العرب أفضل الأمم وَحكْمَتُها أشرف الحكَم كفضل اللسان على اليد .
وكلام العرب نوعان : منظوم ومنثور لكل نوع منهما ثلاث طبقات : جيدة ومتوسطة ورديئة فإذا اتفقت الطبقتان في القَدْر وتساوتا في القيمة ولم يكن لإحداهما فضل على الأخرى كان الحكم للشعر ظاهراً في التسمية لأن كل منظوم أحسنُ من كل منثور من جنسه في معترف العادة ألا ترى أن الدُّرَّ وهو أخو اللفظ ونسيبُه وإليه يقاس وبه يشبّه إذا كان منظوماً يكون أظهر لحسنه وأصْونَ له .
وكذلك اللفظ إذا كان منثوراً تَبَدَّدَ في الأسماع وتَدَحْرَجَ في الطباع ولم يستقر منه إلاّ المفرطة في اللطف فإذا أخذه سلْكُ الوَزْن وعقْد القافية تألفت أشْتاته وازدوجت فرائده وأمن السرقة والغَصب .
وقد أجمع الناس على أن المنثور في كلامهم أكثر وأقلّ جيداً محفوظاً وأن الشعرَ أقلُّ وأكثر جيداً محفوظاً لأن في أدناه من زينة الوزن والقافية ما يقارب به جَيّد المنثور .
وكان الكلامُ كله منثوراً فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها وطَيّب أعراقها وذكر أيامها الصالحة وأوطانها النازحة وفُرسَانها الأَنجاد وسمحائها الأجواد لتهزّ نفوسها إلى الكرم وتدل أبناءها على حسن الشيم فتوهموا أعاريض فعملوها موازين للكلام فلما تم لهم وزنه سموه شعراً لأنهم قد شَعروا به أي فَطنوا له .
وقال : ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون فلم يُحفظ من المنثور عُشْره ولا ضاع من الموزون عشره .
فإن احتج أحد على تفضيل النثر على الشعر بأن القرآن منثور وقد قال تعالى : ( وَمَا عَلَّمْنَاه الشّعرَ وَمَا يَنْبَغي لَهُ ) قيل له : إن الله بعث رسوله آية وحجة على الخلْق وجعل كتابه منثوراً ليكون أظهر برهاناً بفضله على الشعر الذي من عادة صاحبه أن يكون قادراً على ما يحب من الكلام وتحدَّى جميع الناس من شاعر وغيره بعمل مثله فأعجزهم ذلك فكما أن القرآن أعجَز الشعراء وليس بشعْر كذلك أعجزَ الخطباء وليس بخُطبة والمترسلين وليس بترسل وإعجازُه الشعراء أشدُّ برهاناً ألا ترى العرب كيف نسبوا النبي الشعر لَمَّا غُلبوا وتبين عجزهم فقالوا : هو شاعر ! لمَا في قلوبهم من هيبة الشعر وفخامته وأنه يقع منه ما لا يُلحَق والمنثور ليس كذلك فمن هنا قال تعالى : ( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنْبَغي لَهُ ) أي لتقوم عليكم الحجة ويصح قبَلكم الدليل