- الحديث قال الترمذي : حسن صحيح . ( وفي الباب ) عن جابر بن عبد الله عند الشيخين وعن عمار عند الطبراني وعن أبي أمامة عند الطبراني أيضا وعن أبي سعيد عند البزار وعن معاوية ابن الحكم وابن مسعود وسيأتيان .
( والحديث ) يدل على تحريم الكلام في الصلاة ولا خلاف بين أهل العلم أن من تكلم في صلاته عامدا عالما فسدت صلاته . قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن من تكلم في صلاته عامدا وهو لا يريد إصلاح صلاته أن صلاته فاسدة . واختلفوا في كلام الساهي والجاهل .
وقد حكى الترمذي عن أكثر أهل العلم أنهم سووا بين كلام الناسي والعامد والجاهل وإليه ذهب الثوري وابن المبارك حكى ذلك الترمذي عنهما وبه قال النخعي وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة وهو إحدى الروايتين عن قتادة وإليه ذهبت الهادوية .
وذهب قوم إلى الفرق بين كلام الناسي والجاهل وبين كلام العامد وقد حكى ذلك ابن المنذر عن ابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن الزبير ومن التابعين عن عروة بن الزبير وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري وقتادة في إحدى الروايتين عنه وحكاه الحازمي عن عمرو بن دينار . وممن قال به مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وابن المنذر وحكاه الحازمي عن نفر من أهل الكوفة وعن أكثر أهل الحجاز وأكثر أهل الشام . وعن سفيان الثوري وهو إحدى الروايتين عنه وحكاه النووي في شرح مسلم عن الجمهور .
( استدل الأولون ) بحديث الباب وسائر الأحاديث المصرحة بالنهي عن التكلم في الصلاة وظاهرها عدم الفرق بين العامد والناسي والجاهل .
( واحتج ) الآخرون لعدم فساد صلاة الناسي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكلم في حال السهو وبنى عليه كما في حديث ذي اليدين وبما روى الطبراني في الأوسط [ ص 361 ] من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تكلم في الصلاة ناسيا فبنى على ما صلى . وبحديث ( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ) الذي أخرجه ابن ماجه وابن حبان والدارقطني والطبراني والبيهقي والحاكم بنحو هذا اللفظ .
( واحتجوا ) لعدم فساد صلاة الجاهل بحديث معاوية ابن الحكم الذي سيأتي فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأمره بالإعادة .
وأجيب عن ذلك بأن عدم حكاية الأمر بالإعادة لا يستلزم العدم وغايته أنه لم ينقل إلينا فيرجع إلى غيره من الأدلة كذا قيل ويجاب أيضا عن الاستدلال بحديث رفع عن أمتي الخطأ والنسيان أن المراد رفع الإثم لا الحكم فإن الله أوجب في قتل الخطأ الكفارة على أن الحديث مما لا ينتهض للاحتجاج به . وقد استوفى الحافظ الكلام عليه في باب شروط الصلاة من التلخيص ويجاب عن الاحتجاج بحديث ذي اليدين بأن كلامه صلى الله عليه وآله وسلم وقع وهو غير متصل وبناؤه على ما قد فعل قبل الكلام لا يستلزم أن يكون ما وقع قبله منها .
قوله في الحديث ( حتى نزلت وقوموا لله قانتين ) فيه إطلاق القنوت على السكوت . قال زين الدين في شرح الترمذي : وذكر ابن العربي أن له عشرة معان قال : وقد نظمتها في بيتين بقولي : .
ولفظ القنوت اعدد معانيه تجد ... مزيدا على عشر معاني مرضية .
دعاء خشوع والعبادة طاعة ... إقامتها إقرارنا بالعبودية .
سكوت صلاة والقيام وطوله ... كذاك دوام الطاعة الرابح الفيه .
قوله ( ونهينا عن الكلام ) هذه الزيادة ليست للجماعة كما يشعر به كلام المصنف وإنما زادها مسلم وأبو داود . وقد استدل بزيادتها على مسألة أصولية قال ابن العربي : قوله ( أمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ) يعطي بظاهره أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده والكلام على ذلك مبسوط في الأصول . قال المصنف C بعد أن ساق الحديث : وهذا يدل على أن تحريم الكلام كان بالمدينة بعد الهجرة لأن زيدا مدني وقد أخبر أنهم كانوا يتكلمون خلف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة إلى أن نهوا انتهى .
