( قال ) - C تعالى - ( وإذا اشترى الرجل جراب هروي أو زيتا في زق أو حنطة في جوالق فلم شيئا من ذلك فهو بالخيار إذا رآه عندنا ) وقال الشافعي - C تعالى - إن لم يكن جنس المبيع معلوما للمشتري فالعقد باطل قولا واحدا وإن كان جنس المبيع معلوما فله فيه قولان : احتج في ذلك ( بنهي النبي - A - عن بيع الغرر ) والغرر ما يكون مستور العاقبة وذلك وجود فيما لم يره و ( بنهيه - A - عن بيع ما ليس عند الإنسان ) والمراد ما ليس بحاضر مرئيا للمشتري لإجماعنا على أن المشتري إذا كان رآه فالعقد جائز وإن لم يكن حاضرا عند العقد لأنه لم يعرف من المعقود عليه إلا الاسم فلا يجوز البيع كما لو قال بعت منك عبدا ولم يشر إليه ولا إلى مكانه ومعنى هذا الكلام أن جميع أوصاف المعقود عليه مجهولة وطريق معرفتها الرؤية دون الخبر .
ألا ترى أن العقد لا يلزم قبل الرؤية مع سلامة المعقود عليه والرضا بلزومه ولو كان الوصف طريقا للإعلام هنا لكان العقد يلزم باعتباره . يوضحه : أن المقصود هو المالية ومقدار المالية لا يصير معلوما إلا بالرؤية فالجهل بمقدار المالية قبل الرؤية بمنزلة انعدام المالية في إفساد العقد كبيع الآبق فإن المالية في الآبق قائمة حقيقة ولكن لا يتوصل إليه للبعد عن اليد فيجعل ذلك كفوات المالية في المنع من جواز البيع ولهذا لا يجوز بيع الجنين في البطن وبيع اللبن في الضرع ولأن البيع نوعان : بيع عين وبيع دين وطريق معرفة المبيع فيما هو دين الوصف يعني المسلم فيه وفي ما هو عين المشاهدة ثم ما هو الطريقة لمعرفة المعقود عليه في بيع الدين وهو الوصف إذا تراخى عن حالة العقد لم يجز العقد فكذلك ما هو الطريق للمعرفة في بيع العين وهو الرؤية إذا تأخر عن حالة العقد لا يجوز العقد وحجتنا في ذلك ما روي في المشاهير أن النبي - A - ( قال ) ( ( من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه ) ) والهاء في قوله لم يره كناية فينصرف إلى المكنى السابق وهو الشيء المشتري والمراد خيار لا يثبت إلا بعد تقدم الشراء وذلك الخيار بين فسخ العقد وإلزامه دون خيار الشراء ابتداء وتصريحه بإثبات هذا الخيار له تنصيص على جواز شرائه وهذا الحديث رواه عبدالله بن عباس - رضي الله تعالى عنهما - وعطاء والحسن البصري وسلمة بن المجير - رحمهم الله تعالى - مرسلا عن النبي - A - لشهرته .
والمعنى فيه أن المبيع معلوم العين مقدور التسليم فيجوز بيعه كالمرئي وبيان الوصف أنه مشار إلى عينه فإن الخلاف في جارية قائمة بين يديه مبيعة فلا شك أن عينها معلومة بالإشارة إليها وكذلك إن أشار إلى مكانها وليس في ذلك المكان مسمى بذلك الاسم غيرها فأما كونها جارية وكونها مملوكة فلا طريق إلى معرفة ذلك الأخير التابع له فإنها وإن رفعت النقاب لا يعلم ذلك إلا بقول البائع وقد أخبرته وهذا لأن خبر الواحد في المعاملات يوجب العلم من حيث الظاهر ولهذا من علم شيئا مملوكا لإنسان ثم رآه في يد غيره يبيعه ويزعم أنه اشتراه من الأول أو أنه وكله ببيعه جاز له أن يشتري منه بناء على خبره فإنما نفى تقدم رؤية وجهها الجهل بصفات الوجه وجواز العقد وفساده لا ينبني على ذلك لأن الجهل ببعض أوصافها لا يكون أكثر تأثيرا من فوات بعض الأوصاف بأن كانت محترقة الوجه أو معيبة بعيب آخر وذلك لا يمنع جواز العقد وإن كان يمنع لزوم العقد فكذلك الجهل لبعض الأوصاف .
ألا ترى أن عدم المعقود عليه يمنع العقد والجهل بالمعقود عليه في بعض المواضع لا يمنع العقد وهو أنه إذا باع قفيزا من الصبرة فإن عين المعقود عليه مجهول وجاز العقد فدل أن تأثير العدم فوق تأثير الجهل .
