؤامرات الشيطانية غير قادرة على التأثير وإطفاء شعلة الوهج الرسالي الذي أتى به محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبذلك تحقّق التنبّؤ القرآني في الفشل الذريع الذي لحق بهؤلاء الذين أرادوا كيداً بالرسالة الإلهية .. بل إنّ النور الإلهي في حالة إنتشار وإتّساع يوماً بعد يوم، كما تكشف ذلك لنا الإحصائيات، حيث أنّ عدد مسلمي العالم في تزايد مستمرّ رغم الجهود المتظافرة من الصهاينة والصليبيين و (المادّيين الشرقيين). نعم، إنّهم يبذلون أقصى جهدهم باستمرار ليطفئوا نور الله ولكن لإرادة الله شأناً غير ذلك. وهذا الأمر بحدّ ذاته يمثّل معجزة خالدة من معاجز القرآن الكريم وهذا الدين العظيم. والنقطة الجديرة بالذكر هنا أنّ هذا المضمون قد ورد مرّتين في القرآن الكريم، ولكن مع قليل من الإختلاف، حيث جاء في الآية (32) من سورة التوبة كالتالي: ( يريدون أن يطفئوا) وهنا جاء بعبارة: ( يريدون ليطفئوا). يقول: الراغب في (المفردات) في توضيحه لهذا الإختلاف: إنّ الآية الاُولى إشارة إلى الإطفاء بدون مقدّمة، إلاّ أنّه في الآية الثانية إشارة إلى الإطفاء باستعمال المقدّمات التي تهيء الأرضية المناسبة لمثل هذا الأمر. وعلى كلّ حال فإنّ مفهوم الآيتين يبيّن عدم إمكانية تحقيق هذا الأمر من قبل أعداء الإسلام، سواء هيّأوا الأرضية المناسبة لإطفاء النور الإلهي أو لم يهيّئوا. ويتوضّح التأكيد الأكثر في آخر آية ـ مورد البحث ـ حيث يعلن القرآن الكريم ذلك صراحة بقوله عزّوجلّ: ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون). إنّ التعبير بـ ( أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ) بمنزلة بيان الرمز لغلبة الإسلام وإنتصاره، لأنّ طبيعة "الهداية" و (دين الحقّ) تنطوي على هذا الإنتصار، ذلك أنّ الإسلام والقرآن هما النور الإلهي الذي تظهر آثاره أينما حلّ. وكراهية الكفّار والمشركين لن تستطيع أن تغيّر من هذه الحقيقة شيئاً، ولا تقف في طريق مسيرته العظيمة. ومن الظريف أيضاً أنّنا نلاحظ أنّ هذه الآية قد وردت في القرآن الكريم ثلاث مرّات بتفاوت يسير: الاُولى: كانت في سورة التوبة الآية (33). والثانية: في سورة الفتح الآية (38). والأخيرة: في هذه السورة "الصفّ". ويجب ألاّ ننسى أنّ هذا التأكيد والتكرار جاء في وقت لم يكن الإسلام قد ثبت واستقرّ في الجزيرة العربية بعد، فكيف بنا مع هذه الآيات وقد وصل الإسلام إلى نقاط عديدة في العالم وشمل أصقاعاً مختلفة؟ وبذلك أثبتت أحداث المستقبل صدق هذا التنبؤ العظيم، وغلبة الإسلام من الناحية المنطقية على كافّة المذاهب الاُخرى وقد حقّق خطوات عظيمة في طريق التقدّم على الأعداء، واكتسح مناطق واسعة من العالم، وهو الآن في تقدّم مستمر، وقوّة يخشى منها عالميّاً. ومن المسلّم أنّ النتيجة النهائية كما نعتقد سوف تكون للإسلام، وذلك عند ظهور الإمام المهدي أرواحنا فداه. إنّ هذه الآيات بذاتها دليل على هذا الظهور العظيم، وقد أوضحنا ذلك بصورة مفصّلة في تفسير الآية (23) من سورة التوبة حول المقصود من هذه الآية المباركة، وهل هو الغلبة والإنتصار المنطقي، أم غلبة القدرة والقوّة على الأعداء؟ وكذلك حول مدى إرتباط هذا الإنتصار وتلك الغلبة بظهور الحجّة (عليه السلام). * * * الآيات يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَرَة تُنجِيكُم مِّنْ عَذَاب أَلِيم(10) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَـهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ وَمَسَـكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّـتِ عَدْن ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) التّفسير التجارة الرّابحة: قلنا في بداية السورة أنّ الأهداف المهمّة لهذه السورة هو الدعوة إلى الإيمان والجهاد في سبيل الله، وما الآيات مورد البحث إلاّ تأكيد على هذين الأصلين، من خلال مثال رائع يبعث على الحركة الإلهيّة في روح الإنسان، والتي هي شرط إنتصار الإسلام على كلّ الأديان، وقد اُشير إلى هذا العامل في الآيات الماضية. يقول تعالى في البداية: ( ياأيّها الذين آمنوا هل أدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم). بالرغم من أنّ الإيمان والجهاد من الواجبات المفروضة، إلاّ أنّ الآيات هنا لم تطرحها بصيغة الأمر. بل قدّمتها بعرض تجاري مقترن بتعابير تحكي اللطف اللامتناهي للباريء عزّوجلّ، وممّا لا شكّ فيه فإنّ (النجاة من العذاب الأليم) من أهمّ اُمنيات كلّ إنسان. ولذا فإنّ السؤال المثار هو: هل تريدون من يدلّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم؟ وهو سؤال مثير لإنتباه الجميع، وقد بادر في نفس الوقت وبدون إنتظار للإجابة متحدّثاً عن هذه التجارة المتعدّدة المنافع، حيث يضيف تعالى: ( تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم)(7). وممّا لا شكّ فيه أنّ الله سبحانه غني عن هذه التجارة النافعة وأنّ جميع منافعها تعود على المؤمنين، لذا يقول في نهاية الآية: ( ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون). والجدير بالملاحظة هنا أنّ المخاطب هم المؤمنون بقرينة قوله تعالى: ( ياأيّها الذين آمنوا) لكنّه في الوقت نفسه يدعوهم إلى الإيمان والجهاد. وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى أنّ الإيمان يلزم أن يكون عميقاً وخالصاً لله سبحانه، حتّى يستطيع أن يكون منبعاً لكلّ خير، وحافزاً للإيثار والتضحية والجهاد، وبذا لا يعتدّ بالإيمان الإسمي السطحي. أو أنّ التأكيد على الإيمان بالله ورسوله هنا، هو شرح لمفهوم الإيمان الذي عرض بصورة إجمالية في بداية الآية السابقة. وعلى كلّ حال فإنّ الإيمان بالرّسول لا ينفصل عن الإيمان بالله تعالى، كما أنّ الجهاد بالنفس لا ينفصل عن الجهاد بالمال، ذلك أنّ جميع الحروب تستلزم وجود الوسائل والإمكانات المالية، ومن هنا فإنّنا نلاحظ أنّ البعض قادر على الجهاد بكلا النوعين (النفس والمال) وآخرين قادرون على الجهاد بالمال فقط وفي المواقع الخلفية للجبهة، وبعض آخر مستعدّ للجهاد بالنفس والجود بها في سبيل الله لأنّهم لا يملكون سواها. إلاّ أنّ الضرورة تستلزم أن يكون هذان النوعان من الجهاد توأمين متلازمين كلّ منهما مع الآخر لتحقيق النصر، وعند التدقيق في الآية المباركة نلاحظ أنّه تعالى قد قدّم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، لا باعتباره أكثر أهميّة، بل بلحاظ أنّه مقدّمة للجهاد بالنفس، لأنّ مستلزمات الجهاد لا تتهيّأ إلاّ عند توفّر الإمكانات الماديّة. لقد تمّ تسليط الأضواء على ثلاثة عناصر أساسية في هذه التجارة العظيمة والتي لا مثيل لها. (فالمشتري) هنا هو الله سبحانه، و (البائع) هم المؤمنون، و (البضاعة) هي الأنفس والأموال. ويأتي دور العنصر الرابع في هذه الصفقة وهو الثمن والعوض لهذه المعاملة العظيمة. يقول تعالى: ( يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنّات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيّبة في جنّات عدن ذلك الفوز العظيم)(8). وتستعرض الآية مرحلة الجزاء الاُخروي في البداية حيث غفران الذنوب باعتبارها أهمّ عوامل القلق وعدم الراحة الفكرية والنفسية للإنسان، وعندما يتحقّق الغفران له فمن المسلّم أنّ الراحة والهدوء والإطمئنان تنشر ظلالها عليه. ومن هنا نلاحظ أنّ أوّل هدية يتحف الله سبحانه بها عباده الذين استشهدوا في سبيل طريق الحقّ وباعوا مهجهم في سبيل الدين العظيم، هي مغفرة الذنوب جميعاً ولكن هل أنّ المقصود من غفران الذنوب الذي ورد في الآية الكريمة هي الذنوب التي تختّص بحقّ الله فقط، أم تشمل ما يتعلّق بحقوق الناس أيضاً؟ ويتبيّن لنا في هذا الشأن أنّ الآية مطلقة والدليل هو عموميتها، ونظراً إلى أنّ الله سبحانه قد أوكل حقّ الناس إليهم لذا تردّد البعض في القول بعمومية الآية الكريمة، وشكّكوا في شمولها الحقّين. وبهذه الصورة نلاحظ أنّ الآيات أعلاه قد تحدّثت عن مرتكزين أساسين من مرتكزات الإيمان وهما: (الإيمان بالله والرّسول) وعن مرتكزين أساسين أيضاً من مرتكزات الجهاد وهما: (الجهاد بالمال والنفس) وكذلك عن مرتكزين من الجزاء الاُخروي وهما: (غفران الذنوب والدخول في جنّة الخلد). كما أنّنا نقرأ في الآية اللاحقة عن شعبتين من الهبات الإلهية التي تفضل بها الباريء على عباده المؤمنين في هذه الدنيا حيث يقول: ( واُخرى تحبّونها نصر من الله وفتح قريب)(9). يالها من تجارة مباركة مربحة حيث تشتمل على الفتح والنصر والنعمة والرحمة، ولذلك عبّر عنها الباريء سبحانه بقوله: ( الفوز العظيم) ونصر كبير. ولهذا فإنّه سبحانه يبارك للمؤمنين تجارتهم العظيمة هذه، ويزفّ لهم البشرى بقوله تعالى: ( وبشّر المؤمنين). وجاء في الحديث أنّه في "ليلة العقبة" ـ الليلة التي التقى بها رسول الله سرّاً بأهل المدينة قرب مكّة وأخذ منهم البيعة ـ قال "عبدالله بن رواحة" لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اشترط لربّك ونفسك ما شئت. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أشترط لربّي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (الجنّة). قال عبدالله: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، أي لا نفسخ ولا نقبل الفسخ(10). * * * بحوث 1 ـ أي فتح هو "الفتح القريب"!؟ من المعروف أنّ النصر الموعود في هذه الآيات قد تحقّق مرّات عدّة، ليس في الجوانب العقائدية والمنطقية فحسب. بل في الميادين الحربية أيضاً. وقد ذكر المفسّرون إحتمالات عديدة حول المقصود من (الفتح القريب)، فقال البعض: إنّ المراد من الفتح القريب في الآية هو (فتح مكّة). وقال آخرون: إنّ المقصود بها هو (فتح بلاد إيران والروم). وقال البعض الآخر: إنّها تشمل جميع الفتوحات الإسلامية التي منّ الله بها على المسلمين بعد الإيمان بالإسلام والجهاد من أجله بفترة وجيزة. ولأنّ المخاطب في هذه الآية لا ينحصر بصحابة رسول الله. بل يشمل جميع المؤمنين وعلى مدى التأريخ، لذا فإنّ جملة: ( نصر من الله وفتح قريب) لها معنى واسع، وتمثّل بشارة للمؤمنين جميعاً، بالرغم من أنّ المصداق الواضح لهذه الآية كان في عصر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي وقت نزول هذه الآيات إبان فتح مكّة. 2 ـ ما هي خصائص المساكين الطيّبة؟ أكّدت الآيات الكريمة على أنّ من ضمن أنواع النعم الإلهية في الجنّة مسألة المسكن الهاديء، موضع إستقرار النفس، الذي تحيط به الحدائق من كلّ جانب في جنّات الخلد، وسبب التأكيد هنا على المسكن لأنّه يشكّل أحد العوامل الأساسية لراحة الإنسان وهدوئه، خصوصاً إذا تميّز بالطهر والنظافة من كلّ أنواع التلوّث المادّي والمعنوي، حيث يستطيع الإنسان أن يستقرّ به وينعم بطمأنينة الروح وراحة البال. يقول (الراغب) في المفردات: معنى (الطيب) في الأصل هو الشيء الذي تلتذّ به الحواس الظاهرية والباطنية، وهذا المعنى جامع شامل لكلّ الشروط المناسبة لسكن ما. والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا أنّ القرآن الكريم يرى أنّ ثلاثة اُمور أساسية توجب السكينة والطمأنينة للإنسان وهي: ظلام الليل: ( وجعل الليل سكناً)(11). الزوجة الصالحة: ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها)(12). البيوت السكنية قال تعالى: ( والله جعل لكم من بيوتكم سكناً)(13). 3 ـ الدنيا موضع تجارة أولياء الله جاء في نهج البلاغة أنّ الإمام علي (عليه السلام) قال لرجل كثير الإدّعاء والتملّق كان يذمّ الدنيا كثيراً: "أيّها الذامّ للدنيا المغترّ بغرورها المخدوع بأباطيلها أتغترّ بالدنيا ثمّ تذمّها ... إنّ الدنيا دار صدق لمن صدّقها ودار موعظة لمن اتّعظ بها .. إلى أن قال: ومتجر أولياء الله اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنّة .."(14). وإذا شبّهت الدنيا بأنّها مزرعة الآخرة، فقد شبّهت أيضاً هنا بأنّها تجارة، حيث أنّ الإنسان يبيع البضاعة (رأس المال) التي أخذها من الله سبحانه يبيعها عليه تعالى شأنه بأغلى الأثمان ويستلم منه سبحانه أعظم الأرباح المتمثّلة بالنعم والهبات الإلهية المختلفة مقابل متاع حقير. إنّ جانب الإغراء في هذه الصفقة التجارية النافعة كان من أجل تحريك وإثارة المحفّزات الإنسانية في طريق الخير وجلب النفع للإنسان ودفع الضرر، لأنّ هذه التجارة الإلهية لا تنحصر أرباحها في جلب النفع والخير فحسب، بل إنّها تدفع العذاب الأليم أيضاً. ونظير هذا المعنى قوله تعالى: ( إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة)(15). وتقدّم شرح آخر في تفسير الآية الآنفة من سورة التوبة(16). * * * الآيات يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّنَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ فَئَامَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِى إِسْرَءِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَـهِرِينَ (14) التّفسير كونوا كالحواريين: في الآية الأخيرة من سورة الصفّ يدور الحديث مرّة اُخرى حول محور (الجهاد) الذي مرّ ذكره سابقاً في هذه السورة، إلاّ أنّ الحديث عنه يستمرّ هنا في هذه الآية ـ أيضاً باُسلوب جديد. لقد طرحت الآية الكريمة مسألة مهمّة غير الجنّة والنّار وذلك بقوله تعالى: ( ياأيّها الذين آمنوا كونوا أنصار الله). نعم، أنصار الله، الله الذي هو منشأ جميع القدرات، ومرجعها، صاحب القدرة التي لا تقهر واللامتناهية، هذا الربّ العظيم والإله الجبّار يطلب من عباده النصرة والعون، وهذا فخر لا مثيل له، فالبرغم من أنّ معناه ومفهومه هو إعانة ونصرة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومبدئه وعقيدته، إلاّ أنّه ينطوي على طلب العون والنصرة لله سبحانه، وهذا غاية اللطف ومنتهى الرحمة والعظمة. ثمّ يستشهد بنموذج تاريخي رائد كي يوضّح سبحانه أنّ هذا الطريق لن يخلو من السالكين والعشّاق الإلهيين حيث يضيف تعالى: ( كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله). ويكون الجواب على لسان الحواريين بمنتهى الفخر والإعتزاز: ( قال الحواريون نحن أنصار الله) وساروا في هذا الدرب حاملين لواء الخير والهداية، ومتصدّين لحرب أعداء الحقّ والرسالة، حيث يقول سبحانه: ( فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة). وهنا يأتي العون والنصر والإغاثة والمدد الإلهي للطائفة المؤمنة حيث يقول سبحانه: ( فأيّدنا الذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين). وأنتم أيضاً ياحواريي محمّد، يشملكم هذا الفخر وتحيطكم هذه العناية واللطف الإلهي، لأنّكم أنصار الله، وإنّ النصر على أعداء الله سيكون حليفكم أيضاً، كما انتصر الحواريون عليهم، وسوف تكون العزّة والسمو من نصيبكم في هذه الدنيا وفي عالم الآخرة. وهذا الأمر غير منحصر أو مختّص بأصحاب وأعوان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فحسب، بل جميع أتباع الحقّ الذين هم في صراع دائم ضدّ الباطل وأهله، إنّ هؤلاء جميعاً هم أنصار الله، وممّا لا شكّ فيه فإنّ النصر سيكون نصيبهم وحليفهم لا محالة. * * * تعقيب من هم الحواريون؟ جاء ذكر الحواريين في القرآن الكريم خمس مرّات، مرتين منها في هذه السورة المباركة. "الحواريون": تعبير يراد به الإشارة إلى إثني عشر شخصاً من الأنصار الخواص لعيسى (عليه السلام) وقد ذكرت أسماؤهم في الأناجيل المتداولة حالياً كـ (إنجيل متّى، ولوقا باب6). وهذا المصطلح من مادّة (حور) بمعنى الغسل والتبييض ـ جعل الشيء أبيض ـ كما مرّ بنا سابقاً، لأنّهم يتمتّعون بقلوب طاهرة وأرواح نقيّة، وكانوا يسعون دائماً لغسل نفوسهم والآخرين من دنس الذنوب وتطهيرها من الآثام، لذا اُطلق عليهم هذا المصطلح. وجاء في بعض الرّوايات أنّ المسيح (عليه السلام) أرسلهم جميعاً ممثّلين عنه إلى مناطق مختلفة من العالم، وذلك لإخلاصهم، وتضحيتهم وجهادهم وحربهم ضدّ الباطل، وكانوا أيضاً ممّن يكنّون أعمق الحبّ والولاء للمسيح (عليه السلام). وتحدّثنا الرّوايات أنّ جميعهم قد بقي على العهد إلاّ واحداً منهم فإنّه قد خان ونكص واسمه (يهوداي أسخريوطي) ممّا حدا المسيح (عليه السلام) في نهاية المطاف إلى طرده. ولقد تناولنا توضيحات عديدة حول هذا في تفسير الآية (52) من سورة آل عمران. جاء في حديث أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال للنفر الذين لاقوه بالعقبة: "أخرجوا إليّ إثني عشر رجلا منكم يكونوا كفلاء على قومهم كما كفلت الحواريون لعيسى بن مريم"(17) ممّا يعكس أهميّة هؤلاء العظام. اللهمّ، وفّقنا للمشاركة مع أوليائك في هذه التجارة الرابحة والإستفادة من بركاتها العظيمة .. ربّنا: إنّ الإختلاف والتفرقة في صفوف المسلمين قد أضعفت مكانة المسلمين صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص في مواجهة أعدائهم. إلهنا، إنّ دينك القويم لم يبق يوماً دون ناصر، فاكتبنا من أنصاره وحماته وأعوانه .. آمين ربّ العالمين نهاية سورة الصفّ * * * سُورَة الجُمُعَة مَدَنيّة وعَدَدُ آيَاتِها إحدى عشرة آية "سورة الجمعة" محتوى السورة: تدور هذه السورة حول محورين أساسيين: الأوّل: هو التوحيد وصفات الله والهدف من بعثة الرّسول ومسألة المعاد. والمحور الثّاني: هو الأثر التربوي لصلاة الجمعة وبعض الخصوصيات المتعلّقة بهذه العبادة العظيمة. ولكن يمكن أن نجمل الأبحاث التي وردت في هذه السورة المباركة بالنقاط التالية: 1 ـ تسبيح كافّة المخلوقات. 2 ـ الهدف التعليمي والتربوي من بعثة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم). 3 ـ تحذير المؤمنين وتنبيههم من مغبّة الوقوع في الإنحراف الذي وقع فيه اليهود فابتعدوا عن جادّة الصواب والحقّ. 4 ـ إشارة إلى قانون الموت العامّ والشامل الذي يمثّل المعبر إلى عالم البقاء والخلود. 5 ـ التأكيد على أداء فريضة صلاة الجمعة، وحثّ المؤمنين على تعطيل العمل والكسب من أجل المشاركة فيها. فضيلة تلاوة سورة الجمعة: وردت روايات كثيرة في فضيلة تلاوة هذه السورة سواء كانت هذه التلاوة مستقلّة أو ضمن الصلوات اليومية. نقرأ في حديث عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): "ومن قرأ سورة الجمعة اُعطي عشر حسنات بعدد من أتى الجمعة، وبعدد من لم يأتها في أمصار المسلمين". وورد في حديث آخر عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة وسبّح اسم ربّك الأعلى، وفي صلاة الظهر بالجمعة والمنافقين، فإذا فعل ذلك فكإنّما يعمل بعمل رسول الله وكان جزائه وثوابه على الله الجنّة"(18). وقد ورد في الروايات التأكيد الكثير على قراءة سورة الجمعة والمنافقون في صلاة الجمعة، وقد ورد في بعض الروايات أن لا تترك قراءتها ما أمكن(19)، ومع أنّ العدول في القراءة عن سورة "التوحيد" و "قل ياأيّها الكافرون" إلى سور اُخرى غير جائز، إلاّ أنّ هذه المسألة مستثناة في صلاة الجمعة، فيجوز العدول عنهما إلى سورة "الجمعة" و "المنافقون" بل عدّ ذلك مستحبّاً. وكلّ ذلك دليل على الأهميّة العالية لهذه السورة القرآنية. * * * الآيات يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُو الَّذِى بَعَثَ فِى الاُْمِّيِّنَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ ءَايَـتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَـبَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـل مُّبِين (2) وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) التّفسير الهدف من بعثة الرّسول: تبدأ هذه السورة كذلك بالتسبيح لله عزّوجلّ، وتشير إلى بعض صفات الجمال والجلال والأسماء الحسنى لله. ويعتبر ذلك في الحقيقة مقدّمة للأبحاث القادمة، حيث يقول تعالى: ( يسبّح لله ما في السموات وما في الأرض) حيث يسبّحونه بلسان الحال والقال وينزّهونه عن جميع العيوب والنقائض ( الملك القدّوس العزيز الحكيم). وبناءً على ذلك تشير الآية أوّلا إلى "المالكية والحاكمية المطلقة"، ثمّ "تنزّهه من أي نوع من الظلم والنقص" وذلك لإرتباط اسم الملوك بأنواع المظالم والمآسي، فجاءت كلمة "قدّوس" لتنفي كلّ ذلك عنه جلّ شأنه. ومن جانب آخر فالآية تركّز على ركنين أساسيين من أركان الحكومة هما "القدرة" و "العلم" وسنرى أنّ هذه الصفات ترتبط بشكل مباشر بالأبحاث القادمة لهذه السورة. ونشير هنا إلى أنّ ذكر صفات الحقّ تعالى في الآيات القرآنية المختلفة جاءت ضمن نظام وترتيب وحساب خاصّ. وكنّا قد تعرّضنا سابقاً لتسبيح كافّة المخلوقات. وبعد هذه الإشارة الخاطفة ذات المعنى العظيم لمسألة التوحيد وصفات الله، يتحدّث القرآن عن بعثة الرّسول والهدف من هذه الرسالة العظيمة المرتبطة بالعزيز الحكيم القدّوس. حيث يقول: ( هو الذي بعث في الاُمّيين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته). وذلك من أجل أن يطهّرهم من كلّ أشكال الشرك والكفر والإنحراف والفساد ( ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين). ومن الملفت للنظر أنّ بعثة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الخصوصيات التي لا يمكن تفسيرها إلاّ عن طريق الإعجاز، تعتبر هي الاُخرى إشارة إلى عظمته عزّوجلّ ودليل على وجوده إذ يقول: ( هو الذي بعث في الاُمّيين رسولا ...) وأبدع هذا الموجود العظيم بين اُولئك الاُمّيين .. "الاُمّيين" جمع (اُمّي) وهو الذي لا يعرف القراءة والكتابة (ونسبته إلى الاُمّ باعتبار أنّه لم يتلقّ تعليماً في معهد أو مدرسة غير مدرسة الاُمّ). وقال البعض: إنّ المقصود بها أهل مكّة، لأنّ مكّة كانت تسمّى (باُمّ القرى)، ولكنّه بعيد. قال بعض المفسّرين: إنّ المقصود بها "اُمّة العرب" مقابل اليهود وغيرهم، واعتبروا الآية (75) من سورة آل عمران شاهدة على هذا المعنى حيث يقول: ( قالوا ليس علينا في الاُمّيين سبيل) وذلك باعتبار أنّ اليهود كانوا يعتبرون أنفسهم أهل الكتاب وهم أهل القراءة والكتابة، بينما كان العرب على العكس من ذلك. ولكن التّفسير الأوّل أنسب. والجدير بالذكر أنّ الآية تؤكّد على أنّ نبي الإسلام بعث من بين هؤلاء الاُمّيين الذين لم يتلقّوا ثقافة وتعليماً وذلك لبيان عظمة الرسالة وذكر الدليل على حقّانيتها، لأنّ من المحال أن يكون هذا القرآن العظيم وبذلك المحتوى العميق وليد فكر بشري وفي ذلك المحيط الجاهلي ومن شخص اُمّي أيضاً، بل هو نور أشرق في الظلمات، ودوحة خضراء في قلب الصحراء، وهي بحدّ ذاتها معجزة باهرة وسنداً قاطعاً على حقّانيته ... ولخّصت الآية الهدف من بعثة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في ثلاثة اُمور، جاء أحدها كمقدّمة وهو تلاوة الآيات عليهم، بينما شكّل الأمران الآخران أي (تهذيب وتزكية النفس) و (تعليمهم الكتاب والحكمة) الهدف النهائي الكبير. نعم، جاء الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعطي الإنسانية ويعلّمها العلم والأخلاق، لتستطيع بهذين الجناحين (جناح العلم وجناح الأخلاق) أن تحلّق في عالم السعادة وتطوي مسيرها إلى الله لتنال القرب منه. والجدير بالملاحظة انّنا نجد بعض الآيات القرآنية تذكر "التزكية" قبل "التعليم" بينما تقدّم آيات اُخرى "التعليم" على "التزكية". ففي ثلاثة من الموارد الأربعة التي ذكر فيها "التزكية" و "التعليم" تقدّمت التزكية على التعليم بينما تقدّم التعليم في المورد الرابع. وفي الوقت الذي يشار في هذا التعبير إلى التأثير المتبادل لهذين العنصرين (الأخلاق وليدة العلم، كما أنّ العلم وليد الأخلاق) تظهر أيضاً أصالة التربية ومدى الإهتمام بها. علماً أنّ المقصود بالعلم العلوم الحقيقية لا العلوم التي إصطلح عليها بأنّها علم وأُلبست ثوب العلم. ويمكن أن يكون الفرق بين "الكتاب" و "الحكمة" هو أنّ الأوّل إشارة إلى القرآن والثاني إشارة إلى سنّة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم). ويمكن أيضاً أن يكون "الكتاب" إشارة إلى أصل العقائد والأحكام الإسلامية، والثانية إشارة إلى فلسفتها وأسرارها. ومن النقاط الجديرة بالملاحظة ـ كذلك ـ أنّ الحكمة تعني المنع بقصد الإصلاح، ولهذا يقال للجام الفرس "حكمة" لأنّه يمنعها ويجعلها تسير في مسارها الصحيح، وبناءً على ذلك فإنّ مفهوم هذه الدلائل عقلي، ومن هنا يتّضح أنّ ذكر الكتاب والحكمة بشكل مترادف يراد منه التنبيه إلى مصدرين مهمّين من مصادر المعرفة (الوحي) و (العقل). بعبارة اُخرى: إنّ الأحكام السماوية وتعاليم الإسلام رغم أنّها نابعة من الوحي الإلهي غير أنّها يمكن تعقّلها وإدراكها بالعقل "المقصود كلّيات الأحكام". وتعبير "الضلال المبين" إشارة مختصرة معبّرة إلى سابقة العرب وماضيهم الجاهلي في عبادة الأصنام. وأي ضلال أوضح وأسوأ من هذا الضلال الذي يعبد فيه الناس أحجاراً وأخشاباً يصنعونها بأنفسهم ويلجؤون إليها لحلّ مشاكلهم وإنقاذهم من المعضلات. يدفنون بناتهم وهنّ أحياء ثمّ يتفاخرون بكلّ بساطة بهذا العمل قائلين: إنّنا لم ندع ناموسنا وعرضنا يقع بيد الأجانب. كانت صلاتهم ودعاؤهم عبارة عن تصفيق وصياح إلى جانب الكعبة، وحتّى النساء كن يطفن حول الكعبة وهنّ عراة تماماً، ويحسبون ذلك عبادة. كانت تسيطر على أفكارهم مجموعة من الخرافات والأوهام، وكانوا يتفخرون ويتباهون بالحرب ونزف الدماء والإغارة على بعضهم البعض. المرأة كانت تعدّ بضاعة لا قيمة لها عندهم، يلعبون عليها القمار، ويحرمونها من أبسط الحقوق الإنسانية. كانوا يتوارثون العداوة والبغضاء، ولهذا أصبحت الحروب وإراقة الدماء أمراً عادياً لديهم. نعم لقد جاء الرّسول وأنقذهم ـ ببركة الكتاب والحكمة من هذا الضلال والتخبّط وزكّاهم وعلّمهم. وحقّاً إنّ تربية وتغيير مثل هذا المجتمع الضالّ يعتبر أحد الأدلّة على عظمة الإسلام ومعاجز نبيّنا العظيمة. ولكن لم يكن الرّسول مبعوثاً لهذا المجتمع الاُمّي فقط، بل كانت دعوته عامّة لجميع الناس، فقد جاء في الآية التالية ( وآخرين منهم لمّا يلحقوا بهم)(20). نعم، إنّ الأقوام الآخرين الذين جاؤوا بعد أصحاب الرّسول ليتربّوا في مدرسة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويغترفوا من معين القرآن الصافي والسنّة المحمّدية، كانوا ـ أيضاً ـ مشمولين بهذه الدعوة العظيمة. بناءً على ذلك تكون الآية أعلاه شاملة لجميع الأقوام الذين يأتون بعد أصحاب الرّسول من العرب والعجم. جاء في الحديث أنّ الرّسول بعد أن تلا هذه الآية سئل من هؤلاء؟ فأشار الرّسول إلى سلمان وقال: "لو كان الإيمان في الثريا لنالته رجال من هؤلاء"(21). وجاء في آخر الآية: ( وهو العزيز الحكيم). بعد أن يشير إلى هذه النعمة الكبيرة ـ أي نعمة بعث نبي الإسلام الأكرم وبرنامجه التعليمي والتربوي ـ يضيف قائلا: ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم). وهذه الآية في الحقيقة كالآية ـ 164 ـ في سورة آل عمران التي تقول: ( لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين). وقد احتمل بعضهم جملة ( ذلك فضل الله) إشارة إلى أصل مقام النبوّة الذي يعطيه الله لمن يكون لائقاً به، غير أنّ التّفسير الأوّل أنسب، مع أنّه يمكن الجمع بين التّفسيرين بأن يقال: إنّ قيادة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت نعمة للاُمّة كما أنّ مقام النبوّة نعمة عظيمة لشخص الرّسول الكريم. ولا نجد حاجة إلى القول بأنّ تعبير ( من يشاء) لا يعني أنّ الله ينزل رحمته وبركاته بدون حساب وبلا سبب، بل إنّ المشيئة هنا مرادفة للحكمة كما وصف الباري نفسه في بداية السورة بأنّه العزيز الحكيم. يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في معنى هذا الفضل الإلهي: "فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حيث بعث إليهم رسولا، فعقد بملّته طاعتهم وجمع على دعوته أُلفتهم، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها، وأسالت لهم جداول نعيمها، والتفت الملّة بهم في عوائد بركتها، فأصبحوا في نعمتها غرقين. وفي خضرة عيشها فكهين". * * * ملاحظة الفضل الإلهي له حساب: جاء في الحديث أنّ جمعاً من الفقراء ذهبوا إلى رسول الله وقالوا: "يارسول الله، إنّ للأغنياء ما يتصدّقون وليس لنا ما نتصدّق ولهم ما يحجّون وليس لنا ما نحجّ ولهم ما يعتقون وليس لنا ما نعتق. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): من كبّر مائة مرّة كان أفضل من عتق رقبة، ومن سبّح الله مائة مرّة كان أفضل من مائة فرس في سبيل الله يسرجها ويلجمها. ومن هلّل الله مائة مرّة كان أفضل الناس عملا في ذلك اليوم إلاّ من زاد. فبلغ ذلك الأغنياء فقالوه. فرجع الفقراء إلى النبي فقالوا: يارسول الله قد بلغ الأغنياء ما قلت فصنعوه، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء)، (وهذه إشارة إلى أنّ ذلك لأمثالكم فإنّكم مشتاقون إلى الإنفاق ولا تملكون ما تنفقون). أمّا الأغنياء فسبيل بلوغهم ثواب الله هو إنفاق أموالهم في سبيله(22). هذا الحديث شاهد على ما ذكرنا سابقاً من أنّ ثواب الله وفضله لا يعطى بدون حساب. * * * الآيات مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارَا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِئَايَـتِ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّـلِمِينَ (5) قُلْ يَـأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ (6) وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدَا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّـلِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَـقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَـلِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَـدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(8) التّفسير الحمار الذي يحمل الأسفار: جاء في بعض الرّوايات أنّ اليهود قالوا: (إذا كان محمّد قد بعث برسالة فإنّ رسالته لا تشملنا) فردّت عليهم الآية مورد البحث في أوّل بيان لها بأنّ رسالته قد اُشير إليها في كتابكم السماوي لو أنّكم قرأتموه وعملتم به. يقول تعالى: ( مثل الذين حمّلوا التوراة ثمّ لم يحملوها) أي نزلت عليهم التوراة وكلّفوا بالعمل بها ولكنّهم لم يؤدّوا حقّها ولم يعملوا بآياتها فمثلهم ( كمثل الحمار يحمل أسفاراً). لا يشعر هذا الحيوان بما يحمل من كتب إلاّ بثقلها، ولا يميّز بين أن يكون المحمول على ظهره خشب أو حجر أو كتب فيها أدقّ أسرار الخلق وأحسن منهج في الحياة. لقد إقتنع هؤلاء القوم بتلاوة التوراة واكتفوا بذلك دون أن يعملوا بموجبها. هؤلاء مثلهم كمثل الحمار الذي يضرب به المثل في الغباء والحماقة. وذلك أوضح مثال يمكن أن يكشف عن قيمة العلم وأهميّته. ويشمل هذا الخطاب جميع المسلمين الذين يتعاملون بألفاظ القرآن دون إدراك أبعاده وحكمه الثمينة. (وما أكثر هؤلاء بين المسلمين). وهناك تفسير آخر هو أنّ اليهود لمّا سمعوا تلك الآيات والآيات المشابهة في السور الاُخرى التي تتحدّث عن نعمة بعث الرّسول قالوا: نحن أهل كتاب أيضاً، ونفتخر ببعثة سيّدنا موسى (عليه السلام) كليم الله، فردّ عليهم القرآن أنّكم جعلتم التوراة وراء ظهوركم ولم تعملوا بما جاء فيها. على أي حال يعتبر ذلك تحذيراً للمسلمين كافّة من أن ينتهوا إلى ما انتهى إليه اليهود فقد شملتهم الرحمة الإلهية ونزل عليهم القرآن الكريم، لا لكي يضعوه على الرفوف يعلوه الغبار، أو يحملوه كما تحمل التعاويذ أو ما إلى ذلك. وقد لا يتعدّى إهتمام بعض المسلمين بالقرآن أكثر من تلاوته بصوت جميل في أغلب الأحيان. ثمّ يقول تعالى: ( بئس مثل القوم الذين كذّبوا بآيات الله) إذ لم يكتفوا بمخالفة القرآن عملا، بل أنكروه بلسانهم أيضاً، حيث نصّت الآية (87) من سورة البقرة وهي تصف اليهود قائلة: ( أفكلّما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذّبتم وفريقاً تقتلون). ويقول تعالى في آخر الآية في عبارة وجيزة: ( والله لا يهدي القوم الظالمين). صحيح أنّ الهداية شأن إلهي، ولكن ينبغي أن تهيّأ لها الأرضية اللازمة، وهي الروح التواقة لطلب الحقّ والبحث عنه، وهي اُمور يجب أن يهيّئها الإنسان نفسه، ولا شكّ أنّ الظالمين يفتقدون مثل هذه الأرضية. وأوضحنا سابقاً أنّ اليهود اعتبروا أنفسهم اُمّة مختارة، أو نسيجاً خاصّاً لا يشبه غيره، وذهبوا إلى أبعد من ذلك حينما ادّعوا أنّهم أبناء الله وأحبّاؤه المنتقمون، وهذا ما أشارت إليه الآية (18) من سورة المائدة: ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحبّاؤه) (رغم أنّهم يقصدون الأبناء المجازيين). ولكن القرآن شجب هذا التعالي مرّة اُخرى بقوله: ( قل ياأيّها الذين هادوا إن زعمتم أنّكم أولياء لله من دون الناس فتمنّوا الموت إن كنتم صادقين)(23). فالأحبّاء يتمنون اللقاء دائماً، ولا يتمّ اللقاء المعنوي بالله يوم القيامة إلاّ عندما تزول حجب عالم الدنيا وينقشع غبار الشهوات والهوى، وحينئذ سيرى الإنسان جمال المحبوب ويجلس على بساط قربه، ويكون مصداقاً لـ ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر) فيدخل إلى حرم الحبيب. إنّ خوفكم وفراركم من الموت دليل قاطع على أنّكم متعلّقون بهذه الدنيا وغير صادقين في إدّعائكم. ويوضّح القرآن الكريم هذا المعنى بتعبير آخر في سورة البقرة آية (96) عندما يقول تعالى: ( ولتجدنّهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يودّ أحدهم لو يعمّر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر والله بصير بما يعملون). ثمّ يشير القرآن إلى سبب خوفهم من الموت بقوله: ( ولا يتمنّونه أبداً بما قدّمت أيديهم والله عليم بالظالمين). لأنّ خوف الإنسان من الموت ناشيء من عاملين أساسيين: الأوّل: عدم إيمان الإنسان بالحياة بعد الموت وإعتقاده أنّ الموت زوال وفناء. والثّاني: أعماله السيّئة التي يعتقد أنّه سيواجهها بعد مماته في عالم الآخرة عندما تقام المحكمة الإلهية. وإنّما يخاف اليهود من الموت لسوء أعمالهم إذ أنّهم يعتقدون ـ أيضاً ـ بيوم الحساب. وقد وصفهم القرآن الكريم بالظالمين، وذلك لأنّ الظلم يتّسع ليشمل جميع الأعمال السيّئة والجرائم التي ارتكبوها، من قتلهم الأنبياء وقول الزور وغصب الحقوق وتلوّثهم بمختلف المفاسد الأخلاقية. غير أنّ هذا الخوف وذلك الفرار لا يجدي شيئاً، فالموت أمر حتمي لابدّ أن يدرك الجميع، إذ يقول تعالى: ( قل إنّ الموت الذي تفرّون منه فإنّه ملاقيكم ثمّ تردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبّئكم بما كنتم تعملون). الموت قانون عام يخضع له الجميع بما فيهم الأنبياء والملائكة وجميع الناس ( كلّ من عليها فان ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام). وكذلك المثول أمام محكمة العدل الإلهي لا يفلت منها أحد، إضافة إلى علم الله تعالى بأعمال عباده بدقّة وبتفصيل كامل. وبهذا سوف لا يكون هناك طريق للتخلّص من هذا الخوف سوى تقوى الله وتطهير النفس والقلب من المعاصي، وبعد أن يخلص الإنسان لله تعالى فإنّه لن يخاف الموت حينئذ. ويعبّر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) عن هذه المرحلة بقوله: "هيهات بعد اللتيا والتي، والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي اُمّه"(24). * * * ملاحظات 1 ـ العالم بلا عمل ممّا لا شكّ فيه أنّ لطلب العلم تبعات ومسؤوليات عديدة، ولكن مع كثرة هذه التبعات فإنّها لا تساوي شيئاً أمام بركاته. وأشدّ ما يخيف الإنسان ويقلقه أن يتحمّل مصاعب طلب العلم، ويعاني في سبيل ذلك الأمّرين دون أن يحصد بركاته، وعندها سيكون مثل هذا الإنسان كمثل الحمار الذي يحمل أسفاراً على ظهره لا يعلم منها شيئاً. وقد شبّه العالم بلا عمل في بعض الأمثال بأنّه (كالشجر بلا ثمر) أو (كالسحاب بلا مطر) أو (كالشمعة التي تحرق نفسها لتضيء أطرافها ولكنّها تفنى وتزول) أو (كالحيوان الذي يدير الطاحونة فإنّه يمشي ساعات طويلة دون أن يقطع أيّة مسافة بل يبقى دائماً يدور حول نفسه)، وما إلى ذلك من التشبيهات التي يوضّح كلّ واحد منها جانباً من جوانب النقص حينما لا يُقرن العلم بالعمل. وقد حملت الروايات بشدّة على مثل هؤلاء العلماء الذين لا يعملون بما يعلمون، ففي رواية عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "من إزداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلاّ بعداً"(25). وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أنّه قال: "العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلاّ ارتحل عنه"(26). وفي رواية اُخرى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعتبر العالم الذي لا يعمل بموجب علمه غير جدير بهذا اللقب حيث يقول: "لا يكون المرء عالماً حتّى يكون بعلمه عاملا"(27). وليس أفضل من العالم الذي يعمل بعلمه دون أن يستفيد من مزايا العلم ذاتياً ومادياً، فقد ورد عن أمير المؤمنين في خطبة له على المنبر "أيّها الناس إذا علمتم فاعملوا بما علمتم لعلّكم تهتدون، إنّ العالم العامل بغيره، كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق عن جهله بل قد رأيت أنّ الحجّة عليه أعظم والحسرة أدوم"(28). ومثل هؤلاء العلماء سيكونون بلاءً على المجتمع ووبالا عليه، وسينتهي المجتمع الذي علماؤه من هذا القبيل إلى مصير خطير. يقول الشاعر: وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها ذئاب! 2 ـ لماذا أخاف الموت قلّة من الناس فقط لا يخافون الموت ويبتسمون له ويحتضنونه ويهبون تلك النفس المتعبة ليحصلوا على الخلود. والآن لماذا تخاف الموت الأغلبية الغالبة من الناس وتخاف من أعراضه، بل حتّى من إسمه؟ إنّ السبب الأساسي وراء هذا الخوف هو عدم إيمان هؤلاء بالحياة بعد الموت، أو إذا كانوا مؤمنين بذلك فإنّهم لم يصدّقوا به تصديقاً حقيقيّاً، ولم يتمكّن من جميع أفكارهم وإحساساتهم ومشاعرهم. إنّ خوف الإنسان من العدم شيء طبيعي، بل إنّ الإنسان يخاف من الظلمة في الليل التي هي عدم النور، وأحياناً يصل بالإنسان الخوف إلى أنّه يخاف من الميّت. ولكن إذا صدقت النفس أنّ (الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر) وإذا أيقنت هذه النفس أنّ هذا البدن الترابي إنّما هو سجن للروح وسور يضرب الحصار عليها، إذا آمنت بذلك حقّاً وكانت نظرة الإنسان إلى الموت هكذا فإنّه سوف لن يخشى الموت أبداً، وفي نفس الوقت الذي يعتزّ بالحياة من أجل الإرتقاء في سلّم التكامل. لهذا نجد في قصّة عاشوراء: أنّه كلّما ضاقت حلقة الأعداء وإزداد ضغطهم على الإمام الحسين وأصحابه إزدادت وجوههم إشراقاً، حتّى أنّ الشيوخ من أصحابه كانت الإبتسامة تطفو على وجوههم في صبيحة عاشوراء، وحينما كانوا يسألون يقولون: إنّنا سنستشهد بعد ساعات فنعانق الحور العين(29). والسبب الآخر الذي يجعل الإنسان يخاف من الموت هو التعلّق بالدنيا أكثر من اللازم، الأمر الذي يجعله يرى الموت الشيء الذي سيفصله عن محبوبه ومعشوقه التي هي الدنيا. وكثرة السيّئات وقلّة الحسنات في صحيفة الأعمال هي السبب الثالث وراء الخوف من الموت، فقد جاء أنّ رجلا أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: يارسول الله، ما بالي لا اُحبّ الموت؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لك مال؟ قال: نعم، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): قد قدّمته؟ قال: لا. قال: فمن ثمّة لا تحبّ الموت"(30) (لأنّ صحيفة أعمالك خالية من الحسنات). وجاء رجل آخر وسأل (أبا ذرّ) نفس السؤال فأجابه أبو ذرّ قائلا: "لأنّكم عمّرتم الدنيا وخرّبتم الآخرة، فتكرهون أن تنتقلوا من عمران إلى خراب"(31). * * * الآيات يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَوةُ فَانتَشِرُوا فِى الاَْرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)وَإِذَا رَأَوْا تِجَـرَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَـرَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّزِقِينَ (11) سبب النّزول نقل في سبب نزول هذه الآيات وخصوصاً الآية ( وإذا رأوا تجارة) روايات مختلفة جميعها تخبر عن معنى واحد، هو أنّه في أحد السنوات "أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم "دحيّة بن خليفة" بتجارة زيت من الشام والنبي يخطب يوم الجمعة فلمّا رأوه قاموا إليه بالبقيع خشية أن يسبقوا إليه فلم يبق مع النبي إلاّ رهط فنزلت الآية فقال: "والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتّى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي ناراً". وقال المقاتلان: بينا رسول الله يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحيّة بن خليفة بن فروة الكلبي ثمّ أخذ بني الخزرج ثمّ أخذ بني زيد بن مناة من الشام بتجارة وكان إذا قدم لم يبق بالمدينة عاتق إلاّ أتته وكان يقدم إذا قدم بكلّ ما يحتاج إليه من دقيق أو برّ أو غيره فينزل عند "أحجار الزيت"، وهو مكان في سوق المدينة ثمّ يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليتبايعوا معه فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يسلم ورسول الله قائم على المنبر يخطب فخرج الناس فلم يبق في المسجد إلاّ إثنا عشر رجلا وامرأة فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): لولا هؤلاء لسوّمت عليهم الحجارة من السماء وأنزل الله هذه الآية(32). التّفسير أكبر تجمّع عبادي سياسي اسبوعي: كانت الأبحاث السابقة تدور حول مسألة التوحيد والنبوّة والمعاد، وكذلك ذمّ اليهود عبيد الدنيا، بينما انصبّ الحديث في الآيات مورد البحث على الركائز الإسلامية المهمّة التي تؤثّر كثيراً على استقرار أساس الإيمان، وتمثّل الهدف الأساس للسورة، وهي صلاة الجمعة وبعض الأحكام المتعلّقة بها. ففي البداية يخاطب الله تعالى المسلمين جميعاً بقوله: ( ياأيّها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون). "نودي" من مادّة (نداء) وهي هنا بمعنى الأذان إذ لا نداء للصلاة غير الأذان. وجاء في الآية (58) من سورة المائدة ( وإذا ناديتم إلى الصلاة اتّخذوها هزواً ولعباً ذلك بأنّهم قوم لا يعقلون). فعندما يرتفع الأذان لصلاة الجمعة يكون لزاماً على الناس أن يتركوا مكاسبهم ومعايشهم، ويذهبوا إلى الصلاة وهي أهمّ ذكر لله. وعبارة ( ذلكم خير لكم ...) إشارة إلى أنّ إقامة صلاة الجمعة وترك المكاسب والعمل في هذا الوقت، خير وأنفع للمسلمين من حطام الدنيا وملاذها الزائلة لو كانوا يعقلون. وإلاّ فإنّ الله غني عن الجميع. هذه نظرة عابرة إلى فلسفة صلاة الجمعة وما فيها من فضائل سنبحثها تباعاً. من الواضح أنّ لأمر ترك البيع والشراء مفهوماً واسعاً يشمل كلّ عمل يمكن أن يزاحم الصلاة. أمّا لماذا سمّي يوم الجمعة بهذا الإسم؟ فهو لإجتماع الناس في هذا اليوم للصلاة، وهذه المسألة لها تاريخ سنبحثه في النقاط القادمة. ومن الجدير بالملاحظة أنّ بعض الروايات جاءت حول الصلاة اليومية "إذا اُقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة"(33). وقد عبّرت الآية السابقة فيما يتعلّق بصلاة الجمعة بقولها (فاسعوا) لتعطي أهميّة بالغة لصلاة الجمعة. المقصود من (ذكر الله) بالدرجة الاُولى هو الصلاة، ولكنّنا نعلم أنّ خطبتي صلاة الجمعة مشتملة هي الاُخرى ومتضمّنة (لذكرالله) وهي في الحقيقة جزء من صلاة الجمعة. وبناءً على ذلك ينبغي الإسراع لحضور الخطبتين أيضاً. تضيف الآية التي تليها قائلة: ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلّكم تفلحون). ورغم أنّ عبارة ( ابتغوا من فضل الله) أو ما يشابهها من تعابير، وردت في القرآن الكريم للحثّ على طلب الرزق والكسب والتجارة، لكن الظاهر أنّ مفهوم هذه الجملة أوسع من ذلك بكثير. لهذا فسّرها بعضهم بعيادة المريض وزيارة المؤمن وطلب العلم والمعرفة، ولم يحصروها بهذه المعاني كذلك. من الواضح أنّ الإنتشار في الأرض وطلب الرزق ليس أمراً وجوبياً، ولكن ـ كما هو معلوم اُصوليّاً "أمر بعد الحظر والنهي" ـ دليل على الجواز والإباحة. مع أنّ البعض فهم من هذا التعبير أنّ المقصود هو إستحباب طلب الرزق والكسب بعد صلاة الجمعة، وإشارة إلى كونه مباركاً أكثر. وجاء في الحديث أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمشي في السوق بعد صلاة الجمعة. جملة ( واذكروا الله كثيراً) إشارة إلى ذكر الله تعالى الذي وهب كلّ تلك البركات والنعم للإنسان. وقال بعضهم: إنّ الذكر هنا يعني التفكّر كما جاء في الحديث "تفكّر ساعة خير من عبادة سنة"(34). وفسّرها آخرون بمعنى التوجّه إلى الله تعالى في الكسب والمعاملات وعدم الإنحراف عن جادّة الحقّ والعدالة. غير أنّه من الواضح أنّ للآية مفهوماً واسعاً يشمل كلّ تلك المعاني، كما أنّه من المسلّم أنّ روح الذكر هو التفكّر. والذكر الذي لا يكون مقروناً بالتفكّر لا يزيد عن كونه لقلقة لسان، وإنّ الذكر الممزوج بالتفكّر هو سبب الفوز في جميع الحالات. وممّا لا شكّ فيه أنّ استمرار الذكر والمداومة عليه يرسخ الخوف من الله ويعمّقه في نفس الإنسان، ويجعله يستشعر ذلك في أعماق نفسه، ويقضي نهائياً على أسباب الغفلة والجهل اللذين يشكّلان السبب الأساس لكلّ الذنوب، ويضع الإنسان في طريق الفلاح دائماً. وهناك تتحقّق حقيقة ( لعلّكم تفلحون). في آخر الآية ـ مورد البحث ـ ورد ذمّ عنيف للأشخاص الذين تركوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في صلاة الجمعة وأسرعوا للشراء من القافلة القادمة، إذ يقول تعالى: ( وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضّوا إليها وتركوك قائماً). ولكن ( قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين). فمن المؤكّد، أنّ الثواب والجزاء الإلهي والبركات التي يحظى بها الإنسان عند حضوره صلاة الجمعة والإستماع إلى المواعظ والحكم التي يلقيها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وما ينتج عن ذلك من تربية روحية ومعنوية، لا يمكن مقارنتها بأي شيء آخر. فإذا كنتم تظنّون إنقطاع الرزق فإنّكم على خطأ كبير لأنّ ( الله خير الرازقين). التعبير بـ "اللهو" إشارة إلى الطبل وسائر آلات اللهو التي كانت تستعمل عند دخول قافلة جديدة إلى المدينة. فقد كانت تستعمل كإعلان وإخبار عن دخول القافلة، إضافةً إلى كونها وسيلة للترفيه والدعاية واللهو، كما نشاهد ما يشابه ذلك في الغرب هذه الأيّام. التعبير بـ "انفضّوا" بمعنى الإنتشار والإنصراف عن صلاة الجمعة والذهاب إلى القافلة. فقد ورد في سبب النزول أنّ المسلمين تركوا الرّسول في خطبة الجمعة وتجمّعوا مع باقي الناس حول قافلة (دحيّة) ـ الذي لم يكن قد أسلم بعد ـ ولم يبق في المسجد إلاّ ثلاثة عشر شخصاً أو أقل، كما جاء في رواية اُخرى. والضمير في "إليها" يرجع إلى التجارة التي أسرعوا إليها، ولم يكن "اللهو" هو الهدف المقصود بل كان مجرّد مقدّمة للإعلان عن وصول القافلة إلى المدينة، وكذلك للترفيه والدعاية للبضاعة. التعبير بـ "قائماً" يكشف عن أنّ الرّسول كان واقفاً يلقي خطبة الجمعة، كما جاء في حديث عن جابر أنّه قال: (لم أر رسول الله قطّ يخطب وهو جالس، وكلّ من قال يخطب وهو جالس فكذّبوه)(35). وجاء في رواية اُخرى أنّه سئل عبدالله بن مسعود يوماً: هل كان الرّسول يخطب واقفاً؟ قال: ألم تسمعوا قوله تعالى: ( وتركوك قائماً)(36). وجاء في "الدرّ المنثور" أنّ معاوية كان أوّل شخص ألقى خطبة الجمعة وهو "قاعد". * * * بحوث 1 ـ أوّل صلاة جمعة في الإسلام جاء في بعض الرّوايات أنّ مسلمي المدينة كانوا يتحدّثون مع بعضهم ـ قبل هجرة الرّسول إليهم ـ أنّ لليهود يوماً يجتمعون فيه هو (السبت) وللنصارى يوماً يجتمعون فيه هو (الأحد) فلماذا لا نتّخذ نحن يوماً معيّناً نذكر الله فيه كثيراً ونشكره؟ وانتخبوا يوماً قبل السبت وكان يسمّى (يوم العروبة) وذهبوا إلى (أسعد بن زرارة) ـ أحد وجهاء المدينة وقد صلّى بهم جماعة ووعظهم وسمّي ذلك اليوم بيوم الجمعة لإجتماع المسلمين به. ثمّ أمر (أسعد) أن يذبحوا كبشاً ليصنعوا منه غداءً وعشاءً لجميع المسلمين الذين كان عددهم من القلّة بحيث كفاهم الكبش لهاتين الوجبتين. وكانت هذه أوّل جمعة تقام في الإسلام. أمّا أوّل جمعة أقامها الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أصحابه فكانت بعد وصوله إلى المدينة بأربعة أيّام، وكان وصوله يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأوّل، بقي بعدها أربعة أيّام في قبا فبنوا (مسجد قبا) وتحرّكوا بعدها إلى المدينة، وكان ذلك يوم الجمعة، ولم تكن المسافة بين قبا والمدينة طويلة (وتعتبر قبا اليوم من ضواحي المدينة). وكان الرّسول قد وصل ضاحية (بني سالم) عند أذان الجمعة فاُقيمت صلاة الجمعة هناك. وهذه هي أوّل جمعة أقامها الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الإسلام، وقد ألقى فيها خطبة كانت هي بدورها أوّل خطبة لرسول الله في المدينة المنوّرة)(37). نقل أحد المحدّثين عن عبدالله بن كعب قوله: (إنّ أبي كان يترحّم على أسعد بن زرارة كلّما سمع أذان صلاة الجمعة، وعندما سألته عن سبب ذلك أجابني: (لأنّه كان أوّل رجل أقام صلاة الجمعة)، فقلت: كم كان عددكم ذلك اليوم؟ قال: أربعون رجلا فقط)(38). 