باب ما يلزم الإمام و ما يجوز له .
يجب عليه أن يشحن ثغور المسلمين بجيوش يكفون من يليهم و يقويها بالعدد والآلات و يؤمر عليهم أميرا ذا رأي و شجاعة و دين لأنه إذا لم يفعل لم يأمن دخول الكفار من بعض الثغور فيصيبون المسلمين و إن احتاج إلى بناء حصن أو حفر خندق فعل لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم خندق على المدينة في غزوة الأحزاب و إذا بعث جيشا أو سرية لزمه أن يولي عليهم أميرا على الصفة المذكورة و يوصيه بجيشه لما روى بريدة قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أمره بتقوى الله في خاصته ومن معه من المسلمين و لما بعث أبو بكر Bه جيوشه إلى الشام خرج مع أمرائهم يشيعهم و يوصيهم و يعهد إليهم .
فصل .
و إذا أراد الإمام أو الأمير الغزو لزمه أن يعرض جيشه و يتعاهد الخيل و الرجال فلا يدع فرسا حطما و هو الكسير و لا قحما و هو الكبير و لا ضرعا و هو الصغير و لا هزيلا يدخل معه أرض العدو لئلا ينقطع فيها و ربما كانت سببا للهزيمة و لا يأذن لمخذل من الناس و هو الذي يفند الناس عن الغزو و لا لمرجف وهو الذي يحدث بقوة الكفار و ضعف المسلمين و هلاك بعضهم و يخيل لهم أسباب ظفر عدوهم بهم و لا لمن يعين العدو بمكاتبتهم بأخبار المسلمين و التجسس لهم و لا لمن يضر المسلمين بإيقاع الاختلاف بينهم و لا لمن يعرف بالنفاق و الزندقة لقول الله تعالى : { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا و لن تقاتلوا معي عدوا } و قوله تعالى : { و لكن كره الله انبعاثهم فثبطهم و قيل اقعدوا مع القاعدين } و قوله تعالى : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا و لأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة } قيل : معناه : لأوقعوا بينكم الاختلاف و قيل : لأسرعوا في تفريق جمعكم لأن في حضورهم ضررا فيجب صيانة المسلمين عنه و لا يأذن لطفل و لا مجنون لأن دخولهم تعرض للهلاك لغير فائدة و يجوز أن يأذن لمن اشتد من الصبيان لأن فيهم معونة و نفعا و لا يأذن لمشرك لما روت عائشة Bها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين قال : [ تؤمن بالله و رسوله ؟ قال : لا قال : فارجع فلن نستعين بمشرك ] حديث حسن فإن دعت حاجة إليه و لم يكن حسن الرأي في المسلمين لم يستعن به أيضا لأن ما يخشى من ضرره أكثر مما يرجى من نفعه و إن كان حسن الرأي فيهم جاز لأن صفوان بن أمية شهد حنينا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو على شركه و لا يأذن للمرأة الشابة الجميلة لأنها ليست من أهل القتال و لا يؤمن الضرر عليها و بها و يجوز أن يأذن للطاعنة في السن لسقي الماء و معالجة الجرحى لما روى أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يغزو بأم سليم و نسوة معها من الأنصار يسقين الماء و يداوين الجرحى و هذا حديث صحيح .
فصل .