يوضحه أن الجهالة إنما تفسد العقد إذا كانت تفضي إلى المنازعة كما في شاة من القطيع فأما إذا لم تفض إلى المنازعة لا تفسد البيع كبيع القفيز من الصبرة وجهالة الأوصاف بسبب عدم الرؤية لا تفضي إلى المنازعة بعدما صار معلوم العين وإنما تأثير هذه الجهالة في انعدام تمام الرضا به وذلك شرط انبرام العقد لا شرط جوازه .
ألا ترى أن البيع يجوز مع خيار الشرط ولا يلزم لانعدام تمام الرضا وكذلك في العيب إلا أن هناك السبب المانع من تمام الرضا شرط الخيار منه وهو محتمل للإسقاط فإذا أسقطه تم الرضا في العيب والسبب بثبوت الحق المطالبة بالجزء الفائت وهو محتمل للإسقاط فإذا أسقطه تم الرضاء به وهنا السبب هو الجهل بأوصاف المعقود عليه وذلك لا ينعدم إلا بالرؤية فلهذا لا يسقط خياره وإن أسقطه قبل الرؤية .
والدليل عليه : أن جهالة العين كما تمنع جواز البيع تمنع جواز النكاح حتى لو قال : زوجتك إحدى ابنتي أو زوجتك إحدى أمتي لم يصح النكاح ثم عدم الرؤية لا تمنع النكاح فعرفنا أنه لا يوجب جهالة العين إلا أن في النكاح العقد يلزم لأن لزومه لا يعتمد تمام الرضا ولهذا لزم مع اشتراط الخيار والعيب بخلاف البيع وعليه نقيس لعله أن هذا عقد معاوضة فعدم رؤية المعقود عليه لا تمنع جوازه كالنكاح ولأنه ليس في هذا أكثر من أن ما هو المقصود بالعقد مستور بغيره وهذا لا يمنع جواز الشراء كما إذا اشترى جوزا أو بيضا أو اشترى قفاعا في كوز يجوز فالمقصود بالعقد مستور بغيره .
ويوضحه أن الشافعي - C تعالى - لا يجوز بيع اللوز الرطب والجوز الرطب في قشرين ويجوز بيع اليابس منهما لأنه في قشر واحد وفي الوجهين المقصود وهو اللب دون القشر وهو مستور بما ليس بمقصود وهذا بخلاف السلم لأن جهالة الوصف هناك تفضي إلى المنازعة المانعة من التسليم ولأن العقد يرد على الأوصاف في باب السلم فإن الدين وصف في الذمة والبدل بمقابلتها فإذا لم يذكر عند العقد لم يجز العقد لانعدام المعقود عليه وبيع الآبق إنما لا يجوز للعجز عن التسليم لا لعدم المالية ولهذا جوزنا هبته من ابنه الصغير وبيعه ممن في يده وبيع الجنين في البطن إنما لا يجوز لانعدام المالية فيه مقصودا فإنه في البطن جزء من أجزاء الأم .
ألا ترى أنه لا يحتمل التزويج مقصودا . فكذلك البيع بخلاف ما نحن فيه وتأويل النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان بيع ما ليس في ملكه بدليل قصة الحديث ( فإن حكيم بن حزام - Bه - ( قال ) يا رسول الله : إن الرجل يطلب مني سلعة ليست عندي فأبيعها منه ثم أدخل السوق فاستحدثها فاستجيدها فأشتريها فأسلمها إليه ( فقال ) - A - لا تبع ما ليس عندك ) و ( النهي عن بيع الغرر ) ينصرف إلى ما لا يكون معلوم العين إذا عرفنا هذا فنقول هنا فصلان .
( أحدهما ) : البائع إذا لم ير المبيع قط بأن ورث شيئا فباعه قبل الرؤية فالبيع جائز عندنا وكان أبو حنيفة - Bه - أولا يقول له الخيار ثم رجع وقال لا خيار له .
وقال الشافعي لا يجوز بيعه قولا واحدا .
