- قوله : ( أتدرون أي يوم هذا قلنا الله ورسوله أعلم ) في البخاري من حديث ابن عباس أنهم قالوا : ( يوم حرام ) وقالوا عند سؤاله عن الشهر شهر حرام وعند سؤاله عن البلد بلد حرام . وعند البخاري أيضا من حديث ابن عمر بنحو حديث أبي بكرة إلا أنه ليس فيه قوله فسكت في الثلاثة المواضع . وقد جمع بين حديث ابن عباس وحديث الباب ونحوه بتعدد الواقعة قال في الفتح : وليس بشيء لأن الخطبة يوم النحر إنما تشرع مرة واحدة وقد قال في كل منهما أن ذلك كان يوم النحر وقيل في الجمع بينهما إن بعضهم بادر بالجواب وبعضهم سكت . وقيل في الجمع إنهم فوضوا الأمر أولا كلهم بقولهم الله ورسوله أعلم فلما سكت أجابه بعضهم دون بعض . وقيل وقع السؤال في الوقت الواحد مرتين بلفظين فلما كان في حديث أبي بكرة فخامة ليست في حديث ابن عباس لقوله فيه أتدرون سكتوا عن الجواب بخلاف حديث ابن عباس لخلوه عن [ ص 380 ] ذلك أشار إلى هذا الكرماني . وقيل في حديث ابن عباس اختصار بينته رواية أبي بكرة فكأنه أطلق قولهم قالوا يوم حرام باعتبار أنهم قرروا ذلك حيث قالوا بلى قال الحافظ : وهذا جمع حسن .
( والحكمة ) في سؤاله صلى الله عليه وآله وسلم عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها ما قاله القرطبي من أن ذلك كان لاستحضار فهومهم وليقبلوا عليه بكليتهم ويستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه ولذلك قال بعد هذا فإن دماءكم الخ مبالغة في بيان تحريم هذه الأشياء اه ومناط التشبيه في قوله ( كحرمة يومكم هذا ) وما بعده ظهوره عند السامعين لأن تحريم البلد والشهر واليوم كان ثابتا في نفوسهم مقررا عندهم بخلاف الأنفس والأموال والأعراض فكانوا يستبيحونها في الجاهلية فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من تحريم البلد والشهر واليوم فلا يرد كونه المشبه به أخفض رتبة من المشبه لأن الخطاب إنما وقع بالنسبة لما اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع .
قوله : ( أليست البلدة ) كذا وقع بتأنيث البلدة . وفي رواية للبخاري : ( أليس بالبلدة الحرام ) وفي أخرى له : ( أليس بالبلدة الحرام ) قال الخطابي : يقال إن البلدة اسم خاص لمكة وهي المراد بقوله D { إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة } وقال الطيبي : المطلق محمول على الكامل وهي الجامعة للخير المستحقة للكمال .
قوله : ( فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ) هكذا ساقه البخاري في الحج وذكره في كتاب العلم بزيادة ( وأعراضكم ) وكذا ذكر هذه الزيادة في الحج من حديث ابن عباس ومن حديث ابن عمر وهو على حذف مضاف أي سفك دماءكم وأخذ أموالكم وسلب أعراضكم . والعرض بكسر العين موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان سلفه أو نفسه .
قوله : ( اللهم اشهد ) إنما قال ذلك لأنه كان فرضا عليه أن يبلغ فأشهد الله تعالى على أداء ما أوجبه عليه .
قوله : ( فرب مبلغ ) بفتح اللام أي رب شخص بلغه كلامي فكان أحفظ له وأفهم لمعناه من الذي نقله له . قال المهلب : فيه أنه يأتي في آخر الزمان من يكون له من الفهم والعلم ما ليس لمن تقدمه إلا أن ذلك يكون في الأقل لأن رب موضوعة للتقليل .
قال الحافظ : هي في الأصل كذلك إلا أنها استعملت في التكثير بحيث غلب على الاستعمال الأول قال : لكن يؤيد أن التقليل هنا مراد أنه وقع في رواية للبخاري بلفظ : ( عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه ) وقوله أوعى من سامع نعت لمبلغ والذي يتعلق به رب محذوف وتقديره يوجد [ ص 381 ] أو يكون ويجوز على مذهب الكوفيين في أن رب اسم أن تكون هي مبتدأ وأوعى الخير فلا حذف ولا تقدير .
قوله : ( فلا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ) قال النووي في شرح مسلم : في معناه سبعة أقوال : .
أحدها : أن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق .
والثاني : المراد كفر النعمة وحق الإسلام .
والثالث : أنه يقرب من الكفر ويؤدي إليه .
والرابع : أنه فعل كفعل الكفار .
والخامس : المراد حقيقة الكفر ومعناه لا تكفروا بل دوموا مسلمين .
والسادس : حكاه الخطابي وغيره أن المراد بالكفار المتكفرون بالسلاح يقال تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه . قال الأزهري في كتاب تهذيب اللغة : يقال للابس السلاح كافر .
والسابع : معناه لا يكفر بعضكم بعضا فتستحلوا قتال بعضكم بعضا قاله الخطابي .
قال النووي : وأظهر الأقوال الرابع وهو اختيار القاضي عياض قال : والرواية يضرب برفع الباء هذا هو الصواب وهكذا رواه المتقدمون والمتأخرون وبه يصح المقصود هنا . ونقل القاضي عياض أن بعض العلماء ضبطه بإسكان الباء والصواب الضم وكذا قال أبو البقاء أنه يجوز جزم الباء على تقدير شرط مضمر أي أن ترجعوا يضرب . والمراد بقوله بعدي أي بعد فراقي من موقفي هذا كذا قال الطبري أو يكون صلى الله عليه وآله وسلم تحقق أن هذا الأمر لا يكون في حياته فنهاهم عنه بعد مماته .
( والحديث ) فيه استحباب الخطبة يوم النحر وقد تقدم الكلام على ذلك وفيه وجوب تبليغ العلم وتأكيد تحريم تلك الأمور وتغليظها بأبلغ ما يمكن وفيه غير ذلك من الفوائد