إِن لم تعلمْه بلاغةً ولا يدفُعك عن بيانٍ ولا يُدخِلُ عليك شكّاً ولا يُغْلقُ دونَكَ بابَ معرفةٍ ولا يُفْضي بك إِلى تحريفٍ وتبديل وإِلى الخطأ في تأويلٍ وإِلى ما يعظمُ فيه المَعَابُ عليك ويطيلُ لسانَ القادحِ فيك ولا يَعْنيك ولا يُهمُّك أن تعرفَ ما إِذا جهلتَه عرَّضتَ نفسَكَ لكلَّ ذلك وحصلتَ فيما هنالك . وكان أكثرُ كلامك في التفسيرِ وحيثُ تخوضُ في التأويل كلامَ مَن لا يَبني الشّيءَ على أصلِه ولا يأخذُه من مأَخذِه ومن ربَّما وقعَ في الفَاحش من الخطأ الذي يبقى عارُه وتشنُع آثارُه . ونسأل الله العِصْمةَ من الزّلل والتوفيقَ لما هو أقربُ إِلى رضاهُ منَ القول والعمل .
واعلمْ أنَّ من الخطأ أن يُقسَّم الأمرُ في تقديمِ الشيءِ وتأخيره قسمينِ فيجعلُ مفيداً في بعضِ الكلامِ وغيرَ مفيد في بعض . وأنْ يعلَّلَ تارةً بالعناية وأخرى بأنه توَسعةٌ على الشاعرِ والكاتب حتى تطَّردَ لهذا قوافيهِ ولذاك سجعُه . ذاك لأنَّ منَ البعيد أنْ يكونَ في جملةِ النظم ما يدلُّ تارةً ولا يدلُّ أخرى . فمتى ثبتَ في تقديمِ المفعولِ مثلاً على الفِعل في كثيرٍ من الكلامِ أنه قد اختصَّ بفائدةٍ لا تكونُ تلك الفائدةُ معَ التأخيرِ فقد وجبَ أن تكونَ تلك قضيةً في كلَّ شيءٍ وكلَّ حال . ومِن سبيل مَن يجعلُ التقديمَ وتركَ التقديم سواءً أن يدَّعيَ أنه كذلك في عمومِ الأحوال . فأمّا أن يجعلَه بينَ بينَ فيزعُمُ أنه للفائدةِ في بعضِها وللتصرُف في اللفظِ من غيرِ معنًى في بعض فمما ينبغي أن يرغبَ عن القولِ به .
وهذه مسائلُ لا يستطيعُ أحدٌ أن يمتنعَ من التَّفرقةِ بينَ تقديمِ ما قُدَّم فيها وتَرْكِ تقديمِه . ومن أبْينِ شيء في ذلك الاستفهامُ بالهمزةِ فإِنَّ موضعَ الكلام على أنك إِّذا قلت : أفعلتَ فبدأتَ بالفعل كان الشكُّ في الفِعل نفسِه وكان غرضُك من استفهامِك أن تعلمَ وجودَه . وإِذا قلتَ : أأنتَ فعلتَ فبدأتَ بالاسمِ كان الشكُّ في الفاعِل مَن هو وكان التردُّدُ فيه . ومثال ذلك أنك تقولُ : أبنيتَ الدارَ التي كنتَ على أن تَبْنيَها أقلتَ الشعرَ الذي كان في نفسِك أنْ تقولَه أفرغتَ منَ الكتابِ الذي كنتَ تكتُبه تبدأ في هذا ونحوه بالفعل لأن السؤالَ عن الفعل نفسِه والشكَّ فيه لأنك في جميع ذلك متردِّدٌ في وجودِ الفعل