2 ـ أهميّة صلاة الجمعة إنّ أفضل دليل على أهميّة هذه الفريضة العظيمة هو الآيات الأخيرة في هذه السورة المباركة، التي أمرت جميع المسلمين وأهل الإيمان بمجرّد سماعهم لأذان الجمعة أن يسرعوا إليها ويتركوا الكسب والعمل، وكلّ ما من شأنه أن يزاحم هذه الفريضة، إلى الحدّ الذي نهتهم عن الذهاب إلى تلك القافلة رغم حاجتهم الماسّة إلى ما فيها من طعام إذ كانوا يعيشون القحط والمجاعة. ودعتهم إلى الإستمرار في صلاة الجمعة حتّى النهاية. ورد في أحاديث اُخرى في هذا المجال ـ أيضاً ـ منها الخطبة التي نقلتها جميع مصادر المسلمين عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد جاء فيها قوله: "إنّ الله تعالى فرض عليكم الجمعة، فمن تركها في حياتي أو بعد موتي إستخفافاً بها أو جحوداً لها، فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له، ألا ولا زكاة له، ألا ولا حجّ له، ألا ولا صوم له، ألا ولا برّ له، حتّى يتوب"(39). وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام): "صلاة الجمعة فريضة والإجتماع إليها فريضة مع الإمام، فإن ترك رجل من غير علّة ثلاث جمع فقد ترك ثلاث فرائض ولا يدع ثلاث فرائض من غير علّة إلاّ منافق"(40). وفي حديث آخر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "من أتى الجمعة إيماناً واحتساباً استأنف العمل"(41). أي استغفر ذنوبه ويبدأ العمل من جديد. والرّوايات كثيرة في هذا المجال ولا يتّسع المجال لذكرها جميعاً، لذا نحاول أن ننهي هذا البحث بحديث آخر، حيث جاء رجل إلى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يارسول الله، إنّي تهيّأت عدّة مرّات للحجّ ولكنّي لم اُوفّق. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "عليك بالجمعة فإنّها حجّ المساكين"(42). وفي ذلك إشارة إلى أنّ ما يتضمّنه هذا المؤتمر الإسلامي الكبير (أي الحجّ) من بركات، موجودة في إجتماع صلاة الجمعة. ومن الملفت للنظر أنّه قد ورد ذمّ شديد لتارك صلاة الجمعة، حتّى عدّ التاركون للجمعة في صفّ المنافقين عندما تكون صلاة الجمعة واجباً عينيّاً (أي في زمن حضور الإمام المعصوم (عليه السلام)) وأمّا في زمن الغيبة ـ وبناءاً على أنّه واجب مخيّر بين صلاة الجمعة وصلاة الظهر ـ فإنّه لا يكون مشمولا بهذا الذمّ والتقريع رغم عظمة صلاة الجمعة وأهميّتها في هذا الوقت أيضاً (للتوسّع في ذلك يجب الرجوع إلى الكتب الفقهيّة). 3 ـ فلسفة صلاة الجمعة العبادية والسياسيّة إنّ صلاة الجمعة ـ قبل كلّ شيء ـ عبادة جماعية ولها أثر العبادات عموماً، حيث تطهّر الروح والقلب من الذنوب، وتزيل صدأ المعاصي عن القلوب، خاصّة وأنّها تكون دائماً مسبوقة بخطبتين تشتملان على أنواع المواعظ والحكم، والحثّ على التقوى وخوف الله. أمّا من الناحية السياسيّة والإجتماعية فهي أكبر مؤتمر اسبوعي عظيم بعد مؤتمر الحجّ السنوي، لهذا نجد الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في الرواية التي نقلناها سابقاً من أنّ الجمعة حجّ من لا يملك القدرة على المشاركة في الحجّ. ويعطي الإسلام في الحقيقة أهميّة خاصّة لثلاثة مؤتمرات كبيرة: التجمّعات التي تتمّ يومياً لصلاة الجماعة. التجمّع الأسبوعي الأوسع في صلاة الجمعة. ومؤتمر الحجّ الذي يعقد في كلّ سنة مرّة. ودور صلاة الجمعة مهمّ جدّاً خاصّة وأنّ من واجبات الخطيب هو التحدّث في الخطبتين عن المسائل السياسية والإجتماعية والإقتصادية وبذلك سيكون هذا التجمّع العظيم والمهيب منشأً للبركات والنعم التالية: أ ـ توعية الناس على المعارف الإسلامية والأحداث السياسية والإجتماعية المهمّة. ب ـ توثيق الإتّحاد والإنسجام بين المسلمين أكثر لإخافة الأعداء. ج ـ تجديد الروح الدينية وتصعيد معنويات المسلمين. د ـ إيجاد التعاون لحلّ المشكلات العامّة التي تواجه المسلمين. ولهذا فإنّ أعداء الإسلام يخافون دائماً من صلاة الجمعة الجامعة للشرائط. ولهذا أيضاً ـ كانت صلاة الجمعة مصدر قوّة سياسية في أيدي حكومات العدل كحكومة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي إستثمرها أحسن إستثمار لخدمة الإسلام، وكذلك كانت مصدر قوّة أيضاً لحكومات الجور كدولة بني اُميّة الذين استغلّوها لتحكيم قدرتهم وسيطرتهم وإضلال الناس. وعلى مدى التأريخ نلاحظ أنّ أي محاولة للتمرّد على النظام تبدأ أوّلا بالإمتناع عن صلاة الجمعة خلف الإمام المنصوب من قبل الحاكم، فقد جاء في قصّة عاشوراء أنّ بعض الشيعة اجتمعوا في دار (سليمان بن صرد الخزاعي) ثمّ بعثوا رسالة إلى الإمام الحسين من الكوفة جاء فيها (.. والنعمان بن بشير في قصر الإمارة، لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتّى نلحقه بالشام إن شاء الله"(43). وفي الصحيفة السجادية عن الإمام السجّاد (عليه السلام): "اللهمّ إنّ هذا المقام لخلفائك وأصفيائك ومواضع اُمنائك، في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزّوها"(44). وفي خطبة الجمعة يتمّ تبديد جميع الإشاعات التي كان الأعداء قد بثّوها خلال الاُسبوع، وتدبّ بعد ذلك الحياة في جموع المسلمين ويبدأ دم جديد بالتدفّق. ومن الجدير بالإشارة إليه أنّ فقه أهل البيت (عليهم السلام) ينصّ على عدم جواز إقامة أكثر من جمعة واحدة في منطقة نصف قطرها فرسخ، كما يمكن أن يشارك في صلاة الجمعة من كان يبعد عنها بمسافة فرسخين (أي ما يعادل أحد عشر كم). كلّ هذا يعني أنّه لا يمكن إقامة أكثر من صلاة جمعة في مدينة واحدة صغيرة أو كبيرة، مع أطرافها وضواحيها، وبناءً على هذا فسيكون هذا التجمّع هو أوسع تجمّع يقام في تلك المنطقة. ولكنّنا نجد مع الأسف أنّ هذه المراسم العبادية السياسية التي تستطيع أن تكون مصدر حركة عظيمة في المجتمعات الإسلامية، نجدها بسبب سيطرة الحكومات الفاسدة على بعض الدول الإسلامية قد فقدت روحها ومعناها، إلى الحدّ الذي لا تترك أي أثر إيجابي، وأصبحت تقام بإعتبارها مراسم حكومية رسمية لا أكثر، وذلك ممّا يحزّ بالنفس ويؤلم كثيراً. إنّ أهمّ صلاة جمعة تقام على طول العام هي الصلاة التي تقام قبل الذهاب إلى عرفات في مكّة، حيث يشارك فيها عدد غفير من الحجّاج الذين تجمّعوا من مختلف أنحاء العالم. ويكون هناك تمثيل حقيقي لكلّ فئات المسلمين في الكرة الأرضية، ومن اللائق أن يهيّأ لمثل هذه الصلاة الحسّاسة خطبة عظيمة يشارك في إعدادها أئمّة الجمع ليعرضوا فيها اُمور المسلمين المختلفة. ومن الطبيعي أن تعطي مثل هذه الخطبة اُكلها، وتفيض بالبركات والوعي بين المسلمين وتحلّ مشاكلهم الخطيرة. ولكن مع شديد الأسف نرى أنّ خطبة الجمعة في هذه الأيّام لا تتناول سوى الاُمور الهامشية، أو يتمّ التحدّث عن اُمور معروفة للجميع، ولا يتمّ التحدّث عن الاُمور الأساسية التي تهمّ المسلمين!! ألا ينبغي البكاء على ذهاب هذه الفرص الذهبية وضياع هذه الثروة المعنوية؟! ألا يدعو ذلك إلى الأسف ويتطلّب الإسراع في الإصلاح؟! 4 ـ آداب صلاة الجمعة ومضمون الخطبتين تجب صلاة الجمعة ـ مع توافر الشروط اللازمة ـ على الرجال البالغين والأصحاء الذين لهم القدرة على حضورها والمشاركة فيها، ولا تجب على المسافرين والمسنّين رغم جواز الحضور فيها للمسافر. وكذلك يمكن للنساء المشاركة في صلاة الجمعة رغم أنّها غير واجبة عليهنّ. أقلّ عدد يمكن إنعقاد الجمعة به هو خمسة رجال. صلاة الجمعة ركعيتن وتقام بدلا عن صلاة الظهر، وتحسب الخطبتان اللتان يتمّ إلقاؤهما قبل صلاة الجمعة بدل الركعتين الأخيرتين. وصلاة الجمعة كصلاة الصبح يستحبّ أن يقرأ فيها الحمد والسورة جهراً، ويستحبّ كذلك أن تقرأ سورة الجمعة في الركعة الاُولى والمنافقون في الركعة الثانية. وهناك قنوتان في صلاة الجمعة: أحدهما قبل ركوع الركعة الاُولى، والثاني بعد ركوع الركعة الثانية. يجب إلقاء الخطبتين قبل الصلاة، كما يجب أن يقوم الخطيب واقفاً لإلقاء الخطبة، ومن يلقي الخطبة يجب أن يكون إمام صلاة الجمعة. ويجب أن يرفع الخطيب صوته ليسمعه جميع من يحضر الصلاة ويطّلع على مضمون الخطبة. وينبغي السكوت والإنصات إلى الخطيب والجلوس في مقابله. ومن اللائق أن يكون الخطيب فصيحاً وبليغاً ومطّلعاً على أحوال المسلمين وعارفاً بشؤون المجتمع الإسلامي، وشجاعاً وصريح اللهجة ولا يتردّد في إظهار الحقّ، ويجب أن تكون سيرته مدعاة للتأثير على الناس، وكذلك حديثه ينبغي أن يربط الناس أكثر بالله جلّ شأنه. ومن اللائق أن يرتدي الإمام أنظف الملابس، ويستخدم العطر، ويمشي بوقار وسكينة. وعندما يرتقي المنبر يبدأ بالسلام على الناس ويقف مقابلهم ويتكىء على سيف أو عصى. ويجلس على المنبر متى ينتهي الأذان. ويبدأ بخطبته بعد تمام الأذان. ويحمد الله ويثني عليه ويصلّي على رسوله في بداية الخطبة الاُولى (ويقرأ هذا القسم باللغة العربية احتياطاً، وما تبقّى بلسان الحاضرين). وعليه أن يوصي الناس بتقوى الله، ويقرأ سورة من السور القصيرة، ويراعي هذا الأمر في الخطبتين. وفي الخطبة الثانية، بعد الصلاة على النبي وأئمّة المسلمين، يدعو ويستغفر للمؤمنين والمؤمنات. ومن المناسب أن يناقش الخطيب في خطبته شؤون المسلمين وما يتعلّق بدينهم ودنياهم مع التركيز على الأولويات. وينبغي أن ينبّههم إلى مؤامرات الأعداء ويحثّهم ضمن برنامج طويل أو قصير المدّة. خلاصة القول يجب أن تتوفّر في الخطيب عناصر الوعي والتفكير الصحيح والمتابعة لشؤون المسلمين، ليستثمر الخطبة في تحقيق الأهداف الإسلامية العليا، ويدفع المسلمين نحوها(45). جاء في حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: "إنّما جعلت الخطبة يوم الجمعة لأنّ الجمعة مشهد عام، فأراد أن يكون للأمير سبب إلى موعظتهم وترغيبهم في الطاعة وترهيبهم من المعصية، وتوقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم ودنياهم، ويخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق، من الأهوال التي لهم فيها المضرّة والمنفعة ... وإنّما جعلت خطبتين لتكون واحدة للثناء على الله والتمجيد والتقديس لله عزّوجلّ، والاُخرى للحوائج والأعذار والإنذار والدعاء ولما يريد أن يعلّمهم من أمره ونهيه ما فيه الصلاح والفساد"(46). 5 ـ شرائط وجوب صلاة الجمعة لا شكّ في وجوب أن يكون إمام الجمعة ـ ككل إمام جماعة ـ عادلا إضافة إلى شروط إضافية وقع خلاف فيها وفي وجوب توفّرها. وقد ذهب البعض أنّ هذه الصلاة من وظائف الإمام المعصوم ونائبه الخاصّ، أو بتعبير آخر أنّها ـ أي صلاة الجمعة ـ من شؤون عصر حضور الإمام المعصوم. هذا في وقت يرى عدد كبير من المحقّقين أنّ حضور الإمام المعصوم شرط للوجوب التعييني لصلاة الجمعة، وليس شرطاً في الوجوب التخييري، حيث يمكن إقامة صلاة الجمعة في زمان الغيبة بدلا عن صلاة الظهر، وهذا هو الحقّ، بل إنّه إذا قامت الحكومة الإسلامية بشرائطها من قبل النائب العامّ للإمام المعصوم (عليه السلام). فالإحتياط هو أن يُنصَب إمام الجمعة من قبل نائب الإمام ويشارك المسلمون في هذه الصلاة. ثمّة كلام كثير في هذا الصدد وفي باقي الاُمور المرتبطة بصلاة الجمعة، غير أنّ بعضها خارج عن موضوع التّفسير ويدخل في إطار البحوث الفقهية والحديث(47). اللهمّ، وفّقنا لأن ننتفع كأحسن ما يكون الإنتفاع لتزكية النفوس بهذه الشعائر الإسلامية العظيمة. وإنقاذ المسلمين من قبضة الأعداء. ربّنا، اجعلنا من المشتاقين للقائك، الذين لا يخافون من الموت، اللهمّ لا تسلبنا نعمة الإيمان بأنبيائك والتعلّم منهم والإقتداء بهم أبداً. آمين ربّ العالمين. نهاية سورة الجمعة * * * سُورَة المُنافِقُون مَدَنِيّة وعَدَدُ آيَاتِها إحدى عشَرة آية "سورة المنافقون" محتوى السورة: احتوت سورة "المنافقون" على مضامين عديدة، لكن المحور الأصلي لها هو صفات المنافقين وبعض الاُمور الاُخرى المرتبطة بهم. وقد جاء في ذيل السورة بعض الآيات التي حملت مواعظ ونصائح للمسلمين في مجالات مختلفة. ويمكن تلخيص تلك الآيات في أربعة اُمور: 1 ـ صفات المنافقين وتتضمّن نقاطاً مهمّة وحسّاسة. 2 ـ تحذير المؤمنين من خطط المنافقين ووجوب الإنتباه إلى ذلك ورصده بشكل دقيق. 3 ـ حثّ المؤمنين على عدم الإستغراق في الدنيا وزخرفها والإنشغال بذلك عن ذكر الله. 4 ـ حثّ المسلمين على الإنفاق في سبيل الله، والإنتفاع من الأموال قبل الموت وقبل إشتعال الحسرة في نفوسهم. والسبب في تسمية هذه السورة بسورة "المنافقون" واضح لا يحتاج إلى شرح. وما يجدر بالملاحظة هو أنّ من آداب صلاة الجمعة أن تقرأ سورة المنافقين في الركعة الثانية، ليتذكّر المسلمون على طول الأسبوع مؤامرات المنافقين وخططهم، ويكونوا على حذر دائم من تحرّكاتهم. فضيلة تلاوة سورة المنافقين: جاء في رواية عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "من قرأ سورة المنافقين برأ من النفاق"(48). وفي حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة وسبّح اسم ربّك الأعلى، وفي صلاة الظهر بالجمعة والمنافقين، فإذا فعل ذلك فكإنّما يعمل بعمل رسول الله وكان جزاؤه وثوابه على الله الجنّة"(49). من الواضح أنّ فضائل كلّ سورة وآثارها، ومنها هذه السورة، لا يمكن أن تكون من ثمار التلاوة الخالية من التفكّر والعمل فحسب، والروايات أعلاه خير شاهد على ذلك، فإنّ المرور على هذه السور دون الإستفادة منها على الصعيد العملي وجعلها برنامجاً للحياة، سوف لن يؤدّي إلى زوال روح النفاق وإجتثاث جذورها من نفس الإنسان. * * * الآيات إِذَا جَاءَكَ الْمُنَـفِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَـفِقِينَ لَكَـذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَـنَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ (3) * وإِذَا رَأيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَة عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَـتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) التّفسير مصدر النفاق وعلامات المنافقين: نذكر مقدّمة قبل الدخول في تفسير هذه الآيات، وهي أنّ الإسلام طرح مسألة النفاق والمنافقين مع هجرة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه إلى المدينة، وبداية استحكام اُسس الإسلام وظهور عزّه. فلم تبرز ظاهرة النفاق في مكّة، لأنّ الأعداء كانوا لا يخشون الإسلام ويستطيعون التعبير عن كلّ شيء بدون حذر. ولا حاجة إلى التخفّي أو اللجوء إلى النفاق في وقوفهم بوجه الإسلام. لكن عندما استحكم الإسلام واتّسع في المدينة، وأصبح أعداؤه من الضعف بحيث يصعب عليهم التجاهر في عدائهم، بل قد يتعذّر ذلك عليهم في بعض الأحيان، لهذا اختار أعداء الإسلام المهزومون أن يواصلوا خططهم التخريبية من خلال إظهار الإسلام وإبطان الكفر، وانخرطوا ظاهراً في صفوف المسلمين، بينما ظلّوا محافظين على كفرهم في باطنهم. وهكذا تكون غالباً طبيعة أعداء كلّ ثورة ودعوة بعد إشتداد عودها وقوّة ساعدها، إذ تواجه الكثير من الأعداء وكأنّهم أصدقاء. ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا نزلت كلّ تلك الآيات التي تصف المنافقين وتشرح حالهم، في المدينة ولم تنزل في مكّة. وممّا يجدر الإشارة إليه أنّ هذه المسألة ـ أي مسألة النفاق ـ غير محصورة بعصر الرّسول، بل إنّ جميع المجتمعات ـ وخاصّة الثورية منها ـ تكون عرضة للإصابة بهذه الظاهرة الخطيرة، ولذلك يجب أن يدرس القرآن الكريم وما جاء فيه من تجارب وإرشادات من خلال هذه النظرة الحيوية، لا من خلال إعتبارها مسألة تاريخية لا علاقة لها بالواقع. وبهذا يمكن إستلهام الدروس والحكم لمكافحة النفاق وخطوط المنافقين في المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر. كذلك لابدّ من معرفة صفاتهم التي ذكرها القرآن بشكل تفصيلي، ليتمّ التعرّف عليهم من خلالها استكناه خطوطهم ومؤامراتهم. وممّا تجدر الإشارة إليه أيضاً أنّ خطر المنافقين يفوق خطر باقي الأعداء، لخفائهم وعدم القدرة على تشخيصهم بسهولة من جهة، ولكونهم أعداء يعيشون في داخل الجسم الإسلامي وربّما ينفذون إلى قلبه نفوذاً يصعب معه فرزهم وتحديدهم من جهة اُخرى. ويأتي خطرهم ثالثاً من إرتباطاتهم مع سائر عناصر المجتمع بعلاقات بحيث تصعب مكافحتهم. ولهذا نرى أنّ أكثر الضربات التي تلقّاها الإسلام على مدى التاريخ جاءته من هذا المعسكر ـ أي معسكر النفاق. ولهذا ـ أيضاً ـ نلاحظ أنّ الإسلام شنّ حملات شديدة جدّاً عليهم، ووجّه إليهم ضربات عنيفة لم يوجّهها إلى غيرهم. وبعد هذه المقدّمة نرجع إلى تفسير الآيات. إنّ أوّل صفة يذكرها القرآن للمنافقين هي: إظهار الإيمان الكاذب الذي يشكّل الظاهرة العامّة للنفاق، حيث يقول تعالى: ( إذا جاءك المنافقون وقالوا نشهد إنّك لرسول الله)(50) ويضيف ( والله يعلم أنّ المنافقين لكاذبون). وهذه أوّل علامة من علامات المنافقين، حيث إختلاف الظاهر مع الباطن، ففي الوقت الذي يظهر المنافقون الإيمان ويدعونه بألسنتهم، نرى قلوبهم قد خلت من الإيمان تماماً. وهذه الظاهرة تشكّل المحور الرئيسي للنفاق. وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ الصدق والكذب على نوعين: "صدق وكذب خبري" و "صدق وكذب مخبري"، يكون المعيار والمقياس في القسم الأوّل هو موافقته وعدم موافقته للواقع، بينما يكون المقياس في القسم الثاني هو موافقته وعدم موافقته للإعتقاد، فإذا جاء الإنسان بخبر مطابق للواقع ولكنّه غير مطابق لإعتقاده، فهذا من الكذب المخبري، وفي حالة مطابقته لعقيدته فهو صادق. وبناءً على هذا فإنّ شهادة المنافقين على رسالة الرّسول ليست من قبيل الكذب الخبري لأنّها مطابقة للواقع، ولكنّها من نوع الكذب المخبري إذ تخالف إعتقاد المنافقين. لذلك جاء التعبير القرآني: ( والله يعلم إنّك لرسوله والله يشهد إنّ المنافقين لكاذبون). بعبارة اُخرى: إنّ المنافقين لم يريدوا الإخبار عن واقعية رسالة رسول الله وإنّما أرادوا الإخبار عن إعتقادهم برسالته، وهذا من الكذب المحض. ومن الملاحظ أنّ المنافقين استخدموا كلّ الطرق لتأكيد شهادتهم، غير أنّ الله كذّبهم بشدّة وبنفس اللهجة التي أكّدوا فيها شهادتهم. وهذه إشارة إلى أنّ المنافقين يجب أن يواجهوا بنفس الشدّة التي يؤكّدون فيها على صدقهم. ونشير هنا إلى أنّ "المنافق" في الأصل من مادّة (نفق) على وزن "نفخ" بمعنى النفوذ والتسرّب و "نفق" "على وزن شفق" أي القنوات والتجاويف التي تحدث في الأرض، وتستغل للتخفّي والتهرّب والإستتار والفرار. وأشار بعض المفسّرين إلى أنّ بعض الحيوانات كالذئاب والحرباء والفأر الصحراوي، تتّخذ لها غارين: الأوّل واضح تدخل وتخرج منه بصورة مستمرّة، والآخر غير واضح ومخفي تهرع إليه في ساعات الخطر ويسمّى "النفقاء"(51). والمنافق هو الذي إختار طريقاً مشبوهاً ومخفيّاً لينفذ من خلاله إلى المجتمع، ويهرب عند الخطر من طريق آخر. وتذكر الآية اللاحقة العلامة الثانية: ( اتّخذوا أيمانهم جنّة فصدّوا عن سبيل الله إنّهم ساء ما كانوا يعملون). ذلك لأنّهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ويضعون الموانع والعراقيل في طريق هداية الناس، وليس هناك أقبح من أن يمنع الإنسان غيره من الإهتداء. "جنّة" من مادّة (جنّ) (على وزن فنّ) وهي في الأصل بمعنى إخفاء شيء من الحسّ، ويطلق هذا الإسم على (الجنّ) لأنّه مخلوق غير واضح، ويقال للدرع الذي يستر الإنسان من ضربات العدو في لغة العرب (جُنّة) ويقال أيضاً للبساتين المكتّظة بالشجر بسبب إستتار أراضيها فتسمّى (جَنّة). على كلّ حال فإنّ من علامات المنافقين التستر باسم الله المقدّس، وإيقاع الأيمان المغلّظة لإخفاء وجوههم الحقيقيّة، وإلفات أنظار الناس نحوهم. وبذلك يصدّونهم عن الرشد (الصدّ عن سبيل الله). وبهذا يتّضح أنّ المنافقين في حالة حرب دائمة ضدّ المؤمنين، وأنّ الظواهر التي يتخفّون وراءها لا ينبغي أن تخدع أحداً. وقد يضطرّ الإنسان أحياناً إلى اليمين، أو أنّ هذا اليمين سيساعده على إظهار أهميّة الموضوع، بيد أنّه لا ينبغي أن يكون يميناً كاذباً أو بدون ضرورة ولا موجب. جاء في الآية (74) من سورة التوبة: ( يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر). ذكر المفسّرون مفهومين لمعنى التعبير بـ ( صدّوا عن سبيل الله) الأوّل: الإعراض عن طريق الله، والآخر: منع الآخرين عن سلوك هذا الطريق. وقد لا يتعذّر الجمع بين المعنيين في إطار الآية (مورد البحث) غير أنّ لجوءهم إلى الحلف بالله كذباً يجعل المعنى الثاني أكثر مناسبة، لأنّ الهدف من القسم هو صدّ الآخرين وتضليلهم. فمرّة يقيمون مسجد (ضرار)، وعندما يسألون ما هو هدفكم من ذلك؟ يحلفون أن لا هدف لهم سوى الخير كما في الآية (107) من سورة التوبة. ومرّة اُخرى يعلنون إستعدادهم للمشاركة في الحروب القريبة السهلة التي يحتمل الحصول على غنائم فيها، ولكن حينما يدعون إلى المشاركة في معركة تبوك الصعبة والشاقّة تجدهم يختلقون الحجج ويلفّقون الأعذار، ويحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ( يهلكون أنفسهم والله يعلم إنّهم لكاذبون)(52). وفي يوم الحشر يلجأ المنافقون لنفس الاُسلوب في الحلف، كما جاء في الآية 18 من سورة المجادلة. وبذلك يتّضح أنّ هذا السلوك صار جزءاً من كيانهم، فهم لا يمتنعون عنه حتّى في مشهد الحشر بين يدي الله تعالى. وتتطرّق الآية اللاحقة إلى ذكر السبب الذي يقف وراء هذه الأعمال السيّئة، حيث يقول تعالى: ( ذلك بأنّهم آمنوا ثمّ كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون). والمقصود بالإيمان ـ كما يعتقد بعض المفسّرين ـ هو الإيمان الظاهري الذي يخفي وراءه الكفر. ولكن يبدو أنّ الآية تريد أن تقول: إنّهم كانوا مؤمنين حقّاً وذاقوا طعم الإيمان ولمسوا حقّانية الإسلام والقرآن، ثمّ انتهجوا منهج الكفر مع إحتفاظهم بظاهر الإيمان أو الإيمان الظاهري. وقد سلب الله منهم حسّ التشخيص وحرمهم إدراك الحقائق، لأنّهم أعرضوا عن الحقّ، وأداروا له ظهورهم بعد أن شخّصوه وعرفوه حقّاً. والواقع أنّ المنافقين مجموعتان: المجموعة الاُولى: كان إيمانها منذ البداية ظاهرياً وصورياً. والثانية: كان إيمانها حقيقيّاً في البداية ثمّ ارتدّوا ولزموا طريق النفاق. والظاهر أنّ الآية ـ مورد البحث ـ تتعرّض للمجموعة الثانية. وتشبه هذه الآية (74) من سورة التوبة التي تقول: ( وكفروا بعد إسلامهم). على كلّ حال فإنّ عدم قدرتهم على إدراك الحقائق الواضحة تعتبر علامة ثالثة من علامات نفاقهم. ومن الواضح أنّهم غير مجبرين على ذلك، لأنّهم قد هيّأوا مقدّماته بأنفسهم. وتوضّح الآية اللاحقة علامات المنافقين بشكل أكثر وضوحاً، إذ يقول تعالى: ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم) فهم يتمتّعون بظواهر جميلة وأجسام لطيفة. ( وإن يقولوا تسمع لقولهم) لأنّه ينطوي على شيء من التحسين والعذوبة. وفي الوقت الذي يتأثّر الرّسول بحديث بعضهم ـ كما يبدو من ظاهر التعبير ـ فكيف بالآخرين؟! هذا فيما يخصّ ظاهرهم، أمّا باطنهم فـ ( كأنّهم خشب مسنّدة). فأجسامهم خالية من الروح، ووجوههم كالحة، وكيانهم خاو منخور من الداخل، ليس لهم أيّة إرادة ولا يتمتّعون بأيّة إستقلالية (كالأخشاب المسنّدة) المكدّسة. روى بعض المفسّرين في صفة رئيس المنافقين (عبدالله بن أُبي) "كان عبدالله بن اُبي رجلا جسيماً صبيحاً فصيحاً ذلق اللسان، وقوم من المنافقين في مثل صفته، وهم رؤساء المدينة، وكانوا يحضرون مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)فيستندون فيه، ولهم جهارة المناظرة وفصاحة الألسن، فكان النبي ومن حضر يعجبون بهياكلهم ويسمعون إلى كلامهم"(53). وكان هؤلاء يتميّزون بالضعف والخواء في داخلهم، لا يعرفون التوكّل والإعتماد على الله ولا على أنفسهم، فهم كما يصفهم القرآن الكريم في آية اُخرى: ( يحسبون كلّ صيحة عليهم). يسيطر عليهم الخوف والرعب وسوء الظنّ، وتغمر أرواحهم النظرة السوداء السيّئة .. تجدهم في خوف دائم من ظلمهم وخيانتهم حتّى اعتبر ذلك علامة مميّزة لهم (الخائن خائف). وقد نبّه القرآن الكريم في نهاية الآية قائلا: ( هم العدو فاحذرهم) أي هم الأعداء الواقعيون. ويضيف ( قاتلهم الله أنّى يؤفكون) أي كيف ينحرفون عن الحقّ. ولا يريد القرآن بهذا التعبير الإخبار، وإنّما يريد لعنهم وذمّهم بشدّة، وهو أشبه بالتعابير التي يستخدمها الناس في ذمّ بعضهم البعض. * * * الآيات وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَـسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَلَـكِنَّ الْمُنَـفِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الاَْعَزُّ مِنْهَا الاَْذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَـفِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (8) سبب النّزول ذكرت كتب التاريخ والتّفسير سبباً مسهباً لنزول هذه الآيات، وجاء في الكامل في التاريخ: أنّه بعد غزوة بني المصطلق إزدحم الناس على الماء، وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له: جهجاه، فازدحم هو و "سنان الجهني" حليف بني عوف من الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني: يامعشر الأنصار. وصرخ جهجاه: يامعشر المهاجرين. فغضب عبدالله بن أبي سلول وعنده رهط من قومه فيهم "زيد بن أرقم" غلام حدث السنّ فقال: أو قد فعلوها؟ قد كاثرونا في بلادنا، أما والله (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل) ثمّ أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم ببلادكم وقاسمتموهم أموالكم، والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم. فسمع ذلك زيد فمشى به إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك عند فراغ رسول الله من غزوه، فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال: يارسول الله مُرْ به عبّاد بن بشر فليقتله، فقال رسول الله: كيف إذا تحدّث الناس أنّ محمّداً قتل أصحابه؟ ولكن ائذن بالرحيل. فارتحل في ساعة لم يكن يرتحل فيها ليقطع ما الناس فيه، فلقيه أسيد بن حضير فسلّم عليه وقال: يارسول الله، لقد رحت في ساعة لم تكن تروح فيها؟ فقال: أو ما بلغك ما قال عبدالله بن أُبي؟ قال: وماذا قال؟ قال: زعم أنّه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل. قال أسيد: فأنت والله تخرجه إن شئت، فإنّك العزيز وهو الذليل. ثمّ قال: يارسول الله، ارفق به فوالله لقد منّ الله بك وإنّ قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه، فإنّه ليرى أنّك قد استلبته ملكاً. وسمع عبدالله بن اُبي أنّ زيداً أعلم النبي قوله فمشى إلى رسول الله فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلّمت به، وكان عبدالله في قومه شريفاً، فقالوا: يارسول الله عسى أن يكون الغلام قد أخطأ. وأنزل الله: ( إذا جاء المنافقون) تصديقاً لزيد. فلمّا نزلت أخذ رسول الله باُذن زيد وقال: هذا الذي أوفى الله باُذنه، وبلغ ابن عبدالله بن سلول ما كان من أمر أبيه، فأتى النبي فقال: يارسول الله، بلغني أنّك تريد قتل أبي، فإن كنت فاعلا فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، وأخشى أن تأمر غيري بقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله، فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار. فقال النبي: بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا، فكان بعد ذلك إذا أحدث حدثاً عاتبه قومه وعنّفوه)(54). * * * التّفسير علامات اُخرى للمنافقين: تأتي هذه الآيات لتكمّل توضيح علامات المنافقين التي بدأتها الآيات التي سبقتها، يقول تعالى: ( إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدّون وهم مستكبرون). لقد وصل بهم الكبر والغرور مبلغاً حرمهم من إستثمار الفرص والإستغفار والتوبة والعودة إلى طريق الحقّ والصواب. وكان "عبدالله بن اُبي" هو النموذج البارز لهذا التكبّر والطغيان، وقد تجسّد ذلك في جوابه على من طلب منه الذهاب إلى رسول الله للإستغفار، عندما قال "لقد أمرتموني أن اُؤمن فآمنت، وقلتم: أعط الزكاة فأعطيت، لم يبق بعد إلاّ أن تأمروني بأن أسجد لمحمّد". إنّ حبّ المنافقين لأنفسهم وعبادتهم لذواتهم، جعلتهم أبعد ما يكونون عن الإسلام الذي يعني التسليم والرضا والإستسلام الكامل للحقّ. "لووا" من مادّة (لي) وهي في الأصل بمعنى برم الحبل، وتأتي أيضاً بمعنى إمالة الرأس وهزّه إعراضاً واستكباراً. "يصدّون" لها معنيان كما أوضحنا ذلك سابقاً، (المنع) و (الإعراض) وهذا المعنى أكثر إنسجاماً مع الآية ـ مورد البحث ـ بينما يكون الأوّل أي (المنع) منسجماً مع الآية الاُولى. ومن أجل أن لا يبقى هناك أي إبهام أو التباس قال تعالى: ( سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إنّ الله لا يهدي القوم الفاسقين). بعبارة اُخرى: إنّ استغفار النبي ليس علّة تامّة للمغفرة، بل هي مقتض تؤثّر حينما تكون الأرضية مهيّأة، أي عندما يتوبون بصدق وإخلاص ويتّخذون طريقاً آخر، ويهجرون الكذب والغرور، ويستسلمون للحقّ، هنالك يؤثّر استغفار الرّسول وتقبل شفاعته. وعبّرت الآية (80) من سورة التوبة بما يشبه ذلك حينما وصفت قسماً آخر من أهل النفاق، إذ قال تعالى: ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنّهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين). ومن الواضح أنّ العدد (سبعين) ليس هو المقصود، بل المقصود أنّ الله لن يغفر لهم مهما استغفر لهم الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم). وليس كلّ المذنبين من الفسّاق، فقد جاء الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لإنقاذ المذنبين، فالمقصود إذن هم تلك المجموعة من الفسّاق أو المذنبين الذين يصرّون على ذنوبهم ويركبون رؤوسهم. والشاهد الآخر الذي يذكره القرآن كعلامة لهم واضحة جدّاً، هو قوله تعالى: ( هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضّوا) فلا تعطوا المسلمين شيئاً من أموالكم وإمكاناتكم لكي يتفرّقوا عن رسول الله. ( ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون). إنّ هؤلاء فقدوا الوعي والبصيرة، ولم يعرفوا أنّ كلّ ما لدى الناس إنّما هو من الله، وكلّ الخلق عياله. وأن تقاسم الأنصار لأموالهم مع المهاجرين إنّما هو من دواعي الإفتخار والإعتزاز، ولا ينبغي أن يمنّوا به على أحد. ثمّ يقول تعالى في إشارة اُخرى إلى مقالة اُخرى سيّئة من مقالاتهم ( يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل). وهذا نفس الكلام الذي أطلقه "عبدالله بن اُبي"، ويريدون من ورائه أنّهم أهل المدينة الأصليّون الذين سيخرجون منها الرّسول وأصحابه من المهاجرين، بعد عودتهم من غزوة بني المصطلق التي مرّت الإشارة إليها. ورغم أنّ هذا الحديث صدر عن رجل واحد، لكنّه كان لسان حال المنافقين جميعاً، وهذا ما جعل القرآن يعبّر عنهم بشكل جماعي "يقولون ..." فيردّهم ردّاً حازماً إذ يقول: ( ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون). ولم يكن منافقو المدينة وحدهم الذين رووا هذا الكلام، بل سبقهم إلى ذلك رؤساء قريش عندما قالوا: (سينتهي أمر هذه المجموعة القليلة الفقيرة من المسلمين إذا حاصرناهم إقتصادياً أو أخرجناهم من مكّة). وهكذا نرى اليوم الدول المستكبرة وهي تحذّر الشعوب التي ترفض الخضوع لسيطرتها، بأنّها تملك الدنيا وخزائنها، فان لم تخضع لها تحاصر اقتصادياً لتركيعها. وهؤلاء هم الذين طبع على قلوبهم واتّخذوا منهجاً واحداً على مدى التاريخ، وظنّوا أنّ ما لديهم باق، ولم يعلموا أنّ الله قادر على إزالته وإزهاقه بلمحة بصر. وهذا النمط من التفكير (رؤية أنفسهم أعزّاء والآخرين أذلاّء وتوهّم أنّهم أصحاب النعمة والآخرون محتاجون إليهم) هو تفكير نفاقي متولّد من التكبّر والغرور من جهة، وتوهّم الإستقلال عن الله عزّوجلّ من جهة اُخرى، فلو أنّهم أدركوا حقيقة العبودية ومالكية الله لكلّ شيء فمن المحال أن يقعوا في ذلك التوهّم الخطير .. وقد عبّرت عنهم الآية السابقة بقولها: ( لا يفقهون) وهنا قالت: ( لا يعلمون). ويمكن تفسير الإختلاف في التعبير إلى ضرورات البلاغة، أو أنّه إشارة إلى صعوبة تفهّم أنّ الله مالك خزائن السموات والأرض بالشكل الحقيقي، في الوقت الذي لا يحتاج إدراك أنّ لله العزّة ولرسوله وللمؤمنين إلى شيء من التعمّق والدقّة. * * * بحوث 1 ـ للمنافقين علامات عشر يمكن أن نجمل علامات المنافقين التي ذكرتها الآيات الكريمة بعشر علامات: 1 ـ الكذب الصريح والواضح ( والله يشهد أنّ المنافقين لكاذبون). 2 ـ الإستفادة من الحلف الكاذب لتضليل الناس ( اتّخذوا أيمانهم جنّة). 3 ـ عدم إدراك الواقع بسبب إعراضهم عن جادّة الصواب وطريق الهداية بعد تشخصيه ( لا يفقهون). 4 ـ تمتّعهم بظواهر مغرية وألسنة ناعمة تخفي وراءها بواطن مظلمة خاوية، فارغة، منخورة ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم). 5 ـ الحياة الفارغة في المجتمع، ورفضهم الخضوع لمنطق الحقّ، فهم كالخشبة اليابسة ( كأنّهم خشب مسنّدة). 6 ـ يغلب عليهم سوء الظنّ والخوف والترقّب لما ينطوون عليه من نزعة خيانية ( يحسبون كلّ صيحة عليهم). 7 ـ استهزاؤهم بالحقّ واستهتارهم به ( لووا رؤوسهم). 8 ـ الفسق والفجور وارتكاب المعاصي والذنوب ( إنّ الله لا يهدي القوم الفاسقين). 9 ـ يتملكّهم شعور بأنّ لهم كلّ شيء، وكلّ الناس في حاجة ماسّة إليهم ( هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضّوا). 10 ـ يتصوّرون ويتخيّلون دائماً أنّهم أعزّاء، بينما الآخرون أذلّة ( ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل). هذا علماً بأنّ علامات المنافقين لا تنحصر بهذه العلامات، فقد وردت علامات اُخرى في القرآن الكريم ونهج البلاغة ويمكن اكتشاف علامات اُخرى من خلال معاشرتهم. ويمكن إعتبار العلامات العشر المذكورة أهمّ تلك العلامات. وصفهم أمير المؤمنين في إحدى خطب نهج البلاغة بقوله: "اُوصيكم عباد الله بتقوى الله واُحذّركم أهل النفاق، فإنّهم الضالّون المضلّون، والزالّون المزلّون، يتلوّنون ألواناً ويفتنون افتناناً ويعمدونكم بكلّ عماد، ويرصدونكم بكلّ مرصاد. قلوبهم دويّة وصفاحهم نقيّة، يمشون الخفاء ويدبّون الضراء، وصفهم دواء وقولهم شفاء وفعلهم الداء العياء، حسدة الرخاء ومؤكّدو البلاء ومقنطو الرجاء، لهم بكلّ طريق صريع وإلى كلّ قلب شفيع ولكلّ شجو دموع، يتقارضون الثناء ويتراقبون الجزاء، وإن سألوا ألحفوا، وإن عذلوا كشفوا، وإن حكموا أسرفوا، قد أعدّوا لكلّ حقّ باطلا، ولكلّ قائم مائلا، ولكلّ حي قاتلا، ولكلّ باب مفتاحاً، ولكلّ ليل مصباحاً، يتوصّلون إلى الطمع باليأس ليقيموا به أسواقهم، وينفقوا به أعلاقهم، يقولون فيشبهون ويصفون فيموهون، قد هونوا الطريق وأضلعوا المضيق، فهم لمّة الشيطان وحمة النيران: ( اُولئك حزب الشيطان ألا انّ حزب الشيطان هم الخاسرون)". 2 ـ خطر المنافقين 1 ـ يمثّل المنافقون ـ كما ورد في مقدّمة البحث ـ الخطر الأعظم الذي يواجه المجتمع، وذلك لكونهم يعيشون داخل المجتمعات، وعلى إطّلاع بكافّة الأسرار. 2 ـ لا يمكن التعرّف عليهم بسهولة، ويظهرون من الحبّ والصداقة بحيث لا يستطيح الإنسان أن يرى ما خلفها من البغض والأحقاد. 3 ـ عدم افتضاح وجوههم الحقيقة للناس، الأمر الذي يجعل مواجهتهم بشكل مباشر عملا صعباً. 4 ـ امتلاكهم ارتباطات عديدة بالمؤمنين (إرتباطات سببية ونسبية وغيرها). 5 ـ يطعنون المجتمع بشكل مباغت ومن الخلف. كلّ ذلك وغيره يجعل الخسائر التي تلحق بالمجتمع الإسلامي بسببهم كثيرة إلى الحدّ الذي لا يمكن تلافيها أحياناً. لهذا ينبغي وضع خطط حكيمة ودقيقة لدفع شرّهم، وإنقاذ الاُمّة من أحقادهم. جاء في حديث عن الرّسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّي لا أخاف على اُمّتي مؤمناً ولا مشركاً، أمّا المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأمّا المشرك فيخزيه الله بشركه، ولكنّي أخاف عليكم كلّ منافق عالم اللسان، يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون"(55). مرّت بحوث مفصّلة حول المنافقين في التّفسير الأمثل ذيل الآيات 8 ـ 16 ـ سورة البقرة. وذيل الآيات 60 إلى 85 سورة التوبة. وذيل الآيات 12 ـ 17 سورة الأحزاب. وذيل الآية 43 ـ 45 سورة التوبة. والخلاصة أنّ القرآن الكريم اهتمّ بهذه المجموعة اهتماماً خاصّاً أكثر من إهتمامه بأيّة فئة اُخرى. 3 ـ المنافق فارغ ومنخور تهبّ العواصف على مدى الحياة وتتلاطم الأمواج العاتية، ويتمسّك المؤمنون بإيمانهم، ويضعون الخطط الحكيمة للنجاة من ذلك، فمرّة بالكرّ والفرّ واُخرى بالهجمات المتتالية، ويبقى المنافق معرّضاً للعواصف لا يقوى على مصارعتها فينكسر ويتلاشى. جاء في حديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) "مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز، لا تهتزّ حتّى تستحصد"(56). وتعني "العزّة" في اللغة العربية القدرة والسلطان غير القابل للتصدّع والتدهور، وقد جعل القرآن الكريم العزّة من الاُمور التي يختصّ بها الله تعالى، كما في الآية العاشرة من سورة فاطر حيث يقول: ( من كان يريد العزّة فلله العزّة جميعاً). ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلا: ( ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين). فأولياء الله وأحبّاؤه يقتبسون نوراً من نور الله فيأخذون عزّاً من عزّته، ولهذا فإنّ روايات إسلامية عديدة حذّرت المؤمنين من التنازل عن عزّتهم ونهتهم عن تهيأة أسباب الذلّة في أنفسهم، ودعتهم بإلحاح إلى الحفاظ على هذه العزّة. فقد ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير هذه الآية ( ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين). قال (عليه السلام) "المؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلا .. المؤمن أعزّ من الجبل، إنّ الجبل يستفلّ منه بالمعاول والمؤمن لا يستفلّ من دينه شيء"(57). وفي حديث آخر له (عليه السلام) قال فيه: "لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه. قيل له: وكيف يذلّ نفسه؟ قال (عليه السلام): يتعرّض لما لا يطيق"(58). وفي حديث ثالث عن الإمام الصادق (عليه السلام) جاء فيه: "إنّ الله تبارك وتعالى فوّض إلى المؤمن اُموره كلّها، ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه، ألم تر قول الله سبحانه وتعالى هاهنا: ( ولله العزّة ولرسوله وللمؤمنين). والمؤمن ينبغي أن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلا"(59). كنّا قد تطرّقنا إلى بحث هذا الموضوع في ذيل الآية (10) سورة فاطر، في هذا التّفسير. * * * الآيات يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَـسِرُونَ (9) وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَـكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَل قَرِيب فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّـلِحِينَ (10)وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) التّفسير لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم! إنّ حبّ الدنيا والتكالب على الأموال والإنشداد إلى الأرض، من الأسباب المهمّة التي تدفع باتّجاه النفاق، وهذا ما جعل القرآن يحذّر المؤمنين من مغبّة الوقوع في هذه المصيدة الخطيرة ( ياأيّها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فاُولئك هم الخاسرون). ورغم أنّ الأموال والأولاد من النعم الإلهية التي يستعان بها على طاعة الله وتحصيل رضوانه، لكنّها يمكن أن تتحوّل إلى سدّ يحول بين الإنسان وخالقه إذا ما تعلّق به الإنسان بشكل مفرط. جاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) يجسّد هذا المعنى بأوضح وجه "ما ذئبان ضاريان في غنم ليس لها راع، هذا في أوّلها وهذا في آخرها، بأسرع فيها من حبّ المال والشرف في دين المؤمن"(60). اختلف المفسّرون في معنى "ذكر الله" ففسّرها البعض بأنّه الصلوات الخمس، وقال آخرون: إنّه شكر النعمة والصبر على البلاء والرضى بالقضاء، وقيل: إنّه الحجّ والزكاة وتلاوة القرآن، وقيل أنّه كلّ الفرائض. ويبدو أنّ لـ (ذكر الله) معنى واسعاً يشمل كلّ تلك المصاديق. ولهذا وصف القرآن الكريم اُولئك الذين يرحلون عن الدنيا دون أن يستثمروا نعم الله في بناء الحياة الخالدة وتعمير الآخرة بأنّهم "الخاسرون" فقد خرجوا من هذه الدنيا وهم منشغلون بالأموال والاُمور الزائلة التي لا بقاء ولا دوام لها. بعد هذا التحذير الشديد يأمر الله تعالى بالإنفاق في سبيله حيث يقول: ( وأنفقوا ممّا رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول ربّ لولا أخّرتني إلى أجل قريب فأصّدّق وأكن من الصالحين)(61). والأمر بالإنفاق هنا يشمل كافّة أنواع الإنفاق الواجبة والمستحبّة، رغم قول البعض بأنّها تعني التعجيل في دفع الزكاة. والطريف أنّه جاء في ذيل الآية ( فأصدّق وأكن من الصالحين) لبيان تأثير الإنفاق في صلاح الإنسان، وإن فسّره البعض بأنّه أداء "مراسم الحجّ" كما عبّرت بعض الروايات عن نفس هذا المعنى فهو من قبيل ذكر المصداق البارز. وأراد القرآن أن يلفت الأنظار إلى أنّ الإنسان لا يقول هذا الكلام بعد الموت، بل عند الموت والإحتظار، إذ قال: ( من قبل أن يأتي أحدكم الموت). وقال ( ممّا رزقناكم) ليؤكّد أنّ جميع النعم ـ وليس الأموال فقط ـ هي من عند الله، وأنّها ستعود إليه عمّا قريب، فلا معنى للبخل والحرص والتقتير. على أي حال فإنّ هناك عدداً كبيراً من الناس يضطربون كثيراً حينما يجدون أنفسهم على وشك الإنتقال إلى عالم البرزخ، والرحيل عن هذه الدنيا، وترك كلّ ما بنوا فيها من أموال طائلة وملاذ واسعة، دون أن يستثمروها في تعمير الآخرة. عندئذ يتذكّر هؤلاء ويطلبون العودة إلى الحياة الدنيا مهما كان الرجوع قصيراً وعابراً، ليعوّضوا ما فات، ويأتيهم الجواب ( ولن يؤخّر الله نفساً إذا جاء أجلها). وفي الآية 34 من سورة الأعراف ( فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون). ثمّ تنتهي الآية بهذه العبارة ( والله خبير بما تعملون) فقد سجل كلّ شيء عنكم وستجدونه محضراً من ثواب وعقاب. * * * تعقيب 1 ـ طريقة التغلّب على الإضطرابات والقلق جاء في أحوال الشيخ والعالم الكبير "عبدالله الشوشتري" وهو من معاصري العلاّمة "المجلسي" أنّه كان يحبّ ولده كثيراً، فاتّفق أنّه مرض مرضاً شديداً، فلمّا حضر أبوه المرحوم الشيخ عبدالله إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة كان مشدوه البال مشتّت الشعور ـ وحينما بلغ قوله تعالى: ( ياأيّها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله) في سورة المنافقون أخذ يكرّرها مرّات عديدة، وحينما سئل بعد الفراغ عن سبب ذلك قال: لقد تذكّرت ولدي حينما بلغت هذا المقطع من السورة، فجاهدت نفسي وروّضتها بتكرار هذه الآية إلى الحدّ الذي اعتبرته ميّتاً وكأنّ جثمانه أمامي فانصرفت من الآية(62). 2 ـ النفاق العقائدي والنفاق العملي للنفاق معنى واسع يشمل كلّ أنواع إختلاف الظاهر عن الباطن، ومصداقه البارز هو النفاق العقائدي الذي تتحدّث عنه سورة المنافقون. أمّا النفاق العملي فهو وصف لحالة بعض الناس المؤمنين بالإسلام حقّاً، ولكنّهم يرتكبون أعمالا تناقض إعتقادهم، كالكذب ونقض العهد وخيانة الأمانة. جاء في رواية عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) "ثلاث من كنّ فيه كان منافقاً، وإن صام وصلّى وزعم أنّه مسلم: من إذا ائتمن خان، وإذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف"(63). وفي حديث آخر عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) "ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق"(64). وفي حديث آخر عن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) "إنّ المنافق ينهى ولا ينتهى، ويأمر بما لا يأتي"(65). اللهمّ، إنّ دائرة النفاق واسعة، ولا نجاة لنا منه دون لطفك ورحمتك فأعنّا على ذلك. ربّنا، اجعلنا من الذين لا تأكلهم الحسرة عند توديعهم لهذه الدنيا. اللهمّ، إنّ العزّة لك ولأوليائك، وخزائن السموات والأرض لك لا لغيرك. فأنزل علينا من بركاتك، ولا تحرمنا من فيض خزائنك. أمين ياربّ العالمين. نهاية سورة المنافقين * * * سُورَة التَّغَابُن مَدَنِيّة وعَدَدُ آيَاتِها ثماني عشرة آية "سورة التغابن" ملاحظة هناك خلاف شديد بين المفسّرين في مكان نزول هذه السورة، هل هو المدينة أو مكّة؟ علماً بأنّ الرأي المشهور هو أنّ السورة مدنية. وقال آخرون: إنّ الآيات الثلاث الأخيرة مدنيّة والباقي مكيّة. ومن الواضح أنّ سياق الآيات الأخيرة في هذه السورة ينسجم مع السور المدنية، وصدرها أكثر إنسجاماً مع السور المكيّة، ولكنّنا نرى أنّها مدنية طبقاً للمشهور. نقل "عبدالله الزنجاني" في كتابه القيّم (تأريخ القرآن) عن فهرس "ابن النديم" أنّ سورة التغابن هي السورة المدنية الثالثة والعشرون. ونظراً لأنّ مجموع السور المدنية يبلغ 28 سورة فستكون هذه السورة من أواخر السور المدنية. ويمكن تقسيم هذه السورة من حيث المواضيع التي احتوتها إلى عدّة أقسام: 1 ـ بداية السورة التي تبحث في التوحيد وصفات وأفعال الله تعالى. 2 ـ حثّ الناس على ملاحظة أعمالهم ظاهراً وباطناً، وأن لا يغفلوا عن مصير الأقوام السابقين. 3 ـ في قسم آخر من السورة يجري الحديث عن المعاد، وأنّ يوم القيامة "يوم تغابن"، تغبن فيه جماعة وتفوز فيه جماعة، واسم السورة مشتقّ من هذا المفهوم. 4 ـ الأمر بطاعة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتحكيم قواعد النبوّة. 5 ـ ويأمر الله تبارك وتعالى في القسم الأخير من السورة بالإنفاق في سبيله، ويحذّر من الإنخداع بالأموال والأولاد والزوجات. وتختم السورة بذكر صفات الله تبارك وتعالى. فضيلة تلاوة السورة: في حديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) "من قرأ سورة التغابن رفع عنه موت الفجأة"(66). وعن الإمام الصادق (عليه السلام) "من قرأ سورة التغابن في فريضة كانت شفيعة له يوم القيامة، وشاهد عدل عند من يجيز شهادتها، ثمّ لا تفارقه حتّى يدخل الجنّة"(67). * * * الآيات يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَـوَتِ وَالاَْرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَـتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ (6) التّفسير يعلم ما تخفي الصدور: تبدأ هذه السورة بتسبيح الله، الله المالك المهيمن على العالمين القادر على كلّ شيء ( يسبّح لله ما في السموات وما في الأرض) ويضيف ( له الملك) والحاكمية على عالم الوجود كافّة، ولهذا السبب: ( وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير). ولا حاجة للحديث عن تسبيح المخلوقات جميعاً لله الواحد الأحد بعد أن تطرّقنا إلى ذلك في مواضع عديدة، وهذا التسبيح ملازم لقدرته على كلّ شيء وتملّكه لكلّ الأشياء، ذلك لأنّ كلّ أسرار جماله وجلاله مطوية في هذين الأمرين. ثمّ يشير تعالى إلى أمر الخلقة الملازم لقدرته، إذ يقول تعالى: ( هو الذين خلقكم) وأعطاكم نعمة الحرية والإختيار ( فمنكم كافر ومنكم مؤمن). وبناءً على هذا فإنّ الإمتحان الإلهي يجد له في هذا الجو مبرّراً كافياً ومعنى عميقاً ( والله بما تعملون بصير). ثمّ يوضّح مسألة الخلقة أكثر بالإشارة إلى الهدف منها، إذ يقول في الآية اللاحقة: ( خلق السموات والأرض بالحقّ). فإنّ هذا الخلق الحقّ الدقيق ينطوي على غايات عظيمة وحكمة بالغة، حيث يقول تعالى في الآية (27) من سورة ص: ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظنّ الذين كفروا). ثمّ يتحدّث القرآن الكريم عن خلق الإنسان، ويدعونا بعد آيات الآفاق إلى السير في آفاق الأنفس، يقول تعالى: ( وصوّركم فأحسن صوركم). لقد صوّر الإنسان بأحسن الصور وأجملها، وجعل له من المواهب الباطنية الفكرية والعقلية ما جعل العالم كلّه ينطوي فيه. وأخيراً تنتهي الاُمور إليه تعالى ( وإليه المصير). نعم، إنّ هذا الإنسان الذي هو جزء من عالم الوجود، ينسجم من ناحية الخلقة والفطرة مع سير هذا العالم أجمع وغاية الوجود، حيث يبدأ من أدنى المراتب ويرتقي إلى اللامحدود حيث القرب من الحقّ تبارك وتعالى. جملة: ( فأحسن صوركم) يراد بها الإشارة إلى المظهر الخارجي والمحتوى الداخلي على حدّ سواء. وأنّ التأمّل في خلق الإنسان وصورته، يظهر مدى القدرة التي خلق بها الباريء هذا المخلوق الرائع، الذي امتاز على كلّ ما سواه من المخلوقات. ولأنّ الإنسان خلق لهدف سام عظيم، فعليه أن يكون دائماً تحت إرادة الباريء وضمن طاعته، فإنّه ( يعلم ما في السموات والأرض ويعلم ما تسرّون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور). تجسّد هذه الآية علم الله اللامتناهي في ثلاثة مستويات: علمه بكلّ المخلوقات، وما في السموات والأرض. ثمّ علمه بأعمال الإنسان كافّة، سواء أضمرها أو أظهرها. والثالث علمه بنيّة الإنسان وعقائده الداخلية التي تحكم قلب الإنسان وروحه. ولا شكّ أنّ معرفة الإنسان بهذا العلم الإلهي ستترك عليه آثاراً تربوية كثيرة، وتحذّره بأنّ جميع تحرّكاته وسكناته وكلّ تصرّفاته ونيّاته، وفي أي مكان كانت، إنّما هي في علم الله وتحت نظره تبارك وتعالى. وممّا لا شكّ فيه أنّ ذلك سيهيء الإنسان للحركة نحو الرقي والتكامل. ثمّ يلفت القرآن الكريم الإنتباه إلى أهمّ عامل في تربية الإنسان وتعليمه، وهو الإتّعاظ بمصارع القرون وما جرى على الأقوام السالفة حيث يقول: ( ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم). ألم تمرّوا على مدنهم المهدّمة وآثارهم المدمّرة في طريقكم إلى الشام والأماكن الاُخرى، فتروا باُمّ أعينكم نتيجة كفرهم وظلمهم. اقرأوا أخبارهم في التاريخ، بعضهم أخذته العواصف، وآخرون أتى عليهم الطوفان، وكان هذا عذابهم في الدنيا وفي الآخرة لهم عذاب أشدّ. ثمّ تشير الآية اللاحقة إلى سبب هذه العاقبة المؤلمة وهو الغرور والتكبّر على الأنبياء: ( ذلك بأنّه كانت تأتيهم رسلهم بالبيّنات فقالوا أبشر يهدوننا)وبهذا المنطق عصوا وكفروا ( فكفروا وتولّوا) والله في غنى عن طاعتهم ( واستغنى الله) فطاعتهم لأنفسهم وعصيانهم عليها و ( الله غني حميد). ولو كفرت كلّ الكائنات لما نقص من كبريائه تعالى شيء، كما أنّ طاعتهم لا تزيده شيئاً. نحن الذين نحتاج إلى كلّ هذه التعليمات والمناهج التربوية. عبارة ( واستغنى الله) مطلقة تبيّن إستغناء الباريء عن الوجود كلّه، وعدم حاجته إلى شيء أبداً، بما في ذلك إيمان الناس وطاعتهم، كي لا يتصوّروا ـ خطأً ـ أنّ الله عندما يؤكّد على الطاعة والإيمان فبسبب حاجة أو نفع يصيبه سبحانه. وقال آخرون في معنى عبارة ( استغنى الله) بأنّها إشارة إلى الحكم والآيات والمواعظ التي أعطاها الله تعالى إيّاهم، إذ لا يحتاجون بعدها إلى شيء. * * * الآيات زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (7) فَئَامِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِى أَنزَلْنَا وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَـلِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِئَايَـتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَـبُ النَّارِ خَـلِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) التّفسير يوم التغابن وظهور الغبن: في أعقاب تلك الآيات التي بحثت مسألة الخلقة والهدف من الخلق، جاءت هذه الآيات لتكمّل البحث الذي يطرح قضيّة المعاد والقيامة، حيث يقول تعالى: ( زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا). "زعم" من مادة (زعم) ـ على وزن طعم ـ تطلق على الكلام الذي يحتمل أو يتيقن من كذبه، وتارة تطلق على التصور الباطل وفي الآية المراد هو الأوّل. ويستفاد من بعض كلمات اللغويين أنّ كلمة "زعم" جاءت بمعنى الإخبار المطلق، بالرغم من أنّ الإستعمالات اللغوية وكلمات المفسّرين تفيد أنّ هذا المصطلح قد ارتبط بالكذب ارتباطاً وثيقاً، ولذلك قالوا "لكلّ شيء كنية وكنية الكذب، الزعم". على أي حال فإنّ القرآن الكريم يأمر الرّسول الأكرم في أعقاب هذا الكلام بقوله: ( قل بلى وربّي لتبعثنّ ثمّ لتنبؤنّ بما عملتم وذلك على الله يسير). إنّ أهمّ شبهة يتمسّك بها منكرو المعاد هي كيفية إرجاع العظام النخرة التي صارت تراباً إلى الحياة مرّة اُخرى، فتجيب الآية الكريمة: ( ذلك على الله يسير)لأنّهم في البداية كانوا عدماً وخلقهم الله، فإعادتهم إلى الوجود مرّة اُخرى أيسر .. بل احتمل بعضهم أنّ القسم بـ (وربّي) هو بحدّ ذاته إشارة لطيفة إلى الدليل على المعاد، لأنّ ربوبية الله تعالى لابدّ أن تجعل حركة الإنسان التكاملية حركة لها غاية لا تنحصر في حدود الحياة الدنيا التافهة. بتعبير آخر إنّنا لو لم نقبل بمسألة المعاد، فانّ مسألة ربوبية الله للإنسان ورعايته له لا يبقى لها مفهوماً البتة. ويعتقد البعض أنّ عبارة ( وذلك على الله يسير) ترتبط بإخبار الله تعالى عن أعمال البشر يوم القيامة، التي جاءت في العبارة السابقة، ولكن يبدو أنّها ترجع إلى المضمون الكلّي للآية. (أصل البعث وفرعه) الذي هو الإخبار عن الأعمال التي تكون مقدّمة للحساب والجزاء. ولابدّ أن تكون النتيجة كما قرّرتها الآية اللاحقة وأنّه بعد أن ثبت أنّ المعاد حقّ: ( فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير). وبناءً على ذلك يأمرهم الباريء أن يعدوا أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح، ويستعدّوا للبعث ويوم الجزاء. والإيمان هنا لابدّ أن يرتكز على ثلاثة اُصول: (الله) و (الرّسول) و (القرآن) التي تتضمّن الاُمور الاُخرى جميعاً. التعبير عن القرآن الكريم بأنّه (نور) في آيات متعدّدة، وكذلك (أنزلنا) شاهدان آخران على ذلك. رغم وجود روايات متعدّدة عن أهل البيت (عليهم السلام)فسّرت كلمة (نور) في الآية ـ مورد البحث ـ بوجود الإمام، ويمكن أن ينظر إلى هذا التّفسير على أنّ وجود الإمام يعتبر تجسيداً عملياً لكتاب الله، إذ يعبّر عن الرّسول والإمام بـ (القرآن الناطق) فقد جاء في ذيل إحدى هذه الروايات عن الإمام الباقر قوله عن الآية: (وهم الذين ينوّرون قلوب المؤمنين)(68). وتصف الآية اللاحقة يوم القيامة بقولها: ( يوم يجمعكم ليوم الجمع)(69) فإنّ أحد أسماء يوم القيامة هو "يوم الجمع" الذي ورد كراراً بتعبيرات مختلفة في القرآن الكريم، منها ما جاء في الآية (49) و (50) من سورة الواقعة: ( قل إنّ الأوّلين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم). ثمّ يضيف تعالى ( ذلك يوم التغابن)(70) أي اليوم الذي يعرف فيه "الغابن" بالفوز عن "المغبون" بالغلبة، وهو اليوم الذي ينكشف فيه من هم الناس الذي غبنوا وخسرت تجارتهم؟ اليوم الذي يرى فيه أهل جهنّم مكانهم الخالي في الجنّة ويأسفون لذلك، ويرى أهل الجنّة مكانهم الخالي في النار فيفرحون لذلك، فقد ورد في أحد الأحاديث أنّ لكلّ إنسان مكاناً في الجنّة وآخر في النار، فحينما يذهب إلى الجنّة يعطى مكانه في جهنّم إلى أهل جهنّم، ويعطى مكان الجهنمي في الجنّة إلى أهل الجنّة(71). والتعبير بـ (الإرث) في الآيات القرآنية ربّما يكون ناظراً إلى هذا المعنى. ثمّ يتحدّث القرآن الكريم عن أحوال المؤمنين في ذلك اليوم (يوم القيامة) أو (يوم التغابن) قائلا: ( ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يكفّر عنه سيّئاته ويدخله جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم). وستتنزّل النعم الإلهية والبركات بتحقّق الشرطين الأساسيين، الإيمان والعمل الصالح. فتحلّ المغفرة والتجاوز عن الذنوب التي تشغل تفكير الإنسان أكثر من أي شيء آخر، وكذلك دخول الجنّة، وذلك هو الفوز العظيم الذي لا فوز بعده. ثمّ يقول تعالى: ( والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا اُولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير). وهناك عاملان أساسيان للشقاء يذكرهما القرآن، هما الكفر والتكذيب بالآيات الإلهية، وهما النقيضان الواقعيان للإيمان والعمل الصالح. والإختلاف الأوّل الذي تذكره الآية بين أهل الجنّة وأهل النار هو ذكره الغفران والعفو لأهل الجنّة بينما لم يذكر ذلك لأصحاب النار. والإختلاف الآخر هو التأكيد على خلود أهل الجنّة في النعيم بقوله (أبداً) بينما اكتفى بالنسبة لأهل النار بذكر الخلود والبقاء فقط، فقد يكون هذا الإختلاف للإشارة إلى أنّ الذين خلطوا الإيمان بالكفر سوف يخرجون من النار والعذاب آخر المطاف، أو إشارة لغلبة رحمته على غضبه، علماً أنّ بعض المفسّرين يعتقد أنّ عدم ذكر (أبداً) في الجملة الثانية كان نتيجة لذكرها في الجملة الاُولى. * * * الآيات مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَة إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَىْء عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسول فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَـغُ الْمُبِينُ (12) اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) التّفسير كلّ ما يصيبنا بإذنه وعلمه: في أوّل آية مورد البحث يشير القرآن إلى أصل كلّي عن المصائب والحوادث الأليمة التي تصيب الإنسان، ولعلّ ذلك يعود إلى أنّ الكفّار كانوا دائماً يتذرّعون بوجود المصائب والبلايا لنفي العدالة الإلهية في هذا العالم، أو يكون المراد أنّ طريق الإيمان والعمل الصالح مقرون دائماً بالمشاكل، ولا يصل الإنسان المؤمن إلى مرتبة مقاومتها، وبذلك يتّضح وجه الإرتباط بين هذه الآية وما قبلها. يقول تعالى أوّلا: ( ما أصاب من مصيبة إلاّ بإذن الله). فما يجري من حوادث كلّها بإذن الله لا تخرج عن إرادته أبداً، وهذا هو معنى (التوحيد الأفعالي) وإنّما بدأ بذكر المصائب باعتبارها هي التي يستفهم عنها الإنسان دائماً وتشغل تفكيره. وعندما نقول يقع ذلك بإرادة الله، فإنّما نعني "الإرادة التكوينية" لا الإرادة التشريعية. وهنا يطرح سؤال مهمّ وهو: إنّ كثيراً من هذه الحوادث والكوارث التي تنزل بالناس تأتي من ظلم الظالمين وطغيان الجبابرة، أو أنّ الإنسان يبتلي بها بسبب الغفلة والجهل والتقصير ... فهل أنّ ذلك كلّه بإذن الله؟ للإجابة على هذا السؤال نرجع إلى مجموع الآيات التي وردت في هذا المجال، فنلاحظ أنّها عرضت المصائب على نوعين: الأوّل: ما يكون جزءاً من طبيعة تكوين الإنسان كالموت والحوادث الطبيعية الاُخرى، وهذه لا يستطيع الإنسان أن يدفعها عنه، فيقرّر القرآن الكريم بأنّ ذلك يقع بإذن الله. الثّاني: هو تلك المصائب التي تأتي من تقصير الإنسان ومن عمل يده، وله الدور الأساسي في تحقّقها، وهذه يقول القرآن: إنّها تصيبكم بسبب أعمالكم. وبناءً على ذلك فليس للإنسان أن يستسلم للظلم والجهل والفقر. ومن البديهي أنّ إرادة الله تتدخّل في جميع الاُمور حتّى تلك الخاضعة لإرادة الإنسان وفعله، إذ لا تأثير لجميع الأسباب إلاّ بإذنه، وكلّ شيء خاضع لإرادته وسلطانه، ويبشّر القرآن المؤمنين بقوله: ( ومن يؤمن بالله يهد قلبه). فالمؤمن لا تهزمه المصائب ولا ييأس ولا يجزع. والله يهدي الإنسان حينما يكون شكوراً لنعمه، صابراً على بلائه، مستسلماً لقضائه. ولهداية القلوب معاني كثيرة منها (الصبر) و (التسليم) و (الشكر) و (الرضى) وقول: ( إنّا لله وإنّا إليه راجعون) وعندما يذكر المفسّرون أحد هذه الاُمور، فإنّما يريدون بيان مصداق من مصاديق الآية لا معناها الكلّي. وتقول الآية في نهاية المطاف ( والله بكلّ شيء عليم). وقد يراد من هذا التعبير الإشارة إلى الهدف من وراء هذه الإمتحانات والإختبارات الصعبة، وهو إيقاظ الناس وتربيتهم وإعدادهم لمجابهة الغرور والغفلة، وسيؤثر ذلك حتماً ويدفع الإنسان إلى طاعة الله ورسوله، و ( أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول). لا يخفى أنّ إطاعة الرّسول فرع عن إطاعة الله تعالى وطاعة الرّسول تقع في طول طاعة الله، فهما في خطّ واحد، وهذا ما جعله يكرّر كلمة إطاعة. وإذا ما حاولنا الذهاب أبعد من ذلك، فإنّ طاعة الله تتعلّق باُصول القوانين والتشريعات الإلهيّة، بينما طاعة الرّسول في تفسيرها وفي المسائل التنفيذية وفي التفاصيل، فعلى هذا تكون الاُولى هي الأصل، والثانية فرع. ثمّ يضيف قائلا: ( فإن تولّيتم فإنّما على رسولنا البلاغ المبين). نعم، إنّ الرّسول ملزم بتبليغ الرسالة، وسيتولّى الباريء جلّ شأنه محاسبتكم، وهذا نوع من التهديد الخفي الجادّ. ويشير القرآن الكريم في الآية اللاحقة إلى قضيّة التوحيد في العبودية، التي تشكّل المبرّر الطبيعي لوجوب الطاعة، إذ يقول تعالى: ( الله لا إله إلاّ هو) وبما أنّه كذلك إذاً: ( على الله فليتوكّل المؤمنون). فليس غير الله يستحقّ العبودية، لأنّه لا مالك ولا قادر ولا عالم غيره، والغنى كلّه له، وكلّ ما لدى الآخرين فمنه وإليه، فيجب الرجوع له والإستعانة به على كلّ شيء. * * * الآيات يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَجِكُمْ وَأَوْلَـدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَلُكُمْ وَأَوْلَـدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(15) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ واسْمَعُوا وأَطِيعُوا وأَنْفِقُوا خَيرَاً لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(16) إِن تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَـعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَـلِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَـدَةِ الْغَزِيزُ الْحَكِيمُ(18) سبب النّزول في تفسير القمّي في رواية أبي الجارود (عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: ( إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوّاً لكم فاحذروهم) وذلك أنّ الرجل إذا أراد الهجرة تعلّق به إبنه وامرأته وقالوا: ننشدك الله أن لا تذهب عنّا فنضيع بعدك، فمنهم من يطيع أهله فيقيم، فحذّرهم الله أبناءهم ونساءهم، ونهاهم عن طاعتهم، ومنهم من يمضي ويذرهم ويقول: أما والله لئن لم تهاجروا معي ثمّ جمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشيء أبداً. فلمّا جمع الله بينه وبينهم أمر الله أن يتوق بحسن وصله فقال: ( وان تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإنّ الله غفور رحيم)(72). التّفسير أولادكم وأموالكم وسيلة لإمتحانكم: حذّر القرآن الكريم من مغبّة الوقوع في الحبّ المفرط للأولاد والأموال، الذي قد يجرّ إلى عدم الطاعة لله ورسوله حيث قال: ( ياأيّها الذين آمنوا إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوّاً لكم فاحذروهم). إنّ هناك مظاهر عديدة لهذه العداوة، فأحياناً يتعلّقون بثيابكم ليحرموكم خير الهجرة، واُخرى ينتظرون موتكم ليسيطروا على أموالكم وثروتكم، وما إلى ذلك. وليس كلّ الأولاد، ولا كلّ الزوجات كذلك، لهذا جاءت "من" التبعيضيّة. وتظهر هذه العداوة أحياناً بمظهر الصداقة وتقديم الخدمة، وحيناً آخر تظهر بسوء النيّة وخبث المقصد. وعلى كلّ حال فإنّ الإنسان يصبح على مفترق طريقين، فطريق الله وطريق الأهل والأزواج، ولا ينبغي أن يتردّد الإنسان في اتّخاذ طريق الله وإيثاره على غيره، ففيه النجاة والصلاح في الدنيا والآخرة. وهذا ما أكّدت عليه الآية 23 من سورة التوبة: ( ياأيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبّوا الكفر على الإيمان ومن يتولّهم منكم فاُولئك هم الظالمون). ومن أجل أن لا يؤدّي ذلك إلى الخشونة في معاملة الأهل، نجد القرآن يوازن ذلك بقوله في ذيل نفس الآية: ( وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإنّ الله غفور رحيم)فإذا ندموا واعتذروا والتحقوا بكم فلا تتعرّضوا لهم بعد ذلك، واعفوا عنهم واصفحوا كما تحبّون أن يعفوا الله عنكم. جاء في حديث الإفك أنّ بعض المؤمنين أقسموا أن يقاطعوا أقرباءهم الذين ساهموا في بثّ تلك الشائعة الخبيثة وترويجها، وأن يمنعوا عنهم أي عون مالي، فنزلت الآية 22 من تلك السورة: ( ولا يأتل اُولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا اُولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا ويصفحوا ألا تحبّون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم). وكما يظهر من المعنى اللغوي فإنّ لغفران الذنب مستويات ثلاثة هي (العفو) بمعنى صرف النظر عن العقوبة، و (الصفح) في مرتبة أعلى، ويراد به ترك أي توبيخ ولوم، و (الغفران) الذي يعني ستر الذنب وتناسبه، وبهذا فانّ الآية في نفس الوقت الذي تدعو الإنسان إلى الحزم وعدم التسليم في مقابل الزوجة والأولاد فيما لو دعوه إلى سلوك خاطيء تدعوه كذلك إلى بذل العفو والمحبّة في جميع المراحل وكلّ ذلك من أساليب التربية السليمة وتعميق جذور التديّن والإيمان في العائلة. وتشير الآية اللاحقة إلى أصل كلّي آخر حول الأموال والأولاد، حيث تقول: ( إنّما أموالكم وأولادكم فتنة) فإذا تجاوزتم ذلك كلّه فإنّ ( الله عنده أجر عظيم). وقد تقدّم في الآية السابقة الكلام عن عداء بعض الأزواج والأولاد الذين يدعون الإنسان إلى الإنحراف وسلوك طريق الشيطان والمعصية والكفر، وفي هذه الآية نجد الكلام عن أنّ جميع الأموال والأولاد عبارة عن "فتنة"، وفي الحقيقة فانّ الله يبتلي الإنسان دائماً من أجل تربيته، وهذين الأمرين (الأموال والأولاد) من أهمّ وسائل الإمتحان والإبتلاء، لأنّ جاذبية الأموال من جهة، وحبّ الأولاد من جهة اُخرى يدفعان الإنسان بشدّة إلى سلوك طريق معيّن قد لا يكون فيه رضا الله تعالى أحياناً، ويقع الإنسان في بعض الموارد في مضيقة شديدة، ولذلك ورد التعبير في الآية "إنّما" التي تدلّ على الحصر. يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في رواية عنه "لا يقولنّ أحدكم: اللهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة لأنّه ليس أحد إلاّ وهو مشتمل على فتنة، ولكن من استعاذ فليستعذ من مضلاّت الفتن فإنّ الله سبحانه يقول: ( واعلموا إنّما أموالكم وأولادكم فتنة)"(73). يلاحظ نفس هذا المعنى مع تفاوت يسير في الآية 28 سورة الأنفال. وعن كثير من المفسّرين والمؤرخّين (كان رسول الله يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله إليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر وقال: "صدق الله عزّوجلّ: ( إنّما أموالكم وأولادكم فتنة) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتّى قطعت حديثي ورفعتهما. ثمّ أخذ في خطبته"(74). إن قطع الرّسول لخطبته لا يعني أنّه غفل عن ذكر الله، أو عن أداء مسؤوليته التبليغية، وإنّما كان على علم بما لهذين الطفلين من مقام عظيم عند الله، ولذا بادر إلى قطع الخطبة ليبرز مدى حبّه وإحترامه لهما. إنّ عمل الرّسول هذا كان تنبيهاً لكلّ المسلمين ليعرفوا شأن هذين الطفلين العظيمين ابني علي وفاطمة. فقد ورد في حديث نقلته المصادر المشهورة أنّ البراء بن عازب (صحابي معروف يقول: رأيت الحسن بن علي على عاتق النبي وهو يقول: "اللهمّ إنّي أحبّه فأحبّه"(75). وفي رواية اُخرى أنّ الحسين (عليه السلام) كان يصعد على ظهر الرّسول وهو ساجد، دون أن يمنعه الرّسول(76)، كلّ ذلك لإظهار عظمة هذين الإمامين ومقامهما الرفيع. وجاء في الآية اللاحقة: ( فاتّقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم) لقد أمر الله تعالى أوّلا بإجتناب الذنوب، ثمّ بإطاعة الأوامر، وتعدّ الطاعة في قضيّة الإنفاق مقدّمة لتلك الطاعة، ثمّ يخبرهم أنّ خير ذلك يعود إليكم ولأنفسكم. قال بعضهم: إن "خيراً" تعني (المال) وهو وسيلة لتحقيق بعض الطاعات، وما جاء في آية الوصية يعتبر تعزيزاً لهذا المعنى ( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصيّة للوالدين والأقربين بالمعروف).(77) وذهب البعض إلى أنّ كلمة (خيراً) جاءت بمعناها الواسع، ولم يعتبروها قيداً للإنفاق، بل هي متعلّقة بالآية ككل، فانّ ثمار الطاعة ـ كما يقولون ـ تعود لكم. وربّما يكون هذا التّفسير أقرب من غيره(78). والأمر بالتقوى بقدر المستطاع لا يتنافى مع ما جاء في الآية (102) من سورة آل عمران حيث تقول: ( اتّقوا الله حقّ تقاته) بل هي مكمّلة لتلك ومن المسلّم أنّ أداء حقّ التقوى لا يكون إلاّ بالقدر الذي يستطيعه الإنسان، إذ يتعذّر التكليف بغير المقدور. فلا مجال لإعتبار الآية ـ مورد البحث ـ ناسخة لتلك الآية في سورة آل عمران كما اعتقد البعض. وللتأكيد على أهميّة الإنفاق ختمت الآية بـ ( ومن يوق شحّ نفسه فاُولئك هم المفلحون). "شحّ" بمعنى "البخل المرادف للحرص"، ومن المعلوم أنّ هاتين الخصلتين السيّئتين من أكبر الموانع أمام فوز الإنسان، وتغلق عليه سبيل الإنفاق وتصدّه عن الخير، ومن يتخلّص من هاتين الخصلتين السيّئتين فلا شكّ أنّه سيضمن السعادة. هذا وتوجد رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) تقول: "من أدّى الزكاة فقد وقى شحّ نفسه"(79). ويبدو أنّ ذلك أحد المصاديق الحيّة في مسألة الشحّ وليس كلّ (الشحّ). وفي حديث آخر عن الصادق (عليه السلام) ـ أيضاً ـ : رأيت أبا عبدالله(عليه السلام) يطوف من أوّل الليل إلى الصباح وهو يقول: "اللهمّ قني شحّ نفسي" فقلت: جعلت فداك ما سمعتك تدعو، بغير هذا الدعاء قال: "وأي شيء أشدّ من شحّ النفس وأنّ الله يقول: ( ومن يوق شحّ نفسه فاُولئك هم المفلحون)"(80). وللتشجيع على الإنفاق والتحذير من البخل، يقول تعالى: ( إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم). وكم هو رائع هذا التعبير الذي تكرّر مرّات عديدة في القرآن الكريم فالله الخالق الواهب للنعم الذي له كلّ شيء، يستقرض منّا ثمّ يعدنا بأنّه سيعوّضنا أضعاف ذلك، إنّه لطف ما بعده لطف! وغير بعيد أن يكون ذلك إشارة إلى أهميّة الإنفاق من جهة، وإلى اللطف اللامحدود لله تعالى الذي يغمر به عباده من جهة اُخرى. "القرض" في الأصل بمعنى القطع، ولأنّها اقترنت بكلمة (حسن) فإنّها تعني فصل المال عن النفس وإنفاقه في الخير. "يضاعفه" من مادّة "ضعف" (على وزن شعر) وكما قلنا سابقاً: إنّها تشتمل على عدّة أضعاف وليس ضعفاً واحداً، كما جاء في سورة البقرة آية 161. وعبارة ( يغفر لكم) للإشارة إلى أنّ الإنفاق أحد عوامل غفران الذنوب. "شكور" هو أحد صفات الله تعالى الذي يشكر عباده بمجازاتهم أفضل الجزاء وأجزل الجزاء. وكونه (حليم) أي يغفر الذنوب ولا يتعجّل العقوبة. ويقول في آخر الآية: ( عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم) إنّه مطّلع على أعمال عباده ومنها النفقة والبذل في سبيل الله. وإنّه غير محتاج لكي يستقرض من عباده وإنّما هو إظهار لكمال لطفه ومحبّته لعباده. وبناءً على ذلك فإنّ الصفات الخمس ـ المذكورة في هذه الآية والآية السابقة ـ لله تعالى، ترتبط كلّها بمسألة الإنفاق في سبيله والحثّ عليه، والإندكاك بالله تعالى الذي يؤدّي إلى الإقتناع عن إرتكاب الذنوب والإعتصام بالتقوى. * * * ملاحظة حديث مهمّ: جاء عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) "ما من مولود يولد إلاّ في شبابيك رأسه مكتوب خمس آيات من سورة التغابن"(81). وقد يكون المقصود بهذه الآيات الخمس آخر سورة التغابن التي تتحدّث عن الأموال والأولاد. وكتابة هذه الآيات الخمس في شبابيك الرأس إشارة إلى حتميتها وكونها جزءاً من كيان الإنسان وفطرته التي فطره الله عليها. لعلّ التعبير بـ (شبابيك) جمع "شبّاك" ـ على وزن خفّاش ـ بمعنى "المشتبك" إشارة إلى عظام الرأس التي تكون على شكل قطع متداخلة مع بعضها. أو لعلّه إشارة إلى شبكات المخّ. على كلّ فإنّها إشارة إلى وجود هذه المعاني في مخّ النوع البشري. اللهمّ، أعنّا على هذا الإمتحان الكبير، امتحان الأموال والأولاد والزوجات. ربّنا، لا تبتلنا بالبخل والحرص وشحّ النفس، فإنّه من نجا من ذلك فقد فاز. اللهمّ، جنّبنا الغبن يوم القيامة، يوم يظهر فيه غبن العاصين وتنكشف فيه معاصيهم وذنوبهم، واجعلنا في كنف لطفك ورحمتك. آمين ياربّ العالمين. نهاية سورة التغابن * * * سُورَة الطَّلاق مَدَنيّة وعَدَدُ آيَاتِها إثنتا عَشرَة آية "سورة الطّلاق" ملاحظة أهمّ مسألة طرحت في هذه السورة، كما هو واضح من إسمها، هي مسألة "الطلاق" وأحكامه وخصوصياته، والاُمور التي تلي ذلك، ثمّ تأتي بعدها أبحاث في المبدأ والمعاد ونبوّة الرّسول والبشارة والإنذار. ومن هنا نستطيع أن نقسّم محتوى هذه السورة إلى قسمين. القسم الأوّل: الآيات السبع الاُول التي تتحدّث عن الطلاق وما يرتبط به من اُمور، وتتعرّض إلى جزئيات ذلك بعبارات وجيزة بليغة، وبشكل دقيق وطريف إلى حدّ الإشباع. القسم الثاني: ويشكّل الدافع الحقيقي للقسم الأوّل من السورة، ويدور الحديث فيه عن عظمة الله ومقام رسوله وثواب الصالحين وجزاء العاصين على شكل مجموعة منسجمة لضمان إجراء هذه المسألة الإجتماعية المهمّة. ويذكر أنّ لهذه السورة أسماء اُخرى كسورة "النساء القصرى" (على وزن صغرى) مقابل سورة "النساء" المعروفة "النساء الكبرى". فضيلة تلاوة السورة: جاء في حديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): "من قرأ سورة الطلاق مات على سنّة رسول الله"(82). * * * الآيات يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَـحِشَة مُّبَيِّنَة وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً (1) التّفسير شرائط الطلاق والإنفصال: تقدّم أنّ أهمّ بحث في هذه السورة هو بحث الطلاق، حيث يشرّع القرآن فيها مخاطباً الرّسول الأكرم، بصفته القائد الكبير للمسلمين، ثمّ يوضّح حكماً عموميّاً بصيغة الجمع، حيث يقول: ( ياأيّها النبي إذا طلّقتم النساء فطلّقوهنّ لعدّتهنّ). هذا هو الحكم الأوّل من الأحكام الخمسة التي جاءت في هذه الآية، وطبقاً لآراء المفسّرين إنّ المراد هو أن تجري صيغة الطلاق عند نقاء المرأة من الدورة الشهرية، مع عدم المقاربة الزوجية، لأنّه ـ طبقاً للآية 228 من سورة البقرة ـ فإنّ عدّة الطلاق يجب أن تكون بمقدار "ثلاثة قروء" أي ثلاثة طهورات متتالية. وهنا يؤكّد أنّ الطلاق يجب أن يكون مع بداية العدّة، وهذا يتحقّق فقط ـ في حالة الطهارة وعدم المقاربة، فإذا وقع الطلاق في حالة الحيض فإنّ بداية زمان العدّة ينفصل عن بداية الطلاق، وبداية العدّة ستكون بعد الطهارة. وإذا كانت في حالة طهر وقد جامعها زوجها، فإنّ الطلاق لا يتحقّق أيضاً، لأنّ مثل هذه الطهارة ـ بسبب المقاربة ـ لا يمكن أن تكون دليلا على عدم وجود نطفة في الرحم. على كلّ حال هذا هو أوّل شرط للطلاق. جاء في روايات عديدة عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "مُر فليراجعها، ثمّ ليتركها حتّى تطهر، ثمّ تحيض، ثمّ تطهر. ثمّ، إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلّق قبل أن يمسّ، فتلك العدّة التي أمر الله عزّوجلّ أن يطلّق لها النساء"(83). وجاء نفس هذا المعنى في روايات عديدة عن أهل البيت (عليهم السلام)، حتّى أنّها ذكرت على أنّها تفسير للآية(84). ثمّ يذكر الحكم الثاني وهو حساب العدّة، حيث يقول تعالى: ( وأحصوا العدّة). "أحصوا" من مادّة "الإحصاء" بمعنى الحساب، وهي في الأصل مأخوذة من "حصى" بمعناها المعروف، لأنّ كثيراً من الناس كانوا يلجأون في حساب المسائل المختلفة إلى طريقة عدّ "الحصى" لعدم إستطاعتهم القراءة والكتابة. والجدير بالملاحظة هنا أنّ المخاطب في "حساب العدّة" هم الرجال وليس النساء، وذلك لوقوع مسؤولية "النفقة والسكن" على عاتق الرجال، كما أنّ "حقّ الرجوع" عن الطلاق يعود إليهم وليس إلى النساء، وإلاّ فهنّ ملزمات أيضاً في إحصاء العدّة لتعيين تكليفهنّ. بعد ذلك يدعو الله تعالى الناس جميعاً إلى التقوى واجتناب المعاصي، حيث يقول تعالى: ( اتّقوا الله ربّكم) فهو ربّكم الحريص على سعادتكم، فلا تعظوا له أمراً ولا تتركوا له طاعة، وخاصّة في "حساب العدّة" والتدقيق بها. ثمّ يذكر الحكم "الثالث" الذي يتعلّق بالأزواج والحكم "الرابع" الذي يتعلّق بالزوجات، يقول تعالى: ( لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ ولا يخرجن). ورغم أنّ كثيراً من الجهلة لا يلتزمون بهذا الحكم عند الطلاق، حيث يسمح الرجل لنفسه أن يخرج المرأة بمجرّد إجراء صيغة الطلاق، كما تسمح المرأة لنفسها بالخروج من بيت زوجها والرجوع إلى أقاربها بمجرّد ذلك. ولكن يبقى لهذا الحكم فلسفته المهمّة وحكمته البالغة، فهو بالإضافة إلى إسداء الإحترام إلى المرأة، يهيىء أرضية جيّدة للإنصراف والإعراض عن الطلاق، ويؤدّي إلى تقوية الأواصر الزوجية. إنّ عدم الإلتزام بهذا الحكم الإسلامي الخطير، الذي جاء في نصّ القرآن الكريم، يسبّب كثيراً من حالات الطلاق التي تؤدّي إلى الفراق الدائم، بينما كثيراً ما يؤدّي الإلتزام بهذا الحكم إلى الرجوع والصلح والعودة إلى الزوجية مجدّداً. ولكن قد تقتضي بعض الظروف إخراج المرأة وعدم القدرة على الإحتفاظ بها في البيت، فيجيىء الحكم الخامس الإستثنائي إذ يقول تعالى: ( إلاّ أن يأتين بفاحشة مبيّنة). كأن يكون الزوجان غير منسجمين إطلاقاً، ويكون أحدهما مثلا سيء الأخلاق إلى الدرجة التي لا يمكن معها البقاء معه في بيت واحد، وإلاّ ستنشأ مشاكل جديدة وعديدة. ويلاحظ هذا المعنى في روايات كثيرة عن أهل البيت (عليهم السلام)(85). ولكن من الواضح أنّ ذلك لا يشمل كلّ بادرة للخلاف وعدم الإنسجام، فإنّ التعبير بـ "الفاحشة" يكشف عن كون ذلك العمل على قدر كبير من القبح، وخاصّة حينما وصفها بأنّها "مبيّنة". وربّما كان المقصود "بالفاحشة" عملا يتنافى مع العفّة، فقد جاء في رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) ما يشابه ذلك المعنى، وأنّ الغرض من "الإخراج" هنا هو الإخراج لإجراء الحدّ، ومن ثمّ الرجوع والعودة إلى البيت. ويمكن الجمع بين هذين المعنيين. بعد بيان هذه الأحكام يؤكّد القرآن الكريم ـ مرّة اُخرى ـ بقوله: ( وتلك حدود الله ومن يتعدّ حدود الله فقد ظلم نفسه). لأنّ الغرض من هذه الأحكام هو إسعاد الناس أنفسهم، والتجاوز على هذه الأحكام ـ سواء من قبل الرجل أو المرأة ـ يؤدّي إلى توجيه ضربة قويّة إلى سعادتهم. ويقول تعالى في لفتة لطيفة إلى فلسفة العدّة، والحكمة من تشريعها، وعدم السماح للنساء المعتدات بالخروج من مقرّهن الأصلي البيت، يقول: ( لا تدري لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً). ومع مرور الزمن يهدأ طوفان الغضب والعصبية الذي قد يسبّب الطلاق، غير أنّ مرور الزمن وحضور الزوجة إلى جانب زوجها خلال هذه الفترة في البيت، وإظهار ندم ومحبّة كلّ واحد منهما إلى الآخر، وكذلك التفكير مليّاً في عواقب هذا العمل القبيح، خاصّة مع وجود الأطفال، كلّ هذه الأمور قد تهيىء أرضية صالحة للرجوع عن هذا القرار المشؤوم، وتساهم في تبديد الغيوم التي تكدّر سماء العلاقة الزوجية. وفي إشارة لطيفة إلى هذا المعنى جاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام)"المطلّقة تكتحل وتختضب وتطيّب وتلبس ما شاءت من الثياب، لأنّ الله عزّوجلّ يقول: ( لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً) لعلّها تقع في نفسه فيراجعها"(86). نعود إلى القول بأنّ التصميم على الإنفصال والطلاق يحدث في الغالب تحت تأثير الهيجان والإنفعالات العابرة، التي قد تنتهي وتتبدّد بمرور الزمن (أي أثناء فترة العدّة) فإنّ التفكير جيّداً في هذا الأمر قد يؤدّي إلى رجوع أحدهما إلى الآخر، وتجاوز حالات عديدة من الخلاف أثناء هذه الفترة، ولكن بشرط أن تراعى الأحكام الإسلامية أثناء فترة العدّة بشكل دقيق. وسيتّضح فيما بعد ـ إن شاء الله ـ أنّ ذلك كلّه يرتبط بحالة "الطلاق الرجعي". * * * ملاحظات 1 ـ أبغض الحلال إلى الله الطلاق ممّا لا شكّ فيه أنّ عقد الزوجية من جملة العقود والمواثيق القابلة للفسخ، فهناك حالات من الخلاف لا يمكن معها استمرار العلاقة الزوجية، وإلاّ فإنّها ستؤدّي إلى مشاكل ومفاسد خطيرة وعديدة. ولهذا نجد الإسلام قد شرّع أمر الطلاق من الناحية المبدأية. بينما نلاحظ المجتمعات المسيحية التي منعت الطلاق ـ بأي شكل من الأشكال ـ تعيش مشاكل متعدّدة نتيجة لذلك، فغالباً ما يعيش الزوجان المختلفان حالة إنفصال وتباعد، أو حالة طلاقة من الناحية العملية، رغم عدم الإعتراف بذلك من الناحية الرسمية. وكثيراً يلجأ الزوجان إلى إختيار زوج آخر غير رسمي. وبناءً على ذلك فإنّ أصل الطلاق من الضروريات التي لا يمكن إلغاؤها بأي وجه من الوجوه، ولكن ينبغي أن لا يصار إليها إلاّ في الحالات التي يتعذّر فيها مواصلة العلاقة الزوجية والحياة المشتركة. ولهذا نجد أنّ الطلاق قد ذمّ في روايات إسلامية عديدة، وذكر على أنّه (أبغض الحلال إلى الله). ففي رواية عن الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "ما من شيء أبغض إلى الله عزّوجلّ من بيت يخرّب في الإسلام بالفرقة، يعني الطلاق"(87). وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه السلام): "ما من شيء ممّا أحلّه الله أبغض إليه من الطلاق"(88). وفي آخر عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم): "تزوّجوا ولا تطلّقوا فإنّ الطلاق يهتزّ منه العرش"(89). وكيف لا يكون كذلك؟! والطلاق هو السبب وراء مآس عديدة تحلّ بالعوائل والرجال والنساء، وأكثر منهم بالأطفال والأولاد، ويمكن تقسيم تلك المآسي إلى ثلاثة أقسام: 1 ـ المشاكل العاطفية: ممّا لا شكّ فيه أنّ انتهاء العلاقة الزوجية بالطلاق والفراق، بعد حياة مشتركة عاشها الزوج والزوجة معاً، ستترك آثاراً سيّئة على الصعيد العاطفي على كلا الطرفين. وإذا أقدم أحدهما على الزواج مرّة اُخرى فسيبقى ينظر بشيء من القلق والإرتياب إلى الطرف الآخر، وربّما أعرض بعضهم عن الزواج نهائياً تحت تأثير التجربة الاُولى الفاشلة. 2 ـ المشاكل الإجتماعية: غالباً ما تحرم النساء المطلّقات من الحصول على الزوج المؤهّل والكفوء مرّة اُخرى، كما قد يواجه الرجال نفس المسألة حينما يبدأون يفكّرون بالزواج مرّة اُخرى، وقد يضطرّ هؤلاء إلى الزواج رغم عدم قناعاتهم، الأمر الذي يؤدّي إلى فقدان السعادة والراحة إلى الأبد. خصوصاً مع وجود أطفال من الزواج الأوّل. 3 ـ مشاكل الأطفال: وهذه أهمّ المشاكل حيث يحرم الأطفال من حنان ورعاية الاُمّ، ويعيشون في كنف زوجة أبيهم التي لا تنظر إلى هؤلاء الأطفال أو تعاملهم كما تعامل أطفالها الحقيقيين. وبهذا سيعيش الأبناء فراغاً عاطفياً من هذا الجانب لا يعوّضه شيء. وتتكرّر نفس الصورة فيما إذا حملت المرأة أطفالها معها إلى الزوج الجديد، فإنّ هذا الزوج الجديد لا يحلّ غالباً محلّ الأب الحقيقي. وهذا لا يعني أنّه لا يوجد نساء أو رجال يمتلكون المحبّة والشفقة التي تمتلكها الاُمّهات أو الآباء تجاه أطفالهم، ولكن مثل هؤلاء الناس قليلون في المجتمع ويندر الحصول عليهم. وبناءً على ذلك سيعيش هؤلاء الأطفال المحرومون من حبّ الاُمّ والأب عقداً معيّنة على الصعيد الروحي والعاطفي، وربّما يؤدّي إلى فقدانهم السلامة الروحية. ولهذا سيعاني المجتمع بأجمعه ـ وليس العائلة فقط ـ من هؤلاء الأطفال الذين قد يشكّلون في بعض الأحيان ظاهرة خطيرة عندما يعيشون حالة النقص وحبّ الإنتقام من المجتمع. وعندما وضع الإسلام كلّ تلك الموانع والصعوبات بوجه الطلاق، فإنّما أراد أن يجنّب المجتمع الإسلامي الوقوع بتلك المشاكل. ولهذا السبب أيضاً نلاحظ القرآن الكريم قد حثّ بشكل صريح كلا من الرجل والمرأة على أن يتّجها إلى العائلة والأقرباء لحلّ الإختلاف والمشاكل التي قد تنشأ بينهما، عن طريق تشكيل محكمة صلح عائلية تعرض عليها الإختلافات والنزاعات بدل عرضها على المحاكم الشرعية وحصول الطلاق والإنفصال. (وضّحنا هذا الأمر ـ أي محكمة الصلح العائلية في ذيل الآية 35 سورة النساء). وفي نفس الوقت نجد أنّ الإسلام شجّع كلّ ما من شأنه تقوية الأواصر العائلية وتقويتها، وشجب كلّ محاولة لإضعافها وتفكيكها. 2 ـ أسباب الطلاق: لا يختلف الطلاق عن الظواهر الإجتماعية الاُخرى التي تمدّ جذورها في المجتمع وتشارك في تكوينها أسباب واُمور عديدة متشابكة. وعمليّة منعها والوقوف بوجهها تبقى بدون جدوى ما لم يتمّ النظر إليها بشكل دقيق يتناول جميع العوامل التي تقف وراءها، وهي كثيرة جدّاً منها: أ ـ التوقّعات والآمال المفرّطة التي يبنيها كلّ واحد منهما على الطرف الثاني، فلو أنّهما جعلا توقّعهما في دائرة محدودة ومعقولة وتجنّبا التوغّل في عالم الخيال، وأدرك كلّ واحد منهما الطرف الآخر جيّداً، وحصر التوقّع في المجالات الممكنة، فحينئذ يمكن الحيلولة دون وقوع الكثير من حالات الطلاق. ب ـ إستحكام روح طلب الماديّات ووسائل الرفاه المختلفة يجعل الإنسان ـ وخاصّة النساء ـ في حالة عدم قناعة مستمرّة، ممّا يسهّل حصول عملية الطلاق والإنفصال عند مواجهة أبسط الحوادث تحت ذرائع وحجج متنوّعة. ج ـ تدخّلات الأقرباء في الشؤون الخاصّة للزوجين، وخاصّة تلك التدخلات في موارد الإختلافات بين الزوجين. ويعدّ ذلك من العوامل المهمّة التي تساعد على الطلاق. ونلاحظ من خلال التجربة أنّ خلافات الزوجين إذا ما تركت لشأنها دون تدخّل من الأقارب فسوف تتلاشى وتنطفىء شيئاً فشيئاً. أمّا إذا تمّ دخول طرف من الأقارب والمتعلّقين دخولا متحيّزاً متعصّباً، فإنّه سيؤدّي إلى إشعال هذه الخلافات وتعقيدها أكثر. ولكن هذا لا يعني أن يبعد الأقرباء أنفسهم عن هذه الإختلافات دائماً ودون إستثناء، فإنّ دخولهم حينما تكبر المشكلة وتخرج عن كونها خلافاً جزئيّاً جانبيّاً يكون لصالح العلاقة الزوجية ودوامها، خصوصاً إذا كان تدخّلا خالياً من التعصّب والإنحياز. د ـ عدم التفات كلّ من الزوجة والزوج إلى رغبات وطلبات أحدهما من الآخر، ففي الوقت الذي يحبّ الزوج أن تكون زوجته دائماً جذّابة نظيفة، كذلك تحبّ الزوجة لزوجها أن يكون كذلك. ولكن هذه الرغبات غالباً ما تكون مكبوتة لا يحاول كلّ منهما إبرازها والإعلان عنها. وهكذا فإنّ عدم إهتمام الأزواج بهندامهم وترك التزيين والترتيب، وعدم الإهتمام بالنظافة، كلّ تلك الاُمور تمنع الزوج أو الزوجة من الإستمرار بمشروع الزواج، خاصّة إذا كان هناك من يهتمّ بهذه المسائل في المحيط الذي يعيش فيه هؤلاء الزوجان. لهذا نجد الروايات الإسلامية أعطت أهميّة خاصّة لهذا الجانب، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): "لا ينبغي للمرأة أن تعطّل نفسها"(90). وجاء في حديث آخر عنه أيضاً (عليه السلام): "ولقد خرجن نساء من العفاف إلى الفجور ما أخرجهنّ إلاّ قلّة تهيئة أزواجهنّ"(91). هـ ـ عدم تناسب المستوى الثقافي للعوائل، وكون الزوج يعيش نوعاً من الثقافة العائلية لا تنسجم مع ثقافة الزوجة العائلية. ولهذا ينبغي التدقيق في هذا الأمر قبل الإقدام على الزواج، فالمطلوب ليس فقط "الكفاءة الشرعية" أي الإلتزامات الإسلامية، وإنّجا يجب أن تتوفّر ـ أيضاً ـ "الكفاءة الفرعية" أي التماثل والتشابه في الاُمور الاُخرى بين الطرفين. وإلاّ فحدوث تصدع في العائلة غير مستبعد. 3 ـ فلسفة ضبط وإحصاء العدّة ممّا لا شكّ فيه أنّ للعدّة حكمتين أساسيتين اُشير إليهما في القرآن الكريم والروايات الإسلامية. الاُولى: مسألة حفظ النسل واتّضاح وضع المرأة من حيث الحمل وعدمه. والاُخرى: توفير فرصة جيّدة للرجوع عن الطلاق والعودة إلى الحياة الاُولى، والقضاء على عوامل الإنفصال التي تمّت الإشارة إليها في الآية أعلاه، علماً أنّ الإسلام يؤكّد على بقاء النساء في بيوت الأزواج أثناء العدّة، ممّا يسمح بالبحث مرّة اُخرى عن وسائل للعودة، وترك الإنفصال عن بعضهما. وخصوصاً في حالة الطلاق الرجعي(92) حيث لا يحتاج الرجوع إلى الزوجة إلى أيّة مراسيم أو اُمور رسمية. وكلّ عمل يعتبر عودة عن هذا الطريق ولو بمجرّد وضع الرجل يده على جسم المرأة، حتّى لو كان بدون شهوة، فإنّه يعتبر رجوعاً عن الطلاق. وإذا ما مرّت هذه الفترة (أي فترة العدّة) دون أن تظهر أي بادرة للصلح والتوافق، فهذا يعني أنّهما غير مستعدّين للإستمرار في الحياة الزوجية. أوردنا شرحاً لهذا الموضوع في ذيل الآية (228) سورة البقرة. * * * الآيات فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوف أَو فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوف وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْل مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَـدَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَـلِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَىْء قَدْراً (3) التّفسير فامسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف: يشير في الآية مورد البحث، وكاستمرار للأبحاث المرتبطة بالطلاق التي وردت في الآيات السابقة، إلى عدّة أحكام اُخرى، إذ يقول تعالى في البداية: ( فإذا بلغن أجلهنّ فامسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف). المراد ببلوغ الأجل "الوصول إلى نهاية المدّة" وليس المقصود أن تنتهي العدّة تماماً، بل تشرف على الإنتهاء، فإنّ الرجوع بعد نهاية العدّة غير جائز، إلاّ أن يكون إبقاؤهنّ عن طريق صيغة عقد جديدة، ولكن هذا المعنى بعيد جدّاً عن سياق ومفهوم الآية. على أي حال فإنّ هذه الآية تطرح أهمّ الأواصر المرتبطة بالحياة الزوجية وأكثرها نضجاً، وهي: إمّا أن يعيش الرجل مع المرأة بإحسان ومعروف وتوافق، أو أن ينفصلا بإحسان. فالإنفصال ينبغي أن يتمّ بعيداً عن الهياج والعربدة، وعلى اُصول صحيحة، ويجب أن تحفظ فيه الحقوق واللياقات لكي تكون أرضية صالحة ومهيّأة للعودة والرجوع إذا ما قرّرا الرجوع إلى الحياة المشتركة فيما بعد، فإنّ العودة إذا تمّت في جو مظلم ملبّد بالخلافات والتعديّات، فسوف لا تكون عودة موفّقة تستطيع الإستمرار مدّة طويلة. هذا إضافة إلى أنّ الإنفصال بالطريقة غير اللائقة قد يترك آثاراً، ليس فقط على الزوج والزوجة، وإنّما قد تتعدّى إلى عشيرة وأقرباء كلّ منهما، وتقطع طريق المساعدة لهما في المستقبل. ومن اللطيف حقّاً أن تحاط كلّ الصداقات والعلاقات المشتركة بين الناس بجوّ من الإحسان والإحترام المتبادل للحقوق والشعور بالمسؤولية، وحتّى لو وقع الطلاق فيجب أن يتمّ أيضاً بإحسان ودون مشاكل، فإنّ ذلك يعتبر بحدّ ذاته نوعاً من الإنتصار والموفّقية لكلا الطرفين. ويتّضح ممّا سبق أنّ (الإمساك بالمعروف والطلاق بالمعروف) له معنى واسع يشمل جميع الواجبات والمستحبّات والآداب والأخلاق التي تقتضيها تلك العلاقة. ثمّ يذكر القرآن الكريم الحكم الثاني حيث يقول: ( وأشهدوا ذوي عدل منكم). وذلك لكي لا يستطيع أحد أن ينكر في المستقبل ما جرى. وبعض المفسّرين احتمل الإشهاد لكلا الأمرين: الطلاق والرجوع، غير أنّ الإشهاد ليس واجباً قطعاً في التزويج فضلا عن الرجوع. وعلى فرض أنّ المورد يشمل الرجوع فيكون من باب الإستحباب. وفي الحكم الثالث يبيّن القرآن الكريم وظيفة الشهود، حيث يقول: ( وأقيموا الشهادة لله) حذار أن يكون ميلكم وحبّكم لأحد الطرفين مانعاً عن إظهار الحقّ، وينبغي أن تتمّ الشهادة لله ولإظهار الحقّ، وينبغي أن يكون الشهود عدولا، ولما كانت عدالة الشاهد لا تعني انّه معصوم من الذنب، ولهذا يحذّرهم الله تعالى لكي يراقبوا أنفسهم لئلاّ ينحرفوا عن جادّة الحقّ بعلم أو بغير علم. وينبغي أن يشار إلى أنّ تعبير ( ذوي عدل منكم) دليل على أنّ الشاهدين يجب أن يكونا مسلمين عادلين ومن الذكور. ولتأكيد الأحكام السابقة جميعاً تقول الآية الكريمة: ( ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر). ربّما اعتبر البعض "ذلكم" إشارة ـ فقط ـ إلى مسألة التوجّه إلى الله ومراعاة العدالة من جانب الشهود، غير أنّ الظاهر أنّ هذا التعبير يشمل كلّ الأحكام السابقة حول الطلاق. وعلى أيّة حال فإنّ هذا التعبير دليل على الأهمية القصوى التي يولّيها القرآن الكريم لأحكام الطلاق، التي إذا تجاوزها أحد ولم يتّعظ بها فكأنّه أنكر الإيمان بالله واليوم الآخر. وبسبب المشاكل المعيشية والحياة المستقبلية فإنّ الزوجين قد ينحرفان عن جادّة الصواب عند الطلاق والرجوع، وقد تضغط هذه الظروف على الشاهدين فتمنعانهما عن أداء الشهادة الصحيحة والعادلة، لهذا تؤكّد الآية في نهايتها قائلة: ( ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً) ويساعده حتماً على إيجاد الحلّ لمشكلاته. ( ويرزقه من حيث لا يحتسب) ولا يتصوّر تحصيله. ( ومن يتوكّل على الله فهو حسبه) وسيكفيه ما يهمّه من اُموره. ( إنّ الله بالغ أمره) لأنّ الله عزّوجلّ قادر مطلق، وأمره نافذ في كلّ شيء وتخضع جميع الكائنات لمشيئته وإرادته ... ولهذا يحذّر النساء والرجال والشهود أن لا يخافوا قول الحقّ، ويحثّهم على الإعتماد عليه واللجوء إليه في تيسير الصعوبات، لأنّه قد تعهّد بأن ييسّر للمتّقين أمرهم، ويجعل لهم مخرجاً ويزرقهم من حيث لا يحتسبون. لقد تعهّد الله أن لا يترك من توكّل عليه يتخبّط في حيرته، وإنّه لقادر على الوفاء بهذا التعهّد. ورغم أنّ هذه الآيات نزلت بشأن الطلاق والأحكام المتعلّقة به، لكنّها تحتوي مفاهيم واسعة ومعاني عظيمة تشمل جميع المجالات التي يعاهد الله بها المتّقين، ويبعث في نفوسهم الأمل بأنّه سيشملهم بلطفه ورعايته، فينجيهم من المآزق، ويرشدهم إلى الصواب، ويفتح أمامهم الآفاق الرحبة، ويرفع عنهم مشاكل الحياة وصعوباتها، ويبدّد الغيوم السوداء التي تلبّد سماء سعادتهم. وفي إشارة لطيفة إلى النظام العامّ الذي يحكم التكوين والتشريع، يقول تعالى: ( قد جعل الله لكلّ شيء قدراً) فكلّ هذه الأحكام والأوامر التي فرضها الله في شأن الطلاق، إنّما كانت ضمن حساب دقيق ومقاييس عامّة شاملة لا يغيب عنها شيء. وهكذا يجب أن يلتزم الناس في جميع المشاكل التي تنتاب حياتهم ـ وليس فقط في مسألة الطلاق ـ بالموازين والأحكام الشرعية، وأن يواجهوا تلك الاُمور بالتقوى والصبر وطلب التوفيق من الله، لا أن يطلقوا ألسنتهم بالشكوى وارتكاب الذنوب، وما إلى ذلك ويتوسّلون بالطرق غير المشروعة لحلّ مشاكلهم. * * * ملاحظات 1 ـ التقوى والنجاة من المشاكل إنّ تلاوة الآيات السابقة تبعث ـ أكثر من غيرها ـ الأمل في النفوس، وتمنح القلب صفاءً خاصّاً، وتمزّق حجب اليأس والقنوط، وتنير الأرواح بنور الأمل، إذ تعدّ كلّ المتّقين بحلّ مشاكلهم وتسهيل اُمورهم. جاء في حديث عن أبي ذرّ الغفاري أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "إنّي لأعلم آية لو أخذها بها الناس لكفتهم ( ومن يتق الله يجعل له مخرجاً) فما زال يقولها ويعيدها"(93). وفي حديث آخر عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير هذه الآية أنّه قال: "من شبهات الدنيا، ومن غمرات الموت، وشدائد يوم القيامة". وهذا التعبير دليل على أنّ تيسير اُمور المتّقين ليس في الدنيا فقط وإنّما يشمل القيامة أيضاً. وفي حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "من أكثر الإستغفار جعله الله له من كلّ هم فرجاً ومن كلّ ضيق مخرجاً"(94). قال بعض المفسّرين: إنّ أوّل الآية السابقة نزلت بحقّ (عوف بن مالك) وهو أحد أصحاب الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي أُسر إبنه فجاء يشكو هذا الحادث وفقر حاله وضيق ذات يده إلى الرّسول فنصحه رسول الله بقوله: "اتّق الله واصبر، وأكثر من قول "لا حول ولا قوّة إلاّ بالله" ففعل ذلك وفجأة بينما هو جالس في بيته دخل عليه ولده، فتبيّن أنّه قد استغفل الأعداء وفرّ من قبضتهم وجاء بجمل معه منهم. لذا نزلت هذه الآية التي تخبر عن تيسير معضلة هذا الرجل المتّقي من حيث لا يحتسب(95). ولا يعني هذا إطلاقاً أنّ الآية تحثّ على ترك السعي وبذل الجهد والجلوس في البيت والركون إلى الله وأن يردّد الإنسان قول "لا حول ولا قوّة إلاّ بالله" لينزل عليه الرزق من حيث لا يحتسب. إنّ ما تريد الآية الكريمة أن تركّز عليه هو أنّ السعي لابدّ أن يكون معه وإلى جانبه تقوى، وإذا ما أغلقت الأبواب مع كلّ هذا حينئذ يتدخّل الباريء لفتح هذه الأبواب. لهذا نجد في الحديث أنّ أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) (عمر بن مسلم) إنقطع فترة عن الإمام، قال الإمام (عليه السلام) ما فعل عمر بن مسلم (عليه السلام) قلت: جعلت فداك أقبل على العبادة وترك التجارة فقال: ويحه! أما علم أنّ تارك الطلب لا يستجاب له، إنّ قوماً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا نزلت: ( ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة وقالوا: قد كفينا، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأرسل إليهم قال: "ما حملكم على ما صنعتم به" فقالوا: يارسول الله تكفّل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّه من فعل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطلب"(96). 2 ـ روح التوكّل المقصود من التوكّل على الله هو أن يسعى الإنسان لأن يجعل عاقبة عمله وكدحه على الله ويوكّلها إليه، ويدعوه لتسهيل أمره، فإنّه لطيف بعباده رحيم بهم وعلى كلّ شيء قدير. والشخص الذي يعيش حقيقة "التوكّل على الله" لا يجد اليأس إليه منفذاً، ولا يدبّ في عزمه الضعف، ولا يشعر بالنقص والصغر أمام المشاكل مهما كبرت، ويبقى يقاوم ويواجه الأحداث بقوّة وإيمان راسخين. ويعطيه هذا الإيمان والتوكّل قدرة نفسية عظيمة يستطيع معها تجاوز الصعاب. ومن جانب آخر تنهمر عليه الإمدادات الغيبية والمساعدات التي وعده الله. ففي حديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم): سألت من جبرائيل: ما التوكّل؟ قال "العلم بأنّ المخلوق لا يضرّ ولا ينفع، ولا يعطي ولا يمنع، واستعمال اليأس من الخلق، فإذا كان العبد كذلك لم يعمل لأحد سوى الله، ولم يرج ولم يخف سوى الله، ولم يطمع في أحد سوى الله فهذا هو التوكّل"(97). فالتوكّل بهذا المضمون العميق يمنح الإنسان شخصية جديدة ويكون له تأثير على جميع أعماله. لذا نقرأ في حديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه سأل الله عزّوجلّ في ليلة المعراج: إلهي أي الأعمال أفضل؟ قال تعالى: "ليس شيء عندي أفضل من التوكّل عليّ والرضا بما قسمت"(98). ومن الطبيعي أنّ التوكّل بهذا المعنى سيكون توأماً مع الجهاد والسعي وليس مع الكسل والفرار من المسؤوليات. وقد أوردنا بحثاً آخر في هذا المجال في ذيل الآية 12 سورة إبراهيم. * * * الآيات وَالَّـئِى يَئِسْنَ مِنَ الَْمحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَـثَةُ أَشْهُرِ وَالَّـئِى لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَـتُ الاَْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً(5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلَـتِ حَمْل فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوف وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنفِقْ ذُو سَعَة مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءَاتَـهُ اللهُ لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ مَا ءَاتَـهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْر يُسْراً (7) التّفسير أحكام النساء المطلّقات وحقوقهنّ: من بين الأحكام المستفادة من الآيات السابقة لزوم إحصاء العدّة بعد الطلاق، ولمّا كانت الآية (228) من سورة البقرة قد بيّنت حكم العدّة للنساء اللاتي يرين العادة الشهرية وذلك بأن تعد ثلاث دورات شهرية متتالية وبمشاهدة الثالثة تكون المرأة قد أنهت عدّتها. فقد ذكرت الآيات محلّ البحث حكم النسوة اللواتي لا حيض لديهم لأسباب معيّنة، أو الحوامل لتكمل بحث العدّة. يقول تعالى في بداية الأمر: ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهنّ ثلاثة أشهر) فإذا شككتم في وجود الحمل فمدّة العدّة حينئذ ثلاثة أشهر، وكذلك النسوة اللائي لم يرين الحيض ولم تحدث لهنّ العادة الشهرية بعد ( واللائي لم يحضن). ثمّ يشير تعالى إلى ثالث مجموعة حيث يضيف قائلا: ( واُولات الأحمال أجلهنّ حتّى يضعن حملهنّ). وبهذا اتّضح حكم المجاميع الثلاثة، مجموعتان يجب أن يحصين عدتهنّ ثلاثة أشهر، والمجموعة الثالثة ـ أي النساء الحوامل ـ تنتهي عدتهنّ بوضع الحمل، سواء كان بعد ساعة من الطلاق، أو بعد ثماني أشهر مثلا. وقد ذكرت ثلاثة إحتمالات في معنى عبارة ( إن ارتبتم): 1 ـ الشكّ في وجود "الحمل" بمعنى أنّه هناك إحتمال حمل بعد سنّ اليأس (خمسون سنة للنساء العاديات، وستّون سنة للنساء القرشيات) فمن أجل هذا الإحتمال الضعيف الذي نادراً ما يقع، يجب أن تحتاط النساء فتحصي عدّتها ثلاثة أشهر(99). 