والدليل على جوازه ما روي ( أن عثمان بن عفان - رضي الله تعالى عنه - باع أرضا كانت له بالبصرة من طلحة - رضي الله تعالى عنه - فقيل لطلحة إنك قد عينت ( فقال ) الخيار لي لأني اشتريت ما لم أره فذكر ذلك لعثمان - رضي الله تعالى عنه - فقال لي الخيار لأني بعت ما لم أره فحكما جبير بن مطعم - رضي الله تعالى عنه - في ذلك فقضى بالخيار لطلحة - رضي الله تعالى عنه - ) فقد اتفقوا على جواز الشرط ولهذا رجع أبو حنيفة حين بلغه الحديث و ( قال ) لا خيار للبائع وهذا لأن تمام رضاه باعتبار علمه بما يدخل في ملكه لا بما يخرج عن ملكه والمبيع يخرج عن ملك البائع وإنما يدخل في ملكه الثمن وهو طريق إعلامه التسمية دون الرؤية فأما إذا كان البائع قد رأى المعقود عليه ولم يره المشتري فهو على الخلاف الذي قلنا وبعد العقد قبل الرؤية للمشتري أن يفسخ العقد لأن تمكنه من الفسخ باعتبار أن العقد غير لازم وما لم يتم الرضا به لا يكون العقد لازما فكان له أن يفسخ العقد قبل الرؤية وليس له أن يلزم العقد قبل الرؤية لأن اللزوم يعتمد تمام الرضا وإنما يتم رضاه إذا علم بالأوصاف التي هي مقصوده وإنما يصير ذلك معلوما بالرؤية وهذا بخلاف خيار العيب فإن العلم بالأوصاف قبل رؤية موضع العيب يثبت على الوجه الذي اقتضاه العقد وهو صفة السلامة فإنما يثبت خيار العيب لثبوت حق المطالبة له بتسليم الجزء الفائت وذلك يحتمل الإسقاط فلهذا صح الإبراء قبل رؤية العيب .
يوضحه : أن في الرضا قبل الرؤية هنا إبطال حكم ثبت بالنص وهو الخيار للمشتري عند رؤية المعقود عليه لأنه يراه بعد ذلك ولا خيار له وليس في الفسخ إبطال حكم ثابت بالنص لأنه يوجد رؤية المعقود عليه خاليا عن الخيار وقد أثبت الشرع الخيار عند رؤية المعقود عليه بخلاف الفسخ قبل الرؤية لأن بالفسخ خرج من أن يكون معقودا عليه فلا يوجد بعد ذلك رؤية المعقود عليه خاليا عن الخيار ثم يشترط لإسقاط الخيار هنا الرؤية التي توجب إعلام ما هو المقصود وذلك في بني آدم برؤية الوجه وفي الدواب برؤية وجهها وكفلها ومؤخرها فيما يروى عن أبي يوسف وفي الغنم يحتاج مع ذلك إلى الجنس وفيما يكون المقصود منه اللبن يحتاج إلى رؤية الضرع وفيما يعلم بالذوق والشم يحتاج إلى ذلك أيضا لأن العلم بما هو المقصود إنما يحصل به فلا يسقط خياره ما لم يرض بعد العلم بما هو المقصود صريحا أو دلالة وليس للخيار في هذا وقت لأن الحديث ورد بخيار مطلق للمشتري فالتوقيت فيه زيادة على النص ولأن هذا في معنى خيار العيب وذلك لا يتوقت إلا أن خيار العيب يجوز الصلح عنه على مال بخلاف خيار الرؤية لأن الحق هناك في الجزء الفائت واصطلاح يكون على رد حصة الجزء الفائت من الثمن ولهذا لو تعذر الرد رجع بحصة العيب من الثمن وهنا الخيار للجهل بأوصاف المعقود عليه وذلك ليس بمال فلا يجوز الصلح عنه على مال كخيار الشرط ولهذا قلنا إن خيار العيب يورث . . لأن الوارث يقوم مقام المورث فيما هو مال وخيار الرؤية لا يورث كخيار الشرط .
( والثاني ) : أن الخيار شرط ليدفع به الضرر عن نفسه فلو لم يكن متمكنا من الفسخ بغير محضر من صاحبه يفوت مقصوده لأن الآخر يخفي شخصه حتى تمضي مدة الخيار فيلزمه العقد شاء أو أبى ولهذا سقط اعتبار رضاه فكذلك يسقط اعتبار حضوره وهذا بخلاف خيار العيب فإنه غير موقت فلو شرطنا حضور البائع فيه للفسخ لا يتضرر به المشتري من حيث سقوط خياره بمضي المدة ثم هناك المشتري غير مسلط على الفسخ وإنما له حق المطالبة بتسليم الجزء الفائت فإذا تحقق عجز البائع عنه تمكن من الفسخ فلا يتحقق عجزه إلا بمحضر منه .
