( قال ) - C تعالى - ( وإذا شهد شاهدان على رجل أنه فلان ابن فلان الفلاني وأن الميت فلان ابن فلان ابن عمه وورثته لا يعلمون له وارثا غيره ولفلان ذلك الميت دار في يد رجل وهو مقر أنها له غير أنه لا يعرف له وارثا فأنا أجيز شهادة هؤلاء على النسب وأدفع إليه الدار وإن كانوا لم يذكروا أباه استحسانا ) وهذه فصول أربعة : النسب والنكاح والقضاء والموت .
وفي القياس لا تجوز الشهادة في شيء منها بالتسامع لأن الشهادة لا تجوز إلا بعلم وإنما يستفيد العلم بمعاينة السبب أو بالخبر المتواتر فأما بالتسامع لا يستفيد العلم وقال الله تعالى { ولا تقف ما ليس لك به علم } ( الإسراء : 3 ) وحكم المال أخف من حكم النكاح .
فإذا كانت الشهادة على المال بالتسامع لا تجوز ففي النكاح أولى وفي التسامع القاضي والشاهد سواء ثم لا يجوز للقاضي أن يقضي بالتسامع فكذلك لا يجوز للشاهد إلا أنا استحسنا جواز الشهادة على هذه الأشياء الأربعة لتعامل الناس في ذلك واستحسانهم .
ألا ترى أنا نشهد أن عمر بن الخطاب وعلي ابن أبي طالب - Bهما - ماتا ولم ندرك شيئا من ذلك ونشهد أن فاطمة - Bها - زوجة علي - Bه - وأن أسماء بنت أبي بكر - Bه - ونشهد أن شريحا - Bه - كان قاضيا ونشهد أنهم قد ماتوا ولم ندرك شيئا من ذلك ثم هذه أسباب يقضون بها على ما يشتهر فإن النسب يشتهر فيها بالتهنئة والموت بالتعزية والنكاح بالشهود والوليمة والقضاء بقراءة المنشور فنزلت الشهرة منزلة العيان في إفادة العلم بخلاف الأموال وغيرها .
يوضحه : أن هذه الأمور قل ما يعاين سببها حقيقة فسبب النسب الولاة ولا يحضرها إلا القابلة وسبب القضاء تقليد السلطان ولا يعاين ذلك إلا الخواص من الناس والميت أيضا قل ما يعاينه كل أحد والنكاح كذلك إنما يحضره الخواص من الناس فلو لم تجز الشهادة عليها بالتسامع أدى إلى الحرج بخلاف البيوع وغيرها فإنه كلام يسمعه كل واحد وسبب الملك هو اليد وهو مما يعاينه كل أحد والنكاح كذلك إنما يحضره الخواص فلهذا لا تجوز الشهادة عليها بالتسامع ثم الأحكام التي تتعلق بهذه الأشياء الأربعة تبقى بعد انقضاء قرون فلو لم تجز الشهادة عليها بالتسامع لتعطلت تلك الأحكام بانقضاء تلك القرون .
ولهذا قلنا في الصحيح من الجواب أن الشهادة على أصل الوقف بالتسامع جائزة ولكن على شرائط الوقف لا تجوز الشهادة بالتسامع لأن أصل الوقف يشتهر فأما شرائطه لا تشتهر ولا بد للشاهد من نوع علم ليشهد .
فإن كان الشاهد لا يعرف الرجل إلا أن المدعي أخبره بذلك أو شهد به عنده رجل ما ينبغي له أن يشهد حتى يكون النسب مشهورا أو شهد به عنده رجلان عدلان لئلا يقول المدعي بشهادة رجل واحد عنده لا يحصل الاشتهار ولا يتم شرعا وإنما ثبت له العلم هنا بالاشتهار عرفا أو شرعا فالاشتهار عرفا بأن يعلمه أكثر الناس والاشتهار شرعا بشهادة رجلين .