2 ـ النساء اللائي لا يعلم بأنّهنّ وصلن إلى مرحلة اليأس أم لا. 3 ـ المراد هو الشكّ في حكم هذه المسألة، فحكمها كما ورد في هذه الآية. ويبدو أنّ الأنسب والأقرب هو التّفسير الأوّل فإنّ التعبير بـ ( واللائي يئسن ...) يوحي أنّ هؤلاء النساء قد بلغن سنّ اليأس. ويشار إلى أنّ حكم النساء اللائي غابت عنهنّ العادة الشهرية لمرض أو غيره هو نفس حكم اليائسات، أي يعدّدن ثلاثة أشهر (يمكن أن يستفاد هذا الحكم عن طريق قاعدة الأولوية أو مشمولا بلفظ الآية)(100). جملة ( واللائي لم يحضن) يمكن أن تكون إشارة إلى النساء اللائي بلغن سنّ البلوغ، دون أن يشاهدن العادة الشهرية. وفي هذه الصورة يجب أن يحسبن عدّتهنّ ثلاثة أشهر. واحتملوا أن تكون الآية ناظرة لجميع النساء اللائي لم يشاهدن العادة الشهرية، سواءً بلغن سنّ اليأس أم لا. غير أنّ المشهور بين فقهائنا أن لا عدّة للنساء اللائي يطلقن قبل بلوغهنّ سنّ البلوغ. ويوجد من خالف هذا الرأي واستدلّوا على ذلك ببعض الروايات، كما أنّ ظاهر الآية يوافقهم. (للتوسّع في ذلك يجب الرجوع إلى الكتب الفقهية)(101). وذكر كسبب لنزول الجملة الأخيرة في الآية أنّ "أُبي بن كعب" سأل الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أنّ القرآن لم يذكر عدّة النساء الصغيرات والنساء الكبيرات "اليائسات" والحوامل فنزلت السابقة تبيّن أحكامهنّ(102). ويذكر أنّ العدّة في هذا المورد إنّما تكون في حقّ النساء اللائي يحتمل في حقّهنّ الحمل، لأنّهنّ ذكرن في الآية معطوفات على النساء اليائسات، ومعنى ذلك أنّ حكمهنّ واحد(103). وأخيراً يؤكّد مرّة اُخرى في نهاية الآية على التقوى حيث يقول تعالى: ( ومن يتقّ الله يجعل له من أمره يسراً). ييسّر اُموره ويسهّلها في هذا العالم، وكذلك في العالم الآخر، بألطافه سواء في هذه القضيّة أي قضيّة الطلاق أو في قضايا اُخرى. وللتأكيد على أحكام الطلاق والعدّة فقد أضاف تعالى في الآية اللاحقة قائلا: ( ذلك أمر الله أنزله إليكم). ( ومن يتّق الله يكفّر عنه سيّئاته ويعظم له أجراً). قال بعض المفسّرين: إنّ المقصود من "السيّئات" هنا "الذنوب الصغيرة" والمقصود من "التقوى" إجتناب الذنوب الكبيرة. وبناءً على ذلك فإنّ تجنّب الكبائر يؤدّي إلى غفران الصغائر، كما جاء في الآية 31 من سورة النساء. ولازم هذا أنّ مخالفة الأحكام في هذا المجال ـ أي في الطلاق والعدّة ـ يعدّ من الذنوب الكبيرة(104). ورغم أنّ السيّئات تطلق أحياناً على الذنوب الصغيرة، كما ورد في آيات عديدة من القرآن الكريم، ولكنّها تطلق في آيات اُخرى على كلّ الذنوب أعمّ من الصغيرة والكبيرة، نقرأ في الآية 65 من سورة المائدة: ( ولو أنّ أهل الكتاب آمنوا واتّقوا لكفّرنا عنهم سيّئاتهم) "وجاء ما يشابه هذا المعنى في آيات اُخر". ومن المسلّم أنّ الإيمان والإسلام يؤدّيان إلى غفران الذنوب السابقة. وتعطي الآية اللاحقة توضيحاً أوسع وأشمل لحقوق المرأة بعد الطلاق، من حيث "السكن" و "النفقة" واُمور اُخرى. يقول تعالى في سكن النساء المطلّقات: ( أسكنوهنّ من حيث سكنتم من وجدكم). "وجد" على وزن (حكم)، بمعنى القدرة والتمكّن، وذكر المفسّرون تفاسير اُخرى ترجع في النتيجة إلى نفس المعنى، إذ يقول الراغب في المفردات: إنّ التعبير بـ ( من وجدكم) يعني بما تستطيعون وبما تقدرون عليه، وبمعنى اختاروا مسكناً مناسباً قدر الإمكان للنساء المطلّقات. ومن الطبيعي أنّه حينما يكون الإسكان على نفقة الزوج وفي عهدته، فإنّ الاُمور الاُخرى من الإنفاق ستقع هي الاُخرى على عاتق الزوج، والشاهد على هذا المدّعى ذيل الآية الذي يتحدّث عن نفقة النساء الحوامل. ثمّ يتطرّق تعالى لذكر حكم آخر ( ولا تضاروهنّ لتضيّقوا عليهن). حذار أن يغرّكم البعض ويزرع بينكم البغض والعداوة والنفور، ممّا يؤدّي إلى إخراجكم عن جادّة الحقّ، فتحرمونهنّ حقوقهنّ الطبيعية في السكن والنفقة، وتجعلوهنّ تحت ضغوط لا يستطعن معها إلاّ الهرب وترك كلّ شيء. يقول تعالى في ثالث حكم حول النساء الحوامل ( وإن كنّ اُولات حمل فأنفقوا عليهنّ حتّى يضعن حملهنّ). فما دمن حاملات فهنّ في حالة عدّة يستحقّنّ النفقة والسكن على الزوج. ويقول تعالى في الحكم الرابع حول حقوق النساء المرضعات ( فإن أرضعن لكم فآتوهنّ اُجورهنّ). اُجرة تتناسب مع مقدار وزمان الإرضاع، وطبقاً لما هو معروف وشائع عرفاً. ونظراً لأنّ الأطفال كثيراً ما يصبحون نقطة للنزاع والخلاف بين الزوج والزوجة بعد الطلاق، فقد أوضح القرآن في الحكم الخامس هذا الأمر بشكل قاطع ولائق حيث قال: ( وأتمروا بينكم بمعروف) وتشاوروا بينكم في مصير الأولاد ومستقبلهم. ويحذّر القرآن الكريم من مغبّة أن يكون الأطفال ضحيّة الخلاف الواقع بين الزوج والزوجة، ممّا يترك عليهم آثاراً واضحة على تكوينهم الجسمي والنفسي، إذ يحرمون من حنان الاُمّ والأب وشفقتهما فينبغي أن يتّقي الأبوان الله تعالى ويحفظا حقوق الأطفال فإنّهم لا يستطيعون الدفاع عنها. وجملة "وأتمروا" من مادّة "ايتمار" وتأتي أحياناً بمعنى "قبول الأمر" وأحياناً اُخرى بمعنى "التشاور" والمعنى الثاني أقرب إلى معنى الآية. والتعبير "بمعروف" تعبير جامع يشمل كلّ مشاورة فيها خير وصلاح. وفي حالة عدم حصول التوافق والتفاهم بين الزوجين حول مصير الأطفال وقضيّة إرضاعهم، يقول القرآن في سادس حكم في هذا المجال ( وإن تعاسرتم فسترضع له اُخرى). إشارة إلى أنّ الخلافات إذا طالت وتعقّدت فأعطوا الأطفال إلى مرضعة اُخرى، ورغم أنّ الاُمّ هي الأولى بذلك، لكن إذا بقي الأطفال ينتظرون، وظلّ النزاع على حاله، فلا ينبغي أن ينسى الأطفال في خضم هذا النزاع. وتبيّن الآية اللاحقة سابع ـ وآخر حكم ـ في هذا المجال حيث يقول تعالى: ( لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممّا آتاه الله لا يكلّف الله نفساً إلاّ ما آتاها). فهل أنّ هذا الأمر يرتبط بالنساء اللائي يتعهدنّ رضاعة أطفالهنّ بعد الفرقة والطلاق، أو أثناء العدّة التي اُشير إليها بصورة إجمالية في الآيات السابقة، أو أنّه يرتبط بكليهما معاً. ويبدو أنّ المعنى الأخير أنسب وأقرب، رغم أنّ بعض المفسّرين اعتبرها خاصّة بالنساء المرضعات فقط في الوقت الذي أطلقت الآيات السابقة على هذا الأمر تعبير "أجر" وليس "نفقة وإنفاق". على كلّ حال لا ينبغي للذين ليس لهم القدرة أن يتشدّدوا ويعقدوا الاُمور، كما أنّ الذين لا يملكون القدرة المالية غير مأمورين إلاّ بالقدر الذي تسعه قدرتهم المالية ولا يحقّ للنساء مطالبتهم بأكثر من ذلك. وبناءً على هذا فالذين لديهم المقدرة والإستطاعة ثمّ يبخلون بها فإنّهم يستحقّون اللوم والتقريع لا الذين لا يملكون شيئاً. وفي نهاية المطاف يبشّرهم الله تعالى بقوله: ( سيجعل الله بعد عسر يسراً) أي لا تجزعوا ولا تحزنوا ولا يكن الضيق في المعيشة سبباً لخروجكم عن الطريق السوي، فإنّ الدنيا أحوال متقلّبة لا تبقى على حال، فحذار من أن تقطع المشاكل العابرة والمرحلية حبل صبركم. وكانت هذه الآية بمثابة بشرى أبدية للمسلمين الذين كانوا حينذاك يعيشون ضنكاً مادياً وعوزاً في متطلّبات الحياة، فهي تبعث الأمل في نفوسهم وتبشّر الصابرين. ولم تمض فترة طويلة حتّى فتح الله عليهم أبواب رحمته وبركته. * * * بحوث 1 ـ أحكام الطلاق الرجعي قلنا أنّه في الطلاق الرجعي يستطيع الزوج متى شاء أن يرجع إلى زوجته خلال فترة العدّة إلى آخر يوم منها، بلا حاجة إلى عقد أو ما شابه، والطريق إلى ذلك سهل يسير يمكن أن يتمّ بأي حديث أو عمل يشمّ منه رائحة العودة ويدلّ على الرجوع في العلاقة الزوجية، وقد اختصّت بعض الأحكام التي وردت في الآيات أعلاه مثل "النفقة" و "السكن" بحالة الطلاق الرجعي، يضاف إلى ذلك عدم خروج المرأة من بيت زوجها أثناء العدّة، فإنّها أيضاً من مختّصات الطلاق الرجعي أمّا الطلاق البائن غير القابل للرجوع، (كالطلاق للمرّة الثالثة) فإنّه غير مشمول بتلك الأحكام. أمّا حقّ النفقة والسكن فهو ثابت للنساء الحوامل إلى حين وضع الحمل. والتعبير بـ ( لا تدري لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً) إشارة إلى أنّ كلّ الأحكام السابقة ـ أو بعضها ـ مرتبط بالطلاق الرجعي(105). 2 ـ لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها ليس العقل وحده يحكم بذلك، وإنّما الشرع هو الآخر شاهد ودليل على ذلك. أي أنّ تكاليف البشر ومسؤولياتهم إنّما هي بقدر طاقاتهم وتعبير ( لا يكلّف الله نفساً إلاّ ما آتاها) التي وردت ضمن الآيات السابقة هو إشارة إلى هذا المعنى. ولكن ورد في بعض الروايات أنّ المقصود بـ ( ما آتاها) هو "ما أعلمها" أي أنّ الله يكلّف الناس بقدر ما أعلمهم به. ولذا استدلّ بهذه الآية على إثبات "أصل البراءة" في مباحث علم الاُصول، فمن لا يعلم حكماً ليس عليه مسؤولية تجاه ذلك الحكم. ونظراً لأنّ عدم الإطّلاع يؤدّي أحياناً إلى عدم المقدرة، فمن الممكن أن يكون المقصود هو الجهل الذي يكون مصدراً للعجز. وبناءً على هذا فإنّه سيكون للآية مفهوم واسع يشمل عدم القدرة والجهل الذي يؤدّي إلى عدم القدرة على إنجاز التكليف. 3 ـ أهميّة النظام العائلي إنّ الدقّة والظرافة التي عالجت بها الآيات القرآنية أحكام النساء المطلّقات وحقوقهنّ وباقي الجزئيات المتعلّقة في هذا المجال، الواردة في آيات قرآنية اُخرى، تمثّل بمجموعها المنهج والقانون الإسلامي لمواجهة هذه المشاكل. كلّ ذلك يبرز الأهميّة الخاصّة التي يوليها الإسلام لنظام العائلة ورعاية حقوق المرأة والأبناء. فهو يسعى لمنع وقوع الطلاق قدر الإمكان، ويحاول إستئصال جذور هذا العمل البغيض، ولكن إذا وصلت هذه الجهود إلى طريق مسدود وأصبح الطلاق والإنفصال هو العلاج الوحيد، عندها يحذّر من ضياع حقوق الأطفال ويرفض أن تذهب هذه الحقوق ضحيّة هذا النزاع، حتّى أنّه شرع حكم الطلاق بطريقة يمكن في ضوئها الرجوع عنه غالباً. إنّ أوامر الإمساك بمعروف والطلاق بمعروف، وكذلك عدم الإضرار والتضييق على النساء والتشدّد في أمرهنّ، والتشاور الحسن في شؤون الأطفال، وما إلى ذلك كلّها شواهد على ذلك. غير أنّ عدم إطّلاع المسلمين على هذه الأحكام وجهلهم بها، أو إعراضهم عن الإلتزام بها رغم علمهم، أدّى إلى نشوء مشاكل عائلية عديدة حين الطلاق، وخاصّة في شأن الأطفال. وذلك نتيجة إبتعاد المسلمين عن مصدر الفيض الإلهي الذي هو القرآن. فمثلا في الوقت الذي يدعو القرآن إلى عدم خروج النساء من بيت الزوج في أيّام العدّة، ولا يحقّ للزوج إكراهها على الخروج أثناء تلك الفترة المحدّدة ممّا يؤدّي هذا الحكم إلى العدول عن الطلاق ورجوع النساء إلى الحياة الزوجية، نرى قلّة من النساء والرجال يلتزمون بذلك بعد وقوع الطلاق، وهذا ما يدعو إلى الأسف حقّاً. * * * الآيات وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَة عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَـهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَـهَا عَذَاباً نُّكْراً (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَـقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً (9) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يَـأُوْلِى الاَْلْبَـبِ الَّذِينَ ءَامَنُوا قَدْ أَنَزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10)رَّسُولا يَتْلُوا عَلَيْكُمْ ءَايَـتِ اللهِ مُبَيِّنَت لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـلِحَـتِ مِنَ الظُّلُمَـتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَـلِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ خَـلِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (11) التّفسير العاقبة المؤلمة للعاصين: في كثير من الموارد يأتي القرآن على ذكر الاُمم السابقة بعد إيراد سلسلة من الأحكام والتكاليف، لكي يرى المسلمون بأعينهم عاقبة كلّ من (الطاعة والعصيان) في تجارب الماضي وتأخذ القضيّة طابعاً حسيّاً. ولم يخرج القرآن الكريم في هذه السورة عن هذا النهج، فبعد ذكر وظائف كلّ من الرجال والنساء عند الطلاق، يحذّر العاصين والمتمرّدين من العواقب الوخيمة التي تنتظرهم بقوله في البداية: ( وكأين من قرية عتت عن أمر ربّها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً وعذّبناها عذاباً نكراً)(106). والمقصود بـ "القرية" هو محل إجتماع الناس، وهو أعمّ من المدينة والقرية، والمراد هو أهلها. "عتت" من مادّة "عتو" على وزن "غلو" بمعنى التمرّد على الطاعة. و "نكر" على وزن "شكر" ويعني العمل الصعب الذي لم يسبق له مثيل. "حساباً شديداً" أي الحساب الدقيق المقرون بالشدّة والصرامة، ويعني العقاب الشديد الذي هو نتيجة الحساب الدقيق. وهو على كلّ حال إشارة إلى عاقبة الأقوام السابقة المتمرّدة العاصية في هذه الدنيا، التي هلكت بعضها بالطوفان، وبعضها بالزلازل، وآخرون بالصواعق والعواصف، وأمثالهم حلّ بهم الفناء وبقت ديارهم وآثارهم عبرة للأجيال بعدهم. لذلك يضيف تعالى في الآية اللاحقة: ( فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسراً). وأي خسارة أفدح من خسران رأس المال الذي وهبه الله، والخروج من هذه الدنيا ـ ليس فقط بعدم شراء المتاع ـ وإنّما بالإنتهاء إلى العذاب الإلهي والدمار. ويرى البعض أنّ "حساباً شديداً" و "عذاباً نكراً" يشيران إلى "يوم القيامة" واعتبروا الفعل الماضي من باب الماضي المراد به المستقبل، ولكن لا داعي لهذا التكلّف، خاصّة أنّ السورة تحدّثت عن يوم القيامة في الآيات اللاحقة، فذلك يدلّ على أنّ المراد بالعذاب هنا هو عذاب الدنيا. ثمّ يشير تعالى إلى عقابهم الاُخروي بقوله: ( أعدّ الله لهم عذاباً شديداً) عذاباً مؤلماً، مخيفاً، مذلا، فاضحاً، دائماً أعدّه لهم منذ الآن في نار جهنّم. والآن ( فاتّقوا الله يا اُولي الألباب الذين آمنوا). إنّ الفكر والتفكّر من جهة، والإيمان والآيات الإلهية من جهة اُخرى، تحذّركم وتدعوكم لملاحظة مصائر الأقوام السابقة المتمرّدة التي عصت أمر ربّها، والإعتبار بذلك والحذر من أن تكونوا مثلهم، فقد ينزل عليكم الله غضبه وعذابه الذي لم يسبق له مثيل إضافة إلى عذاب الآخرة. وبعد ذلك يخاطب الله تعالى المؤمنين الذين يتفكّرون في آيات الله بقوله: ( قد أنزل الله إليكم ذكراً) وهو الشيء الذي يوجب تذكركم. وأرسل لكم رسولا يتلو عليكم آيات الله الواضحة ( رسولا يتلو عليكم آيات الله مبيّنات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور). علماً أنّ هناك خلافاً بين المفسّرين في معنى كلمة "ذكر" ولكلمة "رسولا" اعتبر بعضهم أنّ "الذكر" يعني القرآن، بينما فسّرها البعض الآخر بأنّها تعني (رسول الله) لأنّ الرّسول هو سبب تذكّر الناس، وطبقاً لهذا التّفسير فإنّ كلمة "رسولا" التي تأتي بعدها تعني شخص الرّسول، وليس في البين كلام محذوف. ولكن يصبح معنى "الإنزال" هنا هو وجود الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الاُمّة وبعثه فيها من قبل الله تعالى. ولكن إذا أخذنا "الذكر" بمعنى "القرآن" فإنّ كلمة "رسولا" لا يمكن أن تكون بدلا، وفي الجملة محذوف تقديره "أنزل الله إليكم ذكراً وأرسل إليكم رسولا". قال البعض: أنّ "الرّسول" يُقصد به "جبرائيل" وبهذا يكون النزول نزولا حقيقيّاً، نزل من السماء، غير أنّ هذا التّفسير لا ينسجم مع عبارة ( يتلو عليكم آيات الله) لأنّ جبرائيل لم يقرأ الآيات القرآنية بصورة مباشرة على المسلمين. وبصورة عامّة، فإنّ كلّ أي من هذه الآراء يحتوي على نقاط قوّة ونقاط ضعف، ويبقى التّفسير أو الرأي الأوّل أفضل الآراء أي أنّ "الذكر" يقصد به "القرآن" و "رسولا" يقصد به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وذلك لأنّ القرآن الكريم أطلق على نفسه "الذكر" في آيات كثيرة، خصوصاً أنّها كانت مقرونة بكلمة "إنزال" إلى الحدّ الذي أصبح كلّما جاءت عبارة "إنزال الذكر" تداعى إلى الأذهان القرآن الكريم. ثمّ نقرأ في الآية (44) من سورة النحل ( وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم). وجاء في الآية (6) من سورة "الحجر" ( وقالوا ياأيّها الذي نزل عليه الذكر إنّك لمجنون). وإذا جاء في بعض الروايات عن أهل البيت (عليهم السلام) أنّ المقصود من "الذكر" هو رسول الله و "أهل الذكر" هم "الأئمّة"، فقد يكون المقصود هو المعنى الباطني للآية، لأنّنا نعلم أنّ "أهل الذكر" في آية ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)النحل (43) ليس خصوص أهل البيت (عليهم السلام)، بل إنّ شأن نزولها هو علماء أهل الكتاب، ولكن نظراً لإتّساع معنى الذكر فإنّه يشمل رسول الله كأحد مصاديقه. على أي حال فإنّ الهدف النهائي من إرسال الرّسول وإنزال هذا الكتاب السماوي، هو لإخراج الناس من الظلمات والكفر والجهل وإرتكاب الذنوب والمآثم والمفاسد الأخلاقية، إلى نور الإيمان والتوحيد والتقوى. والواقع أنّ تمام أهداف بعثة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول القرآن يمكن تلخيصها بهذه الجملة، وهي الخروج من الظلمات إلى النور. وتجدر الإشارة إلى أنّ "الظلمات" ذكرت بصيغة الجمع بينما ذكر النور بصيغة المفرد، لأنّ الكفر والشرك والفساد تؤدّي إلى الفرقة والإختلاف، بينما يؤدّي الإيمان والتوحيد والتقوى إلى الوحدة والتلاحم. وفي ختام الآية يشير إلى أجر العاملين المخلصين بقوله: ( ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً قد أحسن الله له رزقاً). وأشار بالفعل المضارع "يؤمن" و "يعمل" إلى أنّ إيمانهم وعملهم الصالح ليسا محدودين بحدود الزمان والمكان، وإنّما لهما استمرار وديمومة(107). والتعبير بـ (خالدين) دليل على كون الجنّة خالدة، وبذلك تكون كلمة "أبداً" التي جاءت بعدها تأكيد لهذا الخلود. والتعبير بـ "رزقاً" بصيغة نكرة إشارة إلى عظمة وأهميّة الأرزاق الطيّبة التي يهيّؤها الله لهذه الجماعة، وقد يتّسع معناها ليشمل كلّ النعم الإلهية في الدنيا والآخرة، لأنّ الصالحين والمتّقين لهم حياتهم الكريمة حتّى في الحياة الدنيا. * * * الآيات اللهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَـوَت وَمِنَ الاَْرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الاَْمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْء عِلْماً (12) التّفسير الهدف من خلق العالم: هذه الآية هي آخر آية من سورة الطلاق، وفيها إشارة معبّرة وصريحة إلى عظمة وقدرة الباريء جلّ شأنه في خلق السموات والأرض وبيان الهدف النهائي للخلق، ثمّ تكمل الآية الأبحاث التي وردت في الآيات السابقة حول الثواب العظيم الذي أعدّه الله للمؤمنين المتّقين، والعهود التي قطعها على نفسه لهم فيما يخصّ حلّ مشاكلهم المعقّدة. إذ من الطبيعي أنّ الذي أوجد هذا الخلق العظيم له القدرة على الوفاء بالعهود سواءً في هذا العالم أو العالم الآخر. يقول تعالى أوّلا: ( الله الذي خلق سبع سمـوات). ( ومن الأرض مثلهنّ). بمعنى أنّ الأرضين سبع كما السماوات سبع، وهذه هي الآية الوحيدة التي تشير إلى الأرضين السبع في القرآن الكريم. والآن لنر ما هو المقصود من السموات السبع والأرضين السبع؟ مرّت أبحاث مطوّلة في هذا المجال في ذيل الآية (29) من سورة البقرة، وفي ذيل الآية (12) من سورة فصّلت، لذا نكتفي هنا بإشارة مقتضبة وهي: إنّه من الممكن أن يكون المراد من عدد (7) هو الكثرة، فكثيراً ما ورد هذا التعبير للإشارة إلى الكثرة في القرآن الكريم وغيره، فنقول أحياناً للمبالغة لو أتيت بسبعة أبحر لما كفت. وبناءً على هذا فسيكون المقصود بالسموات السبع والأرضين السبع هو الإشارة إلى العدد العظيم والهائل للكواكب السماوية والكواكب التي تشبه الأرض. أمّا إذا اعتبرنا العدد سبعة هو لعدد السموات وعدد الأرضين، فإنّ مفهوم هذه الآية مع الإلتفات إلى الآية (6) من سورة الصافات التي تقول: ( إنّا زيّنا السماء الدنيا بزينة الكواكب) سيكون شيئاً آخر، وهو أنّ علم البشر ومعرفته مهما اتّسعت فهي محدودة ومتعلّقة بالسماء الاُولى التي توجد وراءها ثوابت وسيّارات ستة هي عبارة عن العوالم الاُخرى التي لا تتسع لها معرفتنا المحدودة ولا ينالها إدراكنا الضيّق. أمّا الأرضين السبع وما حولها، فربّما تكون إشارة إلى طبقات الأرض المختلفة، لأنّ الأرض تتكوّن من طبقات مختلفة كما ثبت اليوم علميّاً. أو لعلّها تكون إشارة إلى المناطق السبع التي تقسّم بها الأرض في السابق وحالياً. علماً أنّ هناك إختلافاً بين التقسيم السابق والتقسيم الحالي، فالتقسيم الحالي يقسّم الأرض إلى منطقتين: منطقة المنجمد الشمالي، والمنجمد الجنوبي. ومنطقتين معتدلتين، واُخريين حارتين، ومنطقة استوائية. أمّا سابقاً فكان هناك تقسيم آخر لهذه المناطق السبع. ويمكن أن يكون المراد هنا من العدد "سبعة" المستفاد من تعبير (مثلهنّ) هو الكثرة أيضاً التي اُشير بها إلى الكرات الأرضية العديدة الموجودة في العصر الراهن، حتّى قال بعض علماء الفلك: إنّ عدد الكرات المشابهة للأرض التي تدور حول الشموس يبلغ ثلاثة ملايين كرة كحدّ أدنى(108). ونظراً لقلّة معلوماتنا حول ما وراء المنظومة الشمسية، فإنّ تحديد عدد معيّن حول هذا الموضوع يبقى أمراً صعباً. ولكن على أي حال فقد أكّد علماء الفلك الآخرون أنّ هناك ملايين الملايين من الكواكب التي وضعت في ظروف تشبه ظروف الكرة الأرضية، ضمن مجرّة المجموعة الشمسية، وهي تمثّل مراكز للحياة والعيش. وربّما ستكشف التطورات العلمية القادمة معلومات أوسع وأسرار اُخرى حول تفسير مثل هذه الآيات. ثمّ يشير تعالى إلى إدارة هذا العالم الكبير وتدبيره بقوله جلّ شأنه ( يتنزّل الأمر بينهنّ). وواضح أنّ المراد من "الأمر" هنا هو الأمر التكويني لله تعالى في خصوص إدارة وتدبير هذا العالم الكبير، فهو الهادي وهو المرشد وهو المبدع لهذا المسار الدقيق المنظّم، والحقيقة أنّ هذه الآية تشبه الآية (4) من سورة السجدة حيث تقول: ( يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض). على أي حال فإنّ هذا العالم سيفنى ويتلاشى إذا ما رفعت عنه يد التدبير والهداية الإلهية لحظة واحدة. وأخيراً يشير تعالى إلى الهدف من وراء هذا الخلق العظيم حيث يقول: ( لتعلموا أنّ الله على كلّ شيء قدير وأنّ الله قد أحاط بكلّ شيء علماً). كم هو تعبير لطيف، إذ يعتبر الهدف من هذا الخلق العظيم هو تعريف الإنسان بصفات الله في علمه وقدرته، وهما صفتان كافيتان لتربية الإنسان. ومن ثمّ يجب أن يعلم الإنسان أنّ الله محيط بكلّ أسرار وجوده، عالم بكلّ أعماله ما ظهر منها وما بطن. ثمّ يجب أن يعلم الإنسان أنّ وعد الله في البعث والمعاد والثواب والعقاب وحتمية انتصار المؤمنين، كلّ ذلك غير قابل للتخلّف والتأخّر. نعم، إنّ هذا الخالق العظيم الذي له هذه "القدرة والعلم" والذي يدير هذا العالم بأجمعه، لابدّ أنّ أحكامه على صعيد تنظيم علاقات البشر وقضايا الطلاق وحقوق النساء ستكون بمنتهى الدقّة والإتقان. أوردنا بحثاً مفصّلا حول موضوع "الخلقة" في ذيل الآية (56) من سورة الذاريات. الجدير بالذكر أنّ هناك إشارات وردت في آيات عديدة من القرآن الكريم تبيّن الهدف من خلق الإنسان أو الكون، وقد تبدو مختلفة، ولكن بالنظرة الدقيقة نلاحظ أنّها ترجع إلى حقيقة واحدة. 1 ـ في الآية (56) من سورة الذاريات يعتبر "العبادة" هي الهدف من خلق الجنّ والإنس ( وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون). 2 ـ وفي الآية (7) من سورة هود يضع امتحان الإنسان وتمحيصه كهدف لخلق السموات والأرض: ( هو الذي خلق السموات والأرض في ستّة أيّام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيّكم أحسن عملا). 3 ـ في الآية (119) من سورة هود يقول: إنّ الرحمة الإلهية هي الهدف "ولذلك خلقهم". 4 ـ وفي الآية مورد البحث اعتبر العلم والمعرفة بصفات الله هي الهدف "... لتعلموا ..". إنّ تدقيقاً بسيطاً في هذه الآيات يرينا أنّ بعضها مقدّمة للبعض الآخر، فالعلم والمعرفة مقدّمة للعبودية، والعبادة هي الاُخرى مقدّمة للإمتحان وتكامل الإنسان، وهذا مقدّمة للإستفادة من رحمة الله "فتأمّل!" ربّنا قد عرفتنا بهدف خلقك العظيم فأعنا على الوصول إلى ذلك الهدف. اللهمّ، إنّ رحمتك واسعة وكرمك دائم وقدرتك نافذة، فأفض علينا من رحمتك. اللهمّ، إنّك أنزلت القرآن والرّسول لتخرج الناس من الظلمات إلى النور فأخرجنا من ظلمات الذنوب وأهواء النفوس وأنر قلوبنا بنور الإيمان والتقوى. آمين ياربّ العالمين نهاية سورة الطلاق * * * سُورَة التَّحرِيم مَدَنيّة وعَدَدُ آيَاتِها إثنتا عشرَة آية "سورة التّحريم" ملاحظة تتكوّن هذه السورة من أربعة أقسام رئيسيّة: القسم الأوّل: يرتبط بقصّة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع بعض أزواجه حينما حرم بعض أنواع الطعام على نفسه، فنزلت الآيات من 1 ـ 5 وفيها لوم لزوجات الرّسول لأسباب سنذكرها في سبب النزول. القسم الثّاني: خطاب لكلّ المؤمنين في شؤون التربية ورعاية العائلة ولزوم التوبة من الذنوب، وهو من الآية 6 ـ 8. القسم الثّالث: وهو الآية التاسعة التي تتضمّن خطاباً إلى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)بضرورة مجاهدة الكفّار والمنافقين. القسم الرّابع: وهو القسم الأخير للسورة، من الآية 10 ـ 12 ويتضمّن توضيحاً للأقسام السابقة بذكر نموذجين صالحين للنساء، وهما (مريم العذراء، وزوجة فرعون) ونموذجين غير صالحين (زوجة نوح، وزوجة لوط) ويحذّر نساء النبي من هذين النموذجين الأخيرين ويدعوهنّ إلى الإقتداء بالنموذجين الأوّلين. فضيلة تلاوة سورة التحريم: في حديث عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "من قرأ سورة ياأيّها النبي لِمَ تحرّم ما أحل الله لك أعطاه الله توبة نصوحاً"(109). وفي حديث عن الإمام الصادق قال: "من قرأ سورة الطلاق والتحريم في فريضة أعاذه الله من أن يكون يوم القيامة ممّن يخاف أو يحزن وعوفي من النار وأدخله الله الجنّة بتلاوته إيّاهما ومحافظته عليهما لأنّهما للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)"(110). * * * الآيات يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَـنِكُمْ وَاللهُ مَوْلَـكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْض فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَـذَا قَالَ نَبَّأَنِىَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِن تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَـهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَـهُ وَجِبْرِيلُ وَصَـلِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَـئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبَّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَـت مُّؤْمِنَـت قَـنِتَـت تَـئِبَـت عَـبِدَت سَئِحَـت ثَيِّبَـت وَأَبْكَاراً (5) أسباب النّزول وردت روايات عديدة في أسباب نزول هذه السورة في كتب الحديث والتّفسير والتاريخ، عن الشيعة والسنّة، إنتخبنا أشهر تلك الروايات وأنسبها وهي: كان رسول الله يذهب أحياناً إلى زوجته (زينب بنت جحش) فتبقيه في بيتها حتّى "تأتي إليه بعسل كانت قد هيّأته له (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن لمّا سمعت عائشة بذلك شقّ عليها الأمر، ولذا قالت: إنّها قد اتّفقت مع "حفصة" إحدى (أزواج الرّسول) على أن يسألا الرّسول بمجرّد أن يقترب من أي منهما بأنّه هل تناول صمغ "المغافير" (وهو نوع من الصمغ يترشّح من بعض أشجار الحجاز يسمّى "عرفط" ويترك رائحة غير طيّبة، علماً أنّ الرّسول كان يصرّ على أن تكون رائحته طيّبة دائماً) وفعلا سألت حفصة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا السؤال يوماً وردّ الرّسول بأنّه لم يتناول صمغ "المغافير" ولكنّه تناول عسلا عند زينب بنت جحش، ولهذا أقسم بأنّه سوف لن يتناول ذلك العسل مرّة اُخرى، خوفاً من أن تكون زنابير العسل هذا قد تغذّت على شجر صمغ "المغافير" وحذّرها أن تنقل ذلك إلى أحد لكي لا يشيع بين الناس أنّ الرّسول قد حرّم على نفسه طعاماً حلالا فيقتدون بالرّسول ويحرّمونه أو ما يشبهه على أنفسهم، أو خوفاً من أن تسمع زينب وينكسر قلبها وتتألّم لذلك. لكنّها أفشت السرّ فتبيّن أخيراً أنّ القصّة كانت مدروسة ومعدّة فتألّم الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك كثيراً فنزلت عليه الآيات السابقة لتوضّح الأمر وتنهى من أن يتكرّر ذلك مرّة اُخرى في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(111). وجاء في بعض الروايات أنّ الرّسول ابتعد عن زوجاته لمدّة شهر بعد هذا الحادث(112)، انتشرت على أثرها شائعة أنّ الرّسول عازم على طلاق زوجاته، الأمر الذي أدّى إلى كثرة المخاوف بينهنّ(113) وندمن بعدها على فعلتهن. * * * التّفسير التوبيخ الشديد لبعض زوجات الرّسول: ممّا لا شكّ فيه أنّ رجلا عظيماً كالرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يمكن أن يهمّه أمره وحده دون غيره، بل أمره يهمّ المجتمع الإسلامي والبشرية جمعاء، ولهذا يكون التعامل مع أيّة دسيسة حتّى لو كانت بسيطة تعاملا حازماً وقاطعاً لا يسمح بتكرّرها، لكي لا تتعرّض حيثية الرّسول وإعتباره إلى أي نوع من التصدّع والخدش والآيات محلّ البحث تعتبر تحذيراً من ارتكاب مثل هذه الأعمال حفاظاً على اعتبار الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم). البداية كانت خطاباً إلى الرّسول: ( ياأيّها النبي لِمَ تحرّم ما أحلّ الله لك تبتغي مرضات أزواجك). ومن الواضح أنّ هذا التحريم ليس تحريماً شرعيّاً، بل هو ـ كما يستفاد من الآيات اللاحقة ـ قسم من قبل الرّسول الكريم، ومن المعروف أنّ القسم على ترك بعض المباحات ليس ذنباً. وبناءً على هذا فإنّ جملة ( لِمَ تحرّم) لم تأت كتوبيخ وعتاب، وإنّما هي نوع من الإشفاق والعطف. تماماً كما نقول لمن يجهد نفسه كثيراً لتحصيل فائدة معيّنة من أجل العيش ثمّ لا يحصل عليها، نقول له: لماذا تتعب نفسك وتجهدها إلى هذا الحدّ دون أن تحصل على نتيجة توازي ذلك التعب؟ ثمّ يضيف في آخر الآية: ( والله غفور رحيم ..). وهذا العفو والرحمة إنّما هو لمن تاب من زوجات الرّسول اللاتي رتّبن ذلك العمل وأعددنه. أو أنّها إشارة إلى أنّ الرّسول ما كان ينبغي له أن يقسم مثل هذا القسم الذي سيؤدّي ـ إحتمالا ـ إلى جرأة وتجاسر بعض زوجاته عليه (صلى الله عليه وآله وسلم). ويضيف في الآية اللاحقة أنّ الله قد أوضح طريق التخلّص من مثل هذا القسم: ( قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم)(114) أي أعط كفّارة القسم وتحرّر منه. ويذكر أنّ الترك إذا كان راجحاً على العمل فيجب الإلتزام بالقسم والحنث فيه ذنب تترتّب كفّارة عليه، أمّا في الموارد التي يكون فيها الترك شيئاً مرجوحاً مثل "الآية مورد البحث" فإنّه يجوز الحنث في القسم، ولكن من الأفضل دفع كفّارة من أجل الحفاظ على حرمة القسم واحترامه(115). ثمّ يضيف: ( والله مولاكم وهو العليم الحكيم). فقد أنجاكم من مثل هذه الأقسام ووضع لكم طريق التخلّص منها طبقاً لعلمه وحكمته. ويستفاد من بعض الروايات أنّ النبي أعتق رقبة بعد هذا القسم وحلّل ما كان قد حرّمه بالقسم. وفي الآية اللاحقة يتعرّض لهذا الحادث بشكل أوسع: ( وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً فلمّا نبّأت به وأظهره الله عليه عرّف بعضه وأعرض عن بعض). ما هذا السرّ الذي أسرّه النبي لبعض زوجاته ثمّ لم يحفظنه؟ طبقاً لما أوردناه في أسباب النزول فإنّ هذا السرّ يتكوّن من أمرين: الأوّل: تناول العسل عند زوجته (زينب بنت جحش). والثاني: تحريم العسل على نفسه في المستقبل. أمّا الزوجة التي أذاعت السرّ ولم تحافظ عليه فهي "حفصة" حيث أنّها نقلت ذلك الحديث الذي سمعت به إلى عائشة. أمّا الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد اطّلع على إفشاء هذا السرّ عن طريق الوحي، وذكر بعضه "لحفصة" ومن أجل عدم إحراجها كثيراً لم يذكر لها القسم الثاني (ولعلّ القسم الأوّل يتعلّق بأصل شرب العسل، والثاني هو تحريم العسل على نفسه). وعلى كلّ فإنّه: ( فلمّا نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير). ويتّضح من مجموع هذه الآيات أنّ بعض زوجات الرّسول لم يكتفين بإيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكلامهنّ، بل لا يحفظن سرّه، وحفظ السرّ من أهمّ صفات الزوجة الصالحة الوفيّة لزوجها، وكان تعامل الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) معهنّ على العكس من ذلك تماماً إلى الحدّ الذي لم يذكر لها السرّ الذي أفشته كاملا لكي لا يحرجها أكثر، واكتفى بالإشارة إلى جزء منه. ولهذا جاء في الحديث عن الإمام علي (عليه السلام): "ما استقصى كريم قطّ، لأنّ الله يقول: ( عرّف بعضه وأعرض عن بعضه)(116). ثمّ يتحدّث القرآن مع زوجتي الرّسول اللتين كانتا وراء هذا الحادث بقوله: ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما). وقد اتّفق المفسّرون الشيعة والسنّة على أنّ تلك الزوجتين هما "حفصة بنت عمر" و "عائشة بنت أبي بكر". "صغت" من مادّة "صغو" على وزن "عفو" بمعنى الميل إلى شيء ما، لذلك يقال "صغت النجوم" "أي مالت النجوم إلى الغروب" ولهذا جاء إصطلاح "إصغاء" بمعنى الإستماع إلى حديث شخص آخر. والمقصود من "صغت قلوبكما" أي مالت من الحقّ إلى الباطل وإرتكاب الذنب(117). ثمّ يضيف تعالى: ( وإن تظاهرا عليه فإنّ الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير). ويتّضح من هذا كم تركت هذه الحادثة من أثر مؤلم في قلب الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)وروحه العظيمة، ورغم قدرة الرّسول المتكاملة نشاهد أنّ الله يدافع عنه إذ يعلن حماية جبرائيل والمؤمنين له. ومن الجدير بالذكر أنّه ورد في صحيح البخاري (ما مضمونه) عن ابن عبّاس أنّه قال: سألت عمر: من كانت المرأتان اللتان تظاهرتا على النبي من أزواجه، فقال: تلك حفصة وعائشة، قال: فقلت والله إن كنت لاُريد أن أسألك عن هذا قال: فلا تفعل ما ظننت أنّ عندي من علم فاسألني فإن كان لي علم خبّرتك به، قال ثمّ قال عمر: والله إن كنّ في الجاهلية ما تعدّ للنساء أمراً حتّى أنزل الله فيهنّ ما أنزل وقسم لهنّ ما قسم .."(118). وفي تفسير الدرّ المنثور، ورد أيضاً عن ابن عبّاس ضمن حديث مفصّل أنّه قال: قال عمر: ".. علمت بعد هذه الحادثة أنّ النبي اعتزل جميع النساء، وأقام في "مشربة أُمّ إبراهيم"، فأتيته وقلت: يارسول الله هل طلّقت نساءك؟ قال: لا. قلت: الله أكبر، كنّا معشر قريش نغلب النساء، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم، فغضبت على امرأتي يوماً فإذا هي تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقالت ما تنكر من ذلك فوالله إنّ أزواج النبي ليراجعنه وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل .. فقلت لإبنتي حفصة لا تفعلي ذلك أبداً وإن فعلته جارتك (يعني عائشة) لأنّك لست هي .."(119). في آخر آية من هذه الآيات يخاطب الله تعالى جميع نساء النبي بلهجة لا تخلو من التهديد: ( عسى ربّه إن طلّقكنّ أن يبدله أزواجاً خيراً منكنّ مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيّبات وأبكاراً). لذا فهو ينذرهنّ ألاّ يتصورن أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) سوف لن يطلّقهن، أو يتصوّرن أنّ النبي لا يستبدلهنّ بنساء اُخريات أفضل منهنّ، وذلك ليكففن عن التآمر عليه وإلاّ فسيحرمن من شرف منزلة "زوجة الرّسول" إلى الأبد، وستأخذ نساء اُخريات أفضل منهنّ هذا اللقب الكريم. * * * بحوث 1 ـ صفات الزوجة الصالحة: يضع القرآن الكريم عدّة صفات للمرأة الصالحة التي يمكنها أن تكون نموذجاً يقتدى به في إنتخاب الزوجة اللائقة. الأوّل "الإسلام" ثمّ "الإيمان" أي الإعتقاد الذي ينفذ ويترسّخ في أعماق قلب الإنسان. ثمّ حالة "القنوت" أي التواضع وطاعة الزوج. بعد ذلك "التوبة" ويقصد أنّ الزوجة إذا ما ارتكبت ذنباً بحقّ زوجها فإنّها سرعان ما تتوب وتعتذر عن ذلك. وتأتي بعد ذلك "العبادة" التي جعلها الله سبحانه ليطهّر بها قلب الإنسان وروحه ويصنعها من جديد، ثمّ "إطاعة أوامر الله" والورع عن محارمه. وممّا يذكر أنّ جماعة من المفسّرين ـ بل أكثرهم ـ اعتبروا كلمة "سائح" بمعنى "صائم" ولكن طبقاً لما أورده "الراغب" في "المفردات" فإنّ الصوم على قسمين: "صوم حكمي": وهو الإمتناع عن تناول الطعام والماء، و "صوم حقيقي": وهو إمتناع أعضاء الإنسان عن إرتكاب المعاصي. والمقصود بالصوم هنا هو المعنى الثاني، "إذ أنّ مناسبات الحال والمقام تقوّي قول الراغب وتجعله مناسباً، غير أنّه يجب أن يعلم أنّ السائح فسّر أيضاً بمعنى السائر في طريق طاعة الله"(120). ومن الجدير بالذكر أنّ القرآن لم يعط أهميّة تذكر للباكر وغير الباكر، فإنّه عندما ذكر الصفات المعنوية للزوجة الصالحة ذكر هذه المسألة بصورة عابرة ودون أي تركيز. 2 ـ من هم (صالح المؤمنين)؟ ممّا لا شكّ فيه أنّ صالح المؤمنين، لها معان واسعة تشمل جميع المؤمنين الصالحين الأتقياء الذين كمل إيمانهم، ورغم أنّ كلمة (صالح) وردت هنا بصيغة المفرد، ولكن يمكن أن يستفاد منها العموم لأنّها تتضمّن معنى الجنس(121). ولكن ما هو المصداق الأكمل والأتمّ لهذا المصطلح؟ يستفاد من روايات عديدة أنّ المقصود هو الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام). في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) يقول: "لقد عرّف رسول الله علياً أصحابه مرّتين: أمّا مرّة فحيث قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه" وأمّا الثانية فحيث نزلت هذه الآية: ( فإنّ الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ...) أخذ رسول الله بيد علي فقال: أيّها الناس، هذا صالح المؤمنين!!؟" وقد نقل هذا المعنى في كتب عديدة لعلماء أهل السنّة منهم العلاّمة "الثعلبي" و "الكنجي" في "كفاية الطالب" و "أبو حيّان الأندلسي" و "السبط ابن الجوزي" وغيرهم(122). وقد أورد جمع من المفسّرين منهم "السيوطي" في "الدرّ المنثور" في ذيل الآية مورد البحث و "القرطبي" في تفسيره المعروف، وكذلك "الآلوسي" في "روح المعاني" في تفسير هذه الآية أوردوا هذه الرواية. وبعد أن نقل مؤلّف (روح البيان) هذه الرواية عن (مجاهد) قال: ويؤيّد هذه الرواية الحديث المعروف: "حديث المنزلة" الذي وصف فيه الرّسول مكانة علي(عليه السلام) منه بقوله لعلي "أنت منّي بمنزلة هارون من موسى" نظراً لأنّ عنوان الصالحين استعمل في القرآن الكريم للإشارة إلى الأنبياء. منها ( وكلا جعلنا صالحين) (سورة الأنبياء الآية 72) و ( ألحقني بالصالحين)(123). (حيث أطلق في الاُولى على مجموع الأنبياء وفي الثانية على يوسف). ولكون علي بمنزلة هارون فإنّه سيكون كذلك مصداقاً لـ (الصالح) (فتأمّل)! خلاصة القول: أنّ هناك عدداً كثيراً من الأحاديث وردت في هذا المجال، فبعد أن نقل المفسّر المعروف (المحدّث البحراني) في تفسير البرهان رواية في هذا المجال عن محمّد بن عبّاس(124) أنّه جمع 52 حديثاً تتناول هذا الموضوع من طريق الشيعة والسنّة ثمّ قام هو بنقل بعضها(125). 3 ـ عدم رضا الرّسول عن بعض زوجاته هناك على طول التاريخ عظماء كثيرون لم يحظوا بزوجات تناسب شأنهم وإهتماماتهم، ونتيجة لعدم توفّر الشروط اللازمة بزوجاتهم، فقد ظلّوا يعانون من ذلك كثيراً، وقد ذكر لنا القرآن الكريم نماذج من هذه المعاناة وقعت للأنبياء العظام. وربّما توضّح الآيات السابقة أنّ معاناة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من بعض أزواجه كانت من هذا القبيل، فنظراً لوجود الغيرة والتسابق فيما بينهنّ كنّ يسبّبن متاعب للنبي الكريم. فقد كنّ أحياناً يعترضن عليه أو يفشين سرّه، الأمر الذي جعل القرآن الكريم يوجّه لهنّ خطاباً مباشراً بالتوبيخ وأصدر أقوى البيانات في هذا المجال، حتّى أنّه هدّدهنّ بالطلاق. وقد لاحظنا الرّسول قد غضب على زوجاته وأظهر عدم رضاه لمدّة شهر تقريباً بعد نزول هذه الآيات أملا في إصلاحهنّ. ويمكن أن نلاحظ بشكل واضح ـ من خلال حياة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ أنّ بعض زوجاته لم يدركن مقام النبوّة فحسب، بل قد يتعاملن معه كإنسان عادي، وأحياناً يتعرضنّ له بالإهانة. وبناءً على هذا فإنّه لا معنى للإصرار على أنّ جميع زوجات الرّسول كنّ على قدر عال من الكمال واللياقة، خصوصاً مع الأخذ بالإعتبار صراحة الآيات السابقة. ولم يكن هذا المعنى مقتصراً على حياة الرّسول فقط، فبعد وفاته نقل لنا التاريخ أمثلة مشابهة، خاصّة في قصّة حرب الجمل والموقف من خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما جرى من اُمور ليس هنا مجال الخوض فيها. ومن الواضح أنّ الآيات السابقة تقول بشكل صريح: إنّ الله سيعطي النبي زوجات صالحات تتوفّر فيهنّ الصفات المذكورة في الآيات إذا طلّقكن وسرحكن، وهذا يكشف عن أنّ هناك من زوجات الرّسول ممّن لا تتوفّر فيهنّ تلك الصفات والشروط. ويؤيّد ذلك ما جاء في سورة الأحزاب حول زوجات الرّسول. 4 ـ إفشاء السرّ إنّ حفظ السرّ والمحافظة عليه وعدم إفشائه، ليس فقط من صفات المؤمنين، بل هي صفة ينبغي توفّرها بكلّ إنسان ذي شخصية قويّة محترمة، وتتجلّى أهميّة هذه الصفة أكثر مع الأصدقاء والأقرباء وبالأخصّ بين الزوج والزوجة. وقد لاحظنا في الآيات السابقة كيف أنّ القرآن لام أزواج النبي بشدّة ووبّخهنّ على إفشائهنّ للسرّ وعدم محافظتهنّ عليه. ورد عن أمير المؤمنين قوله: "جمع خير الدنيا والآخرة في كتمان السرّ ومصادقة الأخيار، وجمع الشرّ في الإذاعة ومؤاخاة الأشرار"(126). 5 ـ لا تحرّموا على أنفسكم ما أحلّه الله لكم من المؤكّد أنّ الله لم يحلّل أو يحرّم شيئاً إلاّ طبقاً لحسابات ومصالح دقيقة، وبناءً على هذا فلا مجال لأن يقوم الإنسان بتحليل الحرام أو تحريم الحلال حتّى مع القسم، فإنّ الحنث جائز في مثل هذه الموارد. نعم، إذا كان مورد القسم من المباحات التي يكره عملها أو الأولى تركها، يجب الإلتزام بالقسم حينئذ. * * * الآيات يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَـأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـت تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَـرُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـنِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ(8) التّفسير قوا أنفسكم وأهليكم النار: تخاطب الآيات السابقة جميع المؤمنين، وترسم لهم المنهج الصالح لتربية الزوجات والأولاد والاُسرة بشكل عامّ، فهي تقول أوّلا: ( ياأيّها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة). وذلك بحفظ النفس من الذنوب وعدم الإستسلام للشهوات والأهواء، وحفظ العائلة من الإنحراف بالتعليم والتربية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتهيئة الأجواء الصالحة والمحيط الطاهر من كلّ رذيلة ونقص. وينبغي مراعاة هذا البرنامج الإلهي منذ اللحظات الاُولى لبناء العائلة، أي منذ أوّل مقدّمات الزواج، ثمّ مع أوّل لحظة لولادة الأولاد، ويراعى ويلاحظ بدقّة حتّى النهاية. وبعبارة اُخرى: إنّ حقوق الزوجة والأولاد لا تقتصر على توفير المسكن والمأكل، بل الأهمّ تربية نفوسهم وتغذيتها بالاُصول والتعاليم الإسلامية وتنشئتها نشأة تربوية صحيحة. والتعبير بـ "قوا" إشارة إلى أنّ ترك الأطفال والزوجات دون أيّة متابعة أو إرشاد سيؤدّي إلى هلاكهم ودخولهم النار شئنا أم أبينا. لذا عليكم أن تقوهم وتحذّروهم من ذلك. "الوقود" هو المادّة القابلة للإشتعال مثل (الحطب) وهو بمعنى المعطي لشرارة النار كالكبريت ـ مثلا ـ فإنّ العرب يطلقون عليه (الزناد). وبناءً على هذا فإنّ نار جهنّم ليس كنيران هذا العالم، لأنّها تشتعل من داخل البشر أنفسهم ومن داخل الصخور وليس فقط صخور الكبريت التي أشار إليها بعض المفسّرين، فإنّ لفظ الآية مطلق يشمل جميع أنواع الصخور. وقد اتّضح في هذا العصر أنّ كلّ قطعة من الصخور تحتوي على مليارات المليارات من الذرّات التي إذا ما تحرّرت الطاقة الكافية فيها فسينتج عن ذلك نار هائلة يصعب على الإنسان تصوّرها. وقال بعض المفسّرين: إنّ "الحجارة" عبارة عن تلك الأصنام التي كانوا يعبدونها. ويضيف القرآن قائلا: ( عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون). وبهذا لا يبقى طريق للخلاص والهروب، ولن يؤثّر البكاء والإلتماس والجزع والفزع. ومن الواضح أنّ أصحاب الأعمال والمكلّفين بتنفيذها، ينبغي أن تكون معنوياتهم وروحيّتهم تنسجم مع تلك المهام المكلّفين بتنفيذها. ولهذا يجب أن يتّصف مسؤولو العذاب والمشرفون عليه بالغلظة والخشونة، لأنّ جهنّم ليست مكاناً للرحمة والشفقة، وإنّما هي مكان الغضب الإلهي ومحلّ النقمة والسخط الإلهيين. ولكن هذه الغلظة والخشونة لا تخرج هؤلاء عن حدّ العدالة والأوامر الإلهية. إنّما: ( يفعلون ما يؤمرون) دون أيّة زيادة أو نقصان. وتساءل بعض المفسّرين حول تعبير (لا يعصون) الذي ينسجم مع القول بعدم وجود تكليف يوم القيامة. ولكن يجب الإنتباه إلى أنّ الطاعة وعدم العصيان من الاُمور التكوينية لدى الملائكة لا التشريعية. بتعبير آخر: إنّ الملائكة مجبولون على الطاعة غير مختارين، إذ لا رغبة ولا ميل لهم إلى سواها. في الآية اللاحقة يخاطب الكفّار ويصف وضعهم في ذلك اليوم العصيب بقوله: ( ياأيّها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنّما تجزون ما كنتم تعملون). قد جاءت هذه الآية بعد الآية السابقة التي خاطب بها المؤمنين، ليكون واضحاً أنّ عدم الإلتزام بأوامر الله وعدم الإهتمام بالنساء والأولاد والأهل قد تكون نتيجته وعاقبته كعاقبة الكفّار يوم القيامة. والتعبير بـ ( إنّما تجزون ما كنتم تعملون) يؤيّد هذه الحقيقة مرّة اُخرى، وهي أنّ جزاء المؤمنين يوم القيامة إنّما هو أعمالهم نفسها التي تظهر أمامهم وترافقهم. وممّا يؤيّد ذلك أيضاً التعبير الذي ورد في الآية السابقة الذي يقول إنّ نار جهنّم: ( وقودها الناس والحجارة). وممّا يجدر ذكره أنّ عدم قبول الإعتذار ناتج عن كونه نوعاً من التوبة، والتوبة لا تقبل في غير هذا العالم، سواء كان قبل دخول النار أو بعد دخولها. ويلقي القرآن الضوء في الآية اللاحقة على طريق النجاة من النار حيث يقول: ( ياأيّها الناس توبوا إلى الله توبةً نصوحاً). نعم. إنّ أوّل خطوة على طريق النجاة هي التوبة والإقلاع عن الذنب، التوبة التي يكون هدفها رضا الله والخوف منه. التوبة الخالصة من أي هدف آخر كالخوف من الآثار الإجتماعية والآثار الدنيوية للذنوب. وأخيراً التوبة التي يفارق بها الإنسان الذنب ويتركه إلى الأبد. ومن المعلوم أنّ حقيقة التوبة هي الندم على الذنب، وشرطها التصميم على الترك في المستقبل. وأمّا إذا كان العمل قابلا لأن يجبر ويعوّض فلابدّ من الجبران والتعويض، والتعبير بـ ( يكفّر عنكم) إشارة إلى هذا المعنى. وبناءً على هذا يمكننا تلخيص أركان التوبة بخمسة اُمور (ترك الذنب، الندم، التصميم على الإجتناب في المستقبل، جبران ما مضى، الإستغفار). "نصوح" من مادّة نصح، بمعنى طلب الخير بإخلاص، ولذلك يقال للعسل الخالص بأنّه (ناصح) وبما أنّ من يريد الخير واقعاً يجب أن يكون عمله توأماً للإتقان جاءت كلمة "نصح" أحياناً بهذا المعنى، ولذا يقال للبناء المتين بأنّه "نصاح" ـ على وزن كتاب ـ ويقال للخيّاط "ناصح"، وكلا المعنيين ـ أي الخلوص والمتانة ـ يجب توفّرهما في التوبة النصوح(127). وأمّا حول المعنى الحقيقي للتوبة النصوح؟ فقد وردت تفاسير مختلفة ومتعدّدة حتّى أوصلها البعض إلى 23 تفسيراً(128). غير أنّ جميع هذه التفاسير تعود إلى حقيقة واحدة وفروعها والاُمور المتعلّقة بها وشرائطها المختلفة. ومن هذه التفاسير القول بأنّ التوبة (النصوح) يجب أن تتوفّر فيها أربعة شروط: الندم الداخلي، الإستغفار باللسان، ترك الذنب، والتصميم على الإجتناب في المستقبل. وقال البعض الآخر بأنّها (أي التوبة النصوح) ذات شروط ثلاثة (الخوف من عدم قبولها، والأمل بقبولها، والإستمرار على طاعة الله. أو أنّ التوبة "النصوح" التي تجعل الذنوب دائماً أمام أعين أصحابها، ليشعر الإنسان بالخجل منها. أو أنّها تعني إرجاع المظالم والحقوق إلى أصحابها، وطلب التحليل وبراءة الذمّة من المظلومين، والمداومة على طاعة الله. أو هي التي تشتمل على اُمور ثلاثة: قلّة الأكل، قلّة القول، قلّة النوم. أو التوبة النصوح هي التي يرافقها بكاء العين، واشمئزاز القلب من الذنوب وما إلى ذلك من فروع التوبة الواقعية وهي التوبة الخالصة التامّة الكاملة. جاء في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما سأله معاذ بن جبل عن "التوبة النصوح" أجابه قائلا: "أن يتوب التائب ثمّ لا يرجع في الذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع"(129). وبهذا التعبير اللطيف يتّضح أنّ التوبة يجب أن تحدث إنقلاباً في داخل النفس الإنسانية، وتسدّ عليها أي طريق للعودة إلى الذنب، وتجعل من الرجوع أمراً مستحيلا كما يستحيل إرجاع اللبن إلى الضرع والثدي. وقد جاء هذا المعنى في روايات اُخرى، وكلّها توضّح الدرجة العالية للتوبة النصوح، فإنّ الرجوع ممكن في المراتب الدنيا من التوبة، وتتكرّر التوبة حتّى يصل الإنسان إلى المرحلة التي لا يعود بعدها إلى الذنب. ثمّ يشير القرآن الكريم إلى آثار التوبة الصادقة النصوح بقوله: ( عسى ربّكم أن يكفّر عنكم سيّئاتكم). ( ويدخلكم جنّات تجري من تحتها الأنهار). ( يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه). ( نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم) ويضيء لهم طريقهم في المحشر ويوصلهم إلى الجنّة. وهنا يتوجّهون إلى الله بطلب العفو: ( ويقولون ربّنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنّك على كلّ شيء قدير). وبذلك تكون التوبة (النصوح) لها خمس ثمرات مهمّة: الاُولى: غفران الذنوب والسيّئات. الثانية: دخول الجنّة المملوءة بنعم الله. الثالثة: عدم الفضيحة في ذلك اليوم العصيب الذي ترتفع فيه الحجب وتظهر فيه حقائق الأشياء، ويفتضح الكاذبون الفجّار. نعم في ذلك اليوم سيكون للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين شأن عظيم، لأنّهم لم ولن يقولوا إلاّ ما هو واقع. الرابع: أنّ نور إيمانهم وعملهم يتحرّك بين أيديهم فيضيء طريقهم إلى الجنّة. (واعتبر بعض المفسّرين أنّ "النور" الذي يتحرّك أمامهم إنّما هو نور العمل، وكان لنا تفسير آخر أوردناه في ذيل الآية 12 من سورة الحديد). الخامس: يتجهون إلى الباري أكثر من ذي قبل، ويرجونه تكميل نورهم والغفران الكامل لذنوبهم. * * * ملاحظات 1 ـ تعليم وتربية العائلة من الواضح أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عامّة على جميع الناس ولا تخصّ بعضاً دون آخر. غير أنّ مسؤولية الإنسان تجاه زوجته وأبنائه أكد من غيرها وأشدّ إلزاماً، كما يتجلّى ذلك بشكل واضح من الروايات الواردة في مصادر عديدة، وكذلك الآيات السابقة التي تدعو الإنسان لأن يبذل أقصى جهده لتربية أهله وتعليمهم، ونهيهم عن إرتكاب الذنوب وحثّهم على اكتساب الخيرات، ولا ينبغي عليه أن يقنع ويكتفي بتوفير الغذاء الجسمي لهم. وبما أنّ المجتمع عبارة عن عدد معيّن من وحدات صغيرة تدعى "العائلة" فإنّ الإهتمام بالعائلة وتربيتها تربية إسلامية صحيحة سيجعل أمر إصلاح المجتمع أسهل وأيسر. وتبرز هذه المسؤولية أكثر وتكتسب أهميّة خاصّة في العصر الراهن، حيث تجتاح المجتمع موجات من الفساد والضلال الخطرة، وتحتاج إلى وضع برنامج دقيق ومدروس لتربية العائلة لمواجهة هذه الموجات دون التأثّر بها والإنجراف مع تيارها. فنار الآخرة ليست هي النار الوحيدة التي يكون مصدرها الإنسان نفسه ومن داخله، بل نار الدنيا هي الاُخرى تستمدّ وجودها من هذا الإنسان، لهذا يجب على كلّ إنسان أن يقي نفسه وعائلته من هذه النار. جاء في الحديث أنّ أحد الصحابة سأل النبي بعد نزول الآية السابقة: كيف أقي أهلي ونفسي من نار جهنّم، فأجابه (صلى الله عليه وآله وسلم): "تأمرهم بما أمر الله، وتنهاهم عمّا نهاهم الله، إن أطاعوك كنت قد وقيتهم، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك"(130). وفي حديث آخر جامع ولطيف عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "ألا كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته، فالأمير على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على أهل بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، ألا فكلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته"(131). ونختم هذا البحث بحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير هذه الآية قال فيه: "علّموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم"(132). 2 ـ التوبة باب إلى رحمة الله كثيراً ما تهجم على الإنسان الذنوب واللوابس ـ خاصّة في بدايات توجّهه وسلوكه إلى الله ـ وإذا أغلقت جميع أبواب العودة والرجوع بوجهه، فإنّه سيبقى في نهجه هذا إلى الأبد، ولهذا نجد الإسلام قد فتح باباً للعودة وسمّاه "التوبة"، ودعا جميع المذنبين والمقصّرين إلى دخول هذا الباب لتعويض وجبران الماضي. يقول الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) في مناجاة التائبين: "إلهي أنت الذي فتحت لعبادك باباً إلى عفوك سمّيته التوبة، فقلت ( توبوا إلى الله توبة نصوحاً) فما عذر من أغفل دخول الباب بعد فتحه !!"(133). وقد شدّدت الروايات على أهميّة التوبة إلى الحدّ الذي نقرأ في الحديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "إنّ الله تعالى أشدّ فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلّ راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها"(134). كلّ هذه الروايات العظيمة تحثّ وتؤكّد على هذا الأمر الحياتي المهمّ. لكن ينبغي التأكيد على أنّ التوبة ليست مجرّد (لقلقة لسان) وتكرار قول (استغفر الله) وإنّما للتوبة شروط وأركان مرّت الإشارة إليها في تفسير التوبة النصوح في الآيات السابقة. وكلّما تحقّقت التوبة بتلك الشروط والأركان فإنّها ستؤتي ثمارها وتعفي آثار الذنب من قلب وروح الإنسان تماماً، ولذا ورد في الحديث عن الإمام الباقر(عليه السلام): "التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزء"(135). وقد وردت بحوث اُخرى عن التوبة في ذيل الآية (17) من سورة النساء وفي ذيل الآية (53) من سورة الزمر. * * * الآيات يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ جَـهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَـفِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَيـهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوح وَامْرَأَتَ لُوط كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَـلِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّـلِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَـتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَـنِتِينَ (12) التّفسير نماذج من النساء المؤمنات والكافرات: بما أنّ المنافقين يفرحون لإفشاء أسرار الرّسول وإذاعة الأخبار الداخلية عن بيته، ويرحبون ببروز المشاجرات والإختلافات بين زوجاته ـ التي مضت الإشارة إليها في الآيات السابقة ـ بل إنّهم كانوا يساهمون في إشاعة تلك الأخبار وإذاعتها بشكل أوسع، نظراً لكلّ ذلك فقد خاطب القرآن الكريم الرّسول بأن يشدّد على المنافقين والكافرين ويغلّظ عليهم. حيث يقول: ( ياأيّها النبي جاهد الكفّار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنّم وبئس المصير). الجهاد ضدّ الكفّار قد يكون مسلّحاً أو غير مسلّح، أمّا الجهاد ضدّ المنافقين فإنّه بدون شكّ جهاد غير مسلّح، لأنّ التاريخ لم يحدّثنا أبداً عن أنّ الرّسول خاض مرّة معركة مسلّحة ضدّ المنافقين. لهذا ورد في الحديث عن الإمام الصادق(عليه السلام): "إنّ رسول الله لم يقاتل منافقاً قطّ إنّما يتألّفهم"(136). وبناءً على ذلك فإنّ المراد من الجهاد ضدّ المنافقين إنّما هو توبيخهم وإنذارهم وتحذيرهم، بل وتهديدهم وفضحهم، أو تأليف قلوبهم في بعض الأحيان. فللجهاد معنى واسع يشمل جميع ذلك. والتعبير بـ "أغلظ عليهم" إشارة إلى معاملتهم بخشونة وفضحهم وتهديدهم، وما إلى ذلك. ويبقى هذا التعامل الخاصّ مع المنافقين، أي عدم الصدام المسلّح معهم، ما داموا لم يحملوا السلاح ضدّ الإسلام وذلك بسبب أنّهم مسلمون في الظاهر، وتربطهم بالمسلمين روابط كثيرة لا يمكن معها محاربتهم كالكفّار، أمّا إذا حملوا السلاح فيجب أن يقابلوا بالمثل، لأنّهم سوف يتحوّلون إلى (محاربين). ولم يحدث مثل ذلك أيّام حياة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لكنّه حدث في خلافة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حيث خاض ضدّهم معركة مسلّحة. وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المقصود من "الجهاد ضدّ المنافقين" الذي ورد ذكره في الآية السابقة هو إجراء الحدود الشرعية بحقّهم، فإنّ أكثر الذين كانوا تجرى عليهم الحدود هم من المنافقين. ولكن لا دليل على ذلك، كما لا دليل على أنّ الحدود كانت تجرى على المنافقين غالباً. الجدير بالذكر أنّ الآية السابقة وردت أيضاً وبنفس النصّ في سورة التوبة الآية 73. ومن أجل أن يعطي الله تعالى درساً عملياً حيّاً إلى زوجات الرّسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) عاد مرّة اُخرى يذكر بالعاقبة السيّئة لزوجتين غير تقيتين من زوجات نبيين عظيمين من أنبياء الله، وكذلك يذكر بالعاقبة الحسنة والمصير الرائع لامرأتين مؤمنتين مضحيّتين كانتا في بيتين من بيوت الجبابرة، حيث يقول أوّلا: ( ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما، فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين)(137). وبناءً على هذا فإنّ القرآن يحذّر زوجتي الرّسول اللتين اشتركتا في إذاعة سرّه، بأنّكما سوف لن تنجوا من العذاب لمجرّد كونكما من أزواج النبي كما فعلت زوجتا نوح ولوط فواجهتا العذاب الإلهي. كما تتضمّن الآيات الشريفة تحذيراً لكلّ المؤمنين بأنّ القرب من أولياء الله والإنتساب إليهم لا يكفي لمنع نزول عذاب الله ومجازاته. وورد في كلمات بعض المفسّرين أنّ زوجة نوح كانت تدعى "والهة" وزوجة لوط "والعة"(138) بينما ذكر آخرون عكس ذلك أي أنّ زوجة لوط اسمها (والهة) وزوجة نوح اسمها (والعة)(139). وعلى أيّة حال فإنّ هاتين المرأتين خانتا نبيّين عظيمين من أنبياء الله. والخيانة هنا لا تعني الإنحراف عن جادّة العفّة والنجابة، لأنّهما زوجتا نبيّين ولا يمكن أن تخون زوجة نبي بهذا المعنى للخيانة، فقد جاء عن الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم): "ما بغت امرأة نبي قطّ". كانت خيانة زوجة لوط هي أن أفشت أسرار هذا النبي العظيم إلى أعدائه، وكذلك كانت زوجة نوح (عليه السلام). وذهب الراغب في "المفردات" إلى أنّ للخيانة والنفاق معنىً واحداً وحقيقة واحدة، ولكن الخيانة تأتي في مقابل العهد والأمانة، والنفاق يأتي في الاُمور الدينية وما تقدّم من سبب النزول ومشابهته لقصّة هاتين المرأتين توج ب كون المقصود من الخيانة هنا هو نفس هذا المعنى. وعلى كلّ حال فإنّ الآية السابقة تبدّد أحلام الذين يرتكبون ما شاء لهم أن يرتكبوا من الذنوب ويعتقدون أنّ مجرّد قربهم من أحد العظماء كاف لتخليصهم من عذاب الله، ومن أجل أن لا يظنّ أحد أنّه ناج من العذاب لقربه من أحد الأولياء، جاء في نهاية الآية السابقة: ( فلم يغنينا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين). ثمّ يذكر القرآن الكريم نموذجين مؤمنين صالحين فيقول: ( وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون). من المعروف أنّ اسم زوجة فرعون (آسية) واسم أبوها (مزاحم) وقد آمنت منذ أن رأت معجزة موسى (عليه السلام) أمام السحرة، واستقرّ قلبها على الإيمان، لكنّها حاولت أن تكتم إيمانها، غير أنّ الإيمان برسالة موسى وحبّ الله ليس شيئاً يسهل كتمانه، وبمجرّد أن اطّلع فرعون على إيمانها نهاها مرّات عديدة وأصرّ عليها أن تتخلّى عن رسالة موسى وربّه، غير أنّ هذه المرأة الصالحة رفضت الإستسلام إطلاقاً. وأخيراً أمر فرعون أن تُثبت يداها ورجلاها بالمسامير، وتترك تحت أشعة الشمس الحارقة، بعد أن توضع فوق صدرها صخرة كبيرة. وفي تلك اللحظات الأخيرة كانت امرأة فرعون بهذا الدعاء إذ قالت: ( ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنّة ونجّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين) وقد استجاب لها ربّها وجعلها من أفضل نساء العالم إذ يذكرها في صفّ مريم. في رواية عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم): "أفضل نساء أهل الجنّة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد ومريم بنت عمران، وآسيا بنت مزاحم امرأة فرعون"(140). ومن الطريف أنّ امرأة فرعون كانت تستصغر بيت فرعون ولا تعتبره شيئاً مقابل بيت في الجنّة وفي جواره تعالى، وبذلك أجابت على نصائح الناصحين في أنّها ستخسر كلّ تلك المكاسب وتحرم من منصب الملكة (ملكة مصر) وما إلى ذلك. لسبب واحد هو أنّها آمنت برجل راع كموسى. وفي عبارة ( ونجّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين) تضرب مثلا رائعاً للمرأة المؤمنة التي ترفض أن تخضع لضغوط الحياة، أو تتخلّى عن إيمانها مقابل مكاسب زائلة في هذه الدنيا. لم تستطع بهارج الدنيا وزخارفها التي كانت تنعم بها في ظلّ فرعون، والتي بلغت حدّاً ليس له مثيل. لم تستطع كلّ تلك المغريات أن تثنيها عن نهج الحقّ، كما لم تخضع أمام الضغوط وألوان العذاب التي مارسها فرعون. وقد واصلت هذه المرأة المؤمنة طريقها الذي إختارته رغم كلّ الصعاب واتّجهت نحو الله معشوقها الحقيقي. وتجدر الإشارة إلى أنّها كانت ترجو أن يبني الله لها بيتاً عنده في الجنّة لتحقيق بعدين ومعنيين: المعنى المادّي الذي أشارت إليه بكلمة "في الجنّة"، والبعد المعنوي وهو القرب من الله "عندك" وقد جمعتهما في عبارة صغيرة موجزة. ثمّ يضرب الله تعالى مثلا آخر للنساء المؤمنات الصالحات، حيث يقول جلّ من قائل: ( ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا)(141). فهي امرأة لا زوج لها أنجبت ولداً صار نبيّاً من أنبياء الله العظام (من اُولي العزم). ويضيف تعالى قائلا: ( وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه) و ( كانت من القانتين). كانت في القمّة من حيث الإيمان، إذ آمنت بجميع الكتب السماوية والتعاليم الإلهية، ثمّ إنّها كانت قد أخضعت قلبها لله، وحملت قلبها على كفّها وهي على أتمّ الإستعداد لتنفيذ أوامر الباري جلّ شأنه. ويمكن أن يكون التعبير بـ (الكتب) إشارة إلى كلّ الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء، بينما التعبير بـ (كلمات) إشارة إلى الوحي الذي لا يكون على شكل كتاب. ونظراً لرفعة مقام مريم وشدّة إيمانها بكلمات الله، فقد وصفها القرآن الكريم في الآية (75) من سورة المائدة (صدّيقة). وقد أشار القرآن إلى مقام هذه المرأة العظيمة في آيات عديدة، منها ما جاء في السورة التي سمّيت باسمها أي (سورة مريم). على أيّة حال فإنّ القرآن الكريم تصدّى للشبهات التي أثارها بعض اليهود المجرمين حول شخصية هذه المرأة العظيمة، ونفى عنها كلّ التّهم الرخيصة حول عفافها وطهارتها وكلّ ما يتعلّق بشخصيتها الطاهرة. والتعبير بـ ( ونفخنا فيه من روحنا) لإظهار عظمة وعلو هذه الروح، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً. أو بعبارة اُخرى: إنّ إضافة كلمة (روح) إلى "الله" إضافة تشريفية لبيان عظمة شيء مثل إضافة "بيت" إلى "الله". ومن الغريب ما كتبه بعض المفسّرين من إعتبارهم عائشة أفضل النساء، وأنّها أعظم من غيرها من النساء ذوات القدر الكبير والشأن عند الله. ولقد كان حريّاً بهم أن لا يتطرّقوا إلى هذا الحديث في هذه السورة، التي نزلت لتعلن خلاف ما ذهبوا إليه وبشكل صريح لا يقبل الجدل. فإنّ كثيراً من مفسّري ومؤرّخي أهل السنّة أكّدوا على أنّ اللوم والتوبيخ اللذين وردا في الآيات السابقة كانا موجّهين إلى زوجتي الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) "حفصة" و "عائشة" ومنها ما جاء في صحيح البخاري الجزء السادس صفحة 195 ونحن ندعو بهذه المناسبة أهل التفكير الحرّ جميعاً لأن يعيدوا تلاوة آيات هذه السورة ثمّ ليتعرّفوا على قيمة وجدارة مثل هذه الأحاديث. اللهمّ جنّبنا الحبّ الأعمى والبغض الأعمى الذي لا يقوم على البرهان بقدر ما يقوم على العصبية، واجعلنا من المستسلمين الخاضعين بكلّ وجودنا إلى آيات قرآنك المجيد. ربّنا ولا تجعلنا من الذين غضب عليهم الرّسول فلم يرض أعمالهم وطريقة حياتهم. اللهمّ هب لنا إستقامة لا نتأثّر معها بالضغوط، ولا نخضع لعذاب الفراعنة وجبابرة العصر. آمين ربّ العالمين نهاية سورة التحريم * * * بدايَة الجزء التاسع و العشرون مِنَ القُرآن الكريم سُورة المُلك مكيّة وعدد آياتِها ثلاثُون آية "سورة الملك" محتوى سورة الملك: تمثّل هذه السورة بداية الجزء التاسع والعشرين من القرآن الكريم، وهي من السور التي نزلت جميع آياتها في مكّة المكرّمة على المشهور، كما هو شأن غالبية سور هذا الجزء، إن لم يكن جميعها كما يذهب إلى ذلك بعض المفسّرين(142)، بخلاف ما عليه سور الجزء السابق حيث كانت مدنية. ولكن كما سنرى لاحقاً أنّ سورة الدهر (سورة الإنسان) من السور المدنية. وتسمّى سورة الملك أيضاً بـ (المنجية)، وكذلك تسمّى بـ (الواقية) أو (المانعة) بلحاظ أنّها تحفظ الإنسان الذي يتلوها من العذاب الإلهي أو عذاب القبر، وهي من السور التي لها فضائل عديدة، وقد طرحت في هذه السورة مسائل قرآنية مختلفة، إلاّ أنّ الأصل فيها يدور حول ثلاثة محاور هي: 1 ـ أبحاث حول المبدأ، وصفات الله سبحانه، ونظام الخلق العجيب والمدهش، خصوصاً خلق السموات والنجوم والأرض وما فيها من كنوز عظيمة .. وكذلك ما يتعلّق بخلق الطيور والمياه الجارية والحواس كالاُذن والعين، بالإضافة إلى وسائل المعرفة الاُخرى. 2 ـ وفي المحور الثاني تتحدّث الآيات الكريمة عن المعاد وعذاب الآخرة، والحوار الذي يدور بين ملائكة العذاب الإلهي وأهل جهنّم، بالإضافة إلى اُمور اُخرى في هذا الصدد. 3 ـ وأخيراً فإنّ آيات المحور الثالث تدور حول التهديد والإنذار الإلهي بألوان العذاب الدنيوي والاُخروي للكفّار والظالمين. ويذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المحور الأساس لجميع هذه السورة يدور حول مالكية الله سبحانه وحاكميته والتي وردت في أوّل آية منها(143). فضيلة تلاوة السورة: نقلت روايات عديدة عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) في فضيلة تلاوة هذه السورة نقرأ منها ما يلي: عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "من قرأ سورة تبارك فكإنّما أحيى ليلة القدر"(144). وجاء في حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "وددت أن تبارك الملك في قلب كلّ مؤمن"(145). وجاء في حديث عن الإمام محمّد بن علي الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "سورة الملك هي المانعة، تمنع من عذاب القبر، وهي مكتوبة في التوراة سورة الملك، ومن قرأها في ليلة فقد أكثر وأطاب ولم يكتب من الغافلين"(146). والأحاديث كثيرة في هذا المجال. ومن الطبيعي أنّ جميع هذه الآثار العظيمة لا تكون إلاّ من خلال التدبّر في قراءة آيات هذه السورة والعمل بها، والإستلهام من محتوياتها في الممارسات الحياتية المختلفة. * * * الآيات تَبَـرَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ (1) الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَوةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَـوَت طِبَاقاً مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَـنِ مِن تَفَـوُت فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُور (3)ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ(4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَبِيحَ وَجَعَلْنَـهَا رُجُوماً لِّلشَّيَـطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) التّفسير عالم الوجود المتكامل: تبدأ آيات هذه السورة بمسألة مالكية وحاكمية الله سبحانه، وخلود ذاته المقدّسة، وهي في الواقع مفتاح جميع أبحاث هذه السورة المباركة(147). يقول تعالى: ( تبارك الذي بيده الملك وهو على كلّ شيء قدير). "تبارك": من مادّة (بركة) في الأصل من (برك) على وزن (ترك) بمعنى (صدر البعير)، وعندما يقال: (برك البعير) يعني وضع صدره على الأرض. ثمّ استعملت الكلمة بمعنى الدوام والبقاء وعدم الزوال، وأطلقت كذلك على كلّ نعمة باقية ودائمة، ومن هنا يقال لمحلّ خزن الماء (بركة) لأنّ الماء يبقى فيها مدّة طويلة. وقد ذكرت الآية أعلاه دليلا ضمنيّاً على أنّ الذات الإلهية مباركة، وهو مالكيته وحاكميته على الوجود، وقدرته على كلّ شيء، ولهذا السبب فإنّ وجوده تعالى كثير البركة ولا يعتريه الزوال. ثمّ يشير سبحانه في الآية اللاحقة إلى الهدف من خلق الإنسان وموته وحياته، وهي من شؤون مالكيته وحاكميته تعالى فيقول: ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملا). "الموت": حقيقته الإنتقال من عالم إلى عالم آخر، وهذا الأمر وجودي يمكن أن يكون مخلوقاً، لأنّ الخلقة ترتبط بالاُمور الوجودية، وهذا هو المقصود من الموت في الآية الشريفة، أمّا الموت بمعنى الفناء والعدم فليس مخلوقاً، لذا فإنّه غير مقصود. ثمّ إنّ ذكر الموت هنا قبل الحياة هو بلحاظ التأثير العميق الذي يتركه الإلتفات إلى الموت، وما يترتّب على ذلك من سلوك قويم وأعمال مقترنة بالطاعة والإلتزام، إضافة إلى أنّ الموت كان في حقيقته قبل الحياة. أمّا الهدف من الإمتحان فهو تربية الإنسان كي يجسّد الإستقامة والتقوى والطهر في الميدان العملي ليكون لائقاً للقرب من الله سبحانه، وقد بحثنا ذلك مفصّلا فيما سبق(148). كما أنّ الجدير بالملاحظة في قوله "أحسن عملا" هو التأكيد على جانب (حسن العمل)، ولم تؤكّد الآية على كثرته، وهذا دليل على أنّ الإسلام يعير إهتماماً (للكيفية) لا (للكميّة)، فالمهمّ أن يكون العمل خالصاً لوجهه الكريم، ونافعاً للجميع حتّى ولو كان محدود الكمية. لذا ورد في تفسير (أحسن عملا)، روايات عدّة، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "أتمّكم عقلا، أشدّكم لله خوفاً، وأحسنكم فيما أمر الله به، ونهى عنه نظراً، وإن كان أقلّكم تطوّعاً"(149). حيث أنّ العقل الكامل يطهّر العمل، ويجعل النيّة أكثر خلوصاً لله عزّوجلّ ويضاعف الأجر. وجاء في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال حول تفسير (أحسن عملا): "ليس يعني أكثر عملا، ولكن أصوبكم عملا، وإنّا الإصابة خشية الله والنيّة الصادقة. ثمّ قال: الإبقاء على العمل حتّى يخلص، أشدّ من العمل، والعمل الخالص هو الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلاّ الله عزّوجلّ"(150). وتحدّثنا في تفسير الآية: ( وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون)(151)، وقلنا: أنّ الهدف من خلق الإنسان في تلك الآية هو العبودية لله عزّوجلّ، وهنا نجد الهدف: (إختباره بحسن العمل). وممّا لا شكّ فيه أنّ مسألة الإختبار والإمتحان لا تنفكّ عن مسألة العبودية لله سبحانه، كما أنّ لكمال العقل والخوف من الله تعالى والنيّة الخالصة لوجهه الكريم ـ والتي اُشير لها في الروايات أعلاه، أثراً في تكامل روح العبودية. ومن هنا نعلم أنّ العالم ميدان الإمتحان الكبير لجميع البشر، ووسيلة هذا الإمتحان هو الموت والحياة، والهدف منه هو الوصول إلى حسن العمل الذي مفهومه تكامل المعرفة، وإخلاص النيّة، وإنجاز كلّ عمل خيّر. وإذا لاحظنا أنّ بعض المفسّرين فسّر (أحسن عملا) بمعنى ذكر الموت أو التهيّؤ وما شابه ذلك، فإنّ هذا في الحقيقة إشارة إلى مصاديق من المعنى الكلّي. وبما أنّ الإنسان يتعرّض لأخطاء كثيرة في مرحلة الإمتحان الكبير الذي يمرّ به، فيجدر به ألاّ يكون متشائماً ويائساً من عون الله سبحانه ومغفرته له، وذلك من خلال العزم على معالجة أخطائه ونزواته النفسية وإصلاحها، حيث يقول تعالى: ( وهو العزيز الغفور). نعم، إنّه قادر على كلّ شيء، وغفّار لكلّ من يتوب إليه. وبعد إستعراض نظام الموت والحياة الذي تناولته الآية السابقة، تتناول الآية اللاحقة النظام الكلّي للعالم، وتدعو الإنسان إلى التأمّل في عالم الوجود، والتهيّؤ لمخاض الإمتحان الكبير عن طريق التدبّر في آيات هذا الكون العظيم، يقول تعالى: ( الذي خلق سبع سموات طباقاً). بالنسبة إلى موضوع السموات السبع فقد استعرضنا شيئاً حولها في تفسير الآية (12) من سورة الطلاق، ونضيف هنا أنّ المقصود من (طباقاً) هو أنّ السموات السبع، كلا منها فوق الاُخرى، إذ أنّ معنى (المطابقة) في الأصل هو الشيء فوق شيء آخر. ويمكن إعتبار "السموات السبع" إشارة إلى الكرات السبع للمنظومة الشمسية، والتي يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة، حيث تبعد كلّ منها مسافة معيّنة عن الشمس أو تكون كلّ منها فوق الاُخرى. أمّا إذا اعتبرنا أنّ جميع ما نراه من النجوم الثابتة والسيارة ضمن السماء الاُولى، فيتّضح لنا أنّ هنالك عوالم اُخرى في المراحل العليا، حيث أنّ كلّ واحد منها يكون فوق الآخر. ثمّ يضيف سبحانه: ( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت). إنّ الآية أعلاه تبيّن لنا أنّ عالم الوجود ـ بكلّ ما يحيطه من العظمة ـ قائم وفق نظام مستحكم، وقوانين منسجمة، ومقادير محسوبة، ودقّة متناهية، ولو وقع أي خلل في جزء من هذا العالم الفسيح لأدّى إلى دماره وفنائه. وهذه الدقّة المتناهية، والنظام المحيّر، والخلق العجيب، يتجسّد لنا في كلّ شيء، ابتداء من الذرّة الصغيرة وما تحويه من الإلكترونات والنيوترونات والبروتونات، وانتهاءً بالنظم الحاكمة على جميع المنظومة الشمسية والمنظومات الاُخرى، كالمجرّات وغيرها .. إذ أنّ جميع ذلك يخضع لسيطرة قوانين متناهية في الدقّة، ويسير وفق نظام خاصّ. وخلاصة القول أنّ كلّ شيء في الوجود له قانون وبرنامج، وكلّ شيء له نظام محسوب. ثمّ يضيف تعالى مؤكّداً: ( فارجع البصر هل ترى من فطور). "فطور" من مادّة (فطر)، على وزن (سطر) بمعنى الشقّ من الطول، كما تأتي بمعنى الكسر (كإفطار الصيام) والخلل والإفساد، وقد جاءت بهذا المعنى في الآية مورد البحث. ويقصد بذلك أنّ الإنسان كلّما دقّق وتدبّر في عالم الخلق والوجود، فإنّه لا يستطيع أن يرى أي خلل أو اضطراب فيه. لذا يضيف سبحانه مؤكّداً هذا المعنى في الآية اللاحقة حيث يقول: ( ثمّ ارجع البصر كرّتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير). "كرّتين" من مادّة (كر) على وزن (شرّ) بمعنى التوجّه والرجوع إلى شيء معيّن، و (كرّة) بمعنى التكرار و (كرّتين) مثنّاها. إلاّ أنّ بعض المفسّرين ذكر أنّ المقصود من الـ (كرّتين) هنا ليس التثنية، بل الإلتفات والتوجّه المتكرّر المتعاقب والمتعدّد. وبناءً على هذا فإنّ القرآن الكريم يأمر الناس في هذه الآيات أن يتطلّعوا ويتأمّلوا ويدقّقوا النظر في عالم الوجود ثلاث مرّات ـ كحدّ أدنى ـ ويتدبّروا أسرار الخلق. وبمعنى آخر فإنّ على الإنسان أن يدقّق في خلق الله سبحانه مرّات ومرّات، وعندما لا يجد أي خلل أو نقص في هذا النظام العجيب والمحيّر لخلق الكون، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى معرفة خالق هذا الوجود العظيم ومدى علمه وقدرته اللامتناهية، ممّا يؤدّي إلى عمق الإيمان به سبحانه والقرب من حضرته المقدّسة. "خاسىء" من مادّة (خسأ) و (خسوء) على وزن (مدح، وخشوع) وإذا كان مورد إستعمالها العين، فيقصد بهما التعب والعجز، أمّا إذا استعملت للكلب فيقصد منها طرده وإبعاده. "حسير" من مادّة (حسر)، على وزن (قصر) بمعنى جعل الشيء عارياً، وإذا ما فقد الإنسان قدرته وإستطاعته بسبب التعب، فإنّه يكون عارياً من قواه، لذا فإنّها جاءت بمعنى التعب والعجز. وبناءً على هذا فإنّ كلمتي (خاسىء) و (حسير) اللتين وردتا في الآية أعلاه، تعطيان معنى واحداً في التأكيد على عجز العين، وبيان عدم مقدرتها على مشاهدة أي خلل أو نقص في نظام عالم الوجود. وفرّق البعض بين معنى الكلمتين، إذ قال: إن (خاسىء) تعني المحروم وغير الموفّق، و (حسير) بمعنى العاجز. وعلى كلّ حال فيمكن إستنتاج أساسين من الآيات المتقدّمة: الأوّل: أنّ القرآن الكريم يأمر جميع السائرين في درب الحقّ أن يتدبّروا ويتأمّلوا كثيراً في أسرار عالم الوجود وما فيه من عجائب الخلق، وأن لا يكتفوا بالنظر إلى هذه المخلوقات مرّة واحدة أو مرّتين، حيث أنّ هنالك أسراراً كثيرة وعظيمة لا تتجلّى ولا تظهر من خلال النظرة الاُولى أو الثانية. بل تستدعي النظر الثاقب والمتعاقب والدقّة الكثيرة، حتّى تتّضح الأسرار وتتبيّن الحقائق. الأمر الثّاني: الذي يتبيّن لنا من خلال التدقيق في هذا النظام، هو إدراك طبيعة الإنسجام العظيم بين مختلف جوانب الوجود، بالإضافة إلى خلوه من كلّ نقص وعيب وخلل. وإذا ما لوحظ في النظرة الأوّلية لبعض الظواهر الموجودة في هذا العالم (كالزلازل والسيول، والأمراض، والكوارث الطبيعية الاُخرى، والتي تصيب البشر أحياناً في حياتهم) واعتبرت شروراً وآفات وفساداً، فإنّه من خلال الدراسات والتدقيقات المتأمّلة يتبيّن لنا أنّ هذه الاُمور هي الاُخرى تمثّل أسراراً أساسية غاية في الدقّة(152). إنّ لهذه الآيات دلالة واضحة على دقّة النظام الكوني، حيث معناها أنّ وجود النظام في كلّ شيء دليل على وجود العلم والقدرة على خلق ذلك الشيء، وإلاّ، فإنّ حصول حوادث عشوائية غير محسوبة لا يمكن أبداً أن تكون منطلقاً للنظام ومبدأ للحساب. يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث مفضّل المعروف عنه "إنّ الإهمال لا يأتي بالصواب، والتضادّ لا يأتي بالنظام"(153). ثمّ تتناول الآية التالية صفحة السماء التي يتجسّد فيها الجمال والروعة، حيث النجوم المتلألئة في جوّ السماء، المشعّة بضوئها الساحر في جمال ولطافة، حيث يقول سبحانه: ( ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير). إنّ نظرة متأمّلة في ليلة مظلمة خالية من الغيوم إلى جوّ السماء المليء بالنجوم كاف لإثارة الإنتباه فينا إلى تلك العوالم العظيمة، وخاصّة طبيعة النظم الحاكمة عليها، والروعة المتناهية في جمالها ولطافتها وعظمتها، وسكونها المقترن بالأسرار العجيبة، والهيبة التي تلقي بظلالها على جميع العوالم، ممّا يجعل الإنسان أمام عالم مليء بالمعرفة ونور الحقّ، ويدفعه باتّجاه عشق الباريء عزّوجلّ الذي لا يمكن وصفه والتعبير عنه بأي لسان. وتؤكّد الآية الكريمة ـ مرّة اُخرى ـ الحقيقة القائلة بأنّ جميع النجوم التي نشاهدها ما هي إلاّ جزء من السماء الاُولى، والتي هي أقرب إلينا من أي سماء اُخرى من السموات السبع، لذا أطلق عليها اسم (السماء الدنيا) أي السماء القريبة والتي هي أسفل جميع السموات الاُخرى. "الرجوم" بمعنى (الرصاص) وهي إشارة إلى الشهب التي تقذف كرصاصة من جهة إلى اُخرى من السماء، كما أنّ (الشهب) هي بقايا النجوم المتلاشية والتي تأثّرت بحوادث معيّنة، وبناءً على هذا، فإنّ المقصود بجعل الكواكب رجوماً للشياطين، هو هذه الصخور المتبقّية. أمّا كيفية رجم الشياطين برصاصات الشهب (الأحجار الصغيرة) التي تسير بصورة غير هادفة في جو السماء، فقد بيّناه بشكل تفصيلي في التّفسير الأمثل في تفسير الآية (18) من سورة الحجر، وكذلك في تفسير الآية (20) من سورة الصافات. * * * ملاحظة عظمة عالم الخلق: بالرغم من أنّ القرآن الكريم نزل في مجتمع الجاهلية والتأخّر .. إلاّ أنّنا عندما نلاحظ آياته نراها غالباً ما تدعو المسلمين إلى التفكّر والتأمّل بالأسرار العظيمة التي يزخر بها عالم الوجود، الأمر الذي لم يكن مفهوماً في ذلك العصر، وهذا دليل واضح على أنّ القرآن الكريم صادر من مبدأ آخر، وأنّ العلم والمعارف الإنسانية كلّما تقدّمت فإنّها تؤكّد عظمة القرآن الكريم أكثر فأكثر. فالكرة الأرضية التي نعيش عليها ـ مع كبر حجمها وسعتها ـ صغيرة في مقابل مركز المنظومة الشمسية (قرص الشمس)، بحيث أنّها تساوى مليون ومائتي ألف كرة أرضية مثل أرضنا. هذا من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّ منظومتنا الشمسية جزء من مجرّة عظيمة، يطلق عليها اسم "درب التبانة"(154). وطبقاً لحسابات العلماء الفكليين فإنّه يوجد في مجرتنا فقط (000/000/000/100) ـ مائة مليارد ـ نجمة، حيث تكون الشمس ومع ما عليها من عظمة إحدى نجومها المتوسطة. ومن جهة ثالثة فإنّ في هذا العالم الواسع مجرّات كثيرة إلى حدّ أنّها تخرج عن الحساب والعدد، وكلّما تطوّرت التلسكوبات الفلكية العظيمة تمّ كشف مجرّات اُخرى عديدة. فما أعظم قدرة هذا الربّ الذي وضع هذه الأسرار الكبيرة مع ذلك النظام الدقيق "العظمة لله الواحد القهّار". * * * الآيات وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِىَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِن شَىْء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَـل كَبِير (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَـبِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لاَِّصْحَـبِ السَّعِيرِ (11) التّفسير لو كنّا نسمع أو نعقل: كان الحديث في الآيات السابقة عن معالم العظمة والقدرة الإلهية ودلائلها في عالم الوجود، أمّا في الآيات مورد البحث فإنّه تعالى يتحدّث عن الأشخاص الذين يعرضون ويتنكّبون عن أدلّة الحقّ، ويكابرون في تحدّي البراهين الدامغة، ويسلكون طريق الكفر والشرك، ويقذفون أنفسهم كالشياطين في اُتون العذاب الإلهي. يقول تعالى في البداية: ( وللذين كفروا بربّهم عذاب جهنّم وبئس المصير). ثمّ يستعرض توضيحاً لهذا اللون من العذاب الرهيب فيقول تعالى: ( إذا أُلقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور). نعم، إنّهم عندما يلقون فيها بمنتهى الذلّ والحقارة تقترن حالة إلقائهم بصدور صوت مرعب وشديد من جهنّم، حيث يسيطر الرعب والخوف على جميع وجودهم. "شهيق" في الأصل بمعنى صوت قبيح ومنكر كصوت الحمار، ويقال أنّه مأخوذ من مادّة (شهوق) بمعنى كونه طويلا (لذا يطلق على الجبل العالي بأنّه شاهق) ومن هنا فإنّه (شهيق) جاءت بمعنى الأنين الطويل. وقال البعض: إنّ (الزفير) هو الصوت الذي يتردّد في الحلق، أمّا (الشهيق) فهو الصوت الذي يتردّد في الصدر، وفي كلّ الأحوال فإنّها إشارة إلى الأصوات المرعبة والمؤلمة. ثمّ يضيف تعالى مستعرضاً شدّة غضب (جهنّم) وشدّة هيجانها وإنزعاجها بقوله تعالى: ( تكاد تميّز من الغيظ)(155). إنّها حرارة هائلة جدّاً ونار حارقة مزمجرة كما لو وضعنا إناء كبير على نار محتدمة فانّه لا يلبث أن يفور ويغلي بشكل يكاد فيه أن يتلاشى ويذوب، أو كإنسان يكاد أن يتفجّر من شدّة الغضب والثورة والإنفعال، هكذا هو منظر جهنّم، مركز الغضب الإلهي. ثمّ يستمرّ تعالى بقوله: ( كلّما اُلقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير). فلماذا إذن أوقعتم أنفسكم في هذا المصير البائس، وهذا البلاء العظيم والساعة الرهيبة، إنّ الملائكة (خزنة جهنّم) يستغربون ويكادون أن يصعقوا لما أصابكم وما أوقعتم به أنفسكم، في مثل هذه الداهية مع الوعي الذي حباكم به الله سبحانه وما تفضّل به عليكم من نعمة الرسل الإلهيين والقادة من الأنبياء والمرسلين .. فكيف اخترتم لأنفسكم مقرّاً كهذا؟ ( قالوا بلى قد جاءنا نذير، فكذّبنا وقلنا ما نزّل الله من شيء إن أنتم إلاّ في ضلال كبير). وهكذا يأتي الإعتراف: نعم قد جاءنا الرسل إلاّ أنّنا كذّبناهم ولم نسمع نداءهم المحيي للنفوس بل خالفناهم وعارضناهم وإعتبرناهم ضالّين، وأخرجناهم من بين صفوفنا، وأبعدناهم عنّا .. ثمّ يذكر القرآن الدليل الأصلي على شقائهم وتعاستهم ولكن على لسانهم فيقول: ( وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير)، أجل هكذا يأتي إعترافهم بذنوبهم بعد فوات الأوان ( فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير). وفي هذه الآيات وضمن بيان المصير المرعب لهؤلاء يشير إلى السبب الحقيقي لذلك، فمن جهة أعطاهم الله تعالى الاُذن السامعة والعقل، ومن جهة اُخرى بعث إليهم الرسل والأنبياء بالدلائل الواضحة فلو اقترن هذان الأمران فالنتيجة هي ضمان سعادة الإنسان، أمّا لو كان للإنسان اُذن لا يسمع بها، وعين لا يبصر بها، وعقل لا يفكّر به، فلو جاءه جميع الأنبياء والمرسلين بكافّة معاجزهم وكتبهم، لم ينتفع بشيء. وقد ورد في الحديث الشريف، أنّ بعض المسلمين ذكروا شخصاً عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأثنوا عليه، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "كيف عقل الرجل" فقيل: يارسول الله نحن نسأل عن سعيه وعبادته وخيراته وأنت تسأل عن عقله؟! فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنّما يرتفع العباد غداً في الدرجات وينالون الزلفى من ربّهم على قدر عقولهم!". "سحق" على وزن (قفل) وهي في الأصل بمعنى طحن الشيء وجعله ناعماً كما تطلق على الملابس القديمة، إلاّ أنّها هنا بمعنى البعد عن رحمة الله، وبناءً على هذا فإنّ مفهوم قوله تعالى: ( فسحقاً لأصحاب السعير) هو: فبعداً لأصحاب النار عن رحمة الله، ولأنّ لعنة وغضب الله تعالى يكون توأماً مع التجسيد الخارجي له، فإنّ هذه الجملة بمثابة الدليل على أنّ هذه المجموعة بعيدة عن رحمة الله بشكل كلّي. * * * ملاحظة المقام السامي للعقل: ليست هذه هي المرّة الاُولى التي يشير فيها القرآن الكريم إلى مقام العقل السامي، كما أنّها ليست المرّة الاُولى التي يصرّح فيها بأنّ العامل الأساسي لتعاسة الإنسان ودخوله عوالم الخسران والضياع والعاقبة التعيسة، وسقوطه وفي وحل الذنوب وجهنّم .. هو عدم الإستفادة من هذه القوّة الإلهيّة العظيمة، وإغفال هذه القدرة الجبّارة، وعدم إستثمار هذه الجوهرة والنعمة الربّانية، وذلك واضح وبيّن لكل من قرأ القرآن وتدبّر آياته، حيث يلاحظ أنّ هذا الأمر مؤكّد عليه في مناسبات شتّى .. وعلى الرغم من الأكاذيب التي يطلقها البعض بأنّ الدين هو وسيلة لتخدير العقول والإعراض عن أوامرها ومتطلّباتها، فإنّ الإسلام قد وضع أساس معرفة الله تعالى وسلوك طريق السعادة والنجاة، ضمن مسؤولية العقل. لذا فإنّ القرآن الكريم يوجّه نداءاته بصورة مستمرّة وفي كلّ مكان إلى (اُولو الألباب) و (اُولو الأبصار) وأصحاب الفكر من العلماء والمتعمّقين في شؤون المعرفة. ولقد وردت في المصادر الإسلامية روايات كثيرة في هذا الصدد، بشكل لا يمكن إحصاؤه، والطريف أنّ كتاب الكافي المعروف، والذي هو أكثر الكتب اعتباراً في مجال الحديث يحتوي على (أبواب) أو (كتب) أوّلها كتاب باسم كتاب (العقل والجهل) وكلّ من يلاحظ الروايات التي وردت بهذا الخصوص يدرك عمق النظرة الإسلامية إلى هذه المسألة. ونحن هنا نقتطف منها روايتين: جاء في حديث عن الإمام علي (عليه السلام) أنّه قال: "هبط جبرائيل على آدم، فقال: ياآدم، إنّي اُمرت أن اُخيّرك واحدة من ثلاث فاخترها ودع إثنين، فقال له آدم: ياجبرائيل وما الثلاث؟ فقال: العقل والحياء والدين، فقال آدم إنّي قد اخترت العقل، فقال جبرئيل للحياء والدين: إنصرفا ودعاه. فقالا: ياجبرئيل، إنّا اُمرنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال: فشأنكما وعرج)(156). وهذا من أجمل ما يمكن أن يقال في العقل، وطبيعة علاقته مع الحياء والدين، إذ أنّ العقل إذا ما انفصل عن الدين فإنّ الدين سيكون في مهبّ الرياح ويتعرّض إلى الإنحراف بسبب الأهواء وفقدان الموازن الموضوعية الأساسية. أمّا "الحياء" الذي هو المانع والرادع للإنسان عن ارتكاب القبائح والذنوب، فهو الآخر من ثمار شجرة العقل والمعرفة. وهكذا نرى أنّ آدم (عليه السلام) كان يتمتّع بدرجة عالية من العقل، حيث أنّه (عليه السلام)اختار العقل ممّا خيّر به من الاُمور الثلاث، وبذلك إصطحب الدين والحياء أيضاً. ونقرأ في حديث للإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "من كان عاقلا كان له دين ومن كان له دين دخل الجنّة"(157). وبناءً على هذا فإنّ الجنّة هي مكان اُولي الألباب، ومن الطبيعي أنّ المقصود من العقل هنا: هو المعرفة الحقيقيّة الراسخة وليس ألاعيب الشياطين التي تلاحظ في أعمال وممارسات السياسيين والظالمين والمستكبرين في عالمنا المعاصر. حيث أنّ ذلك كما يقول الإمام الصادق هو (شبيهة بالعقل، وليست بالعقل)(158). * * * الآيات إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) التّفسير خالق الوجود عليم بأسراره: بعد ما بيّنا ـ في الأبحاث التي تناولتها الآيات السابقة ـ مصير الكفّار يوم القيامة، فإنّ القرآن الكريم يتناول في الآيات مورد البحث حالة المؤمنين وجزاءهم العظيم عند الله سبحانه .. يقول في البداية: ( إنّ الذين يخشون ربّهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير). "الغيب" هنا إشارة لمعرفة الله تعالى غير المرئية، أو الإشارة إلى المعاد غير المشاهد، أو يقصد به الأمران معاً. كما يحتمل أن يكون إشارة إلى الخوف من الله تعالى بسبب ما عمل الإنسان من خطايا وذنوب في السرّ، ذلك أنّ الإنسان إذا لم يقترف ذنوباً في السرّ، فإنّه لن يجرأ عليها في العلانية. ويحتمل أن يكون هذا التعبير إشارة إلى خلوص النيّة في الإبتعاد عن الذنوب والمعاصي، والإلتزام بالأوامر الإلهية، إذ أنّ العمل السرّي يكون أبعد عن الرياء. كما لا مانع من الجمع بين هذه الآراء. التعبير بـ (مغفرة) بصورة (نكرة)، وكذلك (أجر كبير) إشارة إلى عظمته وأهميّته، إذ أنّ هذه المغفرة وهذا الأجر من العظمة أنّه غير معروف ولا واضح للجميع. ثمّ يضيف للتأكيد: ( وأسرّوا قولكم أو اجهروا به إنّه عليم بذات الصدور). نقل بعض المفسّرين عن (ابن عبّاس) قوله في سبب نزول هذه الآية: (إنّ جماعة من الكفّار ـ أو المنافقين ـ كانوا يذكرون الرّسول بالسوء بدون علمه، وكان جبرئيل (عليه السلام) يخبر الرّسول بذلك، وكان بعضهم يقول للآخر (أسرّوا قولكم) فنزلت الآية أعلاه موضّحة أنّ جهرهم أو إخفاءهم لأقوالهم هو ممّا يعلمه الله تعالى)(159). وتأتي الآية اللاحقة دليلا وتأكيداً على ما ورد في الآية السابقة، حيث يقول تعالى: ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير). ذكرت إحتمالات متعدّدة في تفسير عبارة: ( ألا يعلم من خلق) فقال البعض: إنّ القصد منها هو أنّ الذي خلق القلوب يعلم ما تكنّ فيها من أسرار. أو أنّ الربّ الذي خلق العباد هل يجهل أسرارهم. أو أنّه تعالى الذي خلق عالم الوجود جميعاً عارف ومطلع بجميع أسراره، وعندئذ هل تكون أسرار الإنسان ـ الذي هو جزء من هذا العالم العظيم ـ خافية على الله تعالى؟ ولإدراك هذه الحقيقة لابدّ من الإلتفات إلى أنّ مخلوقات الله تعالى دائماً تحت رعايته، وذلك يعني أنّ فيض وجوده يصل كلّ لحظة إلى مخلوقاته، فإنّه سبحانه لم يخلقهم ليتركهم بدون رعاية. وفي الأصل فإنّ جميع الممكنات مرتبطة دائماً بوجوده تعالى، وإذا ما فقدت تعلّقها بذاته المقدّسة لحظة واحدة فإنّها ستسلك طريق الفناء، إنّ الإنتباه وإدراك طبيعة هذه العلاقة القائمة والخلقة والأواصر الثابتة، هي أفضل دليل على علم الله بأسرار جميع الموجودات في كلّ زمان ومكان. "اللطيف" مأخوذ في الأصل من (اللطف) ويعني كلّ موضوع دقيق وظريف، وكلّ حركة سريعة وجسم لطيف، وبناءً على هذا فإنّ وصف الله تعالى بـ (اللطيف) إشارة إلى علمه عزّوجلّ بالأسرار الدقيقة للخلق، كما جاءت أحياناً بمعنى خلق الأجسام اللطيفة والصغيرة والمجهرية وما فوق المجهرية. إنّ جميع ما ذكر سابقاً إشارة إلى أنّ الله اللطيف عارف ومطّلع على جميع النوايا القلبية الخفية، وكذلك أحاديث السرّ، والأعمال القبيحة التي تنجز في الخفاء والخلوة .. فهو تعالى يعلم بها جميعاً. قال بعض المفسّرين في تفسير (اللطيف): (هو الذي يكلّف باليسير ويعطي الكثير). وفي الحقيقة فإنّ هذا نوع من الدقّة في الرحمة. وقال البعض أيضاً: إنّ وصفه تعالى بـ (اللطيف) بلحاظ نفوذه سبحانه في أعماق كلّ شيء، ولا يوجد مكان خال منه تعالى في العالم أجمع، فهو في كلّ مكان وكلّ شيء. إنّ جميع هذه الاُمور ترجع إلى حقيقة واحدة، وهي التأكيد على عمق معرفة الله سبحانه وعلمه بالأسرار الظاهرة والباطنة لجميع ما في الوجود * * * الآيات هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) ءَأَمِنتُم مَّن فِى السَّمَاءِ أن يَخْسِفَ بِكُمُ الاَْرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنتُم مَّن فِى السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيَفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) التّفسير لا أمان للعاصين من عقاب الله: بعد الأبحاث التي إستعرضناها في الآيات السابقة بالنسبة لأصحاب النار وأصحاب الجنّة، والكافرين والمؤمنين، يشير تعالى في الآيات مورد البحث إلى بعض النعم الإلهية، ثمّ إلى أنواع من عذابه، وذلك للترغيب والتشويق بالجنّة لأهل الطاعة، والإنذار بالنار لأهل المعصية، يقول تعالى: ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا). ( فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور). "ذلول" بمعنى (مطيع) وهو أجمل تعبير يمكن أن يطلق على الأرض، لأنّ هذا المركب السريع السير جدّاً، مع حركته المتعدّدة، يلاحظ هادئاً إلى حدّ يبدو وكأنّه ساكناً بصورة مطلقة. يقول بعض العلماء: إنّ للأرض أربع عشرة حركة مختلفة، ثلاث منها هي: الاُولى: حركتها حول نفسها. والثانية: حول الشمس. والثالثة: مع مجموعة المنظومة الشمسية في وسط المجرّة. هذه الحركات التي تكون سرعتها عظيمة، هي من التناسب والإنسجام إلى حدّ لم يكن ليصدق أحد أنّ للأرض حركة لولا إقامة البراهين القطعية على حركتها. هذا من جهة، ومن جهة اُخرى. فإنّ قشرة الأرض ليست قويّة وقاسية إلى حدّ لا يمكن معه العيش فوقها، ولا ضعيفة ليّنة لا قرار لها ولا هدوء، وبذلك فإنّها مناسبة لحياة البشر تماماً، فلو كان معظم سطح الكرة الأرضية مغموراً بالوحل، والمستنقعات ـ مثلا ـ فعندئذ تتعذّر الإستفادة منها، وكذلك لو كانت الرمال الناعمة تغمرها فإن قدم الإنسان تغور فيها حتّى الركب، وكذا لو كانت مكوّناتها من الصخور الحادّة القاسية فعندئذ يتعذّر المشي عليها، ومن هنا يتّضح معنى إستقرار الأرض وهدوئها. ومن جهة ثالثة فإنّ بعدها عن الشمس ليس هو بالقريب منها إلى حدّ يؤدّي بحرارة الشمس إلى أن تحرق كلّ شيء على وجهها، ولا هو ببعيد عنها بحيث يتجمّد كلّ شيء على سطحها. وكذلك بالنسبة لضغط الهواء على الكرة الأرضية، فإنّه متناسب بما يؤدّي إلى هدوء الإنسان وراحته، فهو ليس بالشديد بالصورة التي يسبّب له الإختناق، ولا بالمنخفض بالشكل الذي يتلاشى فيه معه. والأمر نفسه يقال في الجاذبية الأرضية، هي ليست شديدة إلى حدّ تتهشّم فيها عظام الإنسان، ولا بالضعيفة التي يكون فيها معلّقاً لا يستطيع الإستقرار في مكان. والخلاصة: إنّ الأرض (ذلول) ومطيعة ومسخّرة لخدمة الإنسان في جميع المجالات، والظريف هنا بعد وصفه تعالى للأرض بأنّها (ذلول) أمره لعباده بأن يسيروا في (مناكبها). و"مناكب" جمع (منكب) على وزن (مغرب) بمعنى الكتف، وبذلك تسخر الأرض للإنسان ويضع قدميه عليها سائراً على كتفها وهي هادئة ومتوازية ومحتفظة بتعادلها. كما تحمل في نفس الوقت إشارة إلى ضرورة السعي في الأرض في طلب الرزق والحصل عليه، وإلاّ فسيكون الحرمان نصيب القاعدين والمتخلّفين عن السعي. إنّ التعبير بـ (الرزق) ـ هنا ـ تعبير جامع وشامل، حيث يعني كافّة الموارد الأرضية، وهو أعمّ من النعم الحيوانية والنباتية والمعدنية التي فيها. ويجب الإلتفات إلى أنّ هذا ليس هو الهدف الأساس لخلقكم، إذ أنّ كلّ ذلك وسائل في طريق (نشوركم) وبعثكم وحياتكم الأبدية. وبعد هذا الترغيب والتشويق يستعرض تعالى اُسلوب التهديد والإنذار فيقول سبحانه: ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور). نعم، إنّ الباريء تعالى إذا أمر أو أراد فإنّ هذه الأرض الذلول الهادئة تكون في حالة هيجان وطغيان كدابة جموح، تبدأ بالزلازل، وتتشقّق وتدفنكم وبيوتكم ومدنكم تحت ترابها وحجرها، وتبقى راجفة مضطربة مزمجرة بعد أن تقضي عليكم وعلى مساكنكم التي متّعتم فيها برهة من الزمن. جملة (فإذا هي تمور) يمكن أن تكون إشارة إلى قدرة الله سبحانه على أن يأمر الأرض أن تبتلعكم، وتنقلكم باستمرار ـ وأنتم في داخلها ـ من مكان إلى آخر بحيث أنّ الهدوء لا يشملكم حتّى وأنتم في قبوركم. وهكذا تفقد الأرض إستقرارها وهدوءها إلى الأبد، وتسيطر الزلازل عليها، وهذا الأمر سهل الإدراك والتصوّر للذين عاشوا في المناطق الزلزالية، وشاهدوا كيف أنّ الزلازل تستمر عدّة أيّام أحياناً وتبقى الأرض غير مستقرّة وتسلب من سكّان تلك المناطق لذّة النوم والأكل والراحة، غير أنّ تصوّر هذا الأمر بالنسبة إلى عامّة الناس الذين ألّفوا هدوء الأرض أمر صعب. التعبير بـ (من في السماء) إشارة إلى ذات الله المقدّسة، ولمّا كانت حاكميته على جميع السماوات ومن فيها من الاُمور المسلّمة، فما بالك بحاكميته على الأرض، إنّها من الاُمور التي لا شكّ فيها ـ أيضاً ـ بل هي من باب الاُولى. قال البعض: إنّ العبارة السابقة إشارة إلى ملائكة الله سبحانه في السماء المكلّفين بتنفيذ أوامره تعالى. ثمّ يضيف سبحانه: ( أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً) فلا يلزم حتماً حدوث زلزلة لتدميركم، بل يكفي أن نأمر عاصفة رملية لتدفنكم تحت رمالها .. وحينئذ ستعلمون حقيقة إنذاري وتهديدي: ( فستعلمون كيف نذير). إنّ إدراك طبيعة هذا التساؤل سهل بالنسبة إلى الأشخاص الذين عاشوا في المناطق الرملية المتحرّكة والرياح (الحاصبة)، (وهي الرياح التي تحرّك كميّات الحصى المتراكمة وتنقلها من مكان إلى آخر) فهؤلاء يدركون إمكانية دفن البيوت أو القرى في لحظات تحت تلال من الحصى والرمال المتحرّكة، وكذلك القوافل السائرة في وسط الصحراء. وفي الحقيقة فإنّ الآيات أعلاه تؤكّد أنّ عذاب العاصين والمجرمين لا ينحصر في يوم القيامة فقط، حيث يستطيع الباريء عزّوجلّ أن يقضي على حياتهم في هذه الدنيا بحركة بسيطة للأرض، أو بحركة الرياح، وإن أفضل دليل على هذه الإمكانية الإلهية هو وقوع مثل هذه الاُمور في الاُمم السابقة. لذا فإنّ الله تعالى يقول في آخر آية من هذه الآيات: ( ولقد كذّب الذين من قبلهم فكيف كان نكير)(160). نعم فلقد عاقبنا قسماً من هؤلاء بالزلازل المدمّرة، وأقواماً آخرين بالصواعق، وبالطوفان، وبالرياح .. وبقيت مدنهم المدمّرة موضع درس وإعتبار لمن كان له قلب واع. * * * الآيات أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـفَّـت وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَـنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءِ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَـنِ إِنِ الْكَـفِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُور (20)أَمَّنْ هَذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِى عُتُوٍّ وَنُفُور(21) التّفسير انظروا إلى الطير فوقكم: في الآيات الاُولى لهذه السورة كان البحث عن قدرة الله سبحانه ومالكيته، وعن السموات السبع والنجوم والكواكب .. ويستمرّ هذا اللون من الحديث في أوّل آية ـ مورد البحث ـ وذلك بذكر مفردة اُخرى من كائنات هذا الوجود، والتي تبدو في ظاهرها صغيرة ويقول تعالى: ( أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن)(161). هذه الأجسام بالرغم من قانون الجاذبية الأرضية تنطلق من الأرض وتحلّق ساعات في السماء بكلّ راحة، وأحياناً أيّاماً وأسابيع وشهوراً، وتستمر بحركتها السريعة المرنة وبدون أي مشاكل. فالبعض منها يفتح جناحيه عند الطيران (صافات) وكأنّ هنالك قوّة خفيّة تحرّكه، والاُخرى ترفرف بأجنحتها عند الطيران بصورة مستمرة وقد تكون (يقبضن) إشارة إلى هذا المعنى. وتطير مجاميع اُخرى بتحريك أجنحتها تارةً وفتحها اُخرى. كما أنّ هنالك قسماً آخر يحرّك أجنحته لفترة عند الطيران، وعندما يحقّق سرعة معيّنة يجمعها بصورة كلية كـ (العصفور). وخلاصة القول: فإنّ الطيران واحد، إلاّ أنّ صوره مختلفة ولكلّ طريقته وبرنامجه الخاصّ به. فمن ياترى خلق أجسام هذه الطيور بهذه الصورة التي جعلها تستطيع السير في الهواء بكلّ سهولة وراحة؟. ومن ذا الذي وهبها هذه القدرة وعلّمها الطيران، خصوصاً حالات الطيران الجماعي المعقد للطيور المهاجرة، التي تستمرّ ـ أحياناً ـ شهوراً عديدة، وتقطع في رحلتها هذه آلاف الكيلومترات، وتمرّ بأجواء بلدان كثيرة، وتجتاز الجبال والوديان والغابات والبحار حتّى تصل إلى مقصدها؟ فمن ياترى علم وأعطى هذه الطيور كلّ هذه القوّة، وهذا الوعي والمعرفة؟ لذا يقول في ختام الآية ( ما يمسكهنّ إلاّ الرحمن إنّه بكلّ شيء بصير). إنّه الله تعالى الذي وضع باختيارها الوسائل والقوى والإمكانات المختلفة للطيران، نعم، إنّ الله الرحمن الذي شملت رحمته الواسعة جميع الكائنات، وأعطى للطيور ما هو موضع حاجتها في الطيران، وحافظ عليها في السماء، هو بذاته المقدّسة يحفظ الأرض والكائنات الاُخرى. وعندما يشاء غير ذلك فلن يكون عندئذ للطيور قدرة الطيران ولا للأرض حالة الهدوء والإستقرار. التعبير بـ (الصافات ويقبضن) لعلّه إشارة إلى طيور مختلفة أو لحالات متنوّعة من الطيران(162). ولقد بحثنا بشكل تفصيلي عجائب عالم الطيور وغرائب مسألة الطيران في تفسير الآية (79) من سورة النحل. ثمّ يشير تعالى في الآية اللاحقة إلى أنّ الكافرين ليس لهم أي عون أو مدد مقابل قدرة الله عزّوجلّ حيث يقول: ( أمّن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن)(163). إنّ هؤلاء الذين هم (جند لكم) ليسوا عاجزين عن مساعدتكم ونصرتكم فحسب، بل إذا شاء الرحمن جعلها سبب عذابكم ودماركم، وحتّى هذه النعم المسخّرة لسعادتكم كالماء والهواء والتراب والنار والتي تمثّل ركناً أساسياً من أركان حياتكم لا يمكنها أن تنقذكم من البلاء، بل إنّها نفسها إذا اُمرت فإنّها ستكون موضع عذابكم وموتكم ونقمة عليكم. نعم لقد كانت هذه النعم سبباً لهلاك ودمار كثير من الأقوام العاصين ويحدّثنا التاريخ أنّ الكثير من الجبابرة والطغاة والمتمرّدين على أوامر الله كان هلاكهم على يد أقرب الناس إليهم، وهذا ما يلاحظ كذلك في عصرنا أيضاً، حيث أنّ أكثر المجاميع وفاءً للسلطة تثور ضدّهم وينتقم الله من هؤلاء الظالمين بالظالمين الذين كانوا عوناً لهم. ألا ( إنّ الكافرون إلاّ في غرور) فلقد أعمت عقولهم حجب الجهل والغرور، ولا يعتبرون أو يتّعظون بما حصل للأقوام البائدة السابقة، ولا لما يصيب الآخرين في حياتنا المعاصرة. "جند" في الأصل بمعنى الأرض غير المستوية والقويّة، والتي تتجمّع فيها الصخور الكثيرة، ولهذا السبب فإنّ هذه الكلمة (جند) تطلق على العدد الكثير من الجيش. وقد اعتبر بعض المفسّرين كلمة (جند) في الآية ـ مورد البحث ـ إشارة إلى الأصنام، التي لا تستطيع مطلقاً تقديم العون للمشركين في يوم القيامة، إلاّ أنّ للآية في الظاهر مفهوماً واسعاً والأصنام أحد مصاديقها. ثمّ يضيف سبحانه مؤكّداً ما سبق: ( أمّن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه)(164). فإذا أمر الله السماء أن تمتنع عن المطر، والأرض عن الإنبات، وأمر الآفات الزراعية بالفتك بالمحاصيل .. فمن القادر غيره أن يطعمكم الطعام؟ وإذا ما قطع الله الرزق المعنوي عنكم والوحي السماوي من الوصول إليكم، فمن القادر غيره على إرشادكم وإنقاذكم من براثن الضلال؟ إنّها لحقائق واضحة وأدلّة دامغة، إلاّ أنّ العناد هو الذي يشكّل حجاباً للإدراك وللشعور الحقّ: ( بل لجّوا في عتو ونفور). وحتّى في حياتنا المعاصرة ومع كلّ ألوان التقدّم العلمي في الجوانب المختلفة، خصوصاً في مجال الصناعة الغذائية. فإذا ما منع الله المطر عن الأرض سنة واحدة فيا لها من فاجعة عظمى تحلّ بالعلم، وإذا ما اُصيبت النباتات بالجراد والآفات سنة واحدة فيا لها من كارثة كبرى تحلّ بالبشرية. * * * ملاحظة العوامل الأربعة في محرومية البشر: إستعرضت الآيات السابقة أهمّ العوامل التي أدّت بالعصاة والمتمرّدين على أوامر الباريء عزّوجلّ إلى المصير البائس والعاقبة الخائبة. وكانت أهمّ هذه العوامل: إعراض آذانهم عن الإصغاء، وعقولهم عن الفهم، وقلوبهم عن الوعي .. كما كانت في الآيات مورد البحث أربعة عوامل اُخرى ساهمت في العاقبة السيّئة لهؤلاء التي هي: بؤس الإنسان وضلاله، هذه العوامل هي: (الغرور) و (اللجاجة) و (العتوّ) و (النفور). وإذا ما أمعنا النظر جيّداً في هذه العوامل فإنّنا نلاحظ أنّ لها إرتباطاً مع العوامل السابقة، حيث أنّ هذه الصفات الرديئة تولّد حجاباً على الآذان والعيون والبصائر، وتمنع الإنسان من إدراك الحقائق. * * * الآيات أَفَمَن يَمْشِى مُكِبَّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صِرَط مُّسْتَقِيم (22) قُلْ هُوَ الَّذِى أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاَْبْصَـرَ وَالاَْفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الاَْرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ (27) التّفسير السائر سويّاً على جادّة التوحيد: تعقيباً لما ورد في الآيات السابقة بالنسبة إلى الكافرين والمؤمنين، فإنّ الله تعالى يصوّر لنا ـ في أوّل آية من هذه الآيات ـ حالة هاتين المجموعتين ضمن تصوير رائع ولطيف، حيث يقول تعالى: ( أفمن يمشي مكبّاً على وجهه أهدى أمّن يمشي سويّاً على صراط مستقيم). فهنا شبه المعاندين والمغرورين كمن يسير في جادّة متعرّجة غير مستوية كثيرة المنعطفات وقد وقع على وجهه، يحرّك يديه ورجليه للإهتداء إلى سبيله، لأنّه لا يبصر طريقه جيّداً، وليس بقادر على السيطرة على نفسه، ولا بمطّلع على العقبات والموانع، وليست لديه القوّة للسير سريعاً، وبذلك يتعثّر في سيره .. يمشي قليلا ثمّ يتوقّف حائراً. كما شبّه المؤمنين برجال منتصبي القامات، يسيرون في جادّة مستوية ومستقيمة ليس فيها تعرّجات واعوجاج، ويمشون فيها بسرعة ووضوح وقدرة ووعي وعلم وراحة تامّة. إنّه ـ حقّاً ـ لتشبيه لطيف فذّ، حيث إنّ آثار هذين السبيلين واضحة تماماً، وإنعكاساتها جليّة في حياة هذين الفريقين، وذلك ما نلاحظه بأُمّ أعيننا. ويرى البعض أنّ مصداق هاتين المجموعتين هما: (الرّسول الأكرم) و (أبو جهل) فهما مصاديق واضحة للآية الكريمة، إلاّ أنّ ذلك لا يحدّد عمومية الآية. وذكرت إحتمالات متعدّدة في تفسير (مكبّاً على وجهه). إلاّ أنّ أكثر الإحتمالات المنسجمة مع المفهوم اللغوي للآية هو ما ذكرناه أعلاه، وهو أنّ الإنسان غير المؤمن يكون مكبّاً على وجهه ويمشي زاحفاً بيده ورجليه وصدره. وقيل أنّ المقصود من (مكبّاً) هو المشي الإعتيادي ولكنّه مطأطيء الرأس لا يشخّص مسيره بوضوح أبداً. كما يرى آخرون أنّ المقصود بـ (مكبّاً) هو الشخص الذي لا يستطيع أن يحفظ توازنه في السير، فهو يخطو خطوات معدودة ثمّ ما يلبث أن يسقط على الأرض وينهض ليمشي، ثمّ تتكرّر هذه الحالة. ويستفاد ممّا ذكره الراغب في مفرداته أنّ المقصود بـ (مكبّاً) هو الشخص الذي يدور حول محور الذات والأنانية، معرضاً عن الإهتمام بغيره. إلاّ أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر، وذلك بقرينة المقابلة مع وضع المؤمنين والذين عبّرت عنهم الآية بـ (سويّاً). وعلى كلّ حال، فهل أنّ هذه الحالة (مكبّاً) و (سويّاً) تمثّل وضع الكفّار والمؤمنين في الآخرة فقط؟ أم في العالمين (الدنيا والآخرة)؟ لا دليل على محدودية مفهوم الآية وإنحصارها في الآخرة، فهما في الدنيا كما هما في الآخرة. إنّ هؤلاء الأنانيين المنشدّين إلى مصالحهم الماديّة والمنغمسين في شهواتهم، السائرين في درب الضلال والهوى، كمن يروم العبور من مكان مليء بالأحجار زاحفاً على صدره، بخلاف من تحرّر من قيد الهوى في ظلّ الإيمان حيث يكون مسيره واضحاً ومستقيماً ونظراته عميقة وثاقبة. ثمّ يوجّه الله تعالى الخطاب إلى الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية اللاحقة فيقول: ( قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون). إنّ الله تعالى جعل لكم وسيلة للمشاهدة والإبصار (العين) وكذلك وسيلة وقناة للإطّلاع على أفكار الآخرين ومعرفة وجهات نظرهم من خلال الإستماع (الإذن) ثمّ وسيلة اُخرى للتفكّر والتدبّر في العلوم والمحسوسات واللامحسوسات (القلب). وخلاصة الأمر إنّ الله تعالى قد وضع جميع الوسائل اللازمة لكم لتتعرّفوا على العلوم العقلية والنقلية، إلاّ أنّ القليل من الأشخاص من يدرك هذه النعم العظيمة ويشكر الله المنعم، حيث أنّ شكر النعمة الحقيقي يتجسّد بتوجيه النعمة نحو الهدف الذي خلقت من أجله، تُرى من هو المستفيد من هذه الحواس (العين والاُذن والعقل) بصورة صحيحة في هذا الطريق؟ ثمّ يخاطب الرّسول مرّة اُخرى حيث يقول تعالى: ( قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون). وفي الحقيقة فإنّ الآية الاُولى تعيّن (المسير)، والثانية تتحدّث عن (وسائل العمل) أمّا الآية ـ مورد البحث ـ فإنّها تشخّص (الهدف والغاية) وذلك بالتأكيد على أنّ السير يجب أن يكون في الطريق المستقيم، والصراط الواضح المتمثّل بالإسلام والإيمان، وبذل الجهد للإستفادة من جميع وسائل المعرفة بهذا الإتّجاه، والتحرّك نحو الحياة الخالدة. والجدير بالملاحظة هنا أنّ التعبير في الآية السابقة ورد بـ (أنشأكم) وفي الآية مورد البحث بـ (ذرأكم)، ولعلّ تفاوت هذين التعبيرين هو أنّه في الاُولى إشارة إلى الإنشاء والإيجاد من العدم (أي إنّكم لم تكونوا شيئاً وقد خلقكم الله تعالى) وفي الثانية إشارة إلى خلق الإنسان من مادّة التراب، وذلك يعني أنّ الله خلق الإنسان من التراب. ثمّ يستعرض سبحانه قول المشركين في هذا المجال والردّ عليهم، فيقول تعالى: ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين). إنّ المشركين يطالبون بتعيين التاريخ بصورة دقيقة ليوم القيامة، كما أنّهم يطالبون بحسم هذا الأمر الذي يتعلّق بمصير الجميع (متى هذا الوعد؟). وذكروا إحتمالين في المقصود من (هذا الوعد): الأوّل: هو وعد يوم القيامة، والآخر: هو تنفيذ الوعد بالنسبة للعقوبات الدنيوية المختلفة، كوقوع الزلازل والصواعق والطوفانات. إلاّ أنّ المعنى الأوّل أكثر تناسباً حسب الظاهر، وذلك بلحاظ ما ورد في الآية السابقة. كما أنّ بالإمكان الجمع بين المعنيين. ويجيبهم الله سبحانه على تساؤلهم هذا بقوله تعالى: ( قل إنّما العلم عند الله وإنّما أنا نذير مبين). إنّ هذا التعبير يشبه تماماً ما ورد في الآيات القرآنية العديدة التي من جملتها قوله تعالى: ( قل إنّما علمها عند ربّي)(165). ولابدّ أن يكون الجواب بهذه الصورة، حيث أنّ تحديد تأريخ يوم القيامة إن كان بعيداً فإنّ الناس سيغرقون بالغفلة، وإن كان قريباً فإنّهم سيعيشون حالة الهلع والإضطراب. وعلى كلّ حال فإنّ الأهداف التربوية تتعطّل في الحالتين. ويضيف في آخر آية من هذه الآيات بأنّ الكافرين حينما يرون العذاب والوعد الإلهي من قريب تسودّ وجوههم: ( فلمّا رأوه زلفةً سيئت وجوه الذين كفروا) فسيماهم طافحة بآثار الحزن والندم ( وقيل هذا اليوم الذي كنتم به تدعون). "تدعون" من مادّة (دعاء) يعني أنّكم كنتم تدعون وتطلبون دائماً أن يجيء يوم القيامة، وها هو قد حان موعده، ولا سبيل للفرار منه(166). وهذا المضمون يشبه ما جاء في قوله تعالى مخاطباً الكفّار في يوم القيامة: ( هذا الذي كنتم به تستعجلون)(167). وعلى كلّ حال، فإنّ الآية الشريفة ناظرة إلى عذاب يوم القيامة كما ذهب إليه أغلب المفسّرين، وهذا دليل على أنّ جملة ( متى هذا الوعد) إشارة إلى موعد يوم القيامة. يقول الحاكم أبو القاسم الحسكاني: عندما شاهد الكفّار شأن ومقام الإمام علي (عليه السلام) عند الله تعالى. اسودّت وجوههم (من شدّة الغضب)(168). ونقل هذا المعنى أيضاً في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّ هذه الآية نزلت بحقّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وأصحابه(169). وهذا التّفسير نقل عن طرق الشيعة وأهل السنّة، وهو نوع من التطبيق المصداقي، وإلاّ فإنّ هذه الآية تناولت موضوع (القيامة) ومثل هذه التطبيقات ليست قليلة في عالم الروايات. * * * الآيات قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ اللهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَـفِرِينَ مِنْ عَذَاب أَلِيم (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَـنُ ءَامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِى ضَلَـل مُّبِين (29) قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينِ (30) التّفسير من الذي يأتيكم بالمياه الجارية؟ إنّ الآيات أعلاه، التي هي آخر آيات سورة الملك، تبدأ جميعها بكلمة (قل) مخاطبة الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث أنّها تمثّل استمراراً للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول الكفّار، وتعكس هذه الآيات الكريمة جوانب اُخرى من البحث. يخاطب الباريء عزّوجلّ ـ في البداية ـ الأشخاص الذين يرتقبون وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، ويتصوّرون أنّ بوفاته سوف يمحى دين الإسلام وينتهي كلّ شيء. وهذا الشعور كثيراً ما ينتاب الأعداء المخذولين إزاء القيادات القويّة والمؤثّرة، يقول تعالى مخاطباً إيّاهم: ( قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم). ورد في بعض الروايات أنّ كفّار مكّة، كانوا دائماً يسبّون الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم)والمسلمين، وكانوا يتمنّون موته ظنّاً منهم أنّ رحيله سينهي دعوته كذلك، لذا جاءت الآية أعلاه ردّاً عليهم. كما جاء شبيه هذا المعنى في قوله تعالى: ( أم يقولون شاعر نتربّص به ريب المنون)(170). لقد كانوا غافلين عن وعد الله سبحانه لرسوله الأمين، بأنّ اسمه سيكون مقترناً مع مبدأ الحقّ الذي لا يعتريه الفناء وإذا جاء أجله فإنّ ذكره لن يندرس، نعم، لقد وعده الله سبحانه بانتصار هذا المبدأ، وأن ترفرف راية هذا الدين على كلّ الدنيا، وحياة الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو موته لن يغيّرا من هذه الحقيقة شيئاً. كما ذكر البعض تفسيراً آخر لهذه الآية وهو: إنّ خطاب الله لرسوله الكريم ـ الذي يشمل المؤمنين أيضاً ـ مع ما عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الإيمان الراسخ، كان يعكس الخوف والرجاء معاً في آن واحد. فكيف بكم أنتم أيّها الكافرون؟ وما الذي تفكّرون به لأنفسكم؟ ولكن التّفسير الأوّل أنسب حسب الظاهر. واستمراراً لهذا البحث، يضيف تعالى: ( قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكّلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين). وهذا يعني أنّنا إذا آمنا بالله، واتّخذناه وليّاً ووكيلا لنا، فإنّ ذلك دليل واضح على أنّه الربّ الرحمن، شملت رحمته الواسعة كلّ شيء، وغمر فيض ألطافه ونعمه الجميع (المؤمن والكافر)، إنّ نظرة عابرة إلى عالم الوجود وصفحة الحياة تشهد على هذا المدّعى، أمّا الذين تعبدونهم من دون الله فماذا عملوا؟ وماذا صنعوا؟ وبالرغم من أنّ ضلالكم واضح هنا في هذه الدنيا، إلاّ أنّه سيتّضح بصورة أكثر في الدار الآخرة. أو أنّ هذا الضلال وبطلان دعاواكم الفارغة ستظهر في هذه الدنيا عندما ينتصر الإسلام بالإمدادات الإلهية على جيش الكفر بشكل إعجازي وخارق للعادة، عندئذ ستتبيّن الحقيقة أكثر للجميع. إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ نوع من المواساة للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)والمؤمنين، كي لا يظنّوا أو يتصوّروا أنّهم وحدهم في هذا الصراع الواسع بين الحقّ والباطل، حيث أنّ الرحمن الرحيم خير معين لهم ونعم الناصر. ويقول تعالى في آخر آية، عارضاً لمصداق من رحمته الواسعة، والتي غفل عنها الكثير من الناس: ( قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين). إنّ للأرض في الحقيقة قشرتين متفاوتتين: (قشرة قابلة للنفوذ) يدخل فيها الماء، واُخرى (غير قابلة للنفوذ) تحفظ بالماء، وجميع العيون والآبار والقنوات تولّدت من بركات هذا التركيب الخاصّ للأرض، إذ لو كانت القشرة القابلة للنفوذ لوحدها على سطح الكرة الأرضية جميعاً ولأعماق بعيدة، فإنّ جميع المياه التي تدخل جوف الأرض لا يقرّ لها قرار، وعندئذ لا يمكن أن يحصل أحد على قليل من الماء. ولو كانت قشرة الأرض غير قابلة للنفوذ لتجمّعت المياه على سطحها وتحوّلت إلى مستنقع كبير، أو أنّ المياه التي تكون على سطحها سرعان ما تصبّ في البحر، وهكذا يتمّ فقدان جميع الذخائر التي هي تحت الأرض. إنّ هذا نموذج صغير من رحمة الله الواسعة يتعلّق بموت الإنسان وحياته. "معين" من مادّة (معن)، على وزن (طعن) بمعنى جريان الماء. وقال آخرون: إنّها مأخوذة من (عين) والميم زائدة. لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ معنى (معين) تعني الماء الذي يشاهد بالعين بغضّ النظر عن جريانه. إلاّ أنّ الغالبية فسّروه بالماء الجاري. وبالرغم من أنّ الماء الصالح للشرب لا ينحصر بالماء الجاري، إلاّ أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ الماء الجاري يمثّل أفضل أنواع ماء الشرب، سواء كان من العيون أو الأنهار أو القنوات أو الآبار المتدفّقة .. ونقل بعض المفسّرين أنّ أحد الكفّار عندما سمع قوله تعالى: ( قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين) قال: (رجال شداد ومعاول حداد) وعند نومه ليلا نزل الماء الأسود في عينيه، وفي هذه الأثناء سمع من يقول: إأتي بالرجال الشداد والمعاول الحداد ليخرجوا الماء من عينيك. ومن الواضح أنّه في حالة عدم وجود القشرة الصلبة وغير القابلة للنفوذ، فإنّه لا يستطيع أي إنسان قوي ولا أي معول حادّ أن يستخرج شيئاً من الماء(171). * * * تعقيب جاء في الروايات عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) أنّ المراد من الآية الأخيرة من هذه السورة هو ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) وعدله الذي سيعمّ العالم. فقد جاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "نزلت في الإمام القائم(عليه السلام)، يقول: إن أصبح إمامكم غائباً عنكم، لا تدرون أين هو؟ فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السموات والأرض، وحلال الله وحرامه؟ ثمّ قال: والله ما جاء تأويل هذه الآية، ولابدّ أن يجيء تأويلها"(172). والروايات في هذا المجال كثيرة، وممّا يجدر الإنتباه له أنّ هذه الروايات هي من باب (التطبيق). وبعبارة اُخرى فإنّ ظاهر الآية مرتبط بالماء الجاري، والذي هو علّة حياة الموجودات الحيّة. أمّا باطن الآية فإنّه يرتبط بوجود الإمام (عليه السلام) وعلمه وعدالته التي تشمل العالم، والتي هي الاُخرى تكون سبباً لحياة وسعادة المجتمع الإنساني. ولقد ذكرنا مرّات عدّة أنّ للآيات القرآنية معاني متعدّدة، حيث لها معنى باطن وظاهر، إلاّ أنّ فهم باطن الآيات غير ممكن إلاّ للرسول والإمام المعصوم، ولا يحقّ لأي أحد أن يطرح تفسيراً ما لباطن الآيات. وما نستعرضه هنا مرتبط بظاهر الآيات، أمّا ما يرتبط بباطن الآيات فعلينا أن نأخذه من المعصومين (عليهم السلام) فقط. لقد بدأت سورة الملك بحاكمية الله ومالكيته تعالى، وانتهت برحمانيته، والتي هي الاُخرى فرع من حاكميته ومالكيته سبحانه، وبهذا فإنّ بدايتها ونهايتها منسجمتان تماماً. اللهمّ، أدخلنا في رحمتك العامّة والخاصّة، وأرو ظمأنا من كوثر ولاية أولياءك. ربّنا، عجّل لنا ظهور عين ماء الحياة الإمام المهدي، واطفيء عطشنا بنور جماله .. ربّنا، ارزقنا اُذناً صاغية وعيناً بصيرة وعقلا كاملا، فاقشع عن قلوبنا حجب الأنانية والغرور لنرى الحقائق كما هي، ونسلك إليك على الصراط المستقيم بخطوات محكمة وقامة منتصبة .. آمين ربّ العالمين نهاية سورة الملك * * * سُورَة القَلَم مكيّة وعَدَدُ آيَاتِها إثنتان وخمسُون آية "سورة القلم" ملاحظة بالرغم من أنّ بعض المفسّرين شكّك في كون السورة بأجمعها نزلت في مكّة، إلاّ أنّ نسق السورة ومحتوى آياتها ينسجم تماماً مع السور المكيّة، لأنّ المحور الأساسي فيها يدور حول مسألة نبوّة رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) ومواجهة الأعداء الذين كانوا ينعتونه بالجنون وغيره، والتأكيد على الصبر والإستقامة وتحدّي الصعاب، وإنذار وتهديد المخالفين لهذه الدعوة المباركة بالعذاب الأليم. وبشكل عامّ يمكن تلخيص مباحث هذه السورة بسبعة أقسام: 1 ـ في البداية تستعرض السورة بعض الصفات الخاصّة لرسول الإنسانية محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وخصوصاً أخلاقه البارّة السامية الرفيعة، ولتأكيد هذا الأمر يقسِمُ الباريء عزّوجلّ في هذا الصدد. 2 ـ ثمّ تتعرّض بعض الآيات الواردة في هذه السورة إلى قسم من الصفات السيّئة والأخلاق الذميمة لأعدائه. 3 ـ كما يبيّن قسم آخر من الآيات الشريفة قصّة (أصحاب الجنّة) والتي هي بمثابة توجيه إنذار وتهديد للسالكين طريق العناد من المشركين. 4 ـ وفي قسم آخر من السورة ذكرت عدّة اُمور حول القيامة والعذاب الأليم للكفّار في ذلك اليوم. 5 ـ كما جاء في آيات اُخرى جملة إنذارات وتهديدات للمشركين. 6 ـ ونلاحظ في آيات اُخرى من السورة الأمر الإلهي للرسول العظيم محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يواجه الأعداء بصبر وإستقامة وقوّة وصلابة. 7 ـ وأخيراً تختتم السورة موضوعاتها بحديث حول عظمة القرآن الكريم، وطبيعة المؤامرات التي كان يحوكها الأعداء ضدّ الرّسول محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم). إنتخاب (القلم) اسماً لهذه السورة المباركة، كان بلحاظ ما ورد في أوّل آية منها، وذكر البعض الآخر أنّ اسمها (ن). ويستفاد من بعض الروايات التي وردت في فضيلة هذه السورة أنّ اسمها "ن والقلم". فضيلة تلاوه سورة القلم: نقل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في فضيلة تلاوة هذه السورة أنّه قال: "من قرأ (ن والقلم) أعطاه الله ثواب الذين حسن أخلاقهم"(173). كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "من قرأ سورة (ن والقلم) في فريضة أو نافلة، آمنه الله أن يصيبه في حياته فقر أبداً، وأعاذه إذا مات من ضمّة القبر، إن شاء الله"(174). وهذا الأجر والجزاء يتناسب تناسباً خاصّاً مع محتوى السورة، والهدف من التأكيد على هذا النوع من الأجر من تلاوة السورة هو أن تكون التلاوة مقرونة بالوعي والمعرفة ومن ثمّ العمل بمحتواها. * * * الآيات ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُون (2)وَإِنَّ لَكَ لاََجْراً غَيْرَ مَمْنُون (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُق عَظِيم (4)فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) التّفسير عجباً لأخلاقك السامية: هذه السورة هي السورة الوحيدة التي تبدأ بحرف (ن) حيث يقول تعالى: ( ن). وقد تحدّثنا مرّات عديدة حول الحروف المقطّعة، خصوصاً في بداية سورة (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف) والشيء الذي يجدر إضافته هنا هو ما اعتبره البعض من أنّ (ن) هنا تخفيف لكلمة (الرحمن) فهي إشارة لذلك. كما أنّ البعض الآخر فسّرها بمعنى (اللوح) أو (الدواة) أو (نهر في الجنّة) إلاّ أنّ كلّ تلك الأقوال ليس لها دليل واضح. وبناءً على هذا فإنّ الحرف المقطّع هنا لا يختلف عن تفسير بقيّة الحروف المقطّعة والتي أشرنا إليها سابقاً. ثمّ يقسم تعالى بموضوعين يعتبران من أهمّ المسائل في حياة الإنسان، فيقول تعالى: ( والقلم وما يسطرون). كم هو قسم عجيب؟ وقد يتصوّر أنّ القسم هنا يتعلّق ظاهراً بمواضيع صغيرة، أي قطعة من القصب ـ أو شيء يشبه ذلك ـ وبقليل من مادّة سوداء، ثمّ السطور التي تكتب وتخطّ على صفحة صغيرة من الورق. إلاّ أنّنا حينما نتأمّل قليلا فيه نجده مصدراً لجميع الحضارات الإنسانية في العالم أجمع، إنّ تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار وتطور المدارس الدينية والفكرية، وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية .. كان بفضل ما كُتب من العلوم والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة، ممّا كان له الأثر الكبير في يقظة الاُمم وهداية الإنسان .. وكان ذلك بواسطة (القلم). لقد قسّمت حياة الإنسان إلى عصرين: (عصر التأريخ) و (عصر ما قبل التأريخ) وعصر تأريخ البشر يبدأ منذ أن إخترع الإنسان الخطّ وإستطاع أن يدوّن قصّة حياته وأحداثها على الصفحات، وبتعبير آخر، يبدأ عندما أخذ الإنسان القلم بيده، ودوّن للآخرين ما توصّل إليه (وما يسطرون) تخليداً لماضيه. وتتّضح عظمة هذا القسم بصورة أكثر عندما نلاحظ أنّ هذه الآيات المباركة حينما نزلت لم يكن هنالك كتاب ولا أصحاب قلم، وإذا كان هنالك أشخاص يعرفون القراءة والكتابة، فإنّ عددهم في كلّ مكّة ـ التي تمثّل المركز العبادي والسياسي والإقتصادي لأرض الحجاز ـ لم يتجاوز الـ (20) شخصاً. ولذا فإنّ القسم بـ (القلم) في مثل ذلك المحيط له عظمة خاصّة. والرائع هنا أنّ الآيات الاُولى التي نزلت على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في (جبل النور) أو (غار حراء) قد اُشير فيها أيضاً إلى المنزلة العليا للقلم، حيث يقول تعالى: ( اقرأ باسم ربّك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربّك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم)(175). والأروع من ذلك كلّه أنّ هذه الكلمات كانت تنطلق من فمّ شخص لم يكن يقرأ أو يكتب، ولم يذهب للمكاتب من أجل التعليم قطّ، وهذا دليل أيضاً على أنّ ما ينطق به لم يكن غير الوحي السماوي. وذكر بعض المفسّرين أنّ كلمة (القلم) هنا يقصد بها: (القلم الذي تخطّ به ملائكة الله العظام الوحي السماوي)، (أو الذي تكتب به صفحة أعمال البشر)، ولكن من الواضح أنّ للآية مفهوماً واسعاً، وهذه الآراء تبيّن مصاديقها. كما أنّ لجملة ( ما يسطرون) مفهوماً واسعاً أيضاً، إذ تشمل جميع ما يكتب في طريق الهداية والتكامل الفكري والأخلاقي والعلمي للبشر، ولا ينحصر بالوحي السماوي أو صحائف أعمال البشر(176). ثمّ يتطرّق سبحانه لذكر الأمر الذي أقسم من أجله فيقول تعالى: ( ما أنت بنعمة ربّك بمجنون). إنّ الذين نسبوا إليك هذه النسبة القبيحة هم عمي القلوب والأبصار، وإلاّ فأين هم من كلّ تلك النعم الإلهية التي وهبها الله لك؟ نعمة العقل والعلم الذي تفوّقت بها على جميع الناس ونعمة الأمانة والصدق والنبوّة ومقام العصمة ... إنّ الذين يتّهمون صاحب هذا العقل الجبّار بالجنون هم المجانين في الحقيقة، إنّ إبتعادهم عن دليل الهداية وموجّه البشرية لهو الحمق بعينه. ثمّ يضيف تعالى بعد ذلك: ( وإنّ لك لأجراً غير ممنون) أي غير منقطع، ولِمَ لا يكون لك مثل هذا الأجر، في الوقت الذي وقفت صامداً أمام تلك التّهم والإفتراءات اللئيمة، وأنت تسعى لهدايتهم ونجاتهم من الضلال وواصلت جهدك في هذا السبيل دون تعب أو ملل؟ "ممنون" من مادّة (منّ) بمعنى (القطع) ويعني الأجر والجزاء المستمرّ الذي لا ينقطع أبداً، وهو متواصل إلى الأبد، يقول البعض: إنّ أصل هذا المعنى مأخوذ من "المنّة"، بلحاظ أنّ المنّة توجب قطع النعمة. وقال البعض أيضاً: إنّ المقصود من ( غير ممنون) هو أنّ الله تعالى لم تكن لديه منّة مقابل هذا الأجر العظيم. إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أنسب. وتعرض الآية اللاحقة وصفاً آخر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك بقوله تعالى: ( وإنّك لعلى خُلُق عظيم). تلك الأخلاق التي لا نظير لها، ويحار العقل في سموّها وعظمتها من صفاء لا يوصف، ولطف منقطع النظير، وصبر وإستقامة وتحمّل لا مثيل لها، وتجسيد لمبادىء الخير حيث يبدأ بنفسه أوّلا فيما يدعو إليه، ثمّ يطلب من الناس العمل بما دعا إليه والإلتزام به. عندما دعوت ـ يارسول الله ـ الناس لعبادة الله، فقد كنت أعبد الناس جميعاً، وإذ نهيتهم عن سوء أو منكر فإنّك الممتنع عنه قبل الجميع، تقابل الأذى بالنصح، والإساءة بالصفح، والتضرّع إلى الله بهدايتهم، وهم يؤلمون بدنك الطاهر رمياً بالحجارة، واستهزاءاً بالرسالة، وتقابل وضعهم للرماد الحارّ على رأسك الشريف بدعائك لهم بالرشد. نعم لقد كنت مركزاً للحبّ ومنبعاً للعطف ومنهلا للرحمة، فما أعظم أخلاقك؟ "خُلُق" من مادّة (الخلقة) بمعنى الصفات التي لا تنفكّ عن الإنسان، وهي ملازمة له، كخلقة الإنسان. وفسّر البعض الخُلُق العظيم للنبي بـ (الصبر في طريق الحقّ، وكثرة البذل والعطاء، وتدبير الاُمور، والرفق والمداراة، وتحمّل الصعاب في مسير الدعوة الإلهية، والعفو عن المتجاوزين، والجهاد في سبيل الله، وترك الحسد والبغض والغلّ والحرص ..، وبالرغم من أنّ جميع هذه الصفات كانت متجسّدة في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلاّ أنّ الخُلُق العظيم له لم ينحصر بهذه الاُمور فحسب، بل أشمل منها جميعاً. وفسّر الخُلُق العظيم أيضاً بـ (القرآن الكريم) أو (مبدأ الإسلام) ومن الممكن أن تكون الموارد السابقة من مصاديق المفهوم الواسع للآية أعلاه. وعلى كلّ حال فإنّ تأصّل هذا (الخُلُق العظيم) في شخصية الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو دليل واضح على رجاحة العقل وغزارة العلم له ونفي جميع التّهم التي تنسب من قبل الأعداء إليه. ثمّ يضيف سبحانه بقوله: ( فستبصر ويبصرون). ( بأيّكم المفتون) أي من منكم هو المجنون(177). "مفتون": اسم مفعول من (الفتنة) بمعنى الإبتلاء، وورد هنا بقصد الإبتلاء بالجنون. نعم، إنّهم ينسبون هذه النسب القبيحة إليك ليبعدوا الناس عنك، إلاّ أنّ للناس عقلا وإدراكاً، يقيّمون به التعاليم التي يتلقّونها منك، ثمّ يؤمنون بها ويتعلّمونها تدريجيّاً، وعندئذ تتّضح الحقائق أمامهم، وهي أنّ هذه التعاليم العظيمة مصدرها الباريء عزّوجلّ، أنزلها على قلبك الطاهر بالإضافة إلى ما منحك من نصيب عظيم في العقل والعلم. كما أنّ مواقفك وتحرّكاتك المستقبلية المقرونة بالتقدّم السريع لإنتشار الإسلام، ستؤكّد بصورة أعمق أنّك منبع العلم والعقل الكبيرين، وأنّ هؤلاء الأقزام الخفافيش هم المجانين، لأنّهم تصدّوا لمحاربة نور هذه الشمس العظيمة المتمثّلة بالحقّ الإلهي والرسالة المحمّدية. ومن الطبيعي فإنّ هذه الحقائق ستتوضّح أمامهم يوم القيامة بصورة دامغة، ويخسر هنالك المبطلون، حيث تتبيّن الاُمور وتظهر الحقيقة. وللتأكيد على المفهوم المتقدّم يقول سبحانه مرّة اُخرى: ( إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين). وبلحاظ معرفة الباريء عزّوجلّ بسبيل الحقّ وبمن سلكه ومن جانبه وتخلّف أو إنحرف عنه، فإنّه يطمئن رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّه والمؤمنون في طريق الهداية والرشد، أمّا أعداؤه فهم في متاه الضلالة والغواية. وجاء في حديث مسند أنّ قريشاً حينما رأت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقدم الإمام علي (عليه السلام) على الآخرين ويجلّه ويعظّمه، غمزه هؤلاء وقدحوا به (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: (لقد فتن محمّد به) هنا أنزل الله تعالى قرآناً وذلك قوله: ( ن والقلم) وأقسم بذلك، وإنّك يامحمّد غير مفتون ومجنون حتّى قوله تعالى: ( إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) حيث الله هو العالم بالأشخاص الذين ضلّوا وانحرفوا عن سواء السبيل، وهي إشارة إلى قريش التي كانت تطلق هذه الإتّهامات، كما أنّه تعالى أعرف بمن اهتدى، وهي إشارة إلى الإمام علي (عليه السلام)(178). * * * ملاحظات 1 ـ دور القلم في حياة الإنسان إنّ من أهمّ معالم التطور في الحياة البشرية ـ كما أشرنا سابقاً ـ هو ظهور الخطّ وما ثبّته القلم على صحائف الأوراق والأحجار، إذ أنّ هذا الحدث أدّى إلى فصل (عصر التاريخ) عن (عصر ما قبل التاريخ). إنّ ما يثبته القلم على صفحات الورق هو الذي يحدّد طبيعة الإنتصار أو الإنتكاسة لمجتمع ما من المجتمعات الإنسانية، وبالتالي فإنّ ما يسطّره القلم يحدّد مصير البشر في مرحلة ما أو مكان ما .. فـ (القلم) هو الحافظ للعلوم، المدوّن للأفكار، الحارس لها، وحلقة الإتّصال الفكري بين العلماء، والقناة الرابطة بين الماضي والحاضر، والحاضر والمستقبل. بل حتّى موضوع إرتباط الأرض بالسماء قد حصل هو الآخر عن طريق اللوح والقلم أيضاً. فالقلم يربط بين بني البشر المتباعدين من الناحية الزمانية والمكانية، وهو مرآة تعكس صور المفكّرين على طول التاريخ في كلّ الدنيا وتجمعها في مكتبة كبيرة. والقلم: حافظ للأسرار، مؤتمن على ما يستودع، وخازن للعلم، وجامع للتجارب عبر القرون والأعصار المختلفة. وإذا كان القرآن قد أقسم به فلهذا السبب، لأنّ القسم غالباً لا يكون إلاّ بأمر عظيم وذي قيمة وشأن. ومن الطبيعي عندئذ أن يكون (القلم) وسيلة لـ (ما يسطرون) من الكتابة، ونلاحظ القسم بكليهما لقد أقسم القرآن الكريم بـ (الوسيلة) وكذلك (بحصاد) تلك الوسيلة (وما يسطرون). وجاء في بعض الروايات "إنّ أوّل ما خلق الله القلم". نقل هذا الحديث محدّثو الشيعة عن الإمام الصادق (عليه السلام)(179). وجاء هذا المعنى أيضاً في كتب أهل السنّة في خبر معروف(180). وجاء في رواية اُخرى: (أوّل ما خلق الله تعالى جوهرة)(181). وورد في بعض الأخبار أيضاً: (إنّ أوّل ما خلق الله العقل)(182). ويمكن ملاحظة طبيعة الإرتباط الخاصّ بين كلّ من (الجوهرة) و (القلم) و (العقل) الذي يوضّح مفهوم كونهم أوّل ما خلق الله سبحانه من الوجود. جاء في نهاية الحديث الذي نقلناه عن الإمام الصادق (عليه السلام) إنّ الله تعالى قال للقلم بعد خلقه إيّاه: أكتب، وأنّه كتب ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة. وبالرغم من أنّ المقصود من القلم في هذه الرواية هو قلم التقدير والقضاء، إلاّ أنّ جميع ما هو موجود من أفكار وعلوم وتراث، وما توصّل إليه العقل البشري على طول التأريخ، وما هو مثبت من مبادىء ورسالات وتعاليم وأحكام .. يؤكّد على دور القلم في الحياة الإنسانية ومصير البشرية. إنّ قادة الإسلام العظام لم يكتفوا بحفظ الأحاديث والروايات والعلوم والمعارف الإلهية في ذاكرتهم بل كانوا يؤكّدون على كتابتها، لتبقى محفوظة لأجيال المستقبل(183). وقال بعض العلماء: (البيان بيانان: بيان اللسان، وبيان البنان، وبيان اللسان تدرسه الأعوام، وبيان الأقلام باق على مرّ الأيّام)(184). وقالوا أيضاً: (إنّ قوام اُمور الدين والدنيا بشيئين: القلم والسيف، والسيف تحت القلم)(185). وقد نظّم بعض شعراء العرب هذا المعنى بقولهم: كذا قضى الله للأقلام مذ بريت أنّ السيوف لها مذ أرهفت خدم (إنّ هذا التعبير إشارة بديعة إلى بري القلم بواسطة السكين، وجعل الشفرة الحادّة بخدمة القلم من البداية)(186). ويقول شاعر آخر، في هذا الصدد ومن وحي الآيات مورد البحث: إذا أقسم الأبطال يوماً بسيفهم وعدّوه ممّا يجلب المجد والكرم كفى قلم الكتاب فخراً ورفعة مدى الدهر إنّ الله أقسم بالقلم(187) وإنّه لحقّ، وذلك أنّه حتّى الإنتصارات العسكرية إذا لم تستند وترتكز على ثقافة قويّة فإنّها لن تستقيم طويلا. لقد سجلّ المغول أكبر الإنتصارات العسكرية في البلدان الإسلامية، ولأنّهم كانوا شعباً سطحياً في مجال المعرفة والثقافة فلم يؤثّروا شيئاً، وأخيراً اندمجوا في حضارة الإسلام وثقافة المسلمين وغيّروا مسارهم. ومجال البحث في هذا الباب واسع جدّاً، إلاّ أنّنا ـ إلتزاماً بمنهج التّفسير وعدم الخروج عنه ـ ننهي كلامنا هنا بحديث معبّر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الموضوع حيث يقول: "ثلاثة تخرق الحجب، وتنتهي إلى ما بين يدي الله: صرير أقلام العلماء، ووطىء أقدام المجاهدين، وصوت مغازل المحصنات"(188). ومن الطبيعي أنّ كلّ ما قيل في هذا الشأن، يتعلّق بالأقلام التي تلتزم جانب الحقّ والعدل، وتهدي إلى صراط مستقيم، أمّا الأقلام المأجوره والمسمومة والمضلّة، فإنّها تعتبر أعظم بلاء وأكبر خطر على المجتمعات الإنسانية. 2 ـ نموذج من أخلاق الرّسول بالرغم من أنّ الإنتصارات التي تمّت على يد الرّسول محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت برعاية الله سبحانه وإمداده، إلاّ أنّ ذلك كان اقتراناً بعوامل عديدة أيضاً، ولعلّ أحد أهمّ هذه العوامل هو: سمو الأخلاق عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجاذبيته الشخصية، إنّ أخلاقيته (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت من العلو والصفات الإنسانية السامية لدرجة أنّ ألدّ أعدائه كان يقع تحت تأثيرها كما أنّ مكارم الأخلاق التي أودعت فيه كانت تجذب وتشدّ المحبّين والمريدين إليه بصورة عجيبة. وإذا ما ذهبنا إلى القول بأنّ السمو الأخلاقي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان معجزة أخلاقية، فإنّنا لا نبالغ في ذلك، كما سنوضّح لذلك نموذجاً من هذا الإعجاز الأخلاقي .. ففي فتح مكّة وعندما إستسلم المشركون أمام الإرادة الإسلامية، ورغم كلّ حربهم للإسلام والمسلمين وشخص الرّسول الكريم بالذات، وبعد تماديهم اللئيم وكلّ ممارساتهم الإجرامية ضدّ الدعوة الإلهية .. بعد كلّ هذا الذي فعلوه، فإنّ رسول الإنسانية أصدر أمراً بالعفو العامّ عنهم جميعاً، وغضّ الطرف عن جميع الجرائم التي صدرت منهم، وكان هذا مفاجأة للمقرّبين والبعيدين، الأصدقاء والأعداء، وكان سبباً في دخولهم في دين الله أفواجاً، بمصداق قوله تعالى: ( ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً). لقد وردت في كتب التّفسير والتاريخ قصص كثيرة حول حسن خُلُق الرّسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) في عفوه وتجاوزه وعطفه ورأفته، وتضحيته وإيثاره وتقواه ... بحيث أنّ ذكرها جميعاً يخرجنا عن البحث التّفسيري .. إلاّ أنّنا سنكتفي بما يلي: وجاء في حديث عن الحسين بن علي (عليه السلام) أنّه قال: سألت أبي أمير المؤمنين عن رسول الله كيف كان سيرته في جلسائه؟ فقال: كان دائم البِشر، سهل الخُلُق، ليّن الجانب، ليس بفظّ، ولا غليظ ولا صخّاب، ولا فحّاش، ولا عيّاب، ولا مدّاح، يتغافل عمّا لا يشتهي، فلا يؤيّس منه ولا يخيب فيه مؤمّليه، قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والإكثار وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث كان لا يذمّ أحداً ولا يعيّره، ولا يطلب عثراته ولا عورته ولا يتكلّم إلاّ في ما رجا ثوابه، إذا تكلّم أطرق جلساؤه كإنّما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلّموا، ولا يتنازعون عنده الحديث ..."(189). نعم لو لم تكن هذه الأخلاق الكريمة وهذه الملكات الفاضلة، لما أمكن تطويع تلك الطباع الخشنة والقلوب القاسية، ولما أمكن تليين اُولئك القوم الذين كان يلفّهم الجهل والتخلّف والعناد، ويحدث فيهم إنعطافاً هائلا لقبول الإسلام .. ولتفرّق الجميع من حوله بمصداق قوله تعالى: ( لانفضّوا من حولك). وكم كان رائعاً لو أحيينا والتزمنا بهذه الأخلاق الإسلامية القدوة، وكان كلّ منّا يحمل قبساً من إشعاع خلق وأخلاق رسولنا الكريم وخاصّة في عصرنا هذا حيث ضاعت فيه القيم، وتنكبّ الناس عن الخُلُق القويم. والروايات في هذا الصدد كثيرة، سواء ما يتعلّق منها حول شخص الرّسول الكريم أو ما يتعلّق بواجب المسلمين في هذا المجال، ونستعرض الآن بعضاً من الروايات في هذا الموضوع. 1 ـ جاء في حديث أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "إنّما بعثت لاُتمّم مكارم الأخلاق"(190). ولذا فإنّ أحد الأهداف الأساسية لبعثة الرّسول السعي لتكامل الاخلاق الفاضلة وتركيز الخُلُق السامي. 2 ـ وجاء في حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ المؤمن ليدرك بحسن خُلُقه درجة قائم الليل وصائم النهار"(191). 3 ـ وورد عنه أيضاً (صلى الله عليه وآله وسلم): "ما من شيء أثقل في الميزان من خُلُق حسن"(192). 4 ـ ونقل عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "أحبّكم إلى الله أحسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلّفون. وأبغضكم إلى الله المشاءون بالنميمة، المفرّقون بين الإخوان، الملتمسون للبراء العثرات"(193). 5 ـ ونقرأ في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "أكثر ما يدخل الناس الجنّة تقوى الله وحسن الخُلُق"(194). 6 ـ وجاء في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام): (إنّ أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً"(195). 7 ـ وورد حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: "عليكم بحسن الخُلُق، فإنّ حسن الخُلُق في الجنّة لا محالة، وإيّاكم وسوء الخُلُق، فإنّ سوء الخُلُق في النار لا محالة"(196). إنّ ما يستفاد من مجموع الأخبار ـ أعلاه ـ بشكل واضح وجليّ، أنّ حسن الخُلُق مفتاح الجنّة، ووسيلة لتحقيق مرضاة الله عزّوجلّ، ومؤشّر على عمق الإيمان، ومرآة للتقوى والعبادة .. والحديث في هذا المجال كثير جدّاً. * * * الآيات فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّف مَّهِين (10) هَمَّاز مَّشَّاء بِنَمِيم (11) مَّنَّاع لِّلْخَيْرِ مُعْتَد أَثِيم (12) عُتُلِّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم (13) أَن كَانَ ذَا مَال وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَـتُنَا قَالَ أَسَـطِيرُ الاَْوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) التّفسير اجتنب أصحاب هذه الصفات: بعد أن تعرّضت الآيات السابقة إلى الأخلاق السامية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، تلتها الآيات أعلاه مستعرضة أخلاق أعدائه ليتّضح لنا الفرق بين الأخلاقيتين، وذلك من خلال المقارنة بينهما. يقول تعالى في البداية: ( فلا تطع المكذّبين). إنّهم اُناس ضالّون، ويدفعون الآخرين للتكبّر على الله ورسوله، وينهونهم عن قبول مبدأ الهداية، وقد استهانوا، واستخفّوا بقيم الحقّ، وإنّ الطاعة والإستجابة لهؤلاء سوف لن تكون نتيجتها إلاّ الضلال والخسران. ثمّ يشير تعالى إلى جهد هؤلاء المتواصل في إقناع الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بمصالحتهم والإعراض عن آلهتهم وضلالهم فيقول: ( ودّوا لو تدهن فيدهنون). إنّ من أمانيهم ورغبتهم أن تلين وتنعطف باتّجاههم، وتغضّ الطرف عن تكليفك الرسالي من أجلهم. ونقل المفسّرون أنّ هذه الآيات نزلت حينما دعا رؤساء مكّة وساداتها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للسير على نهج أجدادهم في الشرك بالله وعبادة الأوثان، وقد نهى الله تعالى رسوله الكريم عن الإستجابة لهم وإطاعتهم(197). ونقل البعض الآخر أنّ (الوليد بن المغيرة) وكان أحد زعماء الشرك قد عرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أموالا طائلة، وحلف أنّه سيعطيها لـ (محمّد) إذا تخلّى عن مبدئه ودينه(198). والذي يستفاد من لحن الآيات ـ بصورة واضحة ـ وممّا جاء في التواريخ، أنّ المشركين الذين أعمى الله بصيرتهم، عندما شاهدوا التقدّم السريع للإسلام وإنتشاره، حاولوا إعطاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعض المكاسب في مقابل تقديم تنازلات مماثلة، في محاولة لترتيب نوع من الصلح معه (صلى الله عليه وآله وسلم). وهذا هو منهج أهل الباطل ـ دائماً ـ في الظروف والأحوال التي يشعرون فيها أنّهم سيخسرون كلّ شيء ويفقدون مواقفهم، لذا فإنّهم اقترحوا عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) إعطاءه أموالا طائلة، كما اقترحوا تزويجه بأجمل بناتهم، كما عرضوا عليه جاهاً ومقاماً وملكاً بارزاً، وما إلى ذلك من اُمور كانوا متعلّقين بها ومتفاعلين معها ومتهالكين عليها، ويقيسون الرّسول بقياسها". إلاّ أنّ القرآن الكريم حذّر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مراراً من مغبّة إبداء أي تعاطف مع عروضهم وإقتراحاتهم الماكرة وأكّد على عدم مداهنة أهل الباطل أبداً. كما جاء في قوله تعالى: ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتّبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك). "يدهنون" من مادّة (مداهنة) مأخوذة في الأصل (الدهن) وتستعمل الكلمة في مثل هذه الموارد بمعنى إظهار اللين والمرونة، وفي الغالب يستعمل هذا التعبير في مجال إظهار اللين والميل المذموم كما في حالة النفاق. ثمّ ينهى سبحانه مرّة اُخرى عن اتّباعهم وطاعتهم، حيث يسرد الصفات الذميمة لهم، والتي كلّ واحدة منها يمكن أن تكون وحدها سبباً للإبتعاد عنه والصدود عن الإستجابة لهم. يقول تعالى: ( ولا تطع كلّ حلاّف مهين). تقال كلمة "حلاّف" على الشخص الكثير الحلف، والذي يحلف على كلّ صغيرة وكبيرة، وهذا النموذج في الغالب لا يتسّم بالصدق، ولذا يحاول أن يطمئن الآخرين بصدقه من خلال الحلف والقسم. "مهين" من (المهانة) بمعنى الحقارة والضّعة، وفسّرها البعض بأنّها تعني الأشرار أو الجهلة أو الكاذبين. ثمّ يضيف عزّوجلّ: ( همّاز مشّاء بنميم). "همّاز" من مادّة (همز)، (على وزن رمز) ويعني: الغيبة وإستقصاء عيوب الآخرين. "مشّاء بنميم" تطلق على الشخص الذي يمشي بين الناس بإيجاد الإفساد والفرقة، وإيجاد الخصومة والعداء فيما بينهم (وممّا يجدر الإلتفات إليه أنّ هذين الوصفين وردا بصيغة المبالغة، والتي تحكي غاية الإصرار في العمل والإستمرار بهذه الممارسات القبيحة). ثمّ يسرد تعالى أوصافاً اُخرى لهم، حيث يقول في خامس وسادس وسابع صفة ذميمة لأخلاقهم: ( منّاع للخير معتد أثيم). ومن صفاتهم أيضاً أنّهم ليسوا فقط مجانبين لعمل الخير، ولا يسعون في سبيله، ولا يساهمون في إشاعته والعون عليه .. بل إنّهم يقفون سدّاً أمام أي ممارسة تدعو إليه، ويمنعون كلّ جهد في الخير للآخرين، وبالإضافة إلى ذلك فإنّهم متجاوزون لكلّ السنن والحقوق التي منحها الله عزّوجلّ لكلّ إنسان ممّا تلطف به من خيرات وبركات عليه. وفوق هذا فهم مدنسون بالذنوب، محتطبون للآثام، بحيث أصبح الذنب والإثم جزءاً من شخصياتهم وطباعهم التي هي منّاعة للخير، معتدية وآثمة. وأخيراً يشير إلى ثامن وتاسع صفة لهم حيث يقول تعالى: ( عتل بعد ذلك زنيم). "عتل" كما يقول الراغب في المفردات: تطلق على الشخص الذي يأكل كثيراً ويحاول أن يستحوذ على كلّ شيء، ويمنع الآخرين منه. وفسّر البعض الآخر كلمة (عتلّ) بمعنى الإنسان السيء الطبع والخُلُق، الذي تتمثّل فيه الخشونة والحقد، أو الإنسان سيء الخُلُق عديم الحياء. "زنيم" تطلق على الشخص المجهول النسب، والذي ينتسب لقوم لا نسبة له معهم، وهي في الأصل من (زنمة)، (على وزن عظمة) وتقال للجزء المتدلّي من اُذن الغنم، فكأنّها ليست من الاُذن مع أنّها متصلة بها. والتعبير بشكل عام إشارة إلى أنّ هاتين الصفتين هما أشدّ قبحاً وضعة من الصفات السابقة كما استفاد ذلك بعض المفسّرين. وخلاصة البحث أنّ الله تعالى قد أوضح السمات الأساسية للمكذّبين، وبيّن صفاتهم القبيحة وأخلاقهم الذميمة بشكل لا نظير له في القرآن بأجمعه، وبهذه الصورة يوضّح لنا أنّ الأشخاص الذين وقفوا بوجه الإسلام والقرآن، وعارضوا الرّسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا من أخسّ الناس وأكثرهم كذباً وإنحطاطاً وخسّة، فهم يتتبعون عيوب الآخرين، نمّامون، معتدون، آثمون، ليس لهم أصل ونسب، وفي الحقيقة أنّنا لا نتوقّع أن يقف بوجه النور الرسالي إلاّ أمثال هؤلاء الأشرار. ويحذّر سبحانه في الآية اللاحقة من الإستجابة لهم والتعامل معهم بسبب كثرة أموالهم وأولادهم: بقوله: ( أن كان ذا مال وبنين). وممّا لا شكّ فيه أنّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن ليستسلم لهؤلاء أبداً، وهذه الآيات ما هي إلاّ تأكيد على هذا المعنى، كي يكون خطّه الرسالي وطريقته العملية واضحة للجميع، ولن تنفع جميع الإغراءات الماديّة في عدوله عن مهمّته الرسالية. وبناءً على هذا فإنّ الجملة أعلاه تأتي تكملة للآية الكريمة: ( ولا تطع كلّ حلاّف مهين). إلاّ أنّ البعض اعتبر ذلك بياناً وعلّة لظهور هذه الصفات السلبية، حيث الغرور الناشىء من الثروة وكثرة الأولاد جرّهم ودفعهم إلى مثل هذه الرذائل الأخلاقية. ولهذا يمكن ملاحظة هذه الصفات في الكثير من الأغنياء والمقتدرين غير المؤمنين. إلاّ أنّ لحن الآيات يتناسب مع التّفسير الأوّل أكثر، ولهذا اختاره أغلب المفسّرين. وتوضّح الآية اللاحقة ردود فعل هؤلاء الأشخاص ذوي الصفات الأخلاقية المريضة إزاء الآيات الإلهية، حيث يقول تعالى: ( إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأوّلين). وبهذا المنطق السقيم والحجج الواهية يعرض عن آيات الله عزّوجلّ، فيضلّ ويغوى ويدعو الآخرين للغي والضلال، ولهذا يجب عدم الإستجابة لهؤلاء وعدم السماع لهم في مثل هذه الاُمور، والإعراض عنهم وعدم طاعتهم، وهذا تأكيد للنهي عن طاعتهم الذي تعرّضت إليه الآيات السابقة. وتوضّح لنا آخر آية ـ من هذه الآيات ـ مفردة من مفردات الجزاء الذي سيلاقيه أمثال هؤلاء فيضيف سبحانه: ( سنسمّه على الخرطوم). وهذا التعبير كاشف ومعبّر عن سوء النهاية المذلّة لهؤلاء، إذ جاء التعبير أوّلا بالخرطوم الذي يستعمل للفيل وللخنزير فقط، وهو دلالة واضحة في تحقيرهم. وثانياً: أنّ الأنف في لغة العرب غالباً ما يستعمل كناية عن العزّة والعظمة، كما يقال للفارس حين إذلاله: مرّغوا أنفه بالتراب، كناية عن زوال عزّته. وثالثاً: أنّ وضع العلاّمة تكون عادة للحيوانات فقط، بل حتّى بالنسبة إلى الحيوانات فإنّها لا تعلّم في وجوهها ـ خصوصاً اُنوفها ـ أضف إلى ذلك أنّ الإسلام قد نهى عن مثل هذا العمل. ومع كلّ ما تقدّم تأتي الآية الكريمة ببيان معبّر واف وواضح أنّ الله تعالى سيذلّ هؤلاء الطغاة الذين امتلؤا عجباً بذواتهم، المتمادين في عنادهم وإصرارهم على الباطل، وتجاوزهم على الرّسول والرسالة .. سيذلّهم بتلك الصورة التي تحدّثت عنها الآية ويفضحهم على رؤوس الأشهاد ليكونوا موضع عبرة للجميع. إنّ التاريخ الإسلامي ينقل لنا كثيراً من صور الإذلال والإمتهان لأمثال هذه المجموعة المخالفة للحقّ المعاندة في ضلالها، المكابرة في تمسّكها بالباطل، بالرغم من تقدّم الرسالة الإسلامية وقوّتها وإنتصاراتها، كما أنّ فضيحتهم في الآخرة ستكون أدهى وأمرّ. قال بعض المفسّرين: إنّ أكثر آيات هذه السورة كان يقصد بها (الوليد بن المغيرة) أحد رموز الشرك الذي واجه الإسلام وتعرّض لرسوله الأمين محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّ من المسلّم به أنّ هذا القصد، لا يمنع من تصميم وتوسعة مفهوم الآيات الكريمة وشموليته(199). * * * ملاحظات 1 ـ الرذائل الأخلاقية بالرغم من أنّ الآيات أعلاه تحدّثت عن الصفات الأخلاقية الرذيلة للمخالفين والمعاندين لرسول الإسلام محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أنّها في الوقت نفسه تعكس لنا نماذج ومفردات للصفات السلبية التي تبعد الإنسان عن الله عزّوجلّ، وتسقطه في وحل الشقاء والبؤس، ممّا يستدعي من المؤمنين الملتزمين أن يكونوا على حذر منها ويراقبوا أنفسهم بدقّة من التلوّث بها، ولذا فقد أكّدت الروايات الإسلامية كثيراً على هذا المعنى. ومن جملة ذلك ما يلي: 1 ـ نقرأ في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "ألا اُنبئّكم بشراركم؟ قالوا: بلى يارسول الله، قال: المشّاءون بالنميمة، المفرّقون بين الأحبّة، الباعثون للبرءاء المعايب"(200). لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يؤكّد كثيراً على البناء الأخلاقي للشخصية الإسلامية، حتّى أنّه قال: "لا يبلّغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً، فإنّي أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر"(201). 2 ـ وأخيراً نقرأ في حديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "لا يدخل الجنّة جواظ، ولا جعظري، ولا عتل زنيم". يقول الراوي: قلت: فما الجواظ؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): كلّ جمّاع منّاع، قلت: فما الجعظري؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): الفضّ الغيظ؟ قلت: فما العتل الزنيم؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): رحب الجوف سيء الخُلُق أكول شروب غشوم ظلوم"(202). 2 ـ المداهنة والصلح إنّ من جملة الخصائص التي يتميّز بها تجّار السياسة، والأشخاص والمجاميع غير الرسالية، أنّهم يتلوّنون ويتصرّفون بالشكل الذي يتماشى مع مصالحهم، فلا ضوابط ولا ثوابت تحكمهم، بل هم على إستعداد دائم للتنازل عن كثير من الشعارات المدعاة من جانبهم، مقابل تحقيق بعض المكاسب أو الحصول على بعض الإمتيازات. أمّا متبنّياتهم المدعاة فلا تشكّل شيئاً مقدّساً بالنسبة إليهم، ويحوّرونها بما تقتضيه مصالحهم، وهذا المفهوم هو ما تشير إليه الآية الكريمة حيث يقول تعالى: ( ودّوا لو تدهن فيدهنون). أمّا أهل المبادىء والإلتزام فإنّهم لا يضحّون بأهدافهم المقدّسة مطلقاً ولا يساومون عليها أو يداهنون أبداً، ولن يتخلّوا عن متبنّياتهم ويقوموا بعمل أو صلح على خلاف ما تمليه عليهم مبادئهم العقائدية، خلافاً لما عليه تجّار السياسة .. إنّ هذا المقياس من أفضل الدلائل لتشخيص السياسيين المنحرفين عن غيرهم من المبدئيين، والأشخاص الذين يسايرون هؤلاء المنحرفين لا شكّ أنّهم بعيدون عن طريق الله وأوليائه. * * * الآيات إِنَّا بَلَوْنَـهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَـبَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلاَ يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ(21) أَنِ اغْدوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَـرِمِينَ (22)فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَـفَتُونَ (23) أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْد قَـدِرِينَ (25) التّفسير قصّة (أصحاب الجنّة): في الآيات أعلاه يستعرض لنا القرآن الكريم ـ بما يتناسب مع البحث الذي ورد في الآيات السابقة ـ قصّة أصحاب الجنّة كنموذج لذوي المال الذين غرقوا في أنانيتهم، فأصابهم الغرور، وتخلّوا عن القيم الإنسانية الخيّرة، وأعماهم حبّ المال عن كثير من الفضائل .. فالآيات الكريمة تذكر لنا قصّة مجموعة من الأغنياء كانت لهم جنّة (بستان مثمر) إلاّ أنّهم فقدوها فجأة، وذلك لعتوّهم وغرورهم وكبرهم على فقراء زمانهم. ويبدو أنّها قصّة معروفة في ذلك الزمان بين الناس، ولهذا السبب استشهد بها القرآن الكريم. يقول في البداية: ( إنّا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنّة). لقد تعدّدت الرّوايات في مكان هذه الجنّة، فقيل: إنّها في أرض اليمن بالقرب من صنعاء، وقيل: هي في الحبشة، وهناك قول بأنّها في أرض الشام، وذهب آخرون إلى أنّها في الطائف .. إلاّ أنّ المشهور أنّها كانت في أرض اليمن. وموضوع القصّة هو: أنّ شيخاً مؤمناً طاعناً في السنّ كان له بستان عامر، يأخذ من ثمره كفايته ويوزّع ما فضل من ثمرته للفقراء والمعوزين، وقد ورثه أولاده بعد وفاته، وقالوا: نحن أحقّ بحصاد ثمار هذا البستان، لأنّ لنا عيالا وأولاداً كثيرين، ولا طاقة لنا بإتّباع نفس الاُسلوب الذي كان أبونا عليه .. ولهذا فقد صمّموا على أن يستأثروا بثمار البستان جميعاً، ويحرموا المحتاجين من أي عطاء منها، فكانت عاقبتهم كما تحدّثنا الآيات الكريمة عنه .. يقول تعالى: ( إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين)(203). ( ولا يستثنون) أي لا يتركون منها شيئاً للمحتاجين. وعند التدقيق في قرارهم هذا يتّضح لنا أنّ تصميمهم هذا لم يكن بلحاظ الحاجة أو الفاقة، بل إنّه ناشىء عن البخل وضعف الإيمان، واهتزاز الثقة بالله سبحانه، لأنّ الإنسان مهما اشتدّت حاجته، فإنّه يستطيع أن يترك للفقراء شيئاً ممّا أعطاه الله. وقيل: إنّ المقصود من عدم الإستثناء هو عدم قولهم (إن يشاء الله) حيث كان الغرور مسيطراً عليهم، ممّا حدا بهم إلى أن يقولوا: غداً سنذهب ونفعل ذلك، معتبرين الأمر مختصّاً بهم، وغافلين عن مشيئة الله، ولذا لم يقولوا: (إن شاء الله). إلاّ أنّ الرأي الأوّل أصحّ(204). ثمّ يضيف تعالى استمراراً لهذا الحديث: ( فطاف عليهم طائف من ربّك وهم نائمون). لقد سلّط الله عليها ناراً حارقة، وصاعقة مهلكة، بحيث أنّ جنّتهم صارت متفحّمة سوداء ( فأصبحت كالصريم)، ولم يبق منها شيء سوى الرماد. "طائف" من مادّة (طواف)، وهي في الأصل بمعنى الشخص الذي يدور حول شيء معيّن، كما تستعمل أحياناً كناية عن البلاء والمصيبة التي تحلّ في الليل، وهذا المعنى هو المقصود هنا. "صريم" من مادّة (صرم) بمعنى (القطع) وهنا بمعنى (الليل المظلم) أو (الشجر بدون الثمار) أو (الرماد الأسود) لأنّ الليل يقطع عند مجيء النهار، كما أنّ النهار يقطع عند مجيء الليل، ولذا يقال أحياناً لليل والنهار (صريمان)، والمقصود بذلك هو: البلاء السماوي الذي تمثّل بصاعقة عظيمة ـ فيما يبدو ـ أحالت البستان إلى فحم ورماد أسود، وهكذا فعل الصواعق غالباً. وعلى كلّ حال فإنّ أصحاب البستان بقوا على تصوّرهم لأشجار جنّتهم المملوءة بالثمر، جاهزة للقطف: ( فتنادوا مصبحين)(205). وقالوا: ( أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين). "(أغدوا" من مادّة (غدوة) بمعنى بداية اليوم، ولذا يقال للغذاء الذي يؤكل في أوّل اليوم ـ وجبة الإفطار ـ غداء، بالرغم من أنّ (غداء) تقال في التعابير المستعملة حالياً لوجبة الأكل المتناولة في وقت الظهر. وعلى ضوء المقدّمات السابقة: ( فانطلقوا وهم يتخافتون). لقد كانوا يتكلّمون بهدوء حتّى لا يصل صوتهم إلى الآخرين، ولا يسمعهم مسكين، ويأتي لمشاركتهم في عملية جني الثمر أو تناول شيء من الفاكهة. ويرتقب الفقراء يوم الحصاد بفارغ الصبر في مثل هذه الأيّام، لأنّهم تعوّدوا في كلّ سنة أن ينالهم شيء من الفاكهة كما كان يفعل ذلك الشيخ المؤمن، إلاّ أنّ تصميم الأبناء البخلاء على حرمان الفقراء من العطاء، والسريّة التي غلفوا بها تحرّكاتهم، لم تدع أحداً يتوقّع أنّ وقت الحصاد قد حان .. حيث يطّلع الفقراء على الأمر بعد إنتهائه، وبهذا تكون النتيجة: ( وغدوا على حرد قادرين). "حرد" على وزن "فرد" بمعنى الممانعة التي تكون توأماً مع الشدّة والغضب، نعم إنّهم كانوا في حالة عصبية وإنفعالية من حاجة الفقراء لهم وإنتظار عطاياهم، ولذا كان القرار بتصميم أكيد على منعهم من ذلك. وتطلق كلمة (حرد) أيضاً على السنوات التي ينقطع فيها المطر، وعلى الناقة التي ينقطع حليبها. * * * الآيات فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَـنَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَـلِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض يَتَلَـوَمُونَ (30) قَالُوا يَـوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَـغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الاَْخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) التّفسير أصحاب البستان والمصير المؤلم: الآيات الشريفة ـ أعلاه ـ إستمرار لقصّة أصحاب الجنّة، التي مرّت علينا في الآيات السابقة .. فلقد تحرّكوا في الصباح الباكر على أمل أن يقطفوا محصولهم الكثير، ويستأثروا به بعيداً عن أنظار الفقراء والمحتاجين، ولا يسمحوا لأي أحد من الفقراء بمشاركتهم في هذه النعمة الإلهية الوافرة، غافلين عن تقدير الله ... فإذا بصاعقة مهلكة تصيب جنّتهم في ظلمة الليل فتحوّلها إلى رماد، في وقت كان أصحاب الجنّة يغطّون في نوم عميق. يقول القرآن الكريم: ( فلمّا رأوها قالوا إنّا لضالّون). المقصود من (ضالّون) يمكن أن يكون عدم الإهتداء إلى طريق البستان أو الجنّة، أو تضييع طريق الحقّ كما احتمل البعض، إلاّ أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر. ثمّ أضافوا: ( بل نحن محرومون) أي أردنا أن نحرم الفقراء والمحتاجين من العطاء إلاّ أنّنا حرمنا أكثر من الجميع، حرمنا من الرزق المادّي، ومن البركات المعنوية التي تحصل عن طريق الإنفاق في سبيل الله للفقراء والمحتاجين. ( قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبّحون). ألم أقل لكم اذكروا الله بالتعظيم وتجنّبوا مخالفته واشكروا نعمته وامنحوا المحتاجين شيئاً ممّا تفضّل الله به عليكم؟! لكنّكم لم تصغوا لما قلته لكم، وأخيراً وصلتم إلى هذه النتيجة البائسة في هذا اليوم الأسود. ويستفاد ممّا تقدّم أنّ أحدهم كان شخصاً مؤمناً ينهاهم عن البخل والحرص، إلاّ أنّهم كانوا لا يسمعون كلامه، ولقد أفصح عن رأيه بقوّة بعد هذه الحادثة، وأصبح منطقه أكثر حدة وقاطعية. وقد وبّخهم كثيراً على موقفهم من الفقراء، ووجّه لهم ملامة عنفية. وتستيقظ ضمائرهم في تلك اللحظة ويعترفون بخطئهم وذنوبهم و ( قالوا سبحان ربّنا إنّا كنّا ظالمين). إنّ التعبير بـ (أوسطهم) في الآية السابقة يمكن أن يكون بلحاظ حدّ الإعتدال في العقل والفكر والعلم وقيل: إنّه الوسط في السنّ والعمر. إلاّ أنّه مستبعد جدّاً، وذلك لعدم وجود إرتباط بين العمر وهذه المقالة الوافية المعبّرة. والإرتباط يكون عادة ـ بمثل هذا الكلام بين العقل والفكر. والتعبير بـ ( لولا تسبّحون) مأخوذ بلحاظ أنّ أصل وجذر كلّ الأعمال الصالحة هو الإيمان ومعرفة الله وتسبيحه وتنزيهه. وقد فسّر البعض "التسبيح" هنا بمعنى (شكر النعمة) والتي من ملازماتها إعانة المحرومين، وهذان التّفسيران لا يتنافيان مع بعضهما البعض، وهما مجموعان في مفهوم الآية الكريمة. لقد سبق تسبيحهم (الإعتراف بالذنب)، ولعلّ هذا كان لرغبتهم في تنزيه الله تعالى عن كلّ ظلم بعيداً عمّا نزّل بجنّتهم من دمار وبلاء عظيم، وكأنّ لسان حالهم يقول: ربّنا إنّنا كنّا نحن الظالمين لأنفسنا وللآخرين، ولذا حقّ علينا مثل هذا العذاب، وما أصابنا منك هو العدل والحكمة. كما يلاحظ في قسم آخر من آيات القرآن الكريم ـ أيضاً ـ أنّ التسبيح قبل الإقرار بالظلم، حيث نقرأ ذلك في قصّة يونس (عليه السلام) عندما أصبح في بطن الحوت، وذلك قوله: ( لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين)(206). والظلم بالنسبة لهذا النبي العظيم هو بمعنى ترك الأولى، كما أوضحنا ذلك في تفسير هذه الآية. إلاّ أنّ المسألة لم تنته إلى هذا الحدّ، حيث يقول تعالى: ( فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون). والملاحظ من منطوق الآية أنّ كلّ واحد منهم في الوقت الذي يعترف بذنبه، فإنّه يلقي بأصل الذنب على عاتق الآخر، ويوبّخه بشدّة، وأنّه كان السبب الأساس فيما وصلوا إليه من نتيجة بائسة مؤلمة، وكلّ منهم ـ أيضاً ـ يؤكّد أنّه لم يكن غريباً عن الله والعدالة إلى هذا الحدّ. نعم، هكذا تكون عاقبة كلّ الظالمين عندما يصبحون في قبضة العذاب الإلهي. ومع الإقرار بالذنب فإنّ كلا منهم يحاول التنصّل ممّا لحق بهم، ويسعى جاهداً لتحويل مسؤولية البؤس والدمار على الآخرين. ويحتمل أن يكون شعور كلّ منهم ـ أو غالبيتهم ـ بالأدوار المحدودة لهم فيما حصل، هو الذي دفع كلا منهم للتخلّي عن مسؤولية ما حصل، وذلك كأن يقترح شخص شيئاً، ويؤيّده الآخر في هذا الإقتراح، ويتبنّى ثالث هذا العمل، ويظهر الرابع رضاه بسكوته .. ومن الواضح في مثل هذه الأحوال مساهمة الجميع في هذه الجريمة ومشاركتهم في الذنب. ثمّ يضيف تعالى: ( قالوا ياويلنا إنّا كنّا طاغين). لقد اعترفوا في المرحلة السابقة بالظلم، وهنا اعترفوا بالطغيان، والطغيان مرحلة أعلى من الظلم، لأنّ الظالم يمكن أن يستجيب لأصل القانون إلاّ أنّ غلبة هواه عليه يدفعه إلى الظلم، أمّا الطاغي فإنّه يرفض القانون ويعلن تمرّده عليه ولا يعترف برسميّته. ويحتمل أن يكون المقصود بالظلم هو: (ظلم النفس)، والمقصود بالطغيان هو (التجاوز على حقوق الآخرين). وممّا يجدر ملاحظته أنّ العرب تستعمل كلمة (ويس) عندما يواجهون مكروهاً ويعبّرون عن إنزعاجهم منه، كما أنّهم يستعملون كلمة (ويح) أحياناً، وأحياناً اُخرى (ويل) وعادةً يكون إستعمال الكلمة الاُولى في المصيبة البسيطة، والثانية للأشدّ، والثالثة للمصيبة الكبيرة، وإستعمال كلمة (الويل) من قبل أصحاب البستان يكشف عن أنّهم كانوا يعتبرون أنفسهم مستحقّين لأشدّ حالات التوبيخ. وأخيراً ـ بعد عودة الوعي إلى ضمائرهم وشعورهم. بل وإعترافهم بالذنب والإنابة إلى الله ـ توجّهوا إلى الباريء عزّوجلّ داعين، وقالوا: ( عسى ربّنا أن يبدلنا خيراً منها إنّا إلى ربّنا راغبون)(207) فقد توجّهنا إليه ونريد منه انقاذنا ممّا تورّطنا فيه .. والسؤال المطروح هنا: هل أنّ هؤلاء ندموا على العمل الذي أقدموا عليه، وقرّروا إعادة النظر في برامجهم المستقبلية، وإذا شملتهم النعمة الإلهية مستقبلا فسيؤدّون حقّ شكرها؟ أم أنّهم وبّخوا أنفسهم وكثر اللوم بينهم بصورة موقتة، شأنهم شأن الكثير من الظالمين الذين يشتدّ ندمهم وقت حلول العذاب، وما إن يزول الضرّ الذي حاقّ بهم إلاّ ونراهم يعودون إلى ما كانوا عليه سابقاً من ممارسات مريضة؟ اختلف المفسّرون في ذلك، والمستفاد من سياق الآية اللاحقة أنّ توبتهم لم تقبل، بلحاظ عدم إكتمال شروطها وشرائطها، ولكن يستفاد من بعض الرّوايات قبول توبتهم، لأنّها كانت عن نيّة خالصة، وعوضهم عن جنّتهم باُخرى أفضل منها، مليئة بأشجار العنب المثمرة. ويقول تعالى في آخر آية من هذه الآيات، بلحاظ الإستفادة من هذا الدرس والإعتبار به: ( كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون). وهكذا توجّه الآية خطابها إلى كلّ المغرورين، الذين سحرهم المال وأبطرتهم الثروة والإمكانات المادية، وغلب عليهم الحرص والإستئثار بكلّ شيء دون المحتاجين .. بأنّه لن يكون لكم مصير أفضل من ذلك. وإذا ما جاءت صاعقة وأحرقت تلك الجنّة، فمن الممكن أن تأتي صاعقة أو عذاب عليكم من أمثال الآفات والحروب المحلية والعالمية المدمّرة، وما إلى ذلك، لتذهب بالنعم التي تحرصون عليها. * * * ملاحظات 1 ـ الإستئثار بالنعم بلاء عظيم جبل الإنسان وطبع على حبّ المال، ويمثّل هذا الحبّ غريزة في نفسه، لأنّ له فوائد شتّى، وهذا الحبّ غير مذموم إذا كان في حدّ الإعتدال، وجعل نصيب منه للمحتاجين، وهذا لا يعني الإقتصار على أداء الحقوق الشرعية فقط، بل أداء بعض الإنفاقات المستحبّة. وجاء في الرّوايات الإسلامية ضرورة جعل نصيب للمحتاجين الحاضرين ممّا يقطف من ثمار البساتين وحصاد الزرع. وهذا ما يعرف بعنوان (حقّ الحصاد) وهو مقتبس من الآية الشريفة: ( وآتوا حقّه يوم حصاده)(208)، وهذا الحقّ غير حقّ الزكاة، وما يعطى للمحتاجين الحاضرين منه أثناء قطف الثمار أو حصاد الزرع غير محدود بحدّ معيّن(209). إلاّ أنّ التعلّق بالمال حينما يكون بصورة مفرطة وجشعة فإنّه يأخذ شكلا منحرفاً وأنانياً، وقد لا يكون بحاجة إليه، فحرمان الآخرين والإستئثار بالأموال والتلذّذ بحيازة النعم والمواهب الإلهية دون سواه، مرض وبلاء كما نلاحظ في حياتنا المعاصرة مفردات ونماذج كثيرة في مجتمعاتنا البشرية تعيش هذه الحالة. وقصّة (أصحاب الجنّة) التي حدّثتنا الآيات السابقة عنها، هي كشف وتعرية واضحة لهذه النفسيات المريضة لأصحاب الأموال الذين يستأثرون بالخير والنعم والهبات الإلهية، ويؤكّدون بحصرها فيهم دون سواهم .. ويتجسّد هذا المعنى في الخطّة التي اُعدّت من جانب أصحاب الجنّة في حرمان المحتاجين، بالتفصيل الذي ذكرته الآيات الكريمة .. وغاب عن بالهم أنّ آهات هؤلاء المحرومون تتحوّل في أحيان كثيرة إلى صواعق محرقة، تحيل سعادة هؤلاء الأغنياء الظالمين إلى وبال، وتظهر هذه الصواعق على شكل كوارث ومفاجآت وثورات، ويشاهدون آثارها المدمّرة باُمّ أعينهم، ويتحوّل ترفهم وبذخهم إلى زفرات وآهات وصرخات تشقّ عنان السماء، معلنين التوبة والإقلاع عن الممارسات الإستئثارية، ولات ساعة متاب. 2 ـ العلاقة بين (الرزق) و (الذنوب) ممّا يستفاد ـ ضمناً ـ من القصّة أعلاه وجود علاقة بين الذنب والرزق، وممّا يؤيّد هذا ما ورد في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "إنّ الرجل ليذنب الذنب، فيدرأ عنه الرزق، وتلا هذه الآية: ( إذ أقسموا ليصرمنّها مصبحين ولا يستثنون، فطاف عليها طائف من ربّك وهم نائمون)(210). ونقل عن ابن عبّاس أيضاً أنّه قال: إنّ العلاقة بين الذنب وقطع الرزق، أوضح من الشمس، كما بيّنها الله عزّوجلّ في سورة ن والقلم(211). * * * الآيات إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّـتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالُْمجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَـبٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَـنٌ عَلَيْنَا بَـلِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـمَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِن كَانُوا صَـدِقِينَ(41) التّفسير 1 ـ استجواب كامل: إنّ طريقة القرآن الكريم في الكشف عن الحقائق، وإستخلاص المواقف، تكون من خلال عملية مقارنة يعرضها الله سبحانه في الآيات الكريمة، وهذا الاُسلوب مؤثّر جدّاً من الناحية التربوية .. فمثلا تستعرض الآيات الشريفة حياة الصالحين وخصائصهم وميزاتهم ومعاييرهم .. ثمّ كذلك بالنسبة إلى الطالحين والظالمين، ويجعل كلا منهما في ميزان، ويسلّط الأضواء عليهما من خلال عملية مقارنة، للوصول إلى الحقيقة. وتماشياً مع هذا المنهج وبعد إستعراض النهاية المؤلمة لـ (أصحاب الجنّة) في الآيات السابقة، يستعرض الباريء عزّوجلّ حالة المتّقين فيقول: ( إنّ للمتّقين عند ربّهم جنّات النعيم). "جنّات" من (الجنّة) حيث كلّ نعمة متصوّرة على أفضل صورة لها تكون هناك، بالإضافة إلى النعم التي لم تخطر على البال. ولأنّ قسماً من المشركين والمترفين كانوا يدّعون علوّ المقام وسموّه في يوم القيامة كما هو عليه في الدنيا، لذا فإنّ الله يوبّخهم على هذا الإدّعاء بشدّة في الآية اللاحقة. بل يحاكمهم فيقول: ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون). هل يمكن أن يصدّق إنسان عاقل أنّ عاقبة العادل والظالم، المطيع والمجرم، المؤثر والمستأثر واحدة ومتساوية؟ خاصّة عندما تكون المسألة عند إله جعل كلّ مجازاته ومكافآته وفق حساب دقيق وبرنامج حكيم. وتستعرض الآية (50) من سورة فصّلت موقف هؤلاء الأشخاص المماثل لما تقدّم، حيث يقول تعالى: ( ولئن أذقناه رحمةً منّا من بعد ضرّاء مسّته ليقولنّ هذا ليّ، وما أظنّ الساعة قائمة، ولئن رجعت إلى ربّي إنّ لي عنده للحسنى). نعم، إنّ الفئة المغرورة المقتنعة بتصرّفاتها الراضية عن نفسها .. تعبر أنّ الدنيا والآخرة خاصّة بها وملك لها. ثمّ يضيف تعالى أنّه لو لم يحكم العقل بما تدعون، فهل لديكم دليل نقلي ورد في كتبكم يؤيّد ما تزعمون: ( أم لكم كتاب فيه تدرسون إنّ لكم فيه لما تخيّرون)(212)أي ما اخترتم من الرأي .. إن توقّعكم في أن تكون العناصر المجرمة من أمثالكم مع صفوف المسلمين وعلى مستواهم ...، حديث هراء لا يدعمه العقل، ولم يأت في كتاب يعتدّ به ولا هو موضع إعتبار. ثمّ تضيف الآية اللاحقة أنّه لو لم يكن لديكم دليل من العقل أو النقل، فهل أخذتم عهداً من الله أنّه سيكون معكم إلى الأبد: ( أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إنّ لكم لما تحكمون). وتتساءل الآية الكريمة عن هؤلاء مستفسرة عمّن يستطيع الإدّعاء منهم بأنّه قد أخذ عهداً من الله سبحانه في الإستجابة لميوله وأهوائه، وإعطائه ما يشاء من شأن ومقام، وبدون موازين أو ضوابط، وبصورة بعيدة عن مقاييس السؤال وموازين الإستجابة؟ حتّى يمكن القول بأنّ المجرمين متساوون مع المؤمنين(213). ويضيف سبحانه ـ استمراراً لهذه التساؤلات ـ كي يسدّ عليهم جميع الطرق ومن كلّ الجهات، فيقول: ( سلهم أيّهم بذلك زعيم) فمن منهم يضمن أنّ المسلمين والمجرمين سواء، أو يضمن أنّ الله تعالى سيؤتيه كلّ ما يريد؟!. وفي آخر مرحلة من هذا الإستجواب العجيب يقول تعالى: ( أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين). فالآية تطلب من المشركين تقديم الدليل الذي يثبت أنّ هذه الأصنام المنحوتة من الحجارة، والتي لا قيمة لها ولا شعور، تكون شريكة الله تعالى وتشفع لهم عنده. وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ (شركاء) هنا بمعنى (شهداء). ومن خلال العرض المتقدّم نستطيع القول: إنّ هؤلاء المجرمين لإثبات إدّعاءاتهم في التساوي مع المؤمنين في يوم القيامة، بل أفضليتهم أحياناً كما يذهب بعضهم لذلك، لابدّ لهم أن يدعموا قولهم هذا بإحدى الوسائل الأربعة التالية: إمّا دليل من العقل، أو كتاب من الكتب السماوية، أو عهد من الله تعالى، أو بواسطة شفاعة الشافعين وشهادة الشاهدين. وبما أنّ جواب جميع هذه الأسئلة سلبي، لذا فإنّ هذا الإدّعاء فارغ من الأساس وليست له أيّة قيمة. * * * الآيات يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاق وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ(42) خَـشِعَةً أَبْصَـرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَـلِمُونَ (43) فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ (45) التّفسير العجز عن السجود: تعقيباً للآيات السابقة التي استجوب الله تعالى فيها المشركين والمجرمين استجواباً موضوعياً، تكشف لنا هذه الآيات جانباً من المصير البائس في يوم القيامة لهذه الثلّة المغرمة في حبّها لذاتها، والمكثرة للإدّعاءات، هذا المصير المقترن بالحقارة والذلّة والهوان. يقول تعالى: ( يوم يكشف عن ساق ويُدعون إلى السجود فلا يستطيعون)(214). جملة ( يكشف عن ساق) كما قال جمع من المفسّرين، كناية عن شدّة الهول والخوف والرعب وسوء الحال، إذ أنّ المتعارف بين العرب عند مواجهتهم أمراً صعباً أنّهم يشدّون ثيابهم على بطونهم ممّا يؤدّي إلى كشف سيقانهم. ونقرأ جواب ابن عبّاس المفسّر المعروف عندما سئل عن تفسير هذه الآية قال: كلّما خفي عليكم شيء من القرآن ارجعوا إلى الشعر فإنّ الشعر ديوان العرب، ألم تسمعوا قول الشاعر: وقامت الحرب بنا على ساق. إنّ هذا القول كناية عن شدّة أزمة الحرب. وقيل: إنّ (ساق) تعني أصل وأساس الشيء، كساق الشجرة، وبناءً على هذا فإنّ جملة (يكشف عن ساق) تعني أنّ أساس كلّ شيء يتّضح ويتبيّن في ذلك اليوم، إلاّ أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر. وفي ذلك اليوم العظيم يدعى الجميع إلى السجود للباريء عزّوجلّ، فيسجد المؤمنون، ويعجز المجرمون عن السجود، لأنّ نفوسهم المريضة وممارساتهم القبيحة قد تأصّلت في طباعهم وشخصياتهم في عالم الدنيا، وتطفح هذه الخصال في اليوم الموعود وتمنعهم من إحناء ظهورهم للذات الإلهية المقدّسة. وهنا يثار سؤال: إنّ يوم القيامة ليس بيوم تكاليف وواجبات وأعمال، فلِمَ السجود؟ يمكن إستنتاج الجواب من التعبير الذي ورد في بعض الأحاديث، نقرأ في الحديث التالي عن الإمام الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى: ( يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود) قال: "حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجّداً وتدمج أصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود"(215). وبتعبير آخر: في ذلك اليوم تتجلّى العظمة الإلهية، وهذه العظمة تدعو المؤمنين للسجود فيسجدون، إلاّ أنّ الكافرين حرموا من هذا الشرف واللطف. وتعكس الآية اللاحقة صورة جديدة لحالتهم حيث يقول سبحانه: ( خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلّة)(216). هذه الآية الكريمة تصف لنا حقيقة المجرمين عندما يدانون في إجرامهم ويحكم عليهم، حيث نلاحظ الذلّة والهوان تحيط بهم، وتكون رؤوسهم مطأطئة تعبيراً عن هذه الحالة المهينة. ثمّ يضيف تعالى: ( وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون). إلاّ أنّهم لن يسجدوا أبداً، لقد صحبوا روح التغطرس والعتوّ والكبر معهم في يوم القيامة فكيف سيسجدون؟ إنّ الدعوة للسجود في الدنيا لها موارد عديدة، فتارةً بواسطة المؤذّنين للصلاة الفردية وصلاة الجماعة، وكذلك عند سماع بعض الآيات القرآنية وأحاديث الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمّة المعصومين (عليهم السلام) .. ولذا فإنّ الدعوة للسجود لها مفهوم واسع وتشمل جميع ما تقدّم. ثمّ يوجّه الباريء عزّوجلّ الخطاب لنبيّه الكريم ويقول: ( فذرني ومن يكذّب بهذا الحديث). وهذه اللهجة تمثّل تهديداً شديداً من الواحد القهّار لهؤلاء المكذّبين المتمردين، حيث يخاطب الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: لا تتدخّل، واتركني مع هؤلاء، لاُعاملهم بما يستحقّونه. وهذا الكلام الذي يقوله ربّ قادر على كلّ شيء، ـ بالضمن ـ باعث على إطمئنان الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين أيضاً، ومشعراً لهم بأنّ الله معهم وسيقتصّ من جميع الأعداء الذين يثيرون المشاكل والفتن والمؤامرات أمام الرّسول والرسالة، ولن يتركهم الله تعالى على تماديهم. ثمّ يضيف سبحانه: ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إنّ كيدي متين). نقرأ في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "إذا أحدث العبد ذنباً جدّد له نعمة فيدع الإستغفار، فهو الإستدراج"(217). والذي يستفاد من هذا الحديث ـ والأحاديث الاُخرى في هذا المجال ـ أنّ الله تعالى يمنح ـ أحياناً ـ عباده المعاندين نعمة وهم غارقون في المعاصي والذنوب وذلك كعقوبة لهم. فيتصوّرون أنّ هذا اللطف الإلهي قد شملهم لجدارتهم ولياقتهم له فيأخذهم الغرور المضاعف، وتستولي عليهم الغفلة .. إلاّ أنّ عذاب الله ينزل عليهم فجأة ويحيط بهم وهم بين أحضان تلك النعم الإلهية العظيمة .. وهذا في الحقيقة من أشدّ ألوان العذاب ألماً. إنّ هذا اللون من العذاب يشمل الأشخاص الذين وصل طغيانهم وتمردّهم حدّه الأعلى، أمّا من هم دونه في ذلك فإنّ الله تعالى ينبّههم وينذرهم عن ممارساتهم الخاطئة عسى أن يعودوا إلى رشدهم، ويستيقظوا من غفلتهم، ويتوبوا من ذنوبهم، وهذا من ألطاف الباريء عزّوجلّ بهم. وبعبارة اُخرى: إذا أذنب عبد فإنّه لا يخرج من واحدة من الحالات الثلاث التالية: إمّا أن ينتبه ويرجع عن خطئه ويتوب إلى ربّه. أو أن ينزل الله عليه العذاب ليعود إلى رشده. أو أنّه غير أهل للتوبة ولا للعودة للرشد بعد التنبيه له، فيعطيه الله نعمة بدل البلاء وهذا هو: (عذاب الإستدراج) والذي اُشير له في الآيات القرآنية بالتعبير أعلاه وبتعابير اُخرى. لذا يجب على الإنسان المؤمن أن يكون يقظاً عند إقبال النعم الإلهية عليه، وليحذر من أن يكون ما يمنحه الله من نعم ظاهرية يمثّل في حقيقته (عذاب الإستدراج) ولذلك فإنّ المسلمين الواعين يفكّرون في مثل هذه الاُمور ويحاسبون أنفسهم باستمرار، ويعيدون تقييم أعمالهم دائماً، كي يكونوا قريبين من طاعة الله، ويؤدّون حقّ الألطاف والنعم التي وهبها الله لهم. جاء في حديث أنّ أحد أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام) قال: إنّي سألت الله تبارك وتعالى أن يرزقني مالا فرزقني، وإنّي سألت الله أن يرزقني ولداً فرزقني، وسألته أن يرزقني داراً فرزقني، وقد خفت أن يكون ذلك إستدراجاً؟ فقال: "أمّا مع الحمد فلا"(218). والتعبير بـ (أملي لهم) إشارة إلى أنّ الله تعالى لا يستعجل أبداً بجزاء الظالمين، والإستعجال يكون عادةً من الشخص الذي يخشى فوات الفرصة عليه، إلاّ أنّ الله القادر المتعال أيّما شاء وفي أي لحظة فإنّه يفعل ذلك، والزمن كلّه تحت تصرّفه. وعلى كلّ حال فإنّ هذا تحذير لكلّ الظالمين والمتطاولين بأن لا تغرّهم السلامة والنعمة أبداً، وليرتقبوا في كلّ لحظة بطش الله بهم(219). * * * الآيات أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَم مُّثْقَلُونَ (46) أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَّوْلاَ أَن تَدَرَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَـهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّـلِحِينَ (50) التّفسير لا تستعجل بعذابهم: استمراراً للإستجواب الذي تمّ في الآيات السابقة للمشركين والمجرمين، يضيف الباريء عزّوجلّ سؤالين آخرين، حيث يقول في البداية: ( أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون). أي إذا كانت حجّتهم أنّ الإستجابة لدعوتك تستوجب أجراً مادياً كبيراً، وأنّهم غير قادرين على الوفاء به، فإنّه كذب، حيث أنّك لم تطالبهم بأجر، كما لم يطلب أي من رسل الله أجراً. "مغرم" من مادّة (غرامة) وهي ما يصيب الإنسان من ضرر دون أن يرتكب جناية، و (مثقل) من مادّة (ثقل) بمعنى الثقل، وبهذا فإنّ الله تعالى أسقط حجّة اُخرى ممّا يتذرّع به المعاندون. وقد وردت الآية أعلاه وما بعدها (نصّاً) في سورة الطور (آية 40 ـ 41). ثمّ يضيف واستمراراً للحوار بقوله تعالى: ( أم عندهم الغيب فهم يكتبون). حيث يمكن أن يدّعي هؤلاء بأنّ لهم إرتباطاً بالله سبحانه عن طريق الكهنة، أو أنّهم يتلقّون أسرار الغيب عن هذا الطريق فيكتبونها ويتداولونها، وبذلك كانوا في الموقع المتميّز على المسلمين، أو على الأقل يتساوون معهم. ومن المسلّم به أنّه لا دليل على هذا الإدّعاء أيضاً، إضافةً إلى أنّ لهذه الجملة معنى (الإستفهام الإنكاري)، ولذا فمن المستبعد ما ذهب إليه البعض من أنّ المقصود من الغيب هو (اللوح المحفوظ)، والمقصود من الكتابة هو القضاء والقدر، وذلك لأنّهم لم يدّعوا أبداً أنّ القضاء والقدر واللوح المحفوظ في أيديهم. ولأنّ العناد واللامنطقية التي كان عليها أعداء الإسلام تؤلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وتدفعه إلى أن يدعو الله عليهم، لذا فإنّه تعالى أراد أن يخفّف شيئاً من آلام رسوله الكريم، فطلب منه الصبر وذلك قوله تعالى: ( فاصبر لحكم ربّك). أي انتظر حتّى يهيء الله لك ولأعوانك أسباب النصر، ويكسر شوكة أعدائك، فلا تستعجل بعذابهم أبداً، واعلم بأنّ الله ممهلهم وغير مهملهم، وما المهلة المعطاة لهم إلاّ نوع من عذاب الإستدراج. وبناءً على هذا فإنّ المقصود من (حكم ربّك) هو حكم الله المقرّر الأكيد حول إنتصار المسلمين. وقيل أنّ المقصود منها هو: أن تستقيم وتصبر في طريق إبلاغ أحكام الله تعالى. كما يوجد إحتمال آخر أيضاً وهو أنّ المقصود بالآية أنّ حكم الله إذا جاء فعليك أن تستسلم لأمره تعالى وتصبر، لأنّه سبحانه قد حكم بذلك(220). إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أنسب. ثمّ يضيف تعالى: ( ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم): والمقصود من هذا النداء هو ما ورد في قوله تعالى: ( فنادى في الظلمات أن لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين)(221). وبذلك فقد إعترف النبي يونس (عليه السلام) بترك الأولى، وطلب العفو والمغفرة من الله تعالى. كما يحتمل أن يكون المقصود من هذا النداء هو اللعنة التي أطلقها على قومه في ساعة غضبه. إلاّ أنّ المفسّرين إختاروا التّفسير الأوّل لأنّ التعبير بـ "نادى" في هذه الآية يتناسب مع ما ورد في الآية (87) من سورة الأنبياء، حيث من المسلّم انّه نادى ربّه عندما كان (عليه السلام) في بطن الحوت. "مكظوم" من مادّة (كظم) على وزن (هضم) بمعنى الحلقوم، و (كظم السقاء) بمعنى سدّ فوهة القربة بعد امتلائها، ولهذا السبب يقال للأشخاص الذين يخفون غضبهم وألمهم ويسيطرون على إنفعالاتهم ويكظمون غيظهم ... بأنّهم: كاظمون، والمفرد: كاظم، ولهذا السبب يستعمل هذا المصطلح أيضاً بمعنى (الحبس). وبناءً على ما تقدّم فيمكن أن يكون للمكظوم معنيان في الآية أعلاه: المملوء غضباً وحزناً، أو المحبوس في بطن الحوت، والمعنى الأوّل أنسب، كما ذكرنا. ويضيف سبحانه في الآية اللاحقة: ( لولا أن تداركه نعمة من ربّه لنبذ بالعراء وهو مذموم)(222). من المعلوم أنّ يونس (عليه السلام) خرج من بطن الحوت، واُلقي في صحراء يابسة، عبّر عنها القرآن الكريم بـ (العراء) وكان هذا في وقت قَبِل الله تعالى فيه توبته وشمله برحمته، ولم يكن أبداً مستحقّاً (عليه السلام) للذمّ. ونقرأ في قوله تعالى: ( فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين)(223) كي يستريح في ظلالها. كما أنّ المقصود من (النعمة) في الآية أعلاه هو توفيق التوبة وشمول الرحمة الإلهية لحاله (عليه السلام) حسب الظاهر. وهنا يطرح سؤالان: الأوّل: هو ما جاء في الآيتين 143، 144 من سورة الصافات في قوله تعالى: ( فلولا أنّه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) وهذا مناف لما ورد في الآية مورد البحث. وللجواب على هذا السؤال يمكن القول: كانت بإنتظار يونس (عليه السلام) عقوبتان: إحداهما شديدة، والاُخرى أخفّ وطأة. الاُولى الشديدة هي أن يبقى في بطن الحوت إلى يوم يبعثون، والأخفّ: هو أن يخرج من بطن الحوت وهو مذموم وبعيد عن لطف الله سبحانه، وقد كان جزاؤه (عليه السلام) الجزاء الثاني، ورفع عنه ما ألمّ به من البعد عن الألطاف الإلهية حيث شملته بركة الله عزّوجلّ ورحمته الخاصّة. والسؤال الآخر يتعلّق بما جاء في قوله تعالى: ( فالتقمه الحوت وهو مليم)(224)وإنّ ما يستفاد من الآية مورد البحث أنّه (عليه السلام) لم يكن ملوماً ولا مذموماً. ويتّضح الجواب على هذا السؤال بالإلتفات إلى أنّ الملامة كانت في الوقت الذي التقمه الحوت توّاً، وأنّ رفع المذمّة كان متعلّقاً بوقت التوبة وقبولها من قبل الله تعالى، ونجاته من بطن الحوت. لذا يقول الباريء عزّوجلّ في الآية اللاحقة: ( فاجتباه ربّه فجعله من الصالحين). وبذلك فقد حمّله الله مسؤولية هداية قومه مرّة اُخرى، وعاد إليه يبلّغهم رسالة ربّه، ممّا كانت نتيجته أن آمن قومه جميعاً، وقد منّ الله تعالى عليهم بألطافه ونعمه وأفضاله لفترة طويلة. وقد شرحنا قصّة يونس (عليه السلام) وقومه، وكذلك بعض المسائل الاُخرى حول تركه لـ (الأولى) وإستقراره فترة من الزمن في بطن الحوت والإجابة على بعض التساؤلات المطروحة في هذا الصدد بشكل مفصّل في تفسير الآيات (139 ـ 148) من سورة الصافات وكذلك في تفسير الآيات (87، 88) من سورة الأنبياء. * * * الآيتان وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَـرِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لََمجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَـلَمِينَ (52) التّفسير يريدون قتلك .. لكنّهم عاجزون هاتان الآيتان تشكّلان نهاية سورة القلم، وتتضمّنان تعقيباً على ما ورد في بداية السورة من نسبة الجنون إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل الأعداء. يقول تعالى: ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لمّا سمعوا الذكر ويقولون إنّه لمجنون). "ليزلقونك" من مادّة (زلق) بمعنى التزحلق والسقوط على الأرض، وهي كناية عن الهلاك والموت. ثمّة أقوال مختلفة في تفسير هذه الآية: 1 ـ قال كثير من المفسّرين: إنّ الأعداء حينما يسمعون منك هذه الآيات العظيمة للقرآن الكريم، فإنّهم يمتلئون غضباً وغلا، وتتوجّه إليك نظراتهم الحاقدة وبمنتهى الغيظ، وكأنّما يريدون أن يطرحوك أرضاً ويقتلوك بنظراتهم الخبيثة الغاضبة. وأضاف قسم آخر في توضيح هذا المعنى، أنّهم يريدون قتلك بالحسد عن طريق العين، وهو ما يعتقد به الكثير من الناس، لوجود الأثر المرموز في بعض العيون والتي يمكن أن تؤثّر على الطرف الآخر بنظرة خاصّة تميت المنظور. 2 ـ وقال البعض الآخر: إنّها كناية عن نظرات ملؤها الحقد والغضب، كما يقال عرفاً: إنّ فلاناً نظر إليّ نظرة وكأنّه يريد إلتهامي أو قتلي. 3 ـ ويوجد تفسير آخر للآية الكريمة يحتمل أن يكون أقرب التفاسير، وهو أنّ الآية الكريمة أرادت أن تظهر التناقض والتضادّ لدى هؤلاء المعاندين، وذلك أنّهم يعجبون ويتأثّرون كثيراً عند سماعهم الآيات القرآنية بحيث يكادون أن يصيبوك بالعين (لأنّ الإصابة بالعين تكون غالباً في الاُمور التي تثير الإعجاب كثيراً) إلاّ أنّهم في نفس الوقت يتّهمونك بالجنون، وهذا يمثّل التناقض حقّاً. إذ أين الجنون ولغو الكلام وأين هذه الآيات المثيرة للإعجاب والنافذة في القلوب؟ إنّ هؤلاء ذوي العقول المريضة لا يدركون ما يقولون وما وقعوا فيه من التناقض فيما ينسبونه إليك. وعلى كلّ حال فإنّ ما يتعلّق بموضوع حقيقة إصابة العين وصحّتها ـ من وجهة النظر الإسلامية أو عدمها، وكذلك من وجهة نظر العلوم الحديثة، فهذا ما سنستعرضه في البحوث التالية إن شاء الله. وأخيراً يضيف تعالى في آخر آية: ( وما هو إلاّ ذكر للعالمين). حيث أنّ معارف القرآن الكريم واضحة، وإنذاراته موقظة، وأمثاله هادفة، وترغيباته وبشائره مربّية، وبالتالي فهو عامل وسبب ليقظة النائمين وتذكرة للغافلين، ومع هذا فكيف يمكن أن ينسب الجنون إلى من جاء به؟ وتماشياً مع هذا الرأي فإنّ (ذكر) على وزن (فكر) تكون بمعنى (المذكّر). وفسّرها البعض الآخر بمعنى (الشرف)، وقالوا: إنّ هذا القرآن شرف لجميع العالمين، وهذا ما هو وارد ـ أيضاً ـ في قوله تعالى: ( وإنّه لذكر لك ولقومك)(225). إلاّ أنّ (الذكر) هنا بمعنى المذكّر والمنبّه، بالإضافة إلى أنّ أحد أسماء القرآن الكريم هو (الذكر) وبناءً على هذا، فإنّ التّفسير الأوّل أصحّ حسب الظاهر. * * * بحث هل أنّ إصابة العين لها حقيقة؟ يعتقد الكثير من الناس أنّ لبعض العيون آثاراً خاصّة عندما تنظر لشيء بإعجاب، إذ ربّما يترتّب على ذلك الكسر أو التلف، وإذا كان المنظور إنساناً فقد يمرض أو يجنّ .. إنّ هذه المسألة ليست مستحيلة من الناحية العقلية، حيث يعتقد البعض من العلماء المعاصرين بوجود قوّة مغناطيسية خاصّة مخفية في بعض العيون بإمكانها القيام بالكثير من الأعمال، كما يمكن تدريبها وتقويتها بالتمرين والممارسة، ومن المعروف أنّ "التنويم المغناطيسي" يكون عن طريق هذه القوّة المغناطيسية الموجودة في العيون. إنّ (أشعة ليزر) هي عبارة عن شعاع لا مرئي يستطيع أن يقوم بعمل لا يستطيع أي سلاح فتّاك القيام به، ومن هنا فإنّ القبول بوجود قوّة في بعض العيون تؤثّر على الطرف المقابل، وذلك عن طريق أمواج خاصّة ليس بأمر مستغرب. ويتناقل الكثير من الأشخاص أنّهم رأوا باُمّ أعينهم أشخاصاً لهم هذه القوّة المرموزة في نظراتهم، وأنّهم قد تسبّبوا في إهلاك آخرين (أشخاص وحيوانات وأشياء) وذلك بإصابتهم بها. لذا فلا ينبغي الإصرار على إنكار هذه الاُمور. بل يجدر تقبّل إحتمال وجود مثل هذا الأمر من الناحية العقلية والعلمية. كما جاء في بعض الرّوايات الإسلامية ـ أيضاً ـ ما يؤيّد وجود مثل هذا الأمر بصورة إجمالية كما في الرواية التالية: "إنّ أسماء بنت عميس قالت: يارسول الله إنّ بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم؟ قال: نعم، فلو كان شيء يسبق القدر لسبقه العين". (المقصود من (الرقية) هي الأدعية التي يكتبونها ويحتفظ بها الأشخاص لمنع الإصابة بالعين ويقال لها التعويذة أيضاً)(226). وجاء في حديث آخر أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: النّبي رقى حسناً وحسيناً فقال: "اُعيذكما بالكلمات التامّة وأسمائه الحسنى كلّها عامّة، من شرّ السامّة والهامّة، ومن شرّ كلّ عين لامّة، ومن شرّ حاسد إذا حسد" ثمّ التفت النّبي إلينا فقال: هكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق(227). وجاء في نهج البلاغة أيضاً: "العين حقّ، والرقى حقّ"(228). ولمّا كانت الأدعية توسّلا للباريء عزّوجلّ في دفع الشّر وجلب الخير، فبأمر من الله تعالى يمنع تأثير القوّة المغناطيسية للعيون، ولا مانع من ذلك، كما أنّ للأدعية تأثيراً في كثير من العوامل والأسباب الضارّة وتبطل مفعولها بأمر الله تعالى. كما يجدر الإلتفات إلى هذه النقطة ـ أيضاً ـ وهي: إنّ قبول تأثير الإصابة بالعين بشكل إجمالي لا يعني الإيمان بالأعمال الخرافية، وممارسات الشعوذة التي تنتشر بين العوام، إذ أنّ ذلك مخالف لأوامر الشرع، ويثير الشكّ في أصل الموضوع عند غير المسلمين بهذه المسائل، كما أنّ هذه الأعمال تربك وتشوش الكثير من الحقائق بما يدسّ بها من الأوهام والخرافات، وبذلك يكون الإنطباع عنها سلبياً في الأذهان. اللهمّ: احفظنا بحفظك من شرّ الأشرار، ومكائد الأعداء. ربّنا، تفضّل علينا بالصبر والإستقامة في سبيل تحصيل رضاك. إلهي، وفّقنا للإستفادة من نعمك اللامتناهية وأداء شكرها قبل أن تسلب منّا. آمين ياربّ العالمين. نهاية سورة القلم * * * سُورَة الحاقّة مكيّة وعَدَدُ آيَاتِها إثنتان وخمسُون آية "سورة الحاقّة" ملاحظة تدور موضوعات سورة الحاقّة حول ثلاثة محاور: المحور الأوّل: وهو أهمّ محاور هذه السورة، يرتبط بمسائل يوم القيامة وبيان خصوصياتها، وقد وردت فيه ثلاثة أسماء من أسماء يوم القيامة وهي: (الحاقّة) و (القارعة) و (الواقعة). أمّا المحور الثاني: فتدور أبحاثه حول مصير الأقوام الكافرين، خصوصاً قوم عاد وثمود وفرعون، وتشتمل على إنذارات شديدة لجميع الكّفار ومنكري يوم البعث والنشور. وتتحدّث أبحاث المحور الثالث حول عظمة القرآن الكريم، ومقام الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وجزاء المكذّبين. فضيلة تلاوة سورة الحاقّة جاء في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "من قرأ سورة الحاقّة حاسبه الله حساباً يسيراً"(229). وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: (أكثروا من قراءة الحاقّة، فإنّ قراءتها في الفرائض والنوافل من الإيمان بالله ورسوله، ولم يسلب قارئها دينه حتّى يلقى الله)(230). * * * الآيات الْحَآقَّةُ (1) مَا الْحَآقَّةُ (2) وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحَآقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثُمُودُ وَعَادُ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيح صَرْصَر عَاتِيَة (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَال وَثَمَـنِيَةَ أَيَّام حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْل خَاوِيَة (7) فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَة (8) التّفسير الطغاة والعذاب الأليم: تبدأ هذه السورة بعنوان جديد ليوم القيامة، يقول تعالى: ( الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة)(231) والمراد من الحاقّة هو اليوم الذي سيتحقّق حتماً. ذهب أغلب المفسّرين إلى أنّ (الحاقّة) اسم من أسماء يوم القيامة، باعتباره قطعي الوقوع، كما هو بالنسبة لـ (الواقعة) في سورة (الواقعة)، وقد جاء في الآية (16) من هذه السورة الاسم نفسه، وهذا يؤكّد يقينية ذلك اليوم العظيم. "ما الحاقّة": تعبير لبيان عظمة ذلك اليوم، كما يقال: إنّ فلاناً إنسان، يا له من إنسان، ويقصد من هذا التعبير وصف إنسانيّته دون تقييد حدّها. والتعبير بـ ( ما أدراك ما الحاقّة) للتأكيد مرّة اُخرى على عظمة الأحداث في ذلك اليوم العظيم حتّى أنّ الباريء عزّوجلّ يخاطب رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنّك لا تعلم ما هو ذلك اليوم؟(232). وكما لا يمكن أن يدرك الجنين الذي في بطن اُمّه المسائل المتعلّقة بالدنيا، فإنّ أبناء الدنيا كذلك ليس بمقدورهم إدراك الحوادث التي تكون في يوم القيامة. ويحتمل أنّ المقصود من (الحاقّة) هو الإشارة إلى العذاب الإلهي الذي يحلّ فجأة في هذه الدنيا بالمشركين والمجرمين والطغاة وأصحاب الهوى والمتمرّدين على الحقّ. كما فسّرت (القارعة) التي وردت في الآية اللاحقة بهذا المعنى ـ أيضاً وبلحاظ أنّ هذا التّفسير يتناسب بصورة أكثر مع ما جاء في الآيات اللاحقة التي تتحدّث عن حلول العذاب الشديد بقوم عاد وثمود وفرعون وقوم لوط، فقد ذهب بعض المفسّرين إلى هذا الرأي أيضاً. وجاء في تفسير (علي بن إبراهيم) قوله: إنّ (الحاقّة هي الحذر من نزول العذاب) وهو نظير ما جاء في الآية التالية: ( وحاقّ بآل فرعون سوء العذاب)(233)(234) ثمّ تستعرض الآيات الكريمة اللاحقة مصير الأقوام الذين أنكروا يوم القيامة، وكذلك نزول العذاب الإلهي في الدنيا، حيث يضيف تعالى: ( كذّبت ثمود وعاد بالقارعة فأمّا ثمود فأهلكوا بالطاغية). لقد كان (قوم ثمود) يسكنون في منطقة جبلية بين الحجاز والشام، فبعث الله النبي صالح (عليه السلام) إليهم، ودعاهم إلى الإيمان بالله ... إلاّ أنّهم لم يستجيبوا له، بل حاربوه وتحدّوه في إنزال العذاب الذي أوعدهم به إن كان صادقاً، وفي هذه الحالة من التمرّد الذي هم عليه، سلّط الله عليهم (صاعقة مدمّرة) أنهت كلّ وجودهم في لحظات، فخربت بيوتهم وقصورهم المحكمة، وتهاوت أجسادهم على الأرض. والنقطة الجديرة بالملاحظة هنا هي أنّ القرآن الكريم يعبّر عن عقاب هؤلاء الأقوام المتمردين بـ (العذاب الشديد)، وقد كان العذاب الشديد بصور متعدّدة حيث عبّر عنه بـ (الطاغية) كما جاء في الآية مورد البحث واُخرى بالـ (رجفة) كما جاء في سورة الأعراف الآية (78) وثالثة كان بصورة (صاعقة) كما ورد في سورة فصّلت الآية (13)، ورابعة كان على شكل (صيحة) كما جاء في سورة هود الآية (67). وفي الحقيقة فإنّ جميع هذه التعابير ترجع إلى معنى واحد، لأنّ الصاعقة دائماً تكون مقرونة: بصوت عظيم، ورجفة على النقطة التي تقع فيها، وعذاب طاغ عظيم. ثمّ تتطرّق الآية اللاحقة لتحدّثنا عن مصير (قوم عاد) الذين كانوا يسكنون في أرض الأحقاف الواقعة (في شبه جزيرة العرب أو اليمن) وكانوا ذوي قامات طويلة، وأجساد قوية، ومدن عامرة، وأراض خضراء خصبة، وحدائق نضرة .. وكان نبيّهم (هود) (عليه السلام) يدعوهم إلى الهدى والإيمان بالله ... إلاّ أنّهم أصرّوا على كفرهم وتمادوا في طغيانهم وتمرّدوا على الحقّ، فانتقم الله منهم شرّ إنتقام، وأقبرهم تحت الأرض بعد أن سلّط عليهم عذاباً شديداً مؤلماً، سنوضّح شرحه في الآيات التالية. يقول تعالى: ( وأمّا عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية). "صرصر" على وزن (دفتر) تقال للرياح الباردة أو المقترنة بصوت وضوضاء، أو المسمومة، وقد ذكر المفسّرون هذه المعاني الثلاث في تفسيرها، والجمع بين جميع هذه المعاني ممكن أيضاً. "عاتية" من مادّة (عتو) على وزن (علو) بمعنى التمرّد على القانون الطبيعي للرياح وليست على أمر الله. ثمّ تبيّن الآية التالية وصفاً آخر لهذه الرياح المدمّرة، حيث يقول تعالى: ( سخّرها عليهم سبع ليال وثمانية أيّام حسوماً). "حسوماً" من مادّة (حسم) على وزن (رسم) بمعنى إزالة آثار شيء ما، وقيل للسيف (حسام) على وزن (غلام)، ويقال: (حسم) أحياناً لوضع الشيء الحارّ على الجرح للقضاء عليه من الأساس. لقد حطّمت وأفنت هذه الريح المدمّرة في الليالي السبع والأيّام الثمانية جميع معالم حياة هؤلاء القوم، والتي كانت تتميّز بالاُبّهة والجمال، واستأصلتهم من الجذور(235). ويصوّر لنا القرآن الكريم مآل هؤلاء المعاندين بقوله تعالى: ( فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجاز نخل خاوية). إنّه لتشبيه رائع يصوّر لنا ضخامة قامتهم التي إقتلعت من الجذور، بالإضافة إلى خواء نفوسهم، حيث أنّ العذاب الإلهي جعل الريح تتقاذف أجسادهم من جهة إلى اُخرى. "خاوية" من مادّة (خواء) على وزن (حواء) في الأصل بمعنى كون الشيء خالياً، ويطلق هذا التعبير أيضاً على البطون الجائعة، والنجوم الخالية من المطر (كما في إعتقاد عرب الجاهلية)، وتطلق كذلك على الجوز الأجوف الفارغ من اللب. ويضيف في الآية التالية: ( فهل ترى لهم من باقية)(236). نعم لم يبق اليوم أي أثر لقوم عاد، بل حتّى مدنهم العامرة، وعماراتهم الشامخة ومزارعهم النضرة لم يبق منها شيء يذكر أبداً. لقد بحثنا قصّة قوم عاد بصورة مفصّلة في التّفسير الأمثل، تفسير الآيات (58 ـ 60) من سورة هود. * * * الآيات وَجَآءَ فِرْعُوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَـتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَـكُمْ فِى الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَعِيَةٌ (12) التّفسير أين الآذان الواعية؟ بعد ما استعرضت الآيات الكريمة السابقة الأحداث التي مرّت بقومي عاد وثمود، وتستمرّ هذه الآيات في التحدّث عن الأقوام الاُخرى كقوم (نوح) وقوم (لوط) لتكون درساً وعبرة لمن وعى وكان له قلب سليم .. يقول تعالى ( وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة). الـ "خاطئة" بمعنى الخطأ و (لكليهما معنى مصدري) والمراد من الخطأ هنا هو الشرك والكفر والظلم والفساد وأنواع الذنوب. الـ "المؤتفكات" جمع (مؤتفكة) من مادّة (ائتفاك) بمعنى الإنقلاب، وهي هنا إشارة إلى ما حصل في مدن قوم لوط، حيث إنقلبت بزلزلة عظيمة. والمقصود بـ ( ومن قبله) هم الأقوام الذين كانوا قبل قوم فرعون، كقوم شعيب، وقوم نمرود الذين تطاولوا على رسولهم. ثمّ يضيف تعالى: ( فعصوا رسول ربّهم فأخذهم أخذةً رابية). لقد خالف الفراعنة (موسى وهارون) (عليهما السلام) وواجهوهما بمنتهى العنف والتشكيك والملاحقة .. وكذلك كان موقف أهل مدينة (سدوم) من لوط (عليه السلام) الذي بعث لهدايتهم وإنقاذهم من ضلالهم .. وهكذا كان ـ أيضاً ـ موقف أقوام آخرين من رسلهم حيث التطاول. والتشكيك والإعراض والتحدّي .. إنّ كلّ مجموعة من هؤلاء الأقوام المتمردّين قد إبتلاهم الله بنوع من العذاب، وأنزل عليه رجزاً من السماء بما يستحقّون، فالفراعنة أغرقهم الله سبحانه في وسط النيل الذي كان مصدراً لخيراتهم وبركة بلدهم وإعمار أراضيهم وديارهم، وقوم لوط سلّط الله عليهم (الزلزال) الشديد ثمّ (مطر من الحجارة) ممّا أدّى إلى موتهم وفنائهم من الوجود. "رابية" و (ربا) من مادّة واحدة، وهي بمعنى الإضافة، والمقصود بها هنا العذاب الصعب والشديد جدّاً. لقد جاء شرح قصّة قوم فرعون في الكثير من سور القرآن الكريم، وجاءت بتفصيل أكثر في ما ورد من سورة الشعراء الآية (10 ـ 68) يراجع التّفسير الأمثل، وكذلك في سورة الأعراف من الآية (103 ـ 137) راجع التّفسير الأمثل، وكذلك في سورة طه من الآية (24 ـ 79) راجع التّفسير الأمثل. وجاءت قصّة لوط أيضاً في الكثير من السور القرآنية من جملتها ما ورد في سورة الحجر الآية (61 ـ 77) في التّفسير الأمثل. وأخيراً تعرّض بإشارة موجزة إلى مصير قوم نوح والعذاب الأليم الذي حلّ بهم، قال تعالى: ( إنّا لما طغا الماء حملناكم في الجارية). إنّ طغيان الماء كان بصورة غطّى فيها السحاب ومن هنا جاء تعبير (طغى) حيث هطل مطر غزير جدّاً وكأنّه السيل ينحدر من السماء، وفاضت عيون الأرض، والتقت مياههما بحيث أصبح كلّ شيء تحت الماء (القوم وبيوتهم وقصور أكابرهم ومزارعهم وبساتينهم ...) ولم تنج إلاّ مجموعة المؤمنين التي كانت مع نوح (عليه السلام) في سفينته. جملة (حملناكم) كناية عن حمل وإنقاذ أسلافنا وأجدادنا من الغرق، وإلاّ ما كنّا في عالم هذا الوجود(237). ثمّ يبيّن الله سبحانه الغاية والهدف من هذا العقاب، حيث يقول تعالى: ( لنجعلها لكم تذكرة وتعيها اُذن واعية). إنّنا لم نرد الإنتقام منكم أبداً، بل الهداية والخير والسعادة، كنّا نروم أن تكونوا في طريق الكمال والنضج التربوي والوصول إلى ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المكرم. "تعيها" من مادّة (وعى) على وزن (سعى) يقول (الراغب) في المفردات، و (ابن منظور) في لسان العرب: إنّها في الأصل بمعنى الإحتفاظ بشيء معيّن في القلب، ومن هنا قيل للإناء (وعاء) لأنّه يحفظ الشيء الذي يوضع فيه، وقد ذكرت هذه الصفة (الوعي) للآذان في الآيات مورد البحث، وذلك بلحاظ أنّها تسمع الحقائق وتحتفظ بها. والإنسان تارةً يسمع كلاماً إلاّ أنّه كأن لم يسمعه، وفي التعبير السائد: يسمع باُذن ويخرجه من الاُخرى. وتارةً اُخرى يسمع الكلام ويفكّر فيه ويتأمّله. ويجعل ما فيه خير في قلبه، ويعتبر الإيجابي منه مناراً يسير عليه في طريق حياته ... وهذا ما يعبّر عنه بـ (الوعي). * * * تعقيب 1 ـ فضيلة اُخرى من فضائل الإمام علي (عليه السلام) جاء في كثير من الكتب الإسلامية المعروفة ـ أعمّ من كتب التّفسير والحديث ـ أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال عند نزول الآية أعلاه ( وتعيها اُذن واعية): "سألت ربّي أن يجعلها اُذن علي"، وبعد ذلك كان يقول الإمام علي (عليه السلام): "ما سمعت من رسول الله شيئاً قطّ فنسيته، إلاّ وحفظته"(238). ونقل في (غاية المرام) ستّة عشر حديثاً في هذا المجال عن طريق الشيعة وأهل السنّة، كما ينقل (المحدّث البحراني) أيضاً في تفسير (البرهان) عن (محمّد بن عبّاس) ثلاثين حديثاً في هذا المجال نقلت عن طريق العامّة والخاصّة. وهذه فضيلة عظيمة لقائد الإسلام العظيم الإمام علي (عليه السلام) حيث يكون موضع أسرار الرّسول، ووارث علمه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولهذا السبب فإنّ الجميع كانوا يرجعون إليه ـ الموافق له والمخالف ـ بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك عندما يواجهون المشاكل الإجتماعية والعلمية المختلفة، ويطلبون منه التدخّل في حلّها، كما تحدّثنا بذلك كتب التواريخ بشكل تفصيلي. 2 ـ التناسب بين (الذنب) و (العقاب) وردت في الآيات أعلاه تعبيرات ملفتة للنظر، فتعبير (الطاغية) جاء في مورد العذاب الذي سلّط على قوم ثمود، وعبارة (العاتية) جاءت في مورد العذاب الذي حلّ بقوم عاد، وبالنسبة إلى ما أصاب قوم فرعون وقوم لوط فقد ورد تعبير (الرابية) كما وردت عبارة (طغى الماء) فيما يتعلّق بطبيعة العذاب الذي شمل قوم نوح .. والملاحظ من التعبيرات السابقة أنّها جميعاً تشترك في مفهوم واحد وهو: (الطغيان والتمرّد) وهو نتيجة طبيعية لما كانت عليه هذه الأقوام جميعاً أي إنّ عذاب هؤلاء الطغاة تحقّق بطغيان بعض المواهب الإلهية للناس أعمّ من الماء والهواء والتراب والنار. كما أنّ هذه التعبيرات ـ أيضاً ـ تؤكّد على حقيقة مهمّة، وهي أنّ العقوبات التي نواجهها في الدنيا والآخرة ما هي إلاّ تجسيد لحقيقة أعمالنا، وأنّ أعمالنا نحن البشر تعود علينا خيراً كانت أم شرّاً. * * * الآيات فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ وَحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الاَْرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِىَ يَوْمَئِذ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَآئِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذ ثَمَـنِيَةٌ (17) التّفسير الصّيحة العظيمة: استمراراً لما تعرّضت له الآيات الاُولى من هذه السورة، والتي كانت تتعلّق بمسألة الحشروالقيامة، تعرض لنا هذه الآيات صورة عن الحوادث العظيمة في ذلك اليوم الرهيب باُسلوب محرّك ومؤثّر في النفوس كي تحيط الإنسان علماً بما ينتظره من حوادث ذات شأن كبير في ذلك الموقف الرهيب. يقول تعالى في البداية: ( فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة). لقد بيّنا فيما سبق أنّ ممّا يستفاد من القرآن الكريم أنّ نهاية عالم الدنيا وبداية عالم الآخرة تكون بصوت مفاجىء عظيم، وذلك ما عبّر عنه بـ (نفخة الصور). ولهذا السبب استعمل البوق في الماضي والحاضر للإستفادة منه في جمع وتهيئة الجيوش، وكذلك في الإعلان عن موعد الإستراحة، حيث يتمّ العزف بألحان مختلفة حسب طبيعة الموضوع. الذي يعلن عنه، فالعزف للنوم والإستراحة يختلف عن عزف التجمّع والتهيّؤ للحركة والتدريب ... إنّ مسألة انتهاء هذا العالم، وبداية العالم الجديد عالم الآخرة، هي عند الله بسيطة وهيّنة في مقابل قدرته العظيمة، فبأمر واحد وفي لحظة مفاجئة ينتهي ويفنى من في السموات والأرضين، وبأمر آخر يلبس سبحانه الجميع لباس الحياة ويستعدّون للحساب، وهذا هو مقصود الآية الكريمة. لقد تحدّثنا بصورة مفصّلة حول خصوصيات (الصور) وكيفية (النفخ) فيه، وعدد النفخات، والفاصلة الزمنية بين كلّ نفخة، وذلك في تفسير سورة (الزمر) الآية 68 من التّفسير الأمثل، لذا لا نرى ضرورة لتكرار ذلك. والشيء الوحيد الذي نذكّر به هنا هو (نفخة الصور) وكما أشرنا أعلاه فهي (نفختان): (نفخة الموت)، و (نفخة الحياة الجديدة)، لكن هل المقصود في هذه الآية الكريمة هو (النفخة الاُولى) أم (الثانية)؟ فهذا ما لا يوجد فيه رأي موحّد بين المفسّرين، لأنّ الآيات التي ستأتي لاحقاً بعضها يتناسب مع نفخة الموت، والآخر يتناسب مع نفخة الحياة والحشر، إلاّ أنّ منطوق الآيات بشكل إجمالي في رأينا تتناسب أكثر مع النفخة الاُولى التي تحصل فيها نهاية عالم الدنيا. ثمّ يضيف تعالى: ( وحملت الأرض والجبال فدكتّا دكة واحدة). "دكّ" كما يقول الراغب في المفردات، وفي الأصل بمعنى (الأرض المستوية) ولأنّ الأرض غير المستوية تحتاج إلى الدك حتّى تستوي، لذا استعمل هذا المصطلح في الكثير من الموارد بمعنى "الدق الشديد". كما يستفاد من مصادر اللغة أنّ أصل معنى (دك) هو (الدقّ والتخريب) ولازم ذلك الإستواء، لذا استعمل هذا المصطلح في هذا المعنى أيضاً(239). وعلى كلّ حال فإنّ المقصود من هذه الكلمة ـ في الآية مورد البحث ـ هو الدقّ الشديد للجبال والأراضي اللامستوية بعضها ببعض بحيث تستوي وتتلاشى فيها جميع التعرجات. ثمّ يضيف تعالى: ( فيومئذ وقعت الواقعة). في ذلك اليوم العظيم لا تتلا شى فيه الأرض والجبال فحسب، بل يقع حدث عظيم آخر، وذلك قوله تعالى: ( وانشقت السماء فهي يومئذ واهية) وذلك بيان لما تتعرّض له، الأجرام السماوية العظيمة من إنفلاقات وتناثر وتلاشي، حيث تضطرب هذه الأجرام الهائلة وتتحوّل فيها النظام إلى فوضى والتماسك إلى ضعف، والإستحكام إلى خواء بشكل عجيب. وذلك من خلال حركات وتحوّلات مرعبة جدّاً، كما يعبّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى: ( فإذا انشقت السماء فكانت وردةً كالدهان) الرحمن / 37. وبعبارة اُخرى فإنّ الأرض والسماء الحاليتين تتدمران وتنتهيان، ويحدث عالم جديد على أنقاض العالم السابق يكون أكمل وأتمّ وأعلى من عالمنا الدنيوي. ( والملك على أرجائها). "أرجاء" جمع (رجا) بمعنى جوانب وأطراف شيء معيّن، و (الملك) هنا بالرغم من ذكرها بصيغة المفرد، إلاّ أنّ المقصود بها هو الجنس والجمع. إنّ ملائكة الرحمن ـ في الآية أعلاه ـ يصطفون على جوانب وأطراف السماوات ينتظرون تلقّي أمر الواحد الأحد لإنجازه بمجرد الإشارة، وكأنّهم جنود جاهزون لما يؤمرون به. ثمّ يقول تعالى: ( ويحمل عرش ربّك فوقهم يومئذ ثمانية). إنّ حملة العرش بالرغم من أنّهم لم يشخّصوا بصورة صريحة في هذه الآية وهل هم من الملائكة أم من جنس آخر؟ إلاّ أنّ ظاهر تعبير الآية الكريمة أنّهم من الملائكة، ومن غير المعلوم أنّ المقصود بـ (ثمانية) هل هم ثمانية ملائكة؟ أم ثمانية مجاميع من الملائكة؟ سواء كانت هذه المجاميع صغيرة أو كبيرة. جاء في الروايات الإسلامية أنّ حملة العرش في عالم الدنيا أربعة أشخاص أو أربع (مجاميع) إلاّ أنّهم في يوم القيامة يكونون ضعف ذلك، كما نقرأ ذلك في حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: (إنّهم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أيّدهم الله بأربعة آخرين فيكونون ثمانية)(240). أمّا ما يتعلّق بحقيقة العرش، وماهية الملائكة، فذلك كما يلي: المقصود بـ (العرش) كما هو واضح ليس تختاً ممّا يكون للسلاطين، ولكنّه ـ كما بيّنا سابقاً في تفسير كلمة (العرش) ـ بأنّها تعني (مجموعة عالم الوجود) حيث أنّه عرش حكومة الله سبحانه، ويدبّر حكومته تعالى من خلاله بواسطة الملائكة الذين هم جاهزون لتنفيذ أمره سبحانه. وجاء في رواية اُخرى أنّ حملة العرش في يوم القيامة أربعة من الأوّلين، وأربعة من الآخرين، والأشخاص الأوّلون الأربعة هم: (نوح) و (إبراهيم)، و (موسى)، و (عيسى)، أمّا الأشخاص الآخرون الأربعة فهم (محمّد) و (علي) و (الحسن)، و (الحسين)(241). وهذا الحديث من الممكن أن يكون إشارة إلى مقام شفاعتهم للأوّلين والآخرين، والشفاعة ـ عادةً ـ تكون لمن هم أهل لها، وممّن لهم لياقة لنيلها، ومع ذلك فإنّه يوضّح المفهوم الواسع للعرش. أمّا إذا كان حملة العرش ثمانية مجاميع، فمن الطبيعي أن تتعهّد المجاميع للقيام بهذه المهمّة، سواء كان هؤلاء من الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء، وممّا تقدّم نلاحظ أنّ قسماً من تدبير نظام وشؤون ذلك اليوم هو من مهمّة الملائكة وقسم من الأنبياء، حيث أنّ الجميع جاهزون لتنفيذ أمر الله، ويتحرّك بإرادته تعالى. هنالك آراء في أنّ الضمير في (فوقهم) هل يرجع إلى "البشر"؟ أم إلى (الملائكة)؟ وبما أنّ الحديث في الجملة السابقة كان حول الملائكة، فإنّ الضمير يرجع إليهم حسب الظاهر، وبهذه الصورة فإنّ الملائكة تحيط بالعالم من جميع جهاته، ولهذا فإنّ المقصود بـ (من فوقهم) هو (العلو من حيث المقام). وهنالك احتمال بأنّ حملة عرش الله هم أشخاص أعلى وأفضل من الملائكة، وتماشياً مع هذا الإحتمال فإنّ ما جاء في الحديث السابق منسجم معه، حيث ورد فيه أنّ حملة عرش الله هم ثمانية من الأنبياء والأولياء. وبما أنّ الحوادث المتعلّقة بيوم القيامة ليست واضحة لنا نحن سكنة هذا العالم المحدود، لذا فليس بمقدورنا إذاً إدراك المسائل المتعلّقة بحملة العرش في ذلك اليوم. إنّ الذي نتحدّث به عن هذه الاُمور ما هو إلاّ شبح يتراءى لنا من بعيد في ظلّ الآيات الإلهية، وإلاّ فلا تتمّ رؤية الحقيقة بدون معايشة الواقع(242). وممّا يجدر ملاحظته أنّ في (النفخة الاُولى للصور) يموت ويفنى جميع من في السموات والأرض، وبناءً على هذا فإنّ مسألة بحث "حملة العرش" مرتبط "بالنفخة الثانية"، حيث يتمّ إحياء الجميع، وبالرغم من أنّه لم يأت ذكر للنفخة الثانية في الآية أعلاه، إلاّ أنّ ذلك يتّضح من خلال القرائن، والمطالب التي سترد في الآيات اللاحقة تتعلّق بالنفخة الثانية أيضاً(243). * * * الآيات يَوْمَئِذ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـبَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَءُوا كِتَـبِيهْ (19) إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَـق حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِى عِيشَة رَّاضِيَة (21) فِى جَنَّة عَالِيَة (22)قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الاَْيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) التّفسير ياأهل المحشر: اقرؤا صحيفة أعمالي قلنا في تفسير الآيات السابقة أنّ (نفخ الصور) يحدث مرّتين. الاُولى: عندما يأمر تعالى بنهاية العالم وموت الأحياء وتلاشي الوجود. والثانية: بحدوث العالم الجديد، عالم الآخرة حيث البعث والنشور ...، وكما ذكرنا فإنّ بداية الآيات تخبرنا عن النفخة الاُولى، ولم تستعرض تفاصيل النفخة الثانية. واستمراراً للحديث في هذا الصدد، وخصوصيات العالم الجديد الذي سيكون عند النفخة الثانية، تحدّثنا هذه الآيات عن شيء من ذلك حيث يقول تعالى: ( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية). "تعرضون" من مادّة (عرض) بمعنى عرض شيء معيّن، بضاعة أو غيرها. وممّا لا شكّ فيه أنّ جميع ما في الوجود ـ بشراً وغيره ـ هو بين يدي اللّه سبحانه، سواء في هذه الدنيا أو في عالم الآخرة، إلاّ أنّ هذا الأمر يظهر ويتّضح بصورة أشدّ في يوم القيامة، كما في مسألة حاكمية الله المطلقة والدائمة على عالم الوجود، حيث تتّضح في يوم القيامة أكثر من أي وقت آخر. إنّ جملة: ( تخفى منكم خافية) يمكن أن تكون إشارة إلى أنّ الأسرار الخاصّة بالإنسان وما يحاول إخفاءه يتحوّل في ذلك اليوم إلى حالة من الظهور والوضوح كما يقول تعالى: ( يوم تبلى السرائر)(244) في ذلك اليوم لن يقتصر الوضوح والظهور على أعمال البشر الخفيّة فحسب، بل على صفات وروحيات وأخلاقيات ونيّات الجميع فإنّها هي الاُخرى تبرز وتظهر، وهذا أمر عظيم جدّاً، بل إنّه أعظم من إنفجار الأجرام السماوية وتلاشي الجبال ـ كما يقول البعض ـ حيث الفضيحة الكبرى للطالحين، والعزّة والرفعة للمؤمنين بشكل لا نظير له، يوم يكون الإنسان عرياناً ليس من حيث الجسم فقط، بل أعماله وأسراره الخفية تكون على رؤوس الأشهاد، نعم لا يبقى أمر مخفي من وجودنا وكياننا أجمع في ذلك اليوم العظيم. ويمكن أن يكون المراد هو الإشارة للإحاطة العلمية لله تعالى بجميع المخلوقات، ولكن التّفسير الأوّل أنسب. لذا يقول سبحانه بعد ذلك: ( فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرأوا كتابيه)(245). إنّ الفرحة تملؤه بصورة لا مثيل لها، حتّى يكاد يطير من شدّة فرحته، حيث أنّ كلّ ذرّة من ذرّات وجوده تغمرها الغبطة والسعادة والشكر لله سبحانه على هذه النعم والتوفيق والهداية التي منّ الله بها عليه ويصرخ (الحمد لله). ثمّ يعلن بافتخار عظيم فيقول: ( إنّي ظننت أنّي ملاق حسابيه)(246). "ظنّ" في مثل هذه الموارد تكون بمعنى (اليقين) إنّه يريد أن يقول: إنّ ما تفضّل به الله تعالى عليّ كان بسبب إيماني بهذا اليوم، والحقيقة أنّ الإيمان بالحساب والكتاب يمنح الإنسان روح التقوى، والتعهّد والإحساس بالمسؤولية، وهذا من أهمّ عوامل تربية الإنسان. ثمّ يبيّن الله تعالى في الآيات اللاحقة جانباً من جزاء وأجر هؤلاء الأشخاص حيث يقول: ( فهو في عيشة راضية)(247). وبالرغم من أنّ الجملة أعلاه تجسّد كلّ ما يستحقّ أن يقال في هذا الموضوع، إلاّ أنّه سبحانه يضيف للتوضيح الأكثر: ( في جنّة عالية). إنّ الجنّة التي تكون عالية ورفيعة بشكل لم ير أحد مثلها قطّ، ولم يسمع بها، ولم يتصور مثلها. ( قطوفها دانية)(248). حيث لا جهد مكلّف ولا مشقّة ولا صعوبة في قطف الثمار، ولا عائق يحول من الإقتراب للأشجار المحمّلة بالثمار، وجميع هذه النعم في متناول الأيدي بدون إستثناء. وفي آخر آية ـ مورد البحث ـ يوجّه الباريء عزّوجلّ خطابه المملوء بالحبّ والمودّة والإعتزاز إلى أهل الجنّة بقوله: ( كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيّام الخالية). وهكذا كانت هذه النعمة العظيمة التي منحها الله لهؤلاء المتقين جزاء أعمالهم الصالحة التي ادّخروها ليوم كان فيه الحساب الحقّ، وأرسلوها سلفاً أمامهم، وإنّ الأعمال الخيّرة والمحدودة هي التي أثمرت هذه الثمار الكبيرة حيث ظلّ الرحمة الإلهية واللطف الربّاني. * * * ملاحظات 1 ـ تفسير آخر لكلمة (العرش) جاء في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "حملة العرش ـ والعرش العلم ـ ثمانية، أربعة منّا، وأربعة ممّن شاء الله"(249). وجاء أيضاً في حديث آخر لأمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: "فالذين يحملون العرش، هم العلماء، الذين حمّلهم الله علمه"(250). ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنّه قال: "العرش ليس هو الله، والعرش اسم علم وقدرة"(251). إنّ ما يستفاد من هذه الأحاديث ـ بشكل عام ـ أنّ للعرش تفسيراً آخر بالإضافة إلى التّفسير السابق الذي ذكرناه سابقاً ـ وهو (صفات الله) ـ صفات مثل (العلم) و (القدرة)، وبناءً على هذا، فإنّ حملة العرش الإلهي هم حملة علمه، وكلّما كان الإنسان أو الملك أكثر علماً، كان له سهم أكبر في حمل العرش العظيم. ومن هنا فإنّ هذه الحقيقة تتبلور بصورة أفضل وهي: أنّ العرش ليس تختاً جسمانياً يشبه تخوت السلاطين، بل له معان عديدة كنائية مختلفة إذا استعمل منسوباً إلى الله تعالى. 2 ـ مقام الإمام علي (عليه السلام) وشيعته جاء في روايات عديدة أنّ الآية: ( فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه ..) نزلت في حقّ الإمام علي (عليه السلام) وشيعته(252). 3 ـ جواب على سؤال والسؤال المطروح هو: هل أنّ دعوة المؤمنين لأهل المحشر لقراءة كتاب حسابهم وصحيفة أعمالهم ـ طبقاً لما جاء في الآية الكريمة: ( فأمّا من اُوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرأوا كتابيه) ـ تعني أنّ صحيفة أعمالهم خالية من أي ذنب؟ وفي مقام الجواب يمكن أن نستفيد من بعض الأحاديث منها حديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول: "يدني الله العبد يوم القيامة، فيقرره بذنوبه كلّها، حتى إذا راى أنّه قد هلك قال اللّه تعالى: إنّي استرتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثمّ يعطى كتاب حسناته بيمينه"(253). وقال البعض أيضاً: إنّ الله تعالى يبدّل سيّئات المؤمنين في ذلك اليوم إلى (حسنات) وبذلك لا تبدو أي نقطة سوداء في صحائف أعمالهم. * * * الآيات وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَـبَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَـلَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـبِيَهْ (25)وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَـلَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّى سُلْطَـنِيَهْ (29) التّفسير ياليتني متّ قبل هذا: كان الحديث في الآيات السابقة عن (أصحاب اليمين) حيث صحائف أعمالهم بأيديهم اليمنى، ويوجّهون نداءهم إلى أهل المحشر بكلّ فخر للإطلاع على صحيفة أعمالهم وقراءتها، ثمّ يدخلون جنّات الخلد حيث تكون مستقرّهم الأبدي. أمّا هذه الآيات فتستعرض الطرف المقابل لأصحاب اليمين وهم (أصحاب الشمال) وتقدّم مقارنة بين المجموعتين، حيث يقول تعالى: ( وأمّا من اُوتي كتابه بشماله، فيقول ياليتني لم اُوت كتابيه)(254). ( ولم أدر ما حسابيه ياليتها كانت القاضية)(255). نعم، في ذلك اليوم العظيم، يوم البعث ويوم البروز والظهور، يوم الحساب والمحكمة الإلهية العظيمة، حيث تتوضّح وتنكشف حقيقة الأعمال القبيحة والسيّئة للإنسان .. وعندما يواجهها يبدأ يجأر ويصرخ ويطلق الزفرات الساخنة المتلاحقة من الأعماق على المصير السيء الذي أوصل نفسه إليه، والشرّ الذي جلبه عليها، ويتمنّى أن يقطع علاقته بماضيه الأسود تماماً، ويتمنّى أن يموت ويفنى ويتخلّص من هذه الفضيحة الكبيرة المهلكة، ويعبّر عن هذا الشعور قوله تعالى: ( ويقول الكافر ياليتني كنت تراباً)(256) وذكرت تفاسير اُخرى ـ أيضاً ـ لمعنى قوله: ( ياليتها كانت القاضية) منها أنّ المقصود من (القاضية) هي الموتة الاُولى، يعني ياليتنا لم نحي مرّة اُخرى ونبعث من جديد، في حين كان أقبح شيء في نظرهم هو الموت، ويتمنّى هؤلاء أن لو استمرّ موتهم ولم يواجهوا الخزي في حياتهم الثانية في المحكمة الإلهية العادلة. وقيل أنّ المقصود من "القاضية" (نفخة الصور) الاُولى حيث عبّر عنها بـ (القارعة) أيضاً، ويعني ذلك تمنّيهم عدم حدوث النفخة الثانية، لذا فهم يقولون: ياليت لم تكن هذه النفخة، إلاّ أنّ التّفسير الذي تحدّثنا عنه في البداية أنسب من الجميع. ثمّ يضيف تعالى مستعرضاً إعتراف المجرمين بذنوبهم فيقول: ( ما أغنى عنّي ماليه) فالأموال التي كنت أجمعها في الدنيا لم تنقذني الآن ولم تعنّي ولم تدفع عنّي الأهوال أو تحلّ مشاكلي. ( هلك عنّي سلطانيه) فليست أموالي لم تسعفني في هذه الشدّة، بل أنّ قدرتي ومقامي وسلطتي هي الاُخرى هلكت وزالت عنّي. وخلاصة الأمر: إنّ الأموال والمقام والسلطان والقوّة .. كلّها لم تفدني ولم تدفع عنّي ما أنا ملاقيه من عقاب على ما أسرفت في السابق، وقد وقفت بين يدي محكمة العدل الإلهي، وأنا لا أملك أي قوّة تنفعني في هذا اليوم، فقد ذهبت قدرتي، وقطع أملي من كلّ شيء، وتعطّلت بي الأسباب. وهكذا يكون المجرمون في نهاية الذلّ والخزي والندم، ولات ساعة مندم. اعتبر البعض معنى الـ (سلطان) هنا هو الدليل والبرهان الذي يكون عاملا في الإنتصار، وبذلك يكون تفسير الآية، أنّ المذنب يقول في ذلك اليوم: إنّي لا أملك أي دليل وحجّة أستطيع بها تبرير أعمالي في حضرة الباريء عزّوجلّ. وقيل أيضاً أنّ المراد من (السلطان) هنا ليس السلطة الحكومية، ذلك لأنّ الداخلين إلى جهنّم ليسوا جميعاً سلاطين أو اُمراء، بل إنّ المراد هو سلطة الإنسان على نفسه وحياته وإرادته، ولكن بما أنّ الكثير من أهل النار كانوا يتمتعون بسلطة ونفوذ في عالم الدنيا، أو أنّهم كانوا من أصحاب الأموال .. لذا يمكن إعتبار وجهة النظر هذه صحيحة حسب الظاهر. * * * ملاحظة بعض القصص المثيرة: نقلت في هذا المجال قصص كثيرة تؤكّد على المفاهيم العامّة التي احتوتها الآيات الكريمة أعلاه، كموضع شاهد وعبرة وتأييد لما ذهبت إليه الآيات المباركات، لتكون درساً لاُولئك الذين جعلوا (المال والسلطان) همّهم الأوّل، وانغمسوا حتّى الأذقان في الغفلة والغرور والذنوب من أجلهما، ومن جملتها ما يلي: 1 ـ نقل في (سفينة البحار) عن كتاب (النصائح) ما نصّه: (عندما اشتدّ مرض هارون الرشيد في خراسان أمر بإحضار طبيب من طوس، ثمّ أوصى أن يعرض إدراره مع إدرار قسم من المرضى والأصحاء على الطبيب، ففحص الطبيب قناني الإدرار الواحدة بعد الاُخرى، حتّى وصل إلى القنينة التي فيها إدرار هارون الرشيد، وبدون أن يعلم من صاحب إدرار هذه القنينة قال: قولوا لصاحب هذه القنينة أن يوصي، لأنّ قواه قد انهدّت وبنيته قد هدمت، فعند سماع هارون هذا الكلام يئس من حياته، وتلا هذه الأبيات الشعرية: إنّ الطبيب بطبّه ودوائه لا يستطيع دفاع نَحْب قد أتى ما للطبيب يموت بالداء الذي قد كان يبرىء مثله فيما مضى وفي هذه الأثناء سمع الناس يتداولون خبر موته، ولكي يبطل مفعول هذه الإشاعة، أمر باستحضار دابة، وطلب أن يركب عليها، وعندما امتطى الدابة ضعفت أرجلها عن حمله، قال: أنزلوني، فإنّ الذي أشاع هذه الشائعة قد صدق. ثمّ أمر بجلب أكفان له، واختار كفناً منها نال إعجابه، وقال احضروا لي قبراً بالقرب من فراشي هذا، ثمّ نظر إلى قبره، وتلا هذه الآيات: ( ما أغنى عنّى ماليه، هلك عنّي سلطانيه)(257). 2 ـ ونقل ـ أيضاً ـ في نفس المصدر عن العالم الكبير (الشيخ البهائي) ما نصّه هكذا: (كان هنالك رجل كثير الحساب لنفسه واسمه (توبة)، حوّل عمره البالغ ستّين عاماً إلى أيّام فكان مجموعها (21500) وعند ذلك قال: ياويلي إذا لم أكن قد أذنبت في اليوم إلاّ ذنباً واحداً فإنّ مجموع ذنوبي الآن يربو على واحد وعشرين ألف ذنب؟ فكيف اُلاقي ربّي بواحد وعشرين ألف ذنب؟ وبينما هو في هذه الحال إذ صرخ صرخة سقط على أثرها على الأرض وسلّم روحه إلى بارئها)(258). 3 ـ ورد في كتاب "اليتيمة" للثعالبي أنّه لمّا حانت وفاة عضد الدولة لم يتحرّك لسانه إلاّ بهذه الآية "ما أغنى عنّي ماليه هلك عنّي سلطانيه". * * * الآيات خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِى سِلْسِلَة ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (33)وَلاَ يُحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَـهُنَا حَمِيمٌ(35) وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِين (36) لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَـطِئُونَ(37) التّفسير خذوه فغلّوه: إستمراراً للآيات السابقة التي كانت تتحدّث عن (أصحاب الشمال) الذين يستلمون صحائف أعمالهم بأيديهم اليسرى، فتنطلق الآهات والأنّات، ويتمنّى أحدهم الموت ـ يشير تعالى في الآيات أعلاه إلى قسم من العذاب الذي يلاقونه يوم القيامة فيقول: ( خذوه فغلّوه). "غلّوه" من مادّة (غلّ)، وكما قلنا سابقاً أنّ المراد هو السلسلة التي كانوا يربطون بها أيدي وأرجل المجرمين إلى أعناقهم مقترن بالكثير من المشقّة والألم. ( ثمّ الجحيم صلّوه ثمّ في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه). "السلسلة" في الأصل مأخوذة من مادّة (تسلسل) بمعنى الإهتزاز والإرتعاش، لأنّ حلقات السلسلة الحديدية تهتزّ وتتحرّك. التعبير بـ (سبعون ذراعاً) يمكن أن يكون من باب (الكثرة) إذ أنّ العدد سبعين كثيراً ما يستعمل للكثرة، كما يمكن أن يكون المقصود هو العدد (سبعون) نفسه، وعلى كلّ حال، فإنّ مثل هذا الزنجير يطوق به المجرمون بحيث يربطون به من كلّ جانب. وقال بعض المفسّرين: إنّ هذه السلاسل الطويلة ليست لشخص واحد. بل لمجاميع يربط كلّ منها بسلسلة، وذكر هذه العقوبة بعد ذكر الغلّ في الآيات السابقة يتناسب أكثر مع هذا المعنى. "ذراع": بمعنى الفاصلة بين الساعد ونهاية الأصابع، (وقياسها بحدود نصف متر) وكانت وحدة الطول المستعملة عند العرب، وهي قياس طبيعي، وقال البعض إنّ (الذراع) الوارد في الآية الكريمة هو غير الذراع المتعارف عليه، حيث أنّ كلّ وحدة منه تمثّل فواصل عظيمة، ويربط بهذا الزنجير جميع أهل جهنّم. ونكرّر هنا مرّة اُخرى قولنا أنّ المسائل المرتبطة بالقيامة لا نستطيع تصويرها بالكامل بواسطة بياننا نحن سكّان الدنيا، إلاّ أنّنا نعكس شبحاً ـ فقط ـ من خلال ما جاء في الآيات والروايات. التعبير بـ (ثمّ) في هذه الآية يوضّح لنا أنّ المجرمين بعد دخولهم في النار يربطون بالسلسلة ذات السبعين ذراعاً، وهذه عقوبة جديدة لهم. كما يوجد إحتمال أنّ هذه السلاسل الفردية أو الجماعية تكون قبل الدخول في جهنّم، و (ثم) جاءت للتأخير في الذكر. وتتطرق الآيتان التاليتان لبيان السبب الرئيسي لهذا العذاب العسير، فيقول تعالى: ( إنّه كان لا يؤمن بالله العظيم). وكلّما كان الأنبياء والأولياء ورسل الله تعالى يدعونه للتوجّه إلى (الواحد الأحد) لم يكن ليقبل، ولذا فإنّ إرتباطه بالخالق كان مقطوعاً بصورة تامّة. ( ولا يحضّ على طعام المسكين). وبهذا الشكل فإنّ هؤلاء قد قطعوا علاقتهم مع (الخلق) أيضاً. وبهذا اللحاظ فإنّ العامل الأساسي لبؤس هؤلاء المجرمين هو قطع علاقتهم مع (الخالق) و (الخلق). ويستفاد من التعبير السابق ـ بصورة واضحة ـ أنّه يمكن تلخيص أهمّ الطاعات والعبادات وأوامر الشرع بهذين الأساسين: (الإيمان) و (إطعام المسكين) وهذا يمثّل إشارة إلى الأهميّة البالغة لهذا العمل الإنساني العظيم والحقيقة كما يقول البعض: إنّ أردأ العقائد هو (الكفر) كما أنّ أقبح الرذائل الأخلاقية هو (البخل). والطريف في التعبير أنّه لم يقل (كان لا يطعم)، بل قال: كان لا يحثّ الآخرين على الإطعام، إشارة إلى: أوّلا: إنّ حلّ مشكلة المحتاجين وإشباع الجائعين لا يمكن أن يتغلّب عليها شخص واحد، بل يجب دعوة الآخرين أيضاً للمساهمة بمثل هذا العمل، ليعمّ الخير والفضل والإحسان جميع الناس. ثانياً: قد يكون الشخص عاجزاً عن إطعام المساكين، ولكن الجميع بإمكانهم حثّ الآخرين على ذلك. ثالثاً: محاربة صفة البخل، حيث أنّ من صفات البخيل أنّه يمتنع عن العطاء والبذل، ولا يرغب أو يرتاح لبذل وعطاء الآخرين أيضاً. وينقل أنّ شخصاً من القدماء كان يأمر زوجته بأن تطبخ طعاماً أكثر من حاجتهم لإعطاء المساكين، ثمّ كان يقول: (أخرجنا نصف السلسلة من أعناقنا وذلك بالإيمان بالله، والنصف الآخر بالإطعام)(259). ثمّ يضيف تعالى: ( فليس له اليوم ههنا حميم) أي صديق مخلص وحميم ( ولا طعام إلاّ من غسلين) أي القيح والدم. والجدير بالملاحظة هنا هو أنّ (الجزاء) و (العمل) لهؤلاء الجماعة متناسبان تماماً، فبسبب قطع علاقتهم بالله، فليس لهم هنالك من صديق ولا حميم، كما أنّ سبب إمتناعهم عن إطعام المحتاجين فإنّ طعامهم في ذلك اليوم لن يكون إلاّ القيح والدم، لأنّهم حرموا المساكين من الإطعام وتركوهم نهباً للجوع والألم في الوقت الذي كانوا يتمتّعون لسنين طويلة بألذّ وأطيب الأطعمة. يقول الراغب في المفردات: "غسلين" غسالة أبدان الكفّار في النار، إلاّ أنّ المتعارف عليه أنّ المقصود به هو الدم والقيح النازل من أجسام أهل النار، ويحتمل أنّ (الراغب) قد قصد هذا المعنى أيضاً. كما أنّ التعبير بـ (الطعام) يناسب هذا المعنى كذلك. وهنا يطرح سؤال، وهو متعلّق بما ورد في الآية الكريمة في قوله تعالى: ( ليس لهم طعام إلاّ من ضريع)(260)، وقد فسّروا (الضريع) بأنّه نوع من الشوك. وكذلك ما ورد بهذا الشأن في قوله تعالى: ( إنّ شجرة الزقّوم طعام الأثيم)(261)، وقد فسّروا (الزقوم) بأنّه نبات مرّ غير مستساغ الطعم ذو رائحة نتنة حيث يكثر وجود مثل هذا النبات في أرض (تهامة) وهو مرّ وحارق وذو صمغ. والسؤال هو: كيف يمكن الجمع بين هذه الآيات والآية مورد البحث؟ قال البعض في الجواب: إنّ هذه الكلمات الثلاث (الضريع، والزقوم، والغسلين) إشارة إلى موضوع واحد وهو (نبات خشن غير مستساغ الطعم يكون طعام أهل النار). وقيل: إنّ أهل النّار في طبقات مختلفة، وإنّ كلّ صنف من هذه النباتات والأطعمة يكون غذاء لمجموعة منهم، أو طبقة من طبقاتهم. وقيل: إنّ غذاء أهل النار هو (الزقوم والضريع)، وشرابهم (الغسلين)، والتعبير بـ (الطعام) عن الشراب في هذه الآية ليس بالجديد. ويضيف سبحانه في آخر آية مورد البحث في قوله تعالى للتأكيد: ( لا يأكله إلاّ الخاطئون). قال بعض المفسّرين: إنّ (خاطىء) تقال للشخص الذي يرتكب خطأً عمداً، أمّا (المخطىء) فتطلق على من ارتكب خطأ بصورة مطلقة (عمداً أو سهواً) وبناءً على ما تقدّم فإنّ طعام أهل جهنّم خاصّ للأشخاص الذين سلكوا درب الشرك والكفر والبخل والطغيان تمردّاً وعصياناً وعمداً. * * * ملاحظة بداية وضع الحركات على حروف القرآن الكريم: أخرج "البيهقي" في شعب الإيمان عن "صعصعة بن صوحان" قال: جاء أعرابي إلى علي بن أبي طالب فقال: كيف هذا الحرف "لا يأكله إلاّ الخاطون" كلّ والله يخطو؟ (أي إنّ جميع الناس تخطو وتمشي فهل انّ الجميع سوف يأكل من هذا الطعام؟) فتبسّم علي وقال: ياأعرابي (لا يأكله إلاّ الخاطئون) قال: صدقت والله ياأمير المؤمنين ما كان الله ليسلّم عبده، ثمّ التفت علي (عليه السلام) إلى أبي الأسود فقال: "إنّ الأعاجم قد دخلت في الدين كافّة فضع للناس شيئاً يستدلّون به على صلاح ألسنتهم، فرسم لهم الرفع والنصب والخفض"(262). * * * الآيات فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُول كَرِيم (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرِ قَلِيلا مَّا تُؤْمِنُونَ(41) وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِن قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَـلَمِينَ(43) التّفسير القرآن كلام الله قطعاً: بعد الأبحاث التي مرّت بنا في الآيات السابقة حول القيامة وما أعدّه الله سبحانه للمؤمنين والكفّار، يبيّن الباريء عزّوجلّ في هذه الآيات بحثاً وافياً حول القرآن والنبوّة، ليكون البحثان (النبوّة) و (المعاد) كلا منهما مكمّلا للآخر. يقول الراغب في البداية: ( فلا اُقسم بما تبصرون وما لا تبصرون). المعروف أنّ كلمة (لا) زائدة وللتأكيد في مثل هذه الموارد، ولكن ذهب البعض إلى أنّ (لا) تعطي معنى النفي أيضاً، ويعني ذلك أنّني لا اُقسم بهذا الأمر، لأنّه أوّلا: لا توجد ضرورة لمثل هذا القسم. وثانياً: يجب أن يكون القسم باسم الله، إلاّ أنّ هذا القول ضعيف، والمناسب هو المعنى الأوّل، إذ ورد في القرآن الكريم قسم باسم الله وبغيره في الكثير من الآيات. جملة ( بما تبصرون وما لا تبصرون) لها معنىً واسع، حيث تشمل كلّ ما يراه البشر وما لا يراه، وبعبارة اُخرى تشمل كلّ عالم (الشهود) و (الغيب). وقد ذكرت إحتمالات اُخرى لتفسير هاتين الآيتين، منها: أنّ المقصود من عبارة ( بما تبصرون) هو عالم الخلقة، ومن ( وما لا تبصرون) هو الخالق عزّوجلّ. وقيل إنّ المقصود بالاُولى هو النعم الظاهرية، وفي الثانية النعم الباطنية. أو أنّ المقصود بهما: البشر والملائكة على التوالي، أو الأجسام والأرواح، أو الدنيا والآخرة. إلاّ أنّ سعة مفهوم هاتين العبارتين يمنع من تحديدهما. وبناء على هذا فإنّ كلّ ما يدخل في دائرة المشاهدة وما هو خارج عنها مشمول للقسم، إلاّ أنّه يستبعد شمولهما للباريء عزّوجلّ، بلحاظ أنّ جعل الخالق مقترناً بالخلق أمر غير مناسب، خصوصاً مع تعبير (ما) الذي جاء في الآية الكريمة والذي يستعمل في الغالب لغير العاقل. ويستفاد ضمناً من هذا التعبير بصورة جيّدة أنّ الاُمور والأشياء التي لا يراها الإنسان كثيرة جدّاً، وقد أثبت العلم الحديث هذه الحقيقة، وهي أنّ المحسوسات التي تحيطنا تشمل دائرة محدودة من الموجودات ـ والأشياء غير المحسوسة ـ سواء في مجال الألوان والأصوات والأمواج والمذاقات وغيرها ـ هي في الواقع أوسع دائرة من الاُمور الحسيّة. فالنجوم التي يمكن رؤيتها في مجموع نصفي الكرة الأرضية بحدود خمسة آلاف نجمة، طبقاً لحسابات علماء الفلك، أمّا النجوم التي لا يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة فهي تعدّ بالمليارات. والأمواج الصوتية التي تستطيع اُذن الإنسان سماعها هي أمواج محدودة، أمّا الأمواج الصوتية الاُخرى التي لا تستطيع الاُذن سماعها فتقدّر بالآلاف. وبالنسبة للألوان التي نستطيع رؤيتها فهي سبعة ألوان معروفة، وقد أصبح من المسلّم اليوم وجود ما لا نهاية له من الألوان الاُخرى، كلون ما وراء البنفسجي، وما دون الأحمر، حيث لا يمكن أن تراها أعيننا. أمّا عدد الحيوانات المجهرية التي لا ترى بالعين المجرّدة فهي كثيرة جدّاً إلى حدّ أنّها ملأت جميع العالم، إذ توجد في قطرة الماء أحياناً آلاف الآلاف منها، فما أضيق تفكير من يضع نفسه في إطار المحسوسات المادية فقط، ويبقى جاهلا لاُمور كثيرة لا تستطيع الحواس أن تدركها، أو أنّه ينكرها أحياناً؟ لقد أثبتت الدلائل العقلية والتجريبية أنّ عالم الأرواح عالم أوسع بكثير من عالم أجسامنا، فلماذا نحبس أنفسنا وعقولنا في إطار المحسوسات؟ ثمّ تستعرض الآية اللاحقة جواب هذا القسم العظيم، حيث يقول تعالى بأنّ هذا القرآن هو قول رسول كريم: ( إنّه لقول رسول كريم). والمقصود من الرّسول هنا ـ بدون شكّ ـ هو الرّسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس جبرائيل، لأنّ الآيات اللاحقة تبيّن هذا المعنى بوضوح. والسبب في نسبة القرآن إلى الرّسول بالرغم من أنّنا نعرف أنّه قول الله تعالى، لأنّ الرّسول مبلّغ عنه، وخاصّة أنّ الآية ذكرت كلمة "رسول" وهذا يعني أنّ كلّ ما يقوله الرّسول فهو قول مرسله، بالرغم من أنّه يجري على لسان الرّسول، ويسمع من فمه الشريف. ثمّ يضيف تعالى: ( وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون(263) ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون). تنفي هاتان الآيتان ما نسبه المشركون والمخالفون من تهم باطلة لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إذ كانوا يقولون أحياناً: إنّه (شاعر) وإنّ هذه الآيات من شعره، كما كانوا يقولون أحياناً: إنّه (كاهن) وإنّ الذي يقوله هو (كهانة) لأنّ الكهنة أشخاص كانوا يتنبّؤن بأسرار الغيب أحياناً، وذلك لإرتباطهم بالجنّ والشياطين، وكانوا يطلقون عن قصد كلاماً مسجعاً وجملا موزونة. ولأنّ القرآن الكريم أيضاً كان يتنبّأ ويتحدّث عن اُمور غيبية، وإنّ ألفاظه وعباراته لها نظام خاصّ، لذا اتّهم الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه التّهم، في حين أنّ الفرق بين الإثنين كالفرق بين الأرض والسماء. لقد نقل البعض في سبب نزول هذه الآية أنّ (أبا جهل) نسب قول الشعر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنّ (عقبة) أو (عتبة) هو الذي نسب الكهانة إلى رسولنا الكريم وكذلك الآخرون أيضاً كانوا يردّدون هذه التّهم. وفي الحقيقة فإنّ للقرآن الكريم ألفاظاً منسجمة، وتعابير ذات نظم جميل تسحر الآذان وتبعث الإطمئنان في الأرواح. إلاّ أنّ هذا ليس له أي إرتباط مع شعر الشعراء، ولا مع سجع الكاهنين. الشعر في الغالب وليد الخيال، ومعبّر عن الأحاسيس الجياشة في النفوس، والعواطف الملتهبة، ولهذا فإنّه يجسّد حالة عدم الإستقرار وعدم التوازن صعوداً ونزولا، شدّة وإنخفاضاً، في الوقت الذي نلاحظ أنّ القرآن الكريم، وهو يمثّل قمّة الروعة والجاذبية، فإنّه كتاب إستدلالي ومنطقي في عرضه للمفاهيم، وعقلاني في محتواه، وما فيه من التنبّؤ المستقبلي لا يشكّل قاعدة أساسية للقرآن الكريم، بالإضافة إلى أنّها صادقة جميعاً بخلاف ما عليه تنبّؤ الكهنة. التعبير بـ ( قليلا ما تؤمنون) و ( قليلا ما تذكرون) هو توبيخ ولوم للأشخاص الذين يسمعون الوحي السماوي مقروناً بدلائل واضحة، إلاّ أنّهم يعتبرونه (شعراً) أحياناً، و (كهانة) أحياناً اُخرى. وقليلا ما يؤمنون. ويقول سبحانه في آخر آية ـ مورد البحث ـ كتأكيد على هويّة القرآن الربانية: ( تنزيل من ربّ العالمين)(264). وبناءً على هذا فإنّ القرآن الكريم ليس بشعر ولا كهانة، وليس هو إنتاج فكر الرّسول، ولا قول جبرائيل .. بل إنّه كلام الله سبحانه، حيث نزل بواسطة الوحي على القلب الطاهر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجاء هذا المعنى بعبارات مختلفة إحدى عشرة مرّة في القرآن الكريم. * * * الآيات وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاَْقَاوِيلِ (44) لاََخَذْنَا مِنْهُ بِالْيـَمِينِ(45)ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَد عَنْهُ حَـجِزِينَ (47)وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ (49)وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَـفِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) التّفسير استمراراً للأبحاث المتعلّقة بالقرآن الكريم، تستعرض الآيات التالية دليلا واضحاً يؤكّد يقينية كون القرآن من الله سبحانه، حيث يقول: ( ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثمّ لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين)(265). "أقاويل": جمع (أقوال) و (أقوال) بدورها جمع (قول) وبناء على هذا فإنّ أقاويل جمع الجمع، والمقصود منها هنا هو الحديث الكذب. "وتقوّل" من مادّة (تقوّل) على وزن (تكلّف) بمعنى الحديث المصطنع الذي لا أساس له من الصحّة والحقيقة. جملة ( لأخذنا منه باليمين) تعني: لأخذنا من يده اليمنى ولعاقبناه وجازيناه وكلمة "اليمين" هنا كناية عن القدرة، وذلك بلحاظ أنّ الإنسان الذي ينجز أعمالا معيّنة بيده اليمنى يتمتّع بقدرة وقوّة أفضل. كما أورد بعض المفسّرين إحتمالات اُخرى أيضاً في تفسير هذه الآية، أعرضنا عن ذكرها بلحاظ كونها غير مشهورة ولا موزونة. "وتين" بمعنى (عرق القلب) والمقصود به هو الشريان الذي عن طريقه يصل الدم إلى جميع أعضاء جسم الإنسان، وإذا قطع فإنّ الإنسان يتعرّض للموت فوراً، وهذا تعبير عن أسرع عقوبة يمكن أن يعاقب بها الإنسان. وفسّر البعض (الوتين) بأنّه العرق الذي يكون القلب معلّقاً به، أو العرق الذي يوصل الدم إلى الكبد، أو أنّه عرق النخاع الذي هو في وسط العمود الفقري، إلاّ أنّ التّفسير الأوّل أصحّ من الجميع حسب الظاهر. "حاجزين" جمع (حاجز) بمعنى المانع. وقد يتساءل البعض قائلا: إذا كان الموت الفوري والهلاك الحتمي هو عقوبة كلّ من يكذب على الله سبحانه، فهذا يستلزم هلاك جميع من يدّعي النبوّة كذباً وبسرعة، وهذا ما لم يلاحظ في حياتنا العملية، حيث بقي الكثير منهم لسنين طويلة. بل حتّى معتقداتهم الباطلة بقيت أيضاً فترة زمنية من بعدهم. الجواب يتّضح جليّاً بالإنتباه إلى ما يلي: وهو أنّ القرآن الكريم لم يقل بأنّ الله يهلك كلّ مدّع يدّعي النبوّة .. بل إنّه سبحانه خصّص هذه العقوبة لشخص الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما لو إنحرف عن طريق الحقّ، فسوف لن يهمل لحظة واحدة، لأنّه يكون سبباً لضياع الرسالة وضلال الناس(266). أمّا الأشخاص الذين يدّعون ادّعاءات باطلة، وليس لديهم أي دليل عليها، فليس هنالك ضرورة لأن يهلكهم الله فوراً، لأنّ بطلان ادّعاءاتهم واضح لكلّ من يطلب الحقّ، إلاّ أنّ الأمر يلتبس ويصعب حينما يكون الإدّعاء بالنبوّة مقترناً بأدلّة ومعاجز دامغة كما هو بالنسبة للنبي الإلهي، فإنّ ذلك ممّا يؤدّي إلى الإنحراف عن طريق الحقّ. ومن هنا يتّضح بطلان ادّعاء بعض (الفرق الضالّة) لإثبات ما يقوله أسيادهم من خلال الإستشهاد بهذه الآية المباركة. فلو صحّ ذلك لكان (مسيلمة الكذّاب) وكلّ مدّع كاذب من أمثاله يستطيعون إثبات إدّعاءاتهم من خلال الإستدلال بهذه الآية أيضاً. ويذكّر سبحانه مرّة اُخرى في الآية اللاحقة مؤكّداً ما سبق عرضه في الآيات السابقة ( وإنّه لتذكرة للمتّقين). إنّ كتاب الله هذا أنزله للأشخاص الذين يريدون أن يطهّروا أنفسهم من الذنوب، ويسيروا في طريق الحقّ، ويبحثوا عن الحقيقة، ويسعوا للوصول إليها، أمّا من لم يصل إلى هذا الحدّ من صفاء النظرة وتقوى النفس، فمن المسلّم أنّه لن يستطيع أن يستلهم تعاليم القرآن الكريم ويتذوّق حلاوة معرفة الحقّ المبين. إنّ التأثير العميق الفذّ للقرآن الكريم الذي يحدثه في نفوس سامعيه وقارئيه، هو بحدّ ذاته علامة على إعجازه وحقّانيته. ثمّ يضيف تعالى: ( وإنّا لنعلم أنّ منكم مكذّبين). إنّ وجود المكذّبين المعاندين لم يكن مانعاً أبداً من الدليل على عدم حقّانيتهم. إنّ المتّقين وطلاّب الحقّ يتّعظون به، ويرون فيه سمات الحقّ، وإنّه عون لهم في الوصول إلى طريق الله سبحانه. وبناء على هذا فكما يجدر بالإنسان ـ بل يجب عليه ـ أن يفتح عينه للإستفادة من إشعاع النور، فإنّ عليه كذلك أن يفتح عين قلبه للإستفادة من نور القرآن العظيم. ويضيف في الآية اللاحقة: ( وإنّه لحسرة على الكافرين). إنّ هؤلاء الكفرة الذين يتحدّون القرآن الكريم اليوم ويكذّبونه، فإنّهم غداً حيث (يوم الظهور) و (يوم البروز) وهو وفي نفس الوقت (يوم الحسرة) يدركون مدى عظمة النعمة التي فرّطوا بها بسبب لجاجتهم وعنادهم، وما جلبوه لأنفسهم من أليم العذاب، ذلك اليوم الذي يشاهدون فيه ما عليه المؤمنون من نعيم ونعمة، وعندئذ تكون المقارنة بين هؤلاء وبين من غضب الله عليهم، فعند ذلك سيعضّون أصابع الندم، يقول تعالى: ( ويوم يعضّ الظالم على يديه يقول ياليتني اتّخذت مع الرّسول سبيلا)(267). ولكي لا يتصور أحد أنّ التكذيب والتشكيك كان بلحاظ غموض وإبهام مفاهيم القرآن الكريم، فيضيف في الآية اللاحقة: ( وإنّه لحقّ اليقين). التعبير بـ (حقّ اليقين) في إعتقاد بعض المفسّرين هو في قبيل (إضافة شيء إلى نفسه) لأنّ (الحقّ) هو (اليقين) نفسه و (اليقين) هو (عين الحقّ) وذاته، وذلك كما يقال: (المسجد الجامع) أو (يوم الخميس)، ويقال له بإصطلاح النحاة (إضافة بيانية) إلاّ أنّ الأفضل أن يقال في مثل هذه الإضافة: إضافة (الموصوف إلى الصفة). يعني أنّ القرآن الكريم هو (يقين خالص) أو بتعبير آخر أنّ لليقين مراحل مختلفة، حيث يحصل أحياناً بالدليل العقلي كما في حصول اليقين بوجود النار من خلال مشاهدة دخّان من بعيد، لذا يقال لمثل هذا الأمر (علم اليقين). وحينما نقترب أكثر ونرى إشتعال النار باُمّ أعيننا، فعند ذلك يصبح اليقين أقوى ويسمّى عندئذ بـ (عين اليقين). وعندما يكون اقترابنا أكثر فأكثر ونصبح في محاذاة النار أو في داخلها ونلمس حرارتها بأيدينا، فإنّ من المسلّم أنّ هذه أعلى مرحلة من مراحل اليقين، وتسمّى بـ (حقّ اليقين). والآية أعلاه تقول: إنّ القرآن الكريم في مثل هذه المرحلة من اليقين، ومع هذا فإنّ عديمي البصيرة ينكرونه ويشكّكون فيه. وأخيراً يقول سبحانه في آخر آية ـ مورد البحث، والتي هي آخر آية من سورة (الحاقّة) ـ ( فسبّح باسم ربّك العظيم). والجدير بالملاحظة ـ هنا ـ أنّ مضمون هذه الآية والآية السابقة قد جاء بتفاوت يسير مع ما ورد في سورة الواقعة، وهذا التفاوت هو أنّ الآية وصفت القرآن الكريم هنا بأنّه (حقّ اليقين) أمّا في نهاية سورة (الواقعة) فكان الحديث عن المجاميع المتباينة للصالحين والطالحين في يوم القيامة. * * * ملاحظة وصف القرآن الكريم في هذه الآيات المباركة بأوصاف أربعة وهي "تنزيل" و "تذكرة" و "حسرة" و "حقّ اليقين". حيث يقول في البداية: ( تنزيل من ربّ العالمين)، ثمّ يقول: ( وإنّه لتذكرة للمتّقين) ثمّ يقول تعالى: ( وإنّه لحسرة على الكافرين) ويضيف في آخر وصف له بقوله: ( وإنّه لحقّ اليقين). وذلك أنّ الآية الاُولى موجّهة لجميع البشر، والثانية مختصّة بالمتّقين والآية الثالثة تعني الكافرين، والرابعة خاصّة بالمقرّبين. اللهمّ: إنّك تعلم إنّه لا شيء أفضل من اليقين، فارزقنا منه ما يكون معه إيماننا مصداقاً لحقّ اليقين. ربّنا: إنّ يوم القيامة هو يوم الحسرة، فلا تجعلنا في ذلك اليوم من الذين يتحسّرون لكثرة ذنوبهم، بل من قلّة طاعاتهم على الأقل .. ربّنا: آتنا صحيفة أعمالنا بيدنا اليمنى، وادخلنا في جنّة عالية في عيشة راضية. آمين ربّ العالمين نهاية سورة الحاقّة ونهاية المجلد الثّامن عشر * * *