( ولَوْلا اعْتِصامي بالمُنَى كلَّما بَدا ... ليَ اليأسُ منها لم يَقُمْ بالهَوى صَبْري ) .
( ولَوْلا انْتِظاري كُلَّ يَوْمٍ جَدا غدٍ ... لراحَ بِنَعْشِي الدّافِنونَ إلى قَبْري ) .
( وقَدْ رابَني وَهْنُ المُنى وانْقِباضُها ... وبَسْطُ جديدِ اليأسِ كَفَّيه في صدري ) .
ليس المعنى على أنه استعارَ لفظَ الكفَّينِ لشيءٍ ولكن على أنه أرادَ أن يَصِفَ اليأسَ بأنَّه قد غَلَبَ على نفسه وتمكَّن في صدره . ولما أرادَ ذلك وصفه بما يصفونَ به الرجلَ بفضلِ القدرة على الشيء وبأنه متمكِّن منه وأنه يَفْعلُ فيه كلَّ ما يريد كقولهم : قد بَسَطَ يديه في المالِ ينفِقهُ وصنعُ فيه ما يشاء . وقد بَسَطَ العاملُ يَدَه في الناحية وفي ظُلمْ الناس فليس لك إلاَّ أَنْ تقول إنه لما أراد ذلك جعل لليأس كفين واستعارهما له فأما أن تُوقِعَ الاستعارةَ فيه على اللفظ فمما لا تخفى استحالَتُه على عاقل .
والقولُ في المجازِ هو القولُ في الاستعارة لأنَّه ليس هو بشيءٍ غيرِها . وإنما الفرقُ أنَّ المجاز أعمُّ من حيثُ إنَّ كلَّ استعارةٍ مجازٌ وليس كلُّ مجاز استعارة . وإِذا نظرنا من المجاز فيما لا يطلقُ عليه أنه استعارة ازداد خطأُ القوم قبحاً وشناعة وذلك أنه يلزم على قياس قولهم أن يكون إنما قولُه تعالى : ( هو الذي جَعَلَ لكم الليلَ لتَسْكُنوا فيه والنَّهارَ مُبْصِراً ) أفصحَ من أَصْلِه الذي هو قولنا : والنهارَ لتبصروا أنتم فيه أو مبصراً أنتم فيه من أجل أنه حدَثَ في حروفِ مُبْصر - بأن جَعَل الفعلَ للنهارِ على سعَةِ الكلام - وصفٌ لم يكن . وكذلك يلزمُ أن يكونَ السببُ في أَنْ كان قول الشاعر - الرجز - : .
( فنام لَيْلي وتجلَّى همّي ... ) .
أفصحَ من قولنا : فنمتُ في ليلي . أنْ كَسَبَ هذا المجازُ لفظَ الليل مذاقَةً لم تكُنْ لهما . وهذا مما يَنْبغي للعاقل أن يستحيَ منه وأَنْ يأنَفَ مِنْ أن يُهْمِلَ النظرَ إهمالاً يؤديه إلى مثلِه . ونسألُ اللهَ تعالى العِصْمةَ والتوفيقَ .
وإِذا قد عرفتَ ما لَزِمهم في الاستعارة والمجاز فالذي يلزَمُهم في الإِيجاز أعجب وذلك أنه يلزمُهم إنْ كان اللفظُ فصيحاً لأَمْرٍ يَرجع إليه نفسُه دونَ معناه أن يكون كذلك موجزاً