ألا ترى أن الإعلان في النكاح شرط ويكون ذلك شرعا بشهادة رجلين إلا أن فيما يتردد بين الصدق والكذب لا بد من عدالة الرجلين كما في الشهادة عند القاضي فإذا شهد بذلك عنده رجلان فقد وجد الإشهاد عنده شرعا وولاية الشهادة دون ولاية القضاء فإذا كان يجوز للقاضي أن يقضي بشهادة رجلين عنده فلان لا يجوز له إذا شهد عنده به رجلان عدلان أولى .
ولو قدم عليه رجل من بلد آخر وانتسب له وأقام معه دهرا لم يسعه أن يشهد على نسبه حتى يلقى من أهل بلده رجلين عدلين ممن يعرفه يشهدان له على ذلك ثم يسعه الشهادة عليه لأنه يحصل له بذلك نوع علم وذلك كاف فيما لا يشترط عليه معاينة السبب .
ولو نظر إلى رجل مشهود باسمه ونسبه غير أنه لم يخالطه ولم يتكلم معه وسعه أن يشهد أنه فلان ابن فلان لحصول نوع علم له بالاشتهار وكذلك إذا رأى إنسانا في مجلس القضاء يقضي بين المسلمين فهو في سعة من الشهادة على أنه قاضيا لحصول العلم له بذلك الإشهاد والشهادة إنما تجب عليه بالعلم لا بالتكلم والمخالطة .
فإذا حصل العلم له بالإشهاد حل له أداء الشهادة .
ولو مات رجل فأقام آخر البينة أن الميت فلان وأنه فلان ابن فلان حتى يلتقوا إلى أب واحد وهو عصبته وأقاربه لا يعلمون له وارثا غيره قضيت له بالميراث لأنه أثبت سبب الوارثة مفسرا بالحجة .
فإن جاء آخر وأقام البينة أن الميت ابنه ولد على فراشه وأن هذا أبوه لا وارث له غيره جعلت الميراث لهذا وأبطلت القضاء للأول لأن البينة الثابتة طاعنة في البينة الأولى دافعة لها فإنه يتبين بها أن الأول لم يكن خصما في إثبات نسب الميت وأنه كان محجوبا عن الميراث بمن هو أقرب منه ولا تقبل البينة من غير خصم فلهذا يبطل القضاء الأول .
وإن أقام الثاني البينة أن الميت فلان ابن فلان ونسبه إلى أب آخر وقبيلة أخرى وأنه فلان ابن فلان ابن عمه إلى أب واحد لا وارث له غيره لم أحول النسب بعد أن يثبت من فخذ ومن أب إلى أن يجيء من هو أقرب من الذي جعلت له الميراث لأن البينة الثانية ليست بطاعنة في الأولى ولكنها معارضة للأولى وعند المعارضة الأولى ترجح الأولى لاتصال القضاء بها فلا تقبل البينة الثانية لأن الجمع بينهما متعذر والقضاء النافذ لا يجوز إبطاله بدليل مشتبه وهو كمن ادعى دابة في يد إنسان أنها له ثم أقام البينة فقضي القاضي بها له ثم أقام ذو اليد البينة أنها لم يقبل ذلك منه .
ولو أقام البينة على النتاج قبل ذلك منه لأن هذه البينة طاعنة في البينة الأولى دافعة لها .
وكذلك إن أقام رجل البينة على نكاح امرأة بتاريخ وقضى القاضي له بذلك ثم أقام آخر البينة على نكاحه بذلك التاريخ أيضا لم تقبل .
ولو أقام البينة على النكاح بتاريخ سابق قبلت بينته لأنها طاعنة في البينة الأولى .
وإذا شهد شاهدان أن هذا أعتق فلانا وأنه مولاه وعصبته لا وارث له غيره فإن كان قد أدرك المعتق وسمع العتق منه فشهادتهما جائزة وإن كان لم يدركاه ولم يسمعا العتق منه لم تجز شهادتهما في قول أبي حنيفة - C تعالى .
وفي رواية أبي حفص - C تعالى - فلا وهذا قول محمد وهو قول أبي يوسف الأول - رحمهما الله تعالى .