و يستحب أن يخرج يوم الخميس لما روى كعب بن مالك قال : قلما كان رسول الله صلى اله عليه و سلم يخرج في سفر إلا يوم الخميس و يعبئ جيشه و يرتب في كل جانب كفؤا لما روى أبو هريرة قال : كنت مع النبي صلى عليه و سلم فجعل خالدا على إحدى المجنبتين و جعل الزبير في الأخرى و جعل أبا عبيدة على الساقة و لأن ذلك أحوط للحرب و أبلغ في إرهاب العدو و يعقد الألوية و الرايات و يجعل لكل طائفة لواء لما روى ابن عباس : أن أبا سفيان حين أسلم قال النبي صلى الله عليه و سلم للعباس Bه : [ احبسه على الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها ] قال فحبسته على الوادي حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم و مرت به القبائل على راياتها و هو متحير في ألوانها لكنه يغاير ألوانها ليعرف كل قوم راياتهم و يعرف عليهم العرفاء و يجعل لكل طائفة أميرا و يكلفهم من السير ما يقدر عليه ضعيفهم لئلا ينقطع عنهم أو يشق عليه إلا أن تدعو حاجة إلى الجد في السير لمصلحة رآها فيجوز لأن النبي صلى الله عليه و سلم جد في السير حين بلغه قول عبد الله بن أبي : ليخرجن الأعز منها الأذل ليشغل الناس عن الخوض فيه و يتخير لهم من المنازل أصلحها لهم و يتتبع مكامنها فيحوطها عليهم و لا يغفل الحرس و الطلائع ليحفظهم من البيات و قد روى سهل بن الحنظلية : أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين فأطنبوا السير حتى إذا كان عشية قال : [ من يحرسنا الليلة ] فقال أنس بن أبي مرثد الغنوي : أنا يا رسول الله قال : [ فاركب ] فركب فرسا له و جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم : فقال له : [ استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا نغرن من قبلك الليلة ] فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى مصلاه فركع ركعتين ثم قال : [ هل أحسستم فارسكم ] قالوا : لا فثوب بالصلاة فجعل رسو ل الله صلى الله عليه و سلم يصلي و هو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم صلاته قال : [ أبشروا فقد جاءكم فارسكم ] فإذا هو قد جاء حتى و قف عل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرني رسوا الله صلى الله عليه و سلم فلما أصبحت اطلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدا فقال رسول الله صلى اله عليه و سلم : [ هل نزلت الليلة ] قال : لا إلا مصليا أو قاضيا حاجة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قد وجبت فلا عليك ألا تعمل بعدها ] رواه أبو داود و يذكي العيون ليعلم أخبار عدوه فيتحرز منهم و يتمكن من الفرصة فيهم و يستشير ذوي الرأي من أصحابه لقول الله تعالى : { و شاورهم في الأمر } و كان النبي صلى الله عليه و سلم أكثر الناس مشاورة لأصحابه و يمنع جيشه من المعاصي و التشاغل بالتجارة المانعة لهم من القتال و يقوي نفوسهم بما يخيل إليهم من أسباب الظفر و يعد ذا الصبر منهم بالأجر و النفل و يخفي من أمره ما أمكن إخفاؤه لئلا يعلم به عدوه فقد كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا أراد غزوة ورى بغيرها و لا يميل مع أهله وموافقيه في مذهبه على مخالفيه لئلا تنكسر قلوبهم فيخذلوه عند الحاجة و يعد لهم الزاد و يراعي من معه و يرزق كل واحد بحسب حاجته .
فصل .
ويقاتل أهل الكتاب و المجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون لقول الله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله و لا باليوم الآخر و لا يحرمون ما حرم الله و رسوله و لا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون } و يقاتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا في ظاهر المذهب و لا يجوز قتل نسائهم و صبيانهم لما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن قتل النساء و الصبيان متفق عليه و لأنهما يصيران رقيقا و مالا للمسلمين فقتلهما إتلاف لمال المسلمين .
و لا قتل شيخ فإن لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تقتلوا شيخا فانيا و لا طفلا و لا امرأة ] رواه أبو داود و لأنه لا نكاية له في الحرب أشبه المرأة .
و لا قتل زمن و لا أعمى لأنهما في معنى الشيخ الفاني و لا راهب لما روي عن أبي بكر الصديق Bه : أنه أوصى يزيد بن أبي سفيان حين بعثه إلى الشام فقال : لا تقتلوا الولدان و لا النساء و لا الشيوخ و ستجدون قوما حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم و ما حبسوا له أنفسهم و لا قتل خنثى مشكل أنه يحتمل أنه امرأة فلا يجوز فتله مع الشك و من قاتل من هؤلاء كلهم قتل لأن النبي صلى الله عليه و سلم قتل يوم قريظة امرأة ألقت حجرا على محمود بن مسلمة و من كان ذا رأي يعين به في الحرب جاز قتله لأن الرأي في الحرب أبلغ من القتال لأنه الأصل و عنه يصدر القتال قال المتنبي : .
( الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول و هي المحل الثاني .
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة بلغت من العلياء كل مكان .
ولربما طعن الفتى أقرانه بالرأي قبل تطاعن الفرسان ) .
و إن تترس الكفار بصبيانهم و نسائهم جاز رميهم بقصد المقاتلة لأن المنع من رميهم يفضي إلى تعطيل الجهاد و إن تترسوا بأسارى المسلمين أو أهل الذمة لم يجز رميهم إلا في حال التحام الحرب و الخوف على المسلمين لأنهم معصومون لأنفسهم فلم يبح التعرض لإتلافهم من غير ضرورة و في حال الضرورة يباح رميهم لأن حفظ الجيش أهم .
فصل .
و يجوز بيات الكفار و رميهم بالمنجنيق و النار و قطع المياه عنهم و إن تضمن ذلك إتلاف النساء و الصبيان لما روى الصعب بن جثامة قال سمعت رسول الله A يسأل عن الدار من ديار المشركين نبيتهم فنصيب من نسائهم و ذراريهم ؟ فقال : [ هم منهم ] متفق عليه و روي عن علي Bه أن النبي صلى الله عليه و سلم نصب منجنيقا على أهل الطائف و التغريق بالماء في معناه .
فإن كان فيهم مسلمون فأمكن الفتح بدون ذلك لم يجز رميهم لأنه تعريض لقتلهم من غير حاجة و إن لم يمكن بدونه جاز لأن تحريمه يفضي إلى تعطيل الجهاد .
فصل .
ويجوز قتل ما يقاتلون عليه من دوابهم لأن قتلها وسيلة إلى الظفر بهم فإذا صارت إلينا لم يجز قتلها لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن قتل شيء من الدواب صبرا و لأنها مال المسلمين و لا يجوز ذبحها إلا لأكل لا بد لهم منه و لا يجوز تحريق النحل و لا تغريقه لأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن قتل النحلة و قال أبو بكر : لا تحرقن نحلا و لا تغرقنه و يجوز أخذ الشهد و في أخذه كله روايتان : .
إحداهما : لا يجوز لأن فيه قتل النحل و هلاكه .
و الثانية : يجوز لأن هلاكه إنما يحصل ضمنا غير مقصود فأشبه قتل النساء في البيات .
ويجوز هدم بنيانهم و قطع شجرهم و حرق زرعهم إذا احتيج إليه للتمكن من قتالهم و نحوه و لا يجوز إذا كان فيه ضرر بالمسلمين لحاجتهم إلى الاستظلال أو الاستتار به أو الأكل منه أو علف دوابهم و ما عدا ذلك ففيه روايتان : .
إحداهما : جوازه لقول الله تعالى : { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله و ليخزي الفاسقين } و روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حرق نخل بني النضير و قطع و هي البويرة فأنزل الله تعالى : { ما قطعتم من لينة } و لها يقول حسان Bه : .
( وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير ) .
رواه مسلم .
وروى أسامة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان عهد إليه فقال : [ أعز على أبنى صباحا و حرق ] رواه أحمد و أبو داود و ابن ماجة .
و الثانية : لا يجوز إلا أن يكونوا يفعلون ذلك بنا لما روى أن أبا بكر الصديق Bه قال ليزيد و هو يوصيه حين بعثه أميرا : يا يزيد لا تقتل صبيا و لا امرأة و لا هرما و لا تخربن عامرا و لا تعقون شجرا مثمرا و لا دابة عجماء و لا شاة إلا لمأكلة و لا تحرقن نحلا و لا تغرقنه و لا تغلل و لا تجبن رواه سعيد فإن كانوا يفعلونه في بلدنا جاز فعله بهم لينتهوا و إن أخذنا منهم مالا فعجزنا عن تخليصه إلى دار الإسلام جاز إتلافه كيلا ينتفعوا به .