( أحدهما ) : أن المشروط له الخيار مسلط على الفسخ من جهة صاحبه والمسلط على التصرف ينفذ تصرفه بغير محضر من المسلط كما ينفذ تصرف الوكيل بغير محضر من الموكل .
( والثاني ) : أن الخيار شرط ليدفع به الضرر عن نفسه فلو لم يكن متمكنا من الفسخ بغير محضر من صاحبه يفوت مقصوده لأن الآخر يخفي شخصه حتى تمضي مدة الخيار فيلزمه العقد شاء أو أبى ولهذا سقط اعتبار رضاه فكذلك يسقط اعتبار حضوره وهذا بخلاف خيار العيب فإنه غير موقت فلو شرطنا حضور البائع فيه للفسخ لا يتضرر به المشتري من حيث سقوط خياره بمضي المدة ثم هناك المشتري غير مسلط على الفسخ وإنما له حق المطالبة بتسليم الجزء الفائت فإذا تحقق عجز البائع عنه تمكن من الفسخ فلا يتحقق عجزه إلا بمحضر منه .
( قال ) ( وإن كان الخيار للمشتري فهلكت السلعة في يده لزمه الثمن وانقطع الخيار ) لأنه عجز عن التصرف بحكم الخيار حين أشرفت السلعة على الهلاك فإنها قد تعينت بذلك وليس له أن يردها بحكم الخيار إلا كما قبضها فإذا عجز عن ذلك سقط خياره وتم البيع وتقرر عليه الثمن لكونه قابضا للمبيع وكذلك إن أصاب السلعة عيب عنده بفعله أو بفعل أجنبي أو بآفة سماوية أو بفعل المبيع بنفسه لأنه عجز عن رده كما قبض بأي وجه تعيب عنده يسقط خياره وكذلك إن كانت جارية فوطئها لأن الوطء لا يحل إلا في ملك مستقر فإقدامه على وطئها من أدل الدلائل على الرضا باستقرار ملكه فيها وذلك لا يكون إلا بعد سقوط الخيار وكذلك إن عرضها البيع لأنه إنما يعرضها على البيع ليبيعها والبيع تصرف منه بحكم الملك ولا يكون ذلك إلا بعد إسقاط الخيار ورضاه يقرر ملكه فيها .
( قال ) ( فإن رأى بعض الثياب فهو فيما بقي منها بالخيار ) لأن الثياب تتفاوت فلا يستدل برؤية بعضها على رؤية البعض وإذا أراد الرد فليس له أن يرد ما لم يره خاصة ولكن يرد الكل أو يمسك الكل لأن خيار الرؤية يمنع تمام الصفقة كخيار الشرط فإن كل واحد منهما يمنع اللزوم لعدم تمام الرضا فكما أن من له خيار الشرط لا يتمكن من تفريق الصفقة قبل التمام بلزوم العقد فكذلك من له خيار الرؤية ويستوي في ذلك ما قبل القبض وما بعد القبض لأن الصفقة إنما تتم بالقبض باعتبار تمام الرضا ولا يكون ذلك قبل الرؤية بخلاف خيار العيب فهناك الصفقة تتم بالقبض لتمام الرضا به على ما هو مقتضى العقد وهو صفة السلامة .
( قال ) ( ولو تعذر رد البعض الهالك في يد المشتري قبل الرؤية فليس له أن يرد ما بقي ) لأنه تعذر عليه رد الهالك وليس له أن يفرق الصفقة في الرد قبل التمام فمن ضرورة تعذر الرد في الهالك تعذر الرد فيما بقي إلا في رواية عن أبي يوسف ( قال ) له أن يرد ما بقي لأنه لو صرح بإلزام العقد قبل الرؤية لم يسقط خياره فبهلاك البعض أولى أن لا يسقط خياره فيما بقي ولكنه قبل الهلاك باختياره رد البعض هو فاسد للإضرار بالبائع فيرد عليه قصده وذلك لا يوجد بعد الهلاك فيتمكن من رد ما بقي وكذلك كل حيوان أو عرض فأما السمن والزيت والحنطة فلا خيار له إذا اشتراها بعد رؤية بعضها لأن المكيل أو الموزون من جنس واحد لا يتفاوت فبرؤية البعض تصير صفة ما بقي منه معلوما والأصل أن كل ما يعرض بالنموذج فرؤية جزء منه يكفي لإسقاط الخيار فيه وما لا يعرض بالنموذج فلا بد من رؤية كل واحد منهما لإسقاط الخيار وفيما يعرض بالنموذج إنما يلزم العقد إذا كان ما لم يره مثل ما رآه أو أجود مما رآى .
