من يده لم يمكن منه لا لأن اللقمة صارت ملكا له بالأخذ باليد فإن اليد وصاحب اليد أيضا مملوك ولكن إذا كانت كل لقمة بعينها لا تفى بحاجة كل العبيد فالعدل فى التخصيص عند حصول ضرب من الترجيح والاختصاص والأخذ اختصاص ينفرد به العبد فمنع من لا يدلى بذلك الاختصاص عن مزاحمته فهكذا ينبغى أن تفهم أمر الله فى فى عباده ولذلك نقول من أخذ من أموال الدنيا أكثر من حاجته وكنزه وأمسكه وفى عباد الله من يحتاج إليه فهو ظالم وهو من الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله وإنما سبيل الله طاعته وزاد الخلق فى طاعته أموال الدنيا إذ بها تندفع ضروراتهم وترتفع حاجاتهم نعم لا يدخل هذا فى حد فتاوى الفقة لأن مقادير الحاجات خفية والنفوس فى استشعار الفقر فى الاستقبال مختلفة وأواخر الأعمار غير معلومة فتكليف العوام ذلك يجرى مجرى تكليف الصبيان الوقار والتؤدة والسكوت عن كلام غير مهم وهو بحكم نقصانهم لا يطيقونه فتركنا الاعتراض عليهم فى اللعب واللهو وإباحتنا ذلك إياهم لا يدل على أن اللهو واللعب حق فكذلك إباحتنا للعوام حفظ الأموال والاقتصار فى الإنفاق على قدر الزكاة لضرورة ما جبلوا عليه من البخل لا يدل على أنه غاية الحق وقد أشار القرآن إليه إذ قال تعالى إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا بل الحق الذى لا كدورة فيه والعدل الذى لا ظلم فيه أن لا يأخذ أحد من عباد الله من مال الله إلا بقدر زاد الراكب فكل عباد الله ركاب لمطايا الأبدان إلى حضرة الملك الديان فمن أخذ زيادة عليه ثم منعه عن راكب آخر محتاج إليه فهو ظالم تارك للعدو وخارج عن مقصود الحكمة وكافر نعمة الله تعالى عليه بالقرآن والرسول والعقل وسائر الأسباب التى بها عرف ان ما سوى زاد الراكب وبال عليه فى الدنيا والآخرة فمن فهم حكمة الله تعالى فى جميع أنواع الموجودات قدر على القيام بوظيفة الشكر واستقصاء ذلك يحتاج إلى مجلدات ثم لا تفى إلا بالقليل وإنما أوردنا هذا القدر ليعلم علة الصدق فى قوله تعالى وقليل من عبادى الشكور وفرح إبليس لعنه الله بقوله ولا تجد أكثرهم شاكرين فلا يعرف معنى هذه الآية من لم يعرف معنى هذا كله وأمورا أخر وراء ذلك تنقضى الأعمار دون استقصاء مباديها فأما تفسير الآية ومعنى لفظها فيعرفه كل من يعرف اللغة وبهذا يتبين لك الفرق بين المعنى والتفسير .
فإن قلت فقد رجع حاصل هذا الكلام إلى أن الله تعالى حكمه فى كل شىء وأنه جعل بعض أفعال العباد سببا لتمام الحكمة وبلوغها غاية المراد منها وجعل بعض أفعالها مانعا من تمام الحكمة فكل فعل وافق مقتضى الحكمة حتى انساقت الحكمة إلى غايتها فهو شكر وكل ما خالف ومنع الأسباب من أن تنساق إلى الغاية المرادة بها فهو كفران وهذا كله مفهوم ولكن الإشكال باق وهو أن فعل العبد المنقسم إلى ما يتمم الحكمة وإلى ما يرفعها هو أيضا من فعل الله تعالى فاين العبد فى البين حتى يكون شاكرا مرة وكافرا أخرى فاعلم أن تمام التحقيق فى هذا يستمد من تيار بحر عظيم من علوم المكاشفات وقد رمزنا فيما سبق إلى تلويحات بمباديها ونحن الآن نعبر بعبارة وجيزة عن آخرها وغايتها يفهمها من عرف منطق الطير ويجحدها من عجز عن الإيضاع فى السير فضلا عن أن يجول فى جو الملكوت جولان الطير فنقول أن الله D فى جلاله وكبريائه صفة عنها يصدر الخلق والاختراع وتلك الصفة أعلى وأجل من أن تلمحها عين واضع اللغة حتى يعبر عنها بعبارة تدل على كنة جلالها وخصوص حقيقتها فلم يكن لها فى العالم عبارة لعلو شأنها وانحطاط رتبة واضعى اللغات عن أن يمتد طرف فهمهم إلى مبادى إشراقها فانخفضت عن ذروتها أبصارهم كما تنخفض أبصار الخفافيش عن نور الشمس لا لغموض