ثم رجع أبو يوسف - C تعالى - فقال إذا شهدوا على ولاء مشهور فهو كشهادتهم بالنسب وإن لم يسمعوا ذلك منه ولم يدركوه لأن الولاء كالنسب ثم الشهادة على النسب بطريق التسامع والشهرة جائزة فكذلك على الولاء لأن رسول الله - A - قرن بينهما فقال ( الولاء لحمه كلحمة النسب ) .
( ألا ترى ) أنا نشهد أن قنبر مولى علي - Bه - وعكرمة مولى ابن عباس - Bهما - وإن لم ندرك ذلك ثم الحكم المتعلق بالولاء يبقى بعد مضي قرن كالحكم المتعلق بالنسب فلو لم تجز الشهادة عليه بالتسامح تعطلت الأحكام المتعلقة بالولاء والشرع جعل الولاء كالنسب في حق وجوب الانتماء فقال A ( من انتسب إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ) .
وجه قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - : أن العتق إزالة ملك اليمين بالقول فلا تجوز الشهادة عليه بالتسامع كالبيع وبيانه فيما قررنا أن العتق كلام يسمعه الناس كالبيع وليس كالولادة فلا حاجة إلى إقامة التسامع فيه مقام البينة ثم لا يقترن لسبب الولاء ما يشتهر به فالإنسان يعتق عبده ولا يعلم به غيره فكان هذا دون البيع لأن البيع لا ينعقد ما لم يعلم به المشتري والعتق نافذ وإن لم يعلم المعتق بخلاف الطلاق وما تقدم لأنه مقترن بأسبابها ما يشتهر من الوجه الذي قررنا .
وكذلك لو شهدوا أن فلانا أعتق أبا فلان وأن فلان ابن فلان عصبة فلان الذي أعتق وعصبة فلان المعتق فإني لا أجيز شهادتهما حتى ينسبا الذي أعتق وعصبته إلى أب واحد يلتقيان إليه .
وإن لم يدركا ذلك لم يضرهما بعد أن يشهدا على سماع العتق من المعتق ثم أن المعتق مات وترك ابنه ثم مات ابنه ولا يعلمان له وارثا غيره وأنه لا ينسب له ولا ولاء سواه فحينئذ تقبل شهادتهم لأن القاضي لا يقضي بالميراث ما لم يفسروا بنسب الوراثة وإنما يسير مفسرا معلوما عنده بما ذكر غير أن في النسب شهادتهم بالتسامع مقبولة وفي الولاء لا تقبل شهادتهم ما لم يسمعوا العتق من المعتق إلا عند أبي يوسف - C تعالى - كما بينا قال ولست أكلفهم في المواريث أنه لا وارث له غيره .
وقال ابن أبي ليلى - C تعالى - ما لم يشهدوا بذلك لا يقضي القاضي بالميراث له لأن سبب استحقاقه لا يصير معلوما للقاضي إلا به لجواز أن يكون هناك من يزاحم أو يترجح عليه فلا يكون هو وارثا مع ثبوت ما فسر الشهود من السبب .
ولكنا نقول : قولهم لا وارث له غيره نفي لا طريق لهم إلى معرفة ذلك فلو كلفهم القاضي أن يشهدوا بذلك لكلفهم على ذلك شططا وحملهم على الكذب .
وإليه أشار في الكتاب ( فقال ) من قبل أن هذا عيب يحملهم القاضي عليه أو قال عنت يحملهم القاضي عليه وهو يعلم أنهم يشهدون بما لا يعلمون .
وإن قالوا لا نعلم له وارثا غيره فهذا يكفي .