فإن كان أدنى مما رأى فله الخيار لأنه إنما رضي بالصفة التي رآى فإذا تغير لم يتم الرضا به وإن اختلفا فقال المشتري قد تغير وقال البائع لم يتغير فالقول قول البائع مع يمينه وعلى المشتري البينة لأن دعواه التغير بعد ظهور سبب لزوم العقد وهو رؤية جزء من المعقود عليه بمنزلة دعوى العيب في المشترى ولو ادعى عيبا بالمبيع فعليه أن يثبت ذلك بالبينة والقول قول البائع مع يمينه إن لم يكن له بينة فهذا مثله .
( قال ) ( وإذا رأى متاعا مطويا ولم يقسه ولم ينشره فاشتراه على ذلك فلا خيار له ) لأن في الثوب الواحد يستدل برؤية طرف منه على ما بقي فلا تتفاوت أطراف الثوب الواحد إلا يسيرا وذلك غير معتبر ولأن رؤية كل جزء منه يتعذر قالوا : وهذا إذا لم يكن في طي الثوب ما هو المقصود فإن كان في طي الثوب ما هو مقصود كالعلم لم يسقط خياره ما لم ير ذلك الموضع يعني موضع العلم لأن المالية تتفاوت بجنسه وهو نظير النظر إلى وجه الآدمي فإنه وإن رأى سائر المواضع من جسده لا يسقط خياره ما لم ير وجهه .
( قال ) ( ولو كان رآه قبل الشراء ثم اشتراه فلا خيار له إلا أن يكون قد تغير عن الحال الذي رآه عليه وإن ادعى المشتري التغير فالقول قول البائع مع يمينه ) لإنكاره وعلى المشتري البينة وهذا إذا كانت المدة قريبة يعلم أنه لا يتغير في مثل تلك المدة فأما إذا تطاولت المدة فالقول قول المشتري . أرأيت لو كانت جارية شابة ثم اشتراها بعد عشرين سنة فزعم البائع أنها لم تتغير أكان يصدق على ذلك فهذا مما يعرفه كل عاقل فالظاهر يشهد فيه للمشتري فالقول قوله .
( قال ) ( وإذا اشترى شيئا ثم أرسل رسولا يقبضه فهو بالخيار إذا رآه ورؤية الرسول وقبضه لا يلزمه المتاع ) لأن المقصود علم العاقد بأوصاف المعقود عليه ليتم رضاه وذلك لا يحصل برؤية الرسول فأكثر ما فيه أن قبض رسوله كقبضه بنفسه ولو قبض بنفسه قبل الرؤية كان بالخيار إذا رآه فكذلك إذا أرسل رسولا فقبضه له فأما إذا وكل وكيلا بقبضه فرآه الوكيل وقبضه لم يكن للموكل فيه خيار بعد ذلك في قول أبي حنيفة - Bه .
و ( قال ) أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله تعالى - له الخيار إذا رآه لأن القبض فعل والرسول والوكيل فيه سواء وكل واحد منهما مأمور بإحراز العين والحمل إليه والنقل إلى ضمانه بفعله ثم خياره لا يسقط برؤية الرسول فكذلك برؤية الوكيل وكيف يسقط خياره برؤيته وهو لو أسقط الخيار نصا لم يصح ذلك منه لأنه لم يوكله به . فكذلك إذا قبض بعد الرؤية وقاسا بخيار الشرط والعيب فإنه لا يسقط بقبض الوكيل ورضاه به فكذلك خيار الرؤية .
وأبو حنيفة - Bه - يقول التوكيل بمطلق القبض يثبت للوكيل ولأنه إتمام القبض كالتوكيل بمطلق العقد يثبت للوكيل ولأن إتمامه وتمام القبض لا يكون إلا بعد تمام الصفقة والصفقة لا تتم مع بقاء خيار الرؤية فيضمن التوكيل بالقبض إنابة الوكيل مناب نفسه في الرؤية المسقطة لخياره بخلاف الرسول فإن الرسول ليس إليه إلا تبليغ الرسالة فأما إتمام ما أرسل به ليس إليه كالرسول بالعقد ليس إليه من القبض والتسليم شيء .
والدليل على الفرق بين الوكالة والرسالة أن الله تعالى أثبت صفة الرسالة لنبيه - A - وبقي الوكالة بقوله تعالى { قل لست عليكم بوكيل } ( الأنعام : 66 ) وهذا بخلاف خيار العيب فإن بقاءه لا يمنع تمام الصفقة والقبض ولهذا ملك بعد القبض رد المعيب خاصة . يوضحه : أن خيار العيب لثبوت حق المطالبة بتسليم الجزء الفائت وذلك للموكل والوكيل لا يملك إسقاطه لأنه فوض إليه الاستيفاء دون الإسقاط فأما خيار الشرط فقد منعه بعض أصحابنا - رحمهم الله تعالى - والأصح هو التسليم والفرق بينهما أنا نجعل في الموضعين فعل الوكيل كفعل الموكل والموكل لو قبض بنفسه بعد الرؤية سقط به خياره فكذلك قبض الوكيل ولم يسقط خيار الشرط بقبض الوكيل بحال وهذا لأن من شرط الخيار استثنى رضاه نصا فلا بد لسقوط خياره من إسقاطه أو إسقاط نائبه والوكيل ليس بنائب عنه في إسقاط حصة الذي استثناه لنفسه أو يقول سقوط خيار الرؤية من حقوق العقد لأن الرؤية تكون عند القبض عادة والوكيل بالشيء فيما هو من حقوقه كالمباشر لنفسه بمنزلة الوكيل بالعقد بخلاف خيار الشرط فإسقاطه لا يكون عند القبض والرؤية بل بالتأكد فيه بعد مدة بعيدة ولأن الوكيل بقبض المبيع بمنزلة الوكيل بالعقد لأن القبض مشابه بالعقد من حيث أنه يستفاد به ملك التصرف ثم رؤية الوكيل بالعقد تجعل كرؤية الموكل فكذلك رؤية الوكيل بالقبض بخلاف خيار العيب فرضاء الوكيل بالعيب لا يكون ملزما الموكل .
ألا ترى أنه بعد الشراء لو وجد بالمبيع عيبا فرضي به الوكيل وأبى الموكل أن يرضى به فله أن لا يرضى بخلاف خيار الشرط فالوكيل بالعقد لا يملك إسقاط خيار الشرط الذي استثناه الآمر لنفسه نحو ما إذا أمره بأن يشترط له الخيار . فكذلك الوكيل بالقبض لا يملك إسقاطه .
( قال ) ( وإذا اشترى عدل زطي لم يره ثم باع منه ثوبا ثم نظر إلى من بقي فلم يرض به لم يكن له أن يرده إلا من عيب يجده فيه ) لأنه تعذر الرد فيما باع وليس له أن يفرق الصفقة في الرد بخيار الرؤية فإذا عاد إلى ملك البائع ما باع بسبب فهو فسخ من كل وجه فله أن يرد الكل بخيار الرؤية لزوال المانع إلا في رواية علي بن الجعد - C تعالى - عن أبي يوسف أنه يقول خيار الرؤية كخيار الشرط فلا يعود بعدما سقط وإن عاد إلى قديم ملكيه وإن كان باعه على انه بالخيار فإن كان بعد الرؤية فهو دليل الرضى منه فيسقط خياره وإن كان قبل الرؤية فهو على خياره لأنه لم يتعذر عليه رد الكل بما أحدث من التصرف فلو أسقطنا خياره لأسقطنا بإيجابه البيع في الثوب وذلك لا يكون أقوى من تصريحه بإسقاط خيار الرؤية ولو صرح بذلك لم يسقط خياره قبل الرؤية فكذلك إذا باعه على أنه بالخيار فإن كان بعد الرؤية فهو دليل الرضى منه فسقط خياره وإن كان قبل الرؤية فهو على خياره لأن لم يتعذر عليه رد الكل بما أحدث من التصرف فلو أسقطنا خياره لأسقطنا بإيجابه البيع في الثوب وذلك لا يكون أقوى من تصريحه بإسقاط خيار الرؤية . ولو صرح بذلك لم يسقط خياره قبل الرؤية فكذلك إذا باعه على أنه بالخيار وكذلك لو قطع ثوبا منه وألبسه حتى تغير فقد تعذر عليه رد هذا الثوب كما قبضه وليس له أن يرد ما بقي لما فيه من تفريق الصفقة قبل التمام .
( قال ) ( وإذا اشترى عدل زطى بثمن واحد أو كل ثوب بعشرة أو كر حنطة أو خادمين فحدث في شيء من ذلك عيب قبل أن يقبضه أو كان العيب فيه فعلم به فليس له إلا أن يرده كله أو يأخذه كله ) لما في رد البعض من تفريق الصفقة قبل التمام ولأن الرد بالعيب قبل القبض بمنزلة الرد بخيار الشرط وخيار الرؤية ولهذا ينفرد الراد به من غير قضاء ولا رضاء وهذا لأنه لا حصة من الثمن قبل القبض فهو مجرد خيار يثبت له ليدفع به الضرر عن نفسه لا حصة للجزء الفائت من المثمن قبل القبض لأنه وصف فلا يمكن من إلحاق الضرر بالبائع في تفريق الصفقة عليه ولكن يرد الكل أو يمسك الكل والحادث من العيب قبل القبض كالموجود عند العقد لأن المبيع في ضمان البائع ولو هلك كان هلاكه على البائع فكذلك إذا فات جزء منه ولأن الزيادة التي تحدث في العين قبل القبض لما جعلت في حكم الموجود عند العقد . فكذلك النقصان الحادث في العين قبل القبض وكذلك لو قبض أحدهما دون الآخر لأن تمام الصفقة تعلق بالقبض فلا يثبت إلا بعد قبض الجميع كسقوط حق البائع في الجنس لما تعلق بوصول الثمن إليه فما لم يقبض جميع الثمن بقي حقه في الجنس فيستوي في ظاهر الرواية إن وجد العيب بالمقبوض فله أن يرده خاصة وإن وجد بالذي لم يقبض فليس له إلا أن يردهما لأنه يجعل في حكم ما وجد به العيب كان الآخر بصفته .
وأما إذا علم بالعيب بعدما قبضهما فله أن يرد المعيب خاصة وقد لزمه البيع في الآخر بحصته من الثمن إلا على قول زفر فإنه يقول يردهما إن شاء لأن ضم الجيد إلى الرديء عادة ظاهرة في البيع فلو رد الرديء بالعيب خاصة تضرر به البائع فلدفع الضرر عنه أما أن يردهما أو يمسكهما كما في الرد بخيار الشرط والرؤية ولكنا نقول حق المشتري بعد القبض في المطالبة بتسليم الجزء الفائت ولأجله يتمكن من الرد ولهذا إذا تعذر الرد رجع بحصة العيب من الثمن وهذا المعنى تقتصر على العيب فلا يتعدى حكم الرد إلى محل آخر وهذا لأن الصفقة تتم بالقبض لوجود تمام الرضا من المشتري عند صفة السلام كما أوجبه العقد وبه فارق خيار الشرط والرؤية فالمانع من تمام الصفقة هناك عدم الرضا للجهل بأوصاف المعقود عليه أو بشرط الخيار وهذا باق وفي رد أحدهما تفريق الصفقة قبل التمام فلهذا لا يتمكن منه . وأما ما كان من مكيل أو موزون من ضرب واحد فليس له إلا أن يرد كله أو يمسك كله لأن الكل في الحكم واحد .
ألا ترى أن الكل تسمى باسم واحد وهو الكر فالشيء الواحد لا يرد بعضه بالعيب دون البعض .
يوضحه : أنه إذا ميز المعيب ازداد عيبه فالمعيب من الحنطة عند الاختلاط بما ليس بمعيب لا يتبين فيه من العيب ما يتبين إذا ميز عما ليس بمعيب والمشتري لا يتمكن من الرد بعيب أكثر مما خرج من ضمان البائع وبعض المتأخرين - رحمهم الله تعالى - يقولون هذا إذا كان الكل في وعاء واحد فأما إذا كان في وعائيين فوجد ما في أحد الوعائين معيبا فله أن يرد ذلك بالعيب إن شاء بمنزلة الثوبين والجنسين كالحنطة والشعير لأنه يرده على الوجه الذي خرج من ضمان البائع والأظهر في الجنس الواحد بصفة واحدة أنه كشيء واحد سواء كان في وعاء واحد أو في وعائين فإما أن يرد الكل أو يمسك الكل .
( قال ) ( وإذا اشترى ثوبين أو عبدين بثمن واحد وقبضهما ثم استحق أحدهما فالآخر له لازم ) لأن الاستحقاق لا يمنع تمام الصفقة بالقبض فإن العقد حق العاقد فتمامه يستدعي تمام الرضا من العاقد به وبالاستحقاق ينعدم رضا المالك لا رضا العاقد ولهذا قلنا في الصرف ورأس مال السلم لو أجاز المستحق بعدما افترقا يبقى العقد صحيحا فإذا عرفنا تمام الصفقة بالقبض قلنا يرجع بثمن المستحق لأن ذلك لم يسلم له والبيع لازم له في الآخر لأنه سالم واستحقاق أحدهما لا يمكن نقصانا في الآخر وإن استحق أحدهما قبل القبض فله الخيار في الآخر ليفرق الصفقة عليه قبل التمام وكذلك لو قبض أحدهما ولم يقبض الآخر حتى استحق المقبوض أو الذي لم يقبض فله الخيار في الباقي لما بينا أن تمام الصفقة يقبض جميع ما يتناوله العقد فما بقي شيء منه غير مقبوض لا تكون الصفقة تامة ولو كان ثوب واحد أو عبد أو شيء مما لا يتبعض فاستحق بعضه قبل القبض أو بعده فله أن يرد ما بقي بعيب الشركة فالتجار يعدون الشركة فيما يضره التبعيض عيبا فاحشا .
( قال ) ( وإذا اشترى شيئا مما يكال أو يوزن فاستحق بعضه قبل القبض أو وجده ناقصا فله أن يترك ما بقي ) لتفرق الصفقة عليه قبل التمام وإن استحق البعض بعد القبض فلا خيار له فيما بقي لأن هذا لا يضره التبعيض وباستحقاق البعض لا يتعيب ما بقي وقد تمت الصفقة بالقبض .
( قال ) ( ولو اشترى دارا فنظر إلى ظاهرها خارجا منها ولم يدخلها فليس له أن يردها إلا بعيب ) عندنا و ( قال ) زفر : أن يردها وقيل هذا الجواب بناء على دورهم بالكوفة فإنها تختلف بالسعة والضيق وفيما وراء ذلك يكون بصفة واحدة وهذا يصير معلوما بالنظر إلى جدرانها من خارج فأما في ديارنا مالية الدور تختلف بقلة المرافق وكثرتها وذلك لا يصير معلوما إلا بالنظر إليها من داخل فالجواب على ما ( قال ) زفر ومن حقق الخلاف في المسألة فحجة زفر هنا الذي ذكرنا الجواب وحجتنا أن النظر إلى كل جزء من أجزائها متعذر فإنه يتعذر عليه أن ينظر إلى ما تحت السور وإلى ما بين الحيطان من الجذوع والاسطوانات وإذا سقط شرط رؤية الكل للتعذر أقمنا رؤية جزء منها مقام رؤية الجميع تيسيرا .
( قال ) ( والأعمى في كل ما اشترى إذا لم يقلب ولم يجس بالخيار ) فإذا قلب أو جس فهو بمنزلة النظر من الصحيح ولا خيار له إلا أن يجد به عيبا والكلام في فصول : ( أحدها ) : جواز العقد عندنا من الأعمى بيعا كان أو شراء .
وقال الشافعي - C تعالى - إن كان بصيرا فعمي فكذلك الجواب وإن كان أكمه فلا يجوز بيعه وشراؤه أصلا لأنه لا يعرف لون الأشياء وصفتها .
وهذا غلط منه فالناس تعارفوا معاملة العميان من غير نكير منكر وتعامل الناس من غير نكير منكر أصل في الشرع ثم من أصله أن من لا يملك أن يشتري بنفسه لا يملك أن يأمر غيره به فإذا احتاج الأعمى إلى مأكول ولا يتمكن من أن يشتري أو يوكل به مات جوعا وفيه من القبح ما لا يخفى .
فإذا ثبت جواز شرائه ( قلنا ) إن كان المشترى مما يعرف بالجس أو الذوق فهو كالبصير في ذلك .
وإن كان مما تعرف صفته بالجس كما تعرف بالرؤية فالمس فيه كالرؤية من البصير حتى لو لمسه وقال رضيت به يسقط خياره وما لا يمكن معرفته كالعقارات فإنه يوصف له بأبلغ ما يمكن فإذا قال قد رضيت سقط خياره لأن ذكر الوصف يقام مقام الرؤية في موضع من المواضع كما في عقد السلم والمقصود رفع العين عنه وذلك يحصل بذكر الوصف وإن كان بالرؤية أتم .
وعن أبي يوسف - C تعالى - ( قال ) تعاد إلى ذلك الموضع فإذا كان بحيث لو كان بصيرا رأى فقال قد رضيت سقط خياره وجعل هذا كتحريك الشفتين من الأخرس فإنه يقام مقام عبارة الناطق في التكبير والقراءة لأن الممكن ذلك القدر .
وقال الحسن ابن زياد يوكل بصيرا بالقبض حتى يرى البصير له فيقبض وهذا أشبه بقول أبي حنيفة فالوكيل بالقبض عنده يجعل في الرؤية كالموكل وقال بعض أئمة بلخ - رحمهم الله تعالى - يمس الحيطان والأشجار فإذا قