وكنا نقول : هذه لفظةٌ مستعارة قد استعير له اسمُ الأسد إنَّ مآلَ الأمر إلى أن القصدَ بها إلى المعنى . يدلّك على ذلك أنّا نقول : جعله أسداً وجعله بدراً وجعله بحراً . فلو لم يكن القصدُ بها إلى المعنى لم يكن لهذا الكلام وجهٌ لأن " جعل " لا تصلح إلاّ حيث يُرادُ إثباتُ صفةٍ للشيء . كقولنا : جعلته أميراً وجعلته واحدَ دهره تريد : أثبتُّ له ذلك . وحكمُ " جعل " إذا تعدَّى إلى مفعولين حكُم " صيَّرَ " فكما لا تقول : صيَّرته أميراً إلاّ على معنى أنك أثبتَّ له صفةَ الإِمارة كذلك لا يصحُّ أن تقولَ : جعلته أسداً إلاّ على معنى أنك جعلتَه في معنى الأسد . ولا يقال : جعلته زيداً . بمعنى سمَّيْته زيداً ولا يقال للرجل : اجعل ابنَك زيدا بمعنى سمِّه زيداً وولد لفلانٍ ابن فجعلَه زيداً . وإنما يدخل الغلطُ في ذلك على من لا يحصِّل .
فأما قوله تعالى : ( وَجَعَلوا المَلائِكَةَ الذينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ) فإِنَّما جاء على الحقيقة التي وصفتُها وذاك أن المعنى على أنهم أثبتوا للملائكةِ صفةَ الإِناث واعتقدوا وجودَها فيهم . وعن هذا الاعتقادِ صدرَ عنهم ما صدرَ من الاسم أعني إطلاقَ اسم البنات . وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظَ الإِناث أو لفظَ البنات اسماً من غير اعتقادِ معنًى وإثباتِ صفة . هذا مُحال لا يقوله عاقل : أَما تسمعُ قولَ الله تعالى : ( أَشَهِدوا خَلْقَهُمْ ستُكتَبُ شهادتُهم ويُسْأَلونَ ) فإِن كانوا لم يزيدوا على أن أجْرَوا الاسمَ على الملائكة ولم يعتقدوا إثباتَ صفة ومعنى بإجرائه عليهم فأيُّ معنًى لأن يقال : اَشَهدوا خلقهم هذا وَلو كانوا لم يقصِدوا إثباتَ صِفَةٍ ولم يزيدوا على أن وضعوه اسماً لما استحقّوا إلاّ اليسيرَ من الذمِّ ولما كان هذا القولُ منهم كفراً والأمرُ في ذلك أظهرُ من أن يخفى .
وجملةُ الأمر أنه إنْ قيل : إنه ليس في الدنيا علمٌ قد عرضَ للناس فيه من فحشِ الغلط ومن قبيح التورُّط منَ الذهاب معَ الظنونِ الفاسدة ما عَرَضَ لهم في هذا الشأن ظننتَ أَنْ لا يُخْشَى على من يقوله الكذبُ . وهل عَجَبٌ أعجبُ من قومٍ عقلاءَ يتلون قولَ الله تعالى :