باب المأخوذ من أحكام أهل الذمة .
لا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين بذل الجزية و التزام أحكام الملة من حقوق الآدميين في العقود و المعاملات و أروش الجنايات و قيم المتلفات فإن عقد على غير هذين الشرطين لم يصح لقوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون } قيل : الصغار : جريان أحكام المسلمين عليهم و من ادعى منهم كتابا من عمر أو علي Bهما بالبراءة من الجزية لم يصدق لأنه لا أصل له و لم يذكره علماء الإسلام و أخبار أهل الذمة لا تقبل .
فصل .
ويلزمهم التميز عن المسلمين في أربعة أشياء لباسهم و شعورهم و ركوبهم وكناهم لما روى إسماعيل بن عياش عن غير واحد من أهل العلم قالوا : كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم : إنا شرطنا على أنفسنا أن لا نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة و لا عمامة ولا نعلين و لا فرق شعر و لا في مراكبهم و لا نتكلم بكلامهم و أن لا نتكنى بكناهم و أن نجز مقادم رؤوسنا ولا نفرق نواصينا ونشد الزنانير في أوساطنا ولا ننقش خواتيمنا بالعربية و لا نركب السروج ولا نتخذ شيئا من السلاح و لا نحمله و لا نتقلد السيوف و ذكر سائره رواه الخلال بإسناده و ذكر في آخره : فكتب بذلك عبد الرحمن بن غنم إلى عمر بن الخطاب فكتب إليه عمر أن أمض لهم ما سألوا فيجعلون فيما يظهر من ثيابهم ثوبا يخالف لونه لون سائر ثيابهم كالعسلي و الأدكن و الأزرق و الأصفر ويشدون الزنانير في أوساطهم فوق ثيابهم و إن لبسوا العمائم أو القلانس جعلوا فيها خرقة تخالف لونها و يختم في رقاب رجالهم و نسائهم خواتيم من رصاص أو حديد ليتميزوا في الحمام عن المسلمين و تأخذ نساؤهم بالغيار و الزنار تحت ثيابهن لئلا تنكشف رؤوسهن إن شددنه فوق ثيابهن لما روي عن عمر Bه أنه كتب إلى أهل الآفاق : مروا نساء أهل الأديان أن يعقدن زنانيرهن و إن لبسنا الخفاف جعلنا الخفين من لونين ليتميزن عن نساء المسلمين فإن شرط عليهم الجمع بين الزنار و الغيار أخذوا به و إن شرط أحدهما اكتفي به ولا يمنعون من لبس فاخر الثياب و الطيلسان لأن التميز حصل بما ذكرناه وأما التميز في الشعور فبأن يحذفوا مقاديم رؤوسهم ولا يفرقون شعورهم لأن النبي صلى الله عليه و سلم فرق شعره .
و أما التميز في الركوب فلا يركبون الخيل لأن ركوبها عز و لهم ركوب ما سواها على غير السروج وروي عن ابن عمر : أن عمر أمر أن يركبوا عرضا على الأكف بالعرض و لا يتكنون بكنى المسلمين كأبي القاسم و أبي بكر و أبي عبد الله و نحوها و لا يمنعون من الكنى بالكلية لأن النبي صلى الله وسلم قال لأسقف نجران : [ أسلم أبا الحارث ] و قال عمر لنصراني : يا أبا حسان أسلم تسلم ذكرهما أحمد .
فصل .
و لا يتصدرون في المجالس عند المسلمين لأن في كتابهم لعبد الرحمن بن غنم وأن نوقر المسلمين في مجالسهم و نرشد الطريق و نقوم لهم عن المجالس إذا أرادوا المجالس و لا نطلع عليهم في منازلهم و لا يبدؤون بالسلام لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله A : [ إذا لقيتم اليهود في الطريق فاضطرهم إلى أضيقها و لا تبدؤوهم بالسلام ] .
و إن سلموا عليه قال : [ و عليكم ] لما روى أبو بصرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنا غادون فلا تبدؤوهم بالسلام و إن سلموا عليكم فقولوا : و عليكم ] و قيل لأحمد : فإنا نأتيهم في منازلهم و عندهم قوم مسلمون أفنسلم عليهم ؟ قال : نعم ننوي السلام على المسلمين .
فصل .
ويمنعون من إحداث بناء يعلو بناء جيرانهم المسلمين لقولهم في شروطهم : ولا تطلع عليهم في منازلهم ولقول النبي A [ الإسلام يعلو ولا يعلى ] وفي مساواتهم وجهان : .
أحدهما : يجوز لأنه لا يفضي إلى علو الكفر .
