- الإيلاء معناه في اللغة اليمين مطلقا . سواء كان على ترك قربان زوجته . أو غيره ومع هذا فقد كان الإيلاء على ترك وطء الزوجة في الجاهلية له حكم خاص وهو تحريمها حرمة مؤبدة فإذا قال : والله لا أطأ زوجتي كان معنى ذلك عندهم تحريمها أبدا فالمعنى اللغوي أعم من المعنى الشرعي لأن الإيلاء في الشرع معناه الحلف على ترك وطء الزوجة خاصة فلا يطلق عند الفقهاء على الحلف على الأكل أو الشرب أو غير ذلك .
وحكم الإيلاء في الشرع مغاير لحكم الإيلاء في الجاهلية لأن الحلف به لا يحرم المرأة حرمة مؤبدة كما ستعرفه ثم إن الإيلاء مصدر آلي يولي إيلاء كأعطى إعطاء والألية اسم بمعنى اليمين وتجمع على ألايا كخطية وخطايا ومثلها الألوة - بسكون اللام وتثليث الهمزة - فالألوة اسم بمعنى اليمين ويقال أيضا : تألى يتألى بمعنى أقسم يقسم ومثله ائتلى يأتلي ومنه قوله تعالى : { ولا يأتل أولو الفضل منكم } الآية أي لا يقسموا .
أما معناه في الشرع فهو الحلف على أن لا يقرب زوجته سواء أطلق بأن قال : والله لا أطأ زوجتي أو قيد بلفظ أبدا بأن قال : والله لا أقربها أبدا أو قيد بمدة أربعة أشهر فما فوق بأن قال : والله لا أقرب زوجتي مدة خمسة أشهر أو مدة سنة أو طول عمرها أو ما دامت السموات والأرض . أو نحو ذلك .
فإن قال ذلك كان موليا بذلك أما إذا قيد بشهرين أو ثلاثة أو أربعة ( 1 ) بدون زيادة على الأربعة ولو يوما فإنه لا يعتبر موليا بذلك ومثل الحلف بالله الحلف بصفة من صفاته كما إذا قال : وقدر الله أو علم الله ونحو ذلك وكذا إذا حلف بغير الله وصفاته كالطلاق والظهار والعتق والنذر فإذا قال : هي طالق إن وطئتها أو هي علي كظهر أمي إن وطأتها أو لله علي نذر أن أحج إلى بيت الله أو عبدي حر إن وطئتها فإنه يكون موليا بكل هذا ( 2 ) على أن تعريف الإيلاء شرعا فيه تفصيل المذاهب ( 3 ) .
_________ .
( 1 ) ( الحنفية - قالوا : أقل مدة الإيلاء أربعة أشهر فقط فلا يشترط الزيادة عليها كما سيأتي توضيحه في حكم الإيلاء ) .
( 2 ) ( .
الحنابلة - قالوا : أنه لا يكون موليا إلا إذا حلف بالله أو بصفة من صفاته كما هو موضح في تعريفهم الآتي ) .
( 3 ) ( الحنفية - عرفوا الإيلاء بأنه اليمين على ترك قربان الزوجة مطلقا غير مقيد بمدة أو مقيدا بمدة أربعة أشهر فصاعدا بالله تعالى أو تعليق القربان على فعل شاق فقولهم : اليمين بالله شمل ما إذا حلف باسم الله أو بصفة من صفاته وقولهم : على ترك قربان الزوجة المراد به الوطء في القبل على الوجه الآتي بيانه وقولهم أو تعليق القربان على فعل شاق شمل ما إذا علق على طلاق كما إذا قال : إن وطئتك فأنت طالق أو على عتق كما إذا قال : إن أتيتك فعبدي حر أو على نذر كأن قربتك فعلي حج أو صيام ولو يوم لأنه شاق بخلاف ما إذا قال : إن قربتك فعلي صيام هذا الشهر أو الشهر الماضي لأن الماضي لا يصح نذره والشهر الحاضر يمكنه أن يطأها بعد نهايته ولا شيء عليه لنه يصير ماضيا وكذا إذا قال : فعلي هدي أو اعتكاف أو يمين أو كفارة يمين أو فعلي عتق رقبة من غير أن يعين أو علي صلاة مائة ركعة ونحو ذلك مما في فعله مشقة على النفس بخلاف ما إذا قال : علي صلاة ركعات أو إتباع جنازة أو تسبيحات أو نحو ذلك مما لا مشقة جنازة أو تسبيحات أو نحو ذلك مما لا مشقة فيه فإنه لا يكون موليا فإن أتاها وكان موليا بالله كان عليه كفارة يمين وإن كان معلقا على طلاق وقع الطلاق سواء علق على طلاقها أو طلاق امرأة غيرها وإن كان معلقا على عتق رقبة غير معينة لزمته وإن كان معلقا على غير ذلك لزمه وسقط الإيلاء وإن لم يقربها فرق بينهما على الوجه الآتي .