ويؤيد ذلك أيضا اتفاق المفسرين على أن قوله تعالى { وقوموا لله قانتين } نزلت بالمدينة ولكنه يشكل على ذلك حديث ابن مسعود الآتي بعد هذا فإن فيه أنه لما رجع من عند النجاشي كان تحريم الكلام وكان رجوعه من الحبشة من عند النجاشي بمكة قبل الهجرة . وقد أجاب عن ذلك ابن حبان في صحيحه فقال : توهم من لم يطلب العلم [ ص 362 ] من مظانه أن نسخ الكلام في الصلاة كان بالمدينة قال : وليس مما يذهب إليه الوهم فيه في شيء منه وذلك لأن زيد بن أرقم كان من الأنصار من الذين أسلموا بالمدينة وصلوا بها قبل هجرة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا يصلون بالمدينة كما يصلي المسلمون بمكة في إباحة الكلام في الصلاة لهم فلما نسخ ذلك بمكة نسخ كذلك بالمدينة فحكى زيد ما كانوا عليه لا أن زيدا حكى ما لم يشهده في الصلاة وهذا الجواب يرده قول زيد المتقدم كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وأيضا قد ذكر ابن حبان نفسه أن نسخ الكلام في الصلاة كان عند رجوع ابن مسعود من أرض الحبشة قبل الهجرة بثلاث سنين وإذا كان كذلك فلم يكن الأنصار حينئذ قد صلوا ولا أسلموا فإن إسلام من أسلم منهم كان حين أتى النفر الستة من الخزرج عند العقبة فدعاهم إلى الله فآمنوا ثم جاء الموسم الثاني منهم اثنا عشر رجلا فبايعوه وهي بيعة العقبة الأولى ثم جاؤوا في الموسم الثالث فبايعوه بيعة العقبة الثانية ثم هاجر إليهم في شهر ربيع الأول فكان إسلامهم قبل الهجرة بسنتين وثلاثة أشهر .
( وأجاب العراقي ) عن ذلك الإشكال بأن الرواية الصحيحة المتفق عليها في حديث ابن مسعود هي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجابه بقوله إن في الصلاة شغلا فيحتمل أنه صلى الله عليه وآله وسلم رأى ذلك منه اجتهاد قبل نزول الآية . قال : وأما الرواية التي فيها إن الله قد أحدث من أمره أن لا نتكلم في الصلاة فلا تقاوم الرواية الأولى للاختلاف في راويها وعلى تقدير ثبوتها فلعله أوحى إليه ذلك بوحي غير القرآن .
وفيه أن الترجيح فرع التعارض ولا تعارض لأن رواية أن لا تتكلموا زيادة ثابتة من وجه معتبر كما سيأتي فقبولها متعين . وأما الاعتذار بأنها بوحي غير قرآن فذلك غير نافع لأن النزاع في كون التحريم للكلام في مكة أو في المدينة لا في خصوص أنه بالقرآن .
( ومن جملة ) ما أجيب به عن ذلك الإشكال أن زيد بن أرقم ممن لم يبلغه تحريم الكلام في الصلاة إلا حين نزول الآية ويرده قوله في حديث الباب يكلم الرجل منا صاحبه وإن ذلك كان خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن المعلوم أن تكليم بعضهم بعضا في الصلاة لا يخفى عليه لأنه يراهم من خلفه كما صح عنه .
( ومن الأجوبة ) أن يكون الكلام نسخ بمكة ثم أبيح ثم نسخت الإباحة بالمدينة . ومنها حمل حديث ابن مسعود على تحريم الكلام لغير مصلحة الصلاة [ ص 363 ] وحديث زيد على تحريم سائر الكلام . ومنها ترجيح حديث ابن مسعود والمصير إليه لأنه حكى فيه حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك ابن سريج والقاضي أبو الطيب . ومنها أن زيد بن أرقم أراد بقوله كنا نتكلم في الصلاة الحكاية عمن كان يفعل ذلك في مكة كما يقول القائل فعلنا كذا وهو يريد بعض قومه ذكر معنى ذلك ابن حبان وهو بعيد