والثاني : لا يجوز لأن القصد علو الإسلام ولا يحصل مع المساواة فإن لم يكن لهم جار مسلم لم يمنعوا من تعلية بنيانهم لأنه لا يضر المسلمين وإن ملكوا دارا عالية من مسلم لم يؤمروا بنقضها لأنهم ملكوها على هذه الصفة .
فصل .
ويمنعون من إظهار المنكر كالخمر والخنزير وضرب الناقوس ورفع أصواتهم بكتابهم و لا ظهر أعيادهم و صلبهم لما روي في شروطهم لعبد الرحمن بن غنم : إن شرطنا على أنفسنا أن لا نضرب نواقيسنا إلا ضربا خفيفا في جوف كنائسنا و لا نظهر عليها صليبا و لا نرفع أصواتنا في الصلاة و لا القراءة في صلاتنا فيما يحضره المسلمون وأن لا نخرج صليبا و لا كتابا في سوق المسلمين و أن لا نخرج باعوثا و لا شعانين و لا نرفع أصواتنا مع موتانا و لا نظهر النيران معهم في أسواق المسلمين و لا نجاورهم بالخنازير و لا نظهر شركا و لا نرغب في ديننا و لا ندعو إليه أحدا .
و الباعوث : عيد يجتمعون له كما يخرج المسلمون يوم الفطر و الأضحى .
فصل .
ويمنعون من إحداث البيع و الكنائس و الصوامع في بلاد المسلمين لما روي في شروطهم لعبد الرحمن بن غنم : إن شرطنا لك على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا كنيسة و لا في ما حولها ديرا و لا قلاية و لا صومعة راهب و لا نجدد ما خرب من كنائسنا و لا ما كان منها في خطط المسلمين وما كان فيها قبل الفتح في بلد فتح صلحا أقر لأن الصحابة Bهم أقروهم على كنائسهم و بيعهم وما فتح عنوة فكذلك لأن الكنائس و البيع موجودة في جميع بلاد المسلمين من غير نكير ولم تهدمها الصحابة في بلد فتحوه و فيه وجه آخر أنها تهدم لأنها بلاد مملوكة للمسلمين فلم يجز أن يكون فيها بيعة كالتي مصرها المسلمون و يجوز رم ما تشعث من بيعهم وكنائسهم رواية واحدة لأنه أبقى لها فأشبه تطيين سطوحها وأما تجديد ما خرب منها فلا يجوز لقولهم : ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ولأنه بناء كنيسة في دار الإسلام فمنع منه كابتداء بنائها وعنه : يجوز لأنه أبقى لها أشبه لم ما تشعث وإن عقدت لهم الذمة في بلد ينفردون به لم يمنعوا من شيء مما ذكرناه ولم يأخذوا بغيار ولا زنار لأنهم في بلدانهم فلم يمنعوا من إظهار دينهم .
فصل .
وينعون من سكنى الحجاز لما روى أبو عبيدة بن الجراح : أن آخر ما تكلم به النبي A قال : [ أخرجوا اليهود من الحجاز ] رواه أحمد و أبو داود وعن عمر Bه أنه سمع رسول الله A يقول : [ لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب ] رواه مسلم والمراد الحجاز بدليل أن أحدا من الخلفاء لم يخرج أحدا من اليمن و لا أهل تيماء فدل على أن المراد به الحجاز وهو مكة والمدينة واليمامة وخيبر وفدك وما والاها - سمي حجازا لأنه حدز بين تهامة ونجد - وليس نجران من الحجاز وإنما أجلاهم عمر منه لأن النبي A صالحهم على أن لا يكلوا الربا فأكلوه ونقضوا العهد فأمر بإجلائهم فأجلاهم عمر ويجوز تمكينهم من دخول الحجاز لغير إقامة لأنهم كانوا يدخلونه في زمن عمر وعثمان والخلفاء بعدهم ولا يجوز لهم الدخول إلا بإذن الإمام لأن دخولهم إنما أجيز لحاجة المسلمين فوقف على رأي الإمام كدخول الحربي دار الإسلام فمن استأذن منهم في الدخول فيما للمسلمين فيه نفع كتجارة ورسالة ونحوها أذن له لما فيه من المصلحة فإذا دخل لم يقم في موضع أكثر من ثلاثة أيام لأن عمر Bه أذن لمن دخل منهم تاجرا في إقامة ثلاثة أيام فإذا انتقل إلى موضع آخر فله أن يقيم فيه ثلاثة أخر لأنه لا يصير مقيما في موضع فأشبه المسافر وإن مرض فعجز عن الخروج أقام حتى يبرأ لأنه موضع ضرورة وإن مات دفن فيه لأنه موضع حاجة .
فصل .
ويمنعون من دخول الحرم لقول الله تعالى { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } والمسجد الحرام : الحرم بدليل قوله سبحانه : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام } وأراد مكة لأنه أسري به من بيت أم هانىء فإن جاء رسولا خرج إليه من يسمع منه فإن لم يكن له بد من لقاء الإمام خرج إليه ولم يأذن له فإن دخله عالما بالمنع عزر وإن كان جاهلا أخرج ونهي وهدد وإن كان مريضا أو ميتا أخرج و لم يدفن فيه فإن دفن نبش وأخرج إلا أن يكون قد بلي لأنه إذا لم يجز دخوله في حياته فدفن جيفته فيه أولى .
وحد الحرم : من طريق المدينة على ثلاثة أميال ومن طريق العراق على سبعة أميال ومن طريق الجعرانة تسعة أميال ومن طريق عرفة سبعة أميال ومن طريق جدة عشرة أميال فإن صالحهم على دخوله لم يجز وإن كان بعوض لم يجز فإن دخلوا إلى الموضوع الذي صالحهم عليه أخذ منهم العوض لأنهم استوفوا المعوض فلزمهم العوض فإن دخلوا إلى بعضه أخذ منهم بقدره .
فصل .
و ليس لهم دخول مساجد الحل بغير إذن مسلم فإن دخل عزر لما روت أم غراب قالت : رأيت عليا Bه على المنبر و بصر بمجوسي فنزل فضربه و أخرجه من أبواب كندة .
فإن أذن له مسلم في الدخول جاز في الصحيح من المذهب لأن النبي صلى الله عليه و سلم قدم عليه وفد الطائف فأنزلهم المسجد قبل إسلامهم .
و عنه : لا يجوز لما روى عياض الأشعري : أن أبا موسى قدم على عمر و معه نصراني فأعجب عمر خطه و قال : قل لكاتبك هذا يقرأ علينا كتابه قال : إنه لا يدخل المسجد قال : لم ؟ أجنب هو ؟ قال هو نصراني فانتهره عمر ولأن الجنب يمنع المسجد فالمشرك أولى .
فصل .
و على الإمام حفظ أهل الذمة و منع من يقصدهم بأذى من المسلمين و الكفار و استنقاذ من أسر منهم بعد استنقاد أسارى المسلمين و استرجاع ما أخذ منهم لأنهم بذلوا الجزية لحفظهم و حفظ أموالهم و إن أخذ منهم خمر أو خنزير لم يجب استرجاعه لأنه محرم لا يحل اقتناؤه و إن أخذ منهم أهل الحرب مالا ثم قدر عليه المسلمون رد إليهم إذا علم به قبل القسمة كمال المسلم و حكم أموالهم في الضمان حكم أموال المسلمين .
فصل .
و إذا تحاكم مسلم و ذمي إلى الحاكم لزمه الحكم بينهما لأن إنصاف المسلم و الإنصاف منه واجب و إن تحاكم ذميان إليه ففيه روايتان : .
إحداهما : يلزمه الحكم بينهما لقول الله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } و لأن دفع الظلم عنهم واجب و الحكم طريق له فوجب كالحكم بين المسلمين .
و الثانية : لا يجب بل يخير بين الحكم بينهم و بين تركهم لقول الله تعالى : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } و لأنهما كافران يجب الحكم بينهما كالمستأمنين و لا يحكم بينهما إلا بحكم الإسلام لقول الله تعالى : { و إن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } و إن دعي أحدكما إلى الحكم لزمته الإجابة و إن تحاكم إليه مستأمنان خير بين الحكم بينهما و بين تركهما للآية و إن دعاهما إلى الحكم أو أحدهما لم يلزمهما الحضور لأن قوله تعالى : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } نزلت في المعاهدين قبل الولاية .
فصل .
ومن أتى محرما من أهل الذمة مما يعتقد تحريمه في دينه كالقتل و الزنا و السرقة والقذف وجب على المسلم لما روى أنس : أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها فقتله رسول الله صلى الله عليه و سلم بين حجرين متفق عليه .
وروى ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه و سلم أتى بيهوديين قد فجرا بعد إحصانهما فرجمهما و لأنه محرم في دينه و قد التزم حكم الإسلام قثبت في حقه حكمه كالمسلم .
فأما ما لا يعتقد تحريمه كشرب الخمر و نحوه فلا حد عليه فيه لأنه يعتقد حله فلم يجب عليه عقوبة كالكفر و لا يمكن من التظاهر به لأنه منكر فلا يمكن من إظهاره فإن أظهره عزر