وبهذا تعلم أن الإيلاء إنما يصح بالطلاق والعتاق والظهار والهدي والحج والصوم ونحو ذلك لأن في فعلها مشقة على النفس أما النذر فإن كان في الوفاء به مشقة على النفس فإنه يصح الإيلاء به وإلا فلا يصح كما إذا قال : إن وطئتك فلله علي أن أصلي عشرين ركعة إذ لا يخفى أن صلاة عشرين ركعة لا مشقة فيها في ذاتها وإن كانت قد يشق فعلها على بعض النفوس الضعيفة بسبب الكسل فمن قال ذلك فإنه لا يكون موليا بخلاف ما إذا نذر صلاة مائة ركعة فإن فيها مشقة في ذاتها فيعتبر الحالف بنذرها موليا .
فإن قلتك إنه إذا حلف بالله بأن قال : والله لا أطأ زوجتي يكون موليا بل هو الأصل في الإيلاء مع أنه إذا وطئ امرأته لا يلزمه فعل شيء شاق والجواب : أنه يلزمه كفارة اليمين وظاهر أن الكفارة فعل شاق وأورد على هذا أمران .
أحدهما : إيلاء الذمي باليمين كأن يقول : والله لا أطأ زوجتي فإنه يكون بذلك موليا عند الإمام بحيث لو رفع إلينا الأمر فإننا نحكم بكونه موليا مع انه إذا وطئها فلا كفارة عليه لأن الذمي غير مخاطب بالكفارة وأجيب : بأنه يلزمه الإيلاء لأنه معاملة لا عبادة ولا تلزمه الكفارة لأنها عبادة وهو ليس من أهل العبادة فهي مستثنى من هذا الحكم لعارض الكفر .
ثانيهما : أنه إذا قال : والله لا أطأ زوجاتي الأربع فإن له أن يطأ ثلاثا منهم بدون كفارة وبهذا يكون قد آلى من زوجاته بدون أن يفعل أمرا شاقا . والجواب : أنه إذا قال : والله لا أطأ زوجاتي الأربع كان معناه أنه حلف على ترك وطء الأربع جميعا فإذا أتى بعضهن لا يحنث بل يحنث إذا أتى الأربع فإذا أتى الثلاث وترك واحدة صار موليا منها وحدها ونظير ذلك ما إذا حلف لا يكلم زيدا وعمرا ثم كلم زيدا فقط فإنه لا يحنث فإذا كلم عمرا بعد زيد حنث كما إذا كلمهما معا وكذا لو قال لزوجته وأمته : والله لا أقربكما ثم أتى زوجته وحدها فإنه لا يكون موليا فإذا أتى الأمة بعدها كان موليا من زوجته لتوقف الحلف على اتيانهما معا .
الحنابلة - قالوا : الإيلاء حلف زوج - يمكنه أن يجامع - بالله تعالى أو صفة من صفاته على ترك وطء امرأته ولو قبل الدخول في قبلها فقولهم : زوج خرج به سيد الأمة فإنه لو حلف أن لا يطأ أمته لا يكون موليا وقولهم : يمكنه أن يجامع خرج به الصغير الذي لا يمكنه الجماع ومثله العنين والمجبوب فإن حلف هؤلاء لا يكون إيلاء شرعيا وقولهم : بالله أو صفة من صفاته خرج به الحلف بالكعبة والنبي والطلاق والعتق والظهار ونحو ذلك فإن من حلف بها لا يكون موليا وقولهم على ترك وطء امرأته في قبلها خرج به ما لو حلف على ترك وطئها في دبرها أو بين فخذيها أو نحو ذلك مما سيأتي تفصيله .
وهل الحلف بالنذر كالحلف بالله أو كالحلف بغيره ؟ خلاف فلو قال لها : إن وطئتك فالله علي أن أصلي عشرين ركعة كان موليا ينتظر له أربعة أشهر ثم يعمل معه ما يعمل مع المولي وبعضهم يقول : إنه يكون موليا لأن الحلف بالنذر كغيره ليس بيمين وهو الظاهر وذلك لأن الحنابلة قالوا : إن الإيلاء هو قسم والقسم لا يكون إلا بالله أو صفة من صفاته فإذا علق الحلف على الوطء بالطلاق كأن قال : إن جامعتك فأنت طالق أو علقه على العتق كان قال : إن أتيتك فعبدي حر أو علقه على ظهار كأن قال : إن وطئتك فأنت علي كظهر أمي أو علي نذر كأن قال : إن جامعتك فعلي حج أو صدقة أو نحو ذلك . فإنه لا يكون بكل هذا موليا لأن العليق بالشرط ليس فيه معنى القسم ولذا لم يؤت فيه بحرف القسم غايته أن يشارك القسم في المنع من الفعل أو الترك فتسميته حلفا من باب التجوز فالحالف بالتعلق كالحلف بالكعبة في أن كل منهما ليس قسما فإذا حلف بشيء من ذلك وجامعها كان عليها جزاؤه فيقع طلاقه . ويلزمه عتقه ونذره وصلاته وصيامه وإن لم يجامعها لم يكن موليا . نعم للزوجة إذا تركها زوجها أربعة أشهر - ولو بدون إيلاء - الحق في رفع أمرها للحاكم ليأمره بإتيانها أو بطلاقها كما سيأتي في حكم الإيلاء .
وإذا قال لها : إن وطئتك فلله علي صوم أمس فإنه لا يلزمه بوطئها شيء لأن نذر الماضي لا يلزم ومثل ذلك ما إذا قال لها : إن وطئتك فعلي صوم هذا الشهر ثم وطئها بعد انقضائه فإنه لا يلزمه شيء لأنه صار ماضيا أما إذا قال لها : إن وطئتك فعلي صيام الشهر الذي أطؤك فيه ثم وطئها كان عليه أن يصوم ما بقي من ذلك الشهر .
وإذا قال لها : والله لا أطؤك إن شاء الله ثم وطئها فلا شيء عليه لأن الاستثناء ينفعه ومن هنا يتضح لك أن الحنابلة يخالفون الحنفية وباقي الأئمة في أن التعليقات ليست قسما على التحقيق فلا يعتبرونها إيلاء إلا أنهم مع هذا يوجبون جزاءها إذا فعل المعلق عليه على أنه لا فرق بينهم وبين غيرهم في النتيجة لأنهم يحتمون على ما حلف بها أن يأتي زوجته بعد أربع أشهر أو يطلق وإن لم يكن موليا .
المالكية - قالوا : الإيلاء شرعا هو حلف زوج مسلم مكلف يمكنه أن يجامع النساء على ترك وطء زوجته غير المرضعة أكثر من أربعة أشهر إن كان حرا وأكثر من شهرين إن كان رقيقا فقوله حلف زوج يشمل ثلاث أنواع : النوع الأول : الحلف بالله تعالى أو بصفة من صفاته كأن يقول : والله لا أطؤك أصلا أو لا أطؤك مدة خمسة أشهر ومثل ذلك ما إذا قال : وعلم الله وقدرة الله ونحو ذلك . النوع الثاني : التزام أمر معين يصح التزامه من طلاق وعتق وصدقة وصلاة وصيام وحج وأمثلة ذلك هي أن يقول : إن وطئتك فأنت طالق فعلي عتق عبدي فلان أو فعلي جنيه صدقة أو فعلي صلاة مائة ركعة أو فعلي صيام شهر أو فعلي المشي إلى مكة ويسمى هذا نذرا معينا النوع الثالث : التزام أمر مبهم كأن يقول : علي نذر إن وطئتك أو علي صدقة إن وطئتك .
أما إذا قال : علي نذر أن لا أطأك أو أن لا أقربك فإن فيه خلاف فبعضهم يقول : إنه يكون موليا بذلك وبعضهم يقول : لا ووجه الأول أن معنى قول القائل : علي نذر أن لا أطأك إن انتفى وطؤك فعلي نذر فقد علق النذر في الواقع على عدم وطء زوجته وعدم وطء الزوجة معصية والنذر المعلق على المعصية لازم ووجه القول الثاني أن هذا ليس بتعليق وإنما معناه مصدر مأخوذ من - أن . . . والفعل فكأنه قال : عدم وطئك نذر علي وهذا نذر للمعصية لا تعليق للنذر على معصية ونذر المعصية لا يصح .
وبهذا تعلم أن الخلاف دائر على أنه تعليق أو ليس تعليق ؟ فمن يقول : إنه تعليق للنذر على عدم الوطء يقول : إنه لازم لأن تعليق النذر على المعصية لازم ومن يقول : إنه ليس بتعليق وإنما هو مبتدأ وخبر فكأنه قال : عدم وطئك علي نذر فإنه يقول : إنه غير لازم لأنه نذر للمعصية لا تعليق النذر على المعصية فلا يصح الإيلاء به فإن كان التعلق صريحا فلا خلاف في أنه يصح به الإيلاء سواء كان النذر معينا أو مبهما كما في الصورة التي قبل هذه وهي إن وطئتك فعلي نذر فإنه علق النذر على وطئها فهو لازم بلا كلام وقوله مسلم خرج به إيلاء الكافر فإنه لا يكون موليا بحلفه خلافا للأئمة الثلاثة فإنهم يقولون : إن إيلاء الكافر صحيح كما ستعرفه في الشروط وقد استل الأئمة على رأيهم بقوله تعالى : { للذين يؤلون من نسائهم } الخ .
والموصول من صيغ العموم يشمل المسلم والكافر والحر والعبد وأجاب المالكية عن ذلك بأن ذلك يصح إذا بقي الموصول على عمومه ولكن قوله تعالى بعد ذلك { فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم } يدل على تخصيص - الذين - بالمسلمين لأن الذين يغفر الله لهم بالرجوع إلى وطء زوجاتهم هم المسلمون أما الكافر فهو خارج عن رحمة الله على أي حال وقد أجيب عن هذا بأن قاعدة مذهب المالكية تفيد أن الكافر يعذب على الكفر وعلى المعصية فلا يعذبه عليه وهو وجيه وقوله مكلف خرج به إيلاء الصبي والمجنون فإن إيلاءهما لا ينعقد كالكافر وقوله : يمكنه أن يجامع النساء خرج به المجبوب والخصي والشيخ الفاني العاجز عن إتيان النساء أما المريض الذي يمنعه مرضه عن إتيان النساء حال مرضه فإنه يصح الإيلاء منه ما لم يقيده بمدة المرض فإنه لا يكون موليا في هذه الحالة لأنه لا يقدر على الوطء فيها بطبيعته وقوله : على ترك وطء زوجته يشمل ما إذا كلن الترك منجزا أو معلقا فمثال المنجز أن يقول لها : والله لا أطؤك أكثر من أربعة أشهر ومثال المعلق أن يقول لها : لا أطؤك ما دمت في هذه الدار أو في هذه البلدة فكما أن اليمين تارة يكون منجزا وتارة يكون معلقا فكذلك ترك الوطء تارة يكون منجزا وتارة يكون معلقا . وكذلك الزوجة تارة تكون منجزة وتارة تكون معلقة فأما المنجزة فظاهرة وأما المعلقة فمثالها أن يقول : إن تزوجت فلانة فوالله لا أطؤها مدة خمسة أشهر مثلا أو يقول : والله لا أطأ فلانة وهي أجنبية ثم يتزوجها فإنه يكون موليا بذلك وهذا هو المشهور وبعضهم يقول : لا إيلاء على الزوجة المعلقة لقوله تعالى : { للذين يؤولون من نسائهم } فجعل الإيلاء خاصا ولا يخفى أن الأجنبيات لا يدخلن في نساء الرجل ولكن المشهور هو الأول .
فالحاصل أن اليمين تارة يكون منجزا وتارة يكون معلقا وقد عرفت الأمثلة في أنواع الحلف وكذا المحلوف عليه وهو ترك الوطء تارة يكون منجزا وتارة يكون معلقا وكذلك الواقع عليها الحلف وهي الزوجة وقد عرفت الأمثلة وقوله : غير المرضعة خرج به المرضعة فإنه إذا حلف أن لا يطأها ما دامت مرضعة فإنه لا يكون موليا بشرط أن يقصد مصلحة الولد أو لم يقصد شيئا أما إن قصد منع نفسه من جماعها بدون سبب فإنه يكون موليا وقوله : أكثر من أربعة أشهر خرج به ما إذا حلف أن لا يقربها أربعة أشهر أو أقل فإنه لا يكون موليا بذلك فلا بد من الزيادة على الأربعة ولو بيوم وهو رأي الأئمة الثلاثة خلافا للحنفية فإنهم يقولون : إنه يكون موليا بالأربعة بدون زيادة عليه .
( يتبع . . . )