فصل .
و يخير الإمام في الأسرى من أهل القتال بين أربعة أشياء القتل و الفداء والمن و الاسترقاق فأما الفداء و المن فقول الله تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد و إما فداء } و لأن النبي صلى الله عليه و سلم من على أبي عزة الجمحي الشاعر و من على أبي العاص بن الربيع و من على ثمامة بن أثال الحنفي وفادى أسيرا برجلين من أصحابه أسرتهما ثقيف وفادى أسارى بدر بالمال و أما القتل فلأن النبي صلى الله عليه و سلم قتل يوم بدر النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط صبرا و قتل يوم أحد أبا عزة الجمحي و قال قريظة و لأنه أنكى فيهم و أبلغ في إرهابهم فيكون أولى و أما الاسترقاق فيجوز في أهل الكتاب و المجوس لأنه يجوز إقرارهم على كفرهم بالجزية فالرق أولى لأنه أبلغ في صغارهم وإن كان من غيرهم ففيه روايتان : .
إحداهما : لا يجوز إرقاقه اختارها الخرقي لأنه لا يقر بالجزية فلم يجز إرقاقه كالمرتد .
و الثانية : يجوز لأنه كافر أصلي فأشبه الكتابي و إن أسلم الأسير حرم قتله لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ] و يتخير فيه بين المن عليه لأنه جاز المن عليه حال كفره ففي حال إسلامه أولى بين إرقاقه و فدائه .
و قال أصحابنا : يصير رقيقا بنفس الإسلام و يسقط التخيير لأنه ممن يحرم قتله فأشبه المرأة .
و أما النساء و الصبيان فإنهم يصيرون رقيقا بنفس السبي لأنهم مال ضرر في اقتنائه فأشبهوا البهائم .
و أما الرجال الذين يحرم قتلهم كالشيخ الفاني ونحوه فلا يجوز سبيهم لأنه لا نفع من استرقاقهم و لا يحل قتلهم إذا ثبت هذا فإن التخيير الثابت في الأسرى تخيير مصلحة و اجتهاد لا تخيير شهوة فمتى رأى المصلحة للمسلمين في إحدى الخصال تعينت عليه و لم يجز له غيرها لأنه ناظر للمسلمين فلم يجز له ترك ما فيه الحظ لهم كولي اليتيم فمتى رأى القتل ضرب عنقه بالسيف لقول الله تعالى : { فضرب الرقاب } و لأن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بالذين قتلهم فضربت أعناقهم و لا يجوز التمثيل به لما روى بريدة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا أمر أميرا على جيش أو سرية قال : [ اغزو بسم الله قاتلوا من كفر بالله لا تغدوا و لا تمثلوا و لا تغلوا ] و إن اختار الفداء جاز أن يفاديهم بأسارى المسلمين و جاز بالمال لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعل الأمرين و قال أبو الخطاب : لا يجوز فداؤهم بالمال في أحد الوجهين فإن فادى بالمال أو استرقهم كان الرقيق و المال للغانمين و ليس له إطلاق الأسارى و لا المال إلا برضاهم لما روى مروان بن الحكم و المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما جاءه وفد هوازن مسلمين قال : [ إن إخوانكم جاؤوا تائبين و إني قد رأيت أن أرد عليهم سبيهم فمن أحب أن يطيب ذلك فليفعل ومن أحب أن يكون على حقه حتى نعطيه إياه من أول ما يفئ الله علينا فليفعل ] فقال الناس : قد طيبنا ذلك يا رسول الله أخرجه البخاري .
فصل .
و منع أحمد Bه فداء النساء بالمال لأن في بقائهن في الرق تعريضا لهن للإسلام لمعاشرتهن للمسلمين و جوز أن يفادى بهن أسارى المسلمين لأن النبي صلى الله عليه و سلم فادى بالمرأة التي أخذها من سلمة بن الأكوع رجلين من المسلمين و لأن في ذلك استنقاذ مسلم متحقق إسلامه و إن أسلمت لم يجز ردها إلى الكفار بفداء و لا غيره لقول الله تعالى : { فلا ترجعوهن إلى الكفار } و لا يجوز المفاداة بالصبيان بحال لأنهم يصيرون مسلمين بإسلام سابيهم .
