- الحديث مداره على يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب ولم يبق من أصحاب الكتب المعتمدة من لم يخرجه سوى مالك فإنه لم يخرجه في الموطأ ووهم ابن دحية فقال : إنه فيه ولعل الوهم اتفق له لما رأى الشيخين والنسائي رووه من حديث مالك .
وما وقع في الشهاب بلفظ الأعمال بالنيات بجمع الأعمال وحذف إنما فنقل النووي عن أبي موسى المديني الأصبهاني أنه لا يصح له إسناد وأقره النووي .
قال الحافظ : وهو وهم فقد رواه كذلك الحاكم في الأربعين له من طريق مالك وكذا أخرجه ابن حبان من وجه آخر في مواضع تسعة من صحيحه منها في الحادي عشر من الثالث والرابع والعشرين منه والسادس والستين منه ذكره في هذه المواضع بحذف إنما .
وكذا رواه البيهقي في المعرفة وفي البخاري الأعمال بالنية بحذف إنما وإفراد النية .
قال الحافظ : أبو سعيد محمد بن علي الخشاب رواه عن يحيى بن سعيد نحو مائتين وخمسين إنسانا .
وقال أبو إسماعيل الهروي عبد الله بن محمد الأنصاري كتبت هذا الحديث عن سبعمائة نفر من أصحاب يحيى بن سعيد .
قال الحافظ : تتبعته من الكتب والأجزاء حتى مررت على أكثر من ثلاثة آلاف جزء فما استطعت أن أكمل له سبعين طريقا ثم رأيت في المستخرج لابن منده عدة طرق فضممتها إلى ما عندي فزادت على ثلاثمائة .
وقال البزار والخطابي وأبو علي بن السكن ومحمد بن عتاب وابن الجوزي وغيرهم : إنه لا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا عن عمر بن الخطاب . ورواه ابن عساكر من طريق أنس وقال : غريب جدا .
وذكر ابن منده في ومستخرجه أنه رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر من عشرين نفسا قال الحافظ : وقد تتبعها شيخنا أبو الفضل بن الحسين في النكت التي جمعها على ابن الصلاح وأظهر أنها في مطلق النية لا بهذا اللفظ .
وهذا الحديث قاعدة من قواعد الإسلام حتى قيل إنه ثلث العلم . ووجهه أن كسب العبد بقلبه وجوارحه ولسانه وعمل القلب أرجحها لأنه يكون عبادة بانفراده دون الآخرين .
قوله ( إنما الأعمال ) هذا التركيب يفيد الحصر من جهتين الأولى " إنما " فإنها من صيغ الحصر واختلف هل تفيده بالمنطوق أو بالمفهوم أو بالوضع أو العرف وبالحقيقة أم بالمجاز [ ص 163 ] ومذهب المحققين أنها تفيده بالمنطوق وضعا حقيقيا .
قال الحافظ : ونقله شيخنا شيخ الإسلام عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة إلا اليسير كالآمدي وعلى العكس من ذلك أهل العربية وموضع البحث عن بقية أبحاث إنما الأصول وعلم المعاني فليرجع إليهما . الجهة الثانية " الأعمال " لأنه جمع محلى باللام المفيد للاستغراق وهو مستلزم للقصر لأن معناه كل عمل بنية فلا عمل إلا بنية هذا التركيب من المقتضى المعروف في الأصول وهو ما احتمل أحد تقديرات لاستقامة الكلام لا عموم له عند المحققين فلا بد من دليل في تعيين أحدها وقد اختلف الفقهاء في تقديره ههنا فمن جعل النية شرطا قدر صحة الأعمال ومن لم يشترط قدر كمال الأعمال .
قال ابن دقيق العيد : وقد رجح الأول بأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة فالحمل عليها أولى لأن ما كان ألزم للشيء كان أقرب إلى خطوره بالبال اه .
قال الحافظ : وقد اتفق العلماء على أن النية شرط في المقاصد واختلفوا في الوسائل ومن ثم خالفت الحنفية في اشتراطها للوضوء .
وقد نسب القول بفرضية النية المهدي عليه السلام في البحر إلى علي عليه السلام وسائر العترة والشافعي ومالك والليث وربيعة وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه .
قوله ( بالنية ) الباء للمصاحبة ويحتمل أن تكون للسببية بمعنى أنها مقومة للعمل فكأنها سبب في إيجاده .
قال النووي : والنية القصد وهو عزيمة القلب وتعقبه الكرماني بأن عزيمة القلب قدر زائد على أصل القصد .
وقال البيضاوي : النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضرر حالا ومآلا والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضاء الله وامتثال حكمه . والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي ليصح تطبيقه على ما بعده وتقسيمه أحوال المهاجر فإنه تفصيل لما أجمل . والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو ذلك المقدر أعني الكمال أو الصحة أو الحصول أو الاستقرار .