وعلى قول ابن أبي ليلى - C تعالى - لا يكفي لأن هذا ليس من الشهادة في شيء فإنهم يشهدون بما يعلمون لا بما لا يعلمون وكما أنهم لا يعلمون ذلك فالقاضي لا يعلم ونحن نسلم أن المشهود به لا يثبت بهذا اللفظ ولكن استحقاق الميراث له بالسبب الذي أثبته الشهود مفسرا إلا أنهم إذا لم يذكروا هذه الزيادة كان على القاضي أن يتلوم فربما يظهر وارث آخر مزاحم له أو مقدم عليه فهم بهذا اللفظ كفوا القاضي مؤنة التلوم ونظروا في ذلك لأنفسهم فتحرزوا عن الكذب والمجازفة لأنهم لو قالوا لا وارث له غيره كانوا مجازفين في ذلك فتحرزوا بقولهم لا نعلم له وارثا غيره وفي الحقيقة مرادهم هو الأول فما يكون من سباب التحرز عن الكذب لا يكون قدحا في شهادتهم .
ولو شهدوا أنهم لا يعلمون له وارثا بأرض كذا وكذا غير فلان جاز ذلك في قول أبي حنيفة - C تعالى - ولم يجز ذلك في قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - حتى يقولوا مبهمة لا نعلم له وارثا غيره لأن في تخصيصهم مكانا إيهاما أنهم يعلمون له وارثا في غير ذلك المكان أرأيت لو قالوا لا نعلم له وارثا سواه في هذا المجلس أكان يقتضي بالميراث لهم وأبو حنيفة يقول هذا اللفظ مبهم للمبالغة في بيان أنه لا وارث له غيره ومعناه أن بلده كذا ومولده كذا ومسقط رأسه كذا ولا نعلم له بها وارثا غيره فأحرى أن لا يكون له وارثا آخر في مكان آخر ثم تخصيصهم هذا المكان بالذكر في هذا اللفظ لغو لأن ما لا يعلم المرء لا يختص بمكان دون مكان فهو وما لو أطلقوا سواء وقولهما أن هذا إيهام فلان كان كذلك فهو مفهوم والمفهوم لا يقابل المنطوق .
والأصل في ذلك ما روي أن ثابت بن الدحداح لما مات قال رسول الله - A - لأهل قبيلته ( هل تعرفون له فيكم نسبا قالوا لا إلا أن ابن أخت له فجعل رسول الله - A - ميراثه لابن أخته ابن لبانة بن عبدالمنذر - Bه - ) فقد ذكروا أنهم لا يعرفون له فيهم وارثا ونسبا ولم نكلفهم أكثر من ذلك .
ولو ادعى رجلان ولاء رجل واحد فأقام كل واحد منهما بينة أنه أعتقه وهو يملكه ولا يعلمون له وارثا غيره جعلت الولاء بينهما والميراث لأنهما استويا في سبب الاستحقاق والولاء إما أن يعتبر بالنسب .
ولو أقاما البينة على نسبه كان الميراث بينهما لاستوائهما في النسب أو يجعل الولاء كالملك لأنه أثر من آثار الملك وإذا استويا في إقامة البينة على الملك يقضي بالملك بينهما نصفان .
فإن أقام أحدهما بينة قبل صاحبه وقضيت له ثم أقام الآخر بعد ذلك بينة لم تقبل منه ولم يشارك الأول لأن الولاء كالنسب من حيث أنه لا يحتمل النقض والفسخ ولا يحتمل النقل من شخص إلى شخص ثم في النسب إذا ترجحت البينة الأولى بالقضاء لم تقبل الثانية بعد ذلك فكذلك في الولاء .
ولو شهد رجل على رجل أن مولاه أعتق أمه ثم ولدت بعد العتق لستة أشهر من فلان وهو عبد لفلان فقضى القاضي له بالولاء ثم جاء مولى العبد وأقام البينة أنه كان أعتق أباه فلانا قبل موته وهو لا وارث له غيره جعلت له الميراث والولاء لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو عاينا ذلك حكمنا بجر الولاء إلى قوم الأب فكذلك إذا ثبت بالبينة وهذا لأنه ليس في هذه البينة إبطال القضاء الأول فإن القضاء الأول كان قضاء بالولاء لمعتق الأم لأنه لا ولاء له من قبل الأب وهو صحيح ثم بقي ذلك الولاء عند الموت لعدم الدليل المحول لا لوجود الدليل المنفي فإذا ثبت الثاني الدليل المحول ببينته وجب القضاء بالولاء والميراث له بخلاف الأول فهناك البينة الثانية تقوم لإبطال القضاء الأول بطريق المعارضة وقد بينا أن عند المعارضة الأولى يترجح بالقضاء فإن نقض القضاء بدليل محتمل لا يجوز .