فصل .
و لا يجوز بيع رقيق المسلمين لكافر نص عليه أحمد Bه لما روي عن عمر بن الخطاب Bه أنه كتب إلى أمراء الأمصار : ينهاهم عنه و لأن في بقائهم رقيقا للمسلمين تعريضا لهم للإسلام و في بيعهم لكافر تفويت ذلك فلم يجز .
فصل .
و إن أسر من يقر بالجزية فبذلها لم يلزم قبولها لأنه قد ثبت حق التخيير فيه بين الأمور الأربعة فلم يسقط ببذله و يجوز للإمام إجابته إليها إذا رأى ذلك لأنه بمنزلة المن عليه .
فصل .
و يكره نقل رؤوس الكفار من بلد إلى بلد و رميها في المنجنيق لأن فيه مثلة و قد روى عقبة بن عامر : أنه قدم على أبي بكر برأس بناق البطريق فأنكر ذلك فقيل : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم إنهم يفعلون بنا هذا قال : فاستبان بفارس و الروم ؟ لا يحمل رأس و إنما يكفي الكتاب و الخبر رواه سعيد .
فصل .
إذا حصر الإمام حصنا فرأى المصلحة في مصابرته لزمه ذلك لأن عليه فعل ما فيه الحظ للمسلمين و إن كانت المصلحة في الانصراف انصرف لذلك و قد روي أن النبي صلى الله عليه و سلم حاصر أهل الطائف فلم ينل منهم شيئا فقال : [ إنا قافلون إن شاء الله غدا ] فقال المسلمون : أنرجع و لم نفتتحه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ اغدوا على القتال ] فغدوا عليه فأصابهم جراح فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إنا قافلون غدا ] فأعجبهم فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم متفق عليه .
وإن أسلم أهل الحصن قبل فتحه عصموا دماءهم و أموالهم لقول النبي صلى الله عليه و سلم : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها ] .
و إن طلبوا النزول على حكم الحاكم جاز لأن بني قريظة حين حصرهم النبي صلى الله عليه و سلم نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم : بقتل مقاتليهم و سبي ذراريهم فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ] .
و يجب أن يكون الحاكم بالغا عاقلا حرا مسلما ذكرا عدلا عالما لأنه ولاية حكم فأشبه ولاية القضاء و لا يشترط أن يكون بصيرا لأن الذي يقتضي الحكم فيهم هو الذي يشتهر من حالهم و ذلك يدرك بالسمع فأشبه الشهادة فيما طريقه السمع .
و يكره أن يكون حسن الرأي فيهم لأنه يخشى ميله إليهم و يجوز حكمه لأنه عل في دينه فإن نزلوا على حكم من يختاره الإمام جاز لأنه لا يختار إلا من يجوز حكمه و لا يجوز أن ينزلوا على حكم من يختارونه لأنهم قد يختارون من لا يصلح و يجوز أن ينزلوا على حكم اثنين أو أكثر لأنه تحكيم في مصلحة طريقها الرأي فأشبه التحكيم في اختيار الإمام و إن نزلوا على حكم من لا يجوز حكمه أو حكم من يجوز فمات قبل الحكم وجب ردهم إلى حصنهم لأنهم نزلوا على أمان فلا يجوز أخذهم و لا يجوز للحاكم الحكم إلا بما فيه الحظ للمسلمين لأنه نائب الإمام فقام مقامه في اختيار الأحظ من الأمور الأربعة فإن حكم بالمن فقال القاضي : يلزم حكمه كذلك و قال أبو الخطاب : لا يلزم لأن الإمام إذا لم يره تبين أنه لا حظ فيه فلم يلزم حكمه به فإن حكم بعقد الذمة ففيه وجهان : .
أحدهما : يلزم حكمه لأنهم رضوا بحكمه .
و الثاني : لا يجوز لأنه عقد معارضة فلم يجز إلا برضى الفريقين فإن حكم بالقتل و السبي جاز لأن سعدا حكم به في بني قريظة فصادف حكم الله تعالى .
و للإمام أن يمن على من حكم عليه بالقتل لأن ثابت بن قيس بن شماس سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يهب له الزبير بن باطا اليهودي بعد الحكم عليهم فوهبه له و أطلق له أهله و ماله و إن حكم باسترقاقهم لم يجز أن يمن عليهم إلا برضى الغانمين لأنهم صاروا مالا لهم و إن حكم بالقتل فأسلموا عصموا دماءهم لأن قتل المسلم حرام و لم يعصموا أموالهم لأنها صارت للمسلمين قبل إسلامهم و في استرقاقهم روايتان : .
إحداهما : لا يسترقون ذكره القاضي لأنهم أسلموا قبل استرقاقهم فأشبه ما لو أسلموا قبل القدرة عليهم .
و الثانية : يسترقون لأنهم أسلموا بعد القدرة عليهم ووجوب قتلهم فأشبهوا الأسير إذا أسلم بعد اختيار الإمام قتله .
فصل .
ومن أسلم قبل القدرة عليه عصم نفسه و ماله و أولاده الصغار للخبر المذكور .
و لأن النبي صلى الله عليه و سلم حاصر بني قريظة فأسلم ابنا سبيعة فأحرز إسلامهما أموالهما و أولادهما و لأن الأولاد تبع لوالدهما في الإسلام فكذلك في العصمة و إن كان للمسلم منفعة بإجارة لم تملك عليه لأنها مال و لا يعصم زوجته لأن النكاح ليس بمال و لا يجري مجراه و إن كانت حاملا منه فولده مسلم معصوم و يجوز استرقاقها لأنها حربية لا أمان لها و لا يعصم أولاده البالغين لأنهم لا يتبعونه في دينه فكذلك في عصمته و إذا ادعى الأسير أنه أسلم قبل الأسر لم يقبل إلا ببينة فإن شهد له مسلم و حلف معه ثبت ذلك له لأن ابن مسعود شهد لسهيل بن بيضاء أنه سمعه يذكر الإسلام فقبل النبي صلى الله عليه و سلم شهادته و أطلقه من الأسر .
فصل .
ومن أسلم من الأبوين كان أولاده الأصاغر تبعا له في الإسلام رجلا كان أو امرأة لقول الله تعالى : { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } و يتبعه الحمل لأنه لا يصح إسلامه بنفسه فتبعه كالولد وإن لم يسلم واحد منهما فولدهما كافر لأنه لا حكم لنفسه فتبع أبويه كولد المسلم فإن مات الأبوان أو أحدهما في دار الإسلام حكم بإسلام الولد لما روى أبو هريرة Bه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ كل مولود يولد على الفطرة فأبوه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ] فجعل التبعية لأبويه معا فإذا مات أحدهما انقطعت التبعية فوجب بقاؤه على حكم الفطرة لأن الدار يغلب فيها حكم الإسلام بدليل الحكم بإسلام لقيطها و إنما منع ظهور حكمها اتباعه لأبويه فإذا مات أحدهما اختل المانع فظهر حكم الدار و الحكم في المجنون الذي يبلغ مجنونا كالحكم في الصبي لأنه لا حكم لقوله فتبع في الإسلام كالطفل و لأنه يتبع والديه في الكفر ففي الإسلام أولى و إن بلغ عاقلا ثم جن ففيه وجهان : .
أحدهما : يتبع أباه لأنه لا حكم لقوله .
و الثاني : لا يتبع لأنه زال حكم التبعية ببلوغه عاقلا فلا يعود .
فصل .
و إن سبي الطفل منفردا عن أبويه تبع سابيه في الإسلام لأنه زال حكم أبويه لإفراده عنهما و اختلاف الدار بهما فأشبه ما لو ماتا و لأن سابيه كأبيه في حضانته فكان مثله في استتباعه وإن سبي معهما تبعهما لخبر أبي هريرة و لأنه لم ينفرد عنهما أشبه ما لو كان ذميا و إن سبي مع أحد أبويه حكم بإسلامه لأنه انقطع اتباعه لأحد أبويه فأشبه ما لو أسلم أو مات وقال أبو الخطاب : يتبع أباه و قال القاضي : فيه روايتان : .
أشهرهما : أنه يحكم بإسلامه لما ذكرنا .
و الثانية : يتبع أباه .
فصل .
و لا يجوز التفريق في البي بين الوالدة وولدها و لا بين الوالد وولده و لا بين ذوي رحم محرم إذا كان أحدهما صغيرا فإن كانا بالغين فعلى روايتين ذكرناهما في البيع فإن اشترى من المغنم اثنين على أنه يحرم التفريق بينهما فتبين أنه جائز وجب رد الفضل الذي حصل بإباحة التفريق لأنه تبين له الفضل لم يعلم به البائع فوجب رده كما لو قبض الثمن على أنه عشرة فبان أحد عشر و لو اشترى من المغنم جارية معها مال أو حلي أو ثياب غير لباسها لزمه رده نص عليه لقوله عليه السلام : [ من باع عبدا وله مال فماله للبائع ] لأن البيع إنما وقع عليها دونه .
فصل .
إذا سبيت المرأة دون زوجها انفسخ نكاحها لقول الله تعالى : { و المحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم } قال أبو سعيد الخدري : نزلت هذه الآية في سبي أوطاس أصبنا سبايا و لهن أزواج في قومهن فذكر ذلك لرسول الله فنزلت الآية قال الترمذي : هذا حديث حسن و لأنه استولى على محل حق الكافر الحربي فأزاله كما لو سبيت أمته و قال أبو الخطاب : عندي لا ينفسخ و إن سبي الرجل وحده لم ينفسخ نكاحه لأنه لم يستول على محل حقه أشبه ما لو لم يسب و إن سبي الزوجان لم ينفسخ نكاحهما لأن الرق لا يمنع ابتداء النكاح فلم يقطع استدامته كالعتق و يحتمل أن ينفسخ نكاحهما لأنه استولى على محل حقه فزال ملكه عنه كماله أو كما لم يسب معها .
فصل .
و إن أسلم عبد الحربي و لم يخرج إلينا فهو على رقه لأن يد سيده لم تزل عنه فلم يزل ملكه كما لو لم يسلم و إن خرج إلينا صار حرا لأنه أزال يد سيده قهرا فزال ملكه كما لو استولى عليه مسلم وإن أسر سيده و أخذ ماله و عياله فالمال له و السبي رقيقه لأن دار الحرب دار قهر فما استولى عليها فيها فهو للمستولي و قد روى أبو سعيد الأعشم قال : قضى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن العبد إذا أخرج من دار الحرب قبل سيده أنه حر فإن خرج سيده بعد لم يرد إليه و قضى أن السيد إذا خرج قبل العبد ثم خرج العبد رد على سيده رواه سعيد .
فصل .
و ليس للإمام أن يقيم حدا في أرض الحرب و لا يستوفي قصاصا لما روي عن بسر بن أرطاة أنه أتى برجل في الغزاة قد سرق بختية فقال : لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا تقطع الأيدي في الغزو لقطعتك ] رواه أبو داود .
و روى سعيد بإسناده عن عمر Bه أنه كتب إلى الناس : أن لا يجلدن أمير جيش و لا سرية رجلا من المسلمين حدا و هو غاز حتى يقطع الدرب قافلا لئلا تحلقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار و لأنا لا نأمن أن يحمله الخوف من الحد فيلحق بالكفار فيجب تأخيره فإذا قفل و خرج من دار الحرب أقيم عليه حد ما فعل في دار الحرب لأنه واجب لوجود سببه تأخر لعارض زال بقفوله فتجب إقامته كما لو أخر لمرض و أما الثغور فتقام بها الحدود و القصاص لأنها دار إسلام و قد كتب عمر إلى أبي عبيدة Bهما : أن يجلد من شرب الخمر عنده ثمانين و كتب إلى خالد يأمره بمثل ذلك