قال الطيبي : كلام الشارع محمول على بيان الشرع لأن المخاطبين بذلك هم أهل اللسان فكأنهم خوطبوا بما ليس لهم به علم إلا من قبل الشارع فيتعين الحمل على ما يفيد الحكم الشرعي .
قوله ( وإنما لامرئ ما نوى ) فيه تحقيق لاشتراط النية والإخلاص في الأعمال قال القرطبي : فيكون على هذه جملة مؤكدة للتي قبلها وقال غيره : بل تفيد غير ما أفادته الأولى لأن الأولى نبهت على أن العمل يتبع النية ويصاحبها فيترتب الحكم على ذلك والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه .
قال ابن دقيق العيد : والجملة الثانية أن من نوى شيئا يحصل له وكل ما لم ينوه لم يحصل فيدخل [ ص 164 ] في ذلك ما لا ينحصر من المسائل قال : ومن ههنا عظموا هذا الحديث إلى آخر كلامه .
ويدل على صحة كلامه أحاديث كثيرة واردة بثبوت الأجر لمن نوى خيرا ولم يعمله كحديث : ( رجل آتاه الله مالا وعلما فهو يعمل بعلمه في ماله وينفقه في حقه ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا فهو يقول لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل العمل الذي يعمل فهما في الأجر سواء ) .
قال الحافظ : والمراد أنه يحصل إذا عمله بشرائطه أو حال دون عمله له ما يعذر شرعا بعدم عمله والمراد بعدم الحصول إذا لم تقع النية لا خصوصا ولا عموما أما إذا لم ينو شيئا مخصوصا لكن كانت هناك نية تشمله فهذا مما اختلف فيه أنظار العلماء ويتخرج عليه من المسائل ما لا يحصى .
قوله ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ) الهجرة الترك والهجرة إلى الشيء الانتقال إليه من غيره وفي الشرع ترك ما نهى الله عنه وقد وقعت في الإسلام على وجوه : الهجرة إلى الحبشة . والهجرة إلى المدينة . وهجرة القبائل . وهجرة من أسلم من مكة . وهجرة من كان مقيما بدار الكفر . والهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن .
وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( سيكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها ) . ورواه أيضا أحمد في المسند .
قوله ( فهجرته إلى الله ورسوله ) وقع الاتحاد بين الشرط والجزاء وتغايرهما لا بد منه وإلا لم يكن كلاما مفيدا . وأجيب بأن التقدير فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نية وقصدا فهجرته إلى الله ورسوله حكما وشرعا فلا اتحاد . وقيل يجوز الاتحاد في الشرط والجزاء والمبتدأ والخبر لقصد التعظيم أو التحقير كانت أنت أي العظيم أو الحقير .
ومنه قول أبي النجم : وشعري شعري أي العظيم . وقيل الخبر محذوف في الجملة الأولى منهما أي فهجرته إلى الله ورسوله محمودة أو مثاب عليها وفهجرته إلى ما هاجر إليه مذمومة أو قبيحة أو غير مقبولة .
قوله ( دنيا يصيبها ) بضم الدال وحكى ابن قتيبة كسرها وهي فعلى من الدنو أي القرب سميت بذلك لسبقها للأخرى وقيل لدنوها إلى الزوال . واختلف في حقيقتها فقيل ما على الأرض من الهواء والجو وقيل كل المخلوقات من الجواهر والأعراض . وإطلاق الدنيا على بعضها كما في الحديث مجاز .
قوله ( أو امرأة يتزوجها ) إنما خص المرأة بالذكر بعد ذكر ما يعمها وغيرها للاهتمام بها وتعقبه النووي بأن لفظ دنيا نكرة وهي لا تعم في الإثبات فلا يلزم دخول المرأة [ ص 165 ] فيها وتعقب بأنها نكرة في سياق الشرط فتعم .
ونكتة الاهتمام الزيادة في التحذير لأن الافتتان بها أشد . وحكى ابن بطال عن ابن سراج أن السبب في تخصيص المرأة بالذكر أن العرب كانوا لا يزوجون المولى عربية ويراعون الكفاءة في النسب فلما جاء الإسلام سوى بين المسلمين في مناكحتهم فهاجر كثير من الناس إلى المدينة ليتزوج بها من كان لا يصل إليها .
وتعقبه ابن حجر بأنه يفتقر إلى نقل أن هذا المهاجر كان مولى وكانت المرأة عربية . ومنع أن يكون عادة العرب ذلك ومنع أيضا أن الإسلام أبطل الكفاءة ولو قيل إن تخصيص المرأة بالذكر لأن السبب في الحديث مهاجر أم قيس فذكرت المرأة بعد ذكر ما يشملها لما كانت هجرة ذلك المهاجر لأجلها لم يكن بعيدا من الصواب وهذه نكتة سرية .
والحديث يدل على اشتراط النية في أعمال الطاعات وأن ما وقع من الأعمال بدونها غير معتد به وقد سبق ذكر الخلاف في ذلك . وفي الحديث فوائد مبسوطة في المطولات لا يتسع لها المقام وهو على انفراده حقيق بأن يفرد له مصنف مستقل