وإذا شهدا على موت رجل وأقر أنهما لم يعاينا ذلك لم تجز إلا أن يكون مشهور الموت لأنه إذ لم يكن مشهورا وأقر أنهما لم يعلنا فقد أقر أنهما يشهدان بغير علم وإذا كان مشهور الموت فإنما يشهدان بما يعلمانه بالشهرة وإن قالا نشهد بأنه مات أجزت ذلك وإلا استفسرهما لأن مطلق الشهادة يجب حملها على سبب صحيح كما لو شهد بمطلق الملك قبلت شهادتهما ولا يستفسران أنهما يشهدان بذلك بظاهر اليد أو غيره وكذلك إن قال نحن دفناه أو شهدنا جنازته فهذا منهما شهادة بموته لأن الحي لا يدفن ولا يصلي على جنازته .
وإذا أخبر الرجل المديون به أو المرأة أنه عاين موت فلان فالذي انتهى إليه الخبر في سعة من يشهد على موته قيل معنى هذا إذا اشتهر عند الناس حتى سمعه الشاهد من واحد بعد واحد فأما إذا لم يسمعه إلا من هذا الواحد فإنه لا يجوز له أن يشهد بموته كما في النسب والنكاح وقد بينا .
وقيل : بل في الموت يسعه ذلك إذا كان المخبر ثقة موثوقا به لأن أمر الناس هكذا يكون فالميت إنما يعاينه من يغسله ثم يخبر الناس بذلك فيتعمدون خبره ويعلمون أنه صادق في مقالته فيجوز له أن يعتمد هذا الخبر في الشهادة على موته وإذا جاء موت الرجل من أرض أخرى فصنع أهله ما يصنعون على الميت فإنه لا يسع أحد أن يشهد على موته حتى يخبر به من شهده ممن يثق به لأن مثل هذا الخبر قد يكون حقا وقد يكون باطلا والغالب عند بعد المسافة أنه باطل فلا يعتمده حتى يخبره من يثق به عن معاينة فإذا أخبره بذلك وسعه أن يشهد .
( ألا ترى ) أنه لو مات ميت فأخرجت جنازته حتى يدفن وسع الجيران أن يشهدوا بموته وإن لم يعاينوا ذلك لأنهم سمعوا ذلك مما عاين وإذا تزوج امرأة نكاحا ظاهرا ودخل بها علانية وأقام معها أياما ثم ماتت فإنه يسع الجيران أن يشهدوا على أنها امأته وإن لم يشهدوا النكاح لأنه اقترن بالنكاح ما أوجب تشهيره أرأيت لو كان بينهما ولد أما كان يسعهم أن يشهدوا أنه ولدهما .
وإن لم يعاينوا الولادة فإذا كان يجوز هذا فيما ينبني على النكاح فكذلك في النكاح وإذا شهد شاهدان أن فلانا مات وترك هذه الدار ميراثا لفلان ابنه هذا لا يعلمون له وارثا غيره ولم يدركوا فلانا الميت وترك هذه الدار ميراثا لفلان ابنه هذا لا يعلمون له وارثا غيره ولم يدركوا فلانا الميت فشهادتهم باطلة لأنهم يشهدون بالملك للميت فإن الوراثة خلافة فما لم يثبت الملك للميت لا يخلفه وارثه فيه .
ولا تجوز الشهادة على الملك بالتسامع وإذا كان القاضي يعلم أنهم لم يدركوا فلانا الميت فقد علم أنهم جازفوا في هذه الشهادة وبهذا يستدل أبو حنيفة ومحمد - رحمهما الله تعالى - في مسألة الولاء فيقولان : .
إن الولاء بالعتق لا يثبت للعتق إلا أن يكون مالكا فهم يشهدون بالملك له أو لا ولا تجوز الشهادة على الملك بالتسامع ولهذا قال كثير من مشايخنا - رحمهم الله تعالى - في الوقف أن الشهادة عليه بالتسامع ممن لا يدرك الواقف لا تقبل لأنه ما لم يثبت الملك للواقف لا يثبت الوقف من جهته والشهادة على الملك بالتسامع لا تجوز إلا أن أكثرهم على جواز ذلك في الوقف استحسانا للضرورة الداعية إلى ذلك وتحقيق مقصود الواقف وهو التأبيد في صدقته .
ولو شهدوا على دار في يدي رجل أنها دار جد هذا المدعي وخطته وقد أدركوا الحد لم تجز شهادتهما حتى يجيزوا المواريث لأن المدعي يحتاج إلى إثبات سبب انتقال الملك إليه من الجد وبثبوت الملك للجد لا يحصل هذا المقصود ولا يتمكن القاضي من القضاء له حتى يجيزوا المواريث .
ولو شهد على إقرار الذي في يديه أنها دار جد هذا أجزت ذلك وجعلتها له إن لم يكن له وارث غيره لأن الثابت من إقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة وهذا لأن الإقرار موجب بنفسه قبل أن يتصل به القضاء بخلاف الشهادة فإنها لا توجب شيئا إلا بقضاء القاضي ولا يتمكن القاضي من القضاء إلا بسبب ثابت عنده .
ونظير هذه المسألة ما بينا في كتاب الدعوى أنهم إذا شهدوا أنها كانت لابنه وقد مات أبوه لا يقضي له بشيء إلا في قول أبي يوسف الآخر بخلاف ما إذا شهدوا على إقرار ذي اليد بأنها كانت لابنه .
وكذلك لو شهدوا أنها كانت من يد المدعي لا يستحق بهذا شيئا بخلاف ما إذا شهدوا على إقرار ذي اليد أنها كانت في يد المدعي .
وفي الكتاب أشار إلى الفرق وقال : إذا أقر ذو اليد بهذا فقد أخرجها من نصيبه فيخرجها من يده إلا أن يأتي ببينة بحق له فيها وإذا أخرجناها من يده فلا مستحق لها سوى المدعي فتدفع إليه وإذا شهد الشهود بغير إقرار فهم لم يثبتوا للمدعي شيئا إذا لم يجيزوا المواريث إليه وهذا في الحقيقة إشارة إلى ما ذكرنا أن الإقرار موجب بنفسه والشهادة لا توجب شيئا بدون قضاء القاضي .
وإذا كانت الدار في يد رجل فأقام ابن أخيه البينة أنها دار جده مات وتركها ميراثا لابن الابن وعمه ولا يعلمون له وارثا غيرهما وأن أباه مات وترك نصيبه منها ميراثا له لا يعلمون له وارثا غيره وإن أقام الآخر البينة أن أخاه مات قبل أبيه وأن أباه قد ورث منه السدس ثم مات أبوه فورثه هذا فإني أقبل شهادة شهود ابن الأخ لأنه هو المدعي ومعنى هذا أنه هو يثبت الملك لنفسه في نصف الدار ببينته وذو اليد لا يثبت لنفسه شيئا عليه ولكن يبقى ببينته ما أثبت هو من نصف الدار لنفسه والبينات للإثبات لا للنفي .
يوضحه : أنا إذا قبلنا بينة ابن الأخ صار ذو اليد بها مقضيا عليه في نصف الدار وإذا قبلنا بينة ذي اليد لا يصير ابن الأخ مقضيا عليه في شيء والقضاء يستدعي مقضيا عليه وكانت بينة ابن الأخ أولى بذلك فإن كان لأب الغلام ميراث من تركة سوى الدار لم أقبل بينة واحد منهما على صاحبه لأن كل واحد منهما هنا يثبت لنفسه ببينته شيئا في يد ابن الأخ وهو نصف الدار والآخر سدس تركه أخيه التي كانت في يد أبيه بطريق الميراث له من أبيه وكل واحد منهما يصير مقضيا عليه لو قبلنا بينة صاحبه عليه فاستويا من هذا الوجه والأصل أن كل أمرين ظهرا ولا يعرف التاريخ بينهما يجعل كأنهما وقعا معا .
ألا ترى أن الأب والابن إذا غرقا جميعا في سفينة أو وقع عليهما بيت ولا يعلم أيهما مات أولا لم يرث واحد منهما صاحبه فكذلك هنا لما تحققت المساواة بينهما في التاريخ جعلا كأنهما ماتا معا فيكون ميراث كل واحد منهما لابنه فلا يرث كل واحد منهما من صاحبه ولو أقام رجل البينة على ميراث رجل أنه مات يوم كذا وهو ابنه لا وارث له غيره وأقامت امرأة البينة أنه تزوجها يوم كذا بعد ذلك اليوم ثم مات بعد ذلك فإني آخذ ببينة المرأة لأنها تثبت المهر والميراث فلا بد من قبول بينتها على ذلك ثم بينتها طاعنة في بينة الابن على تاريخ الموت فمن ضرورة الحكم بصحة النكاح منه بعد ذلك الحكم بحياته .
ولو أقامت امرأة أخرى البينة بعدما قضيت بموته في يوم وورثت امرأته أنه تزوجها بعد ذلك الوقت الذي ذكروا فيه موته قبلت ذلك أيضا لأن هذه الأخرى مدعية مثبتة المهر والميراث لنفسها ثم بينتها طاعنة في البينة الأخرى على تاريخ الموت .
ولو كان الوارث أقام البينة أن فلانا قتل أباه يوم كذا قضيت بذلك ثم أقامت المرأة البينة أنه تزوجها بعد ذلك اليوم ثم الفت إلى بينتها قال لأن القتل حق لازم والموت ليس فيه حق لازم .
ومعنى الكلام أن الابن بإثبات فعل القتل على القاتل يثبت لنفسه موجبه من قصاص أو دية فكانت بينته مثبتة وبينة المرأة على النكاح أيضا مثبتة للمهر والميراث لها فلما استويا في الإثبات وترجحت بينة الابن باتصال القضاء بها لم تقبل بينة المرأة بعد ذلك لأن القضاء النافذ لا يجوز إبطاله بطريق المعارضة فأما في الموت الابن لا يثبت لنفسه في إقامة البينة على تاريخ الموت حقا فإن الميراث مستحق له بالموت لا بالتاريخ فإنما بقي هو بتلك البينة النكاح بعده وبينة المرأة تثبت .
وقد بينا أن النافي من البينتين لا يعارض المثبت فيترجح بينتها ويتبين به بطلان الطلاق الأول كما إذا أثبت سبب إرث مقدم على ما قضى القاضي به .
يوضح الفرق : أن القتل فعل يتعلق به حكم شرعا والفعل لا يتحقق من العبد إلا في زمان فكان الابن متمكنا من إثبات الفعل عليه في ذلك الزمان بالبينة لإثبات حكمه فأما الموت ليس بفعل من العبد يتعلق به حكم ليتمكن الابن من إثباته في زمان بالبينة وإنما يمكنه من إثبات الخلافة لنفسه بعد موته وفي ذلك لا فرق بين موته في وقت دون وقت ثم الأصل أن بعد المساواة في الإثبات إذا تيقن القاضي بالكذب في إحدى البينتين وقد اتصل القضاء بأحدهما فإنه يعين الكذب في الأخرى .
ألا ترى أنه لو قامت عليه بينة أنه تزوج هذه المرأة يوم النحر بملكة فقضى القاضي بهما ثم شهد شاهدان آخران أن تزوج هذه الأخرى يوم النحر في ذلك اليوم بخراسان لم تجز الشهادة الثانية لأنا نتيقن بكذب أحد الفريقين وقد ترجح جانب الصدق في البينة الأولى باتصال القضاء بها فيتعين الكذب في البينة الثانية فكذلك فيما تقدم من مسألة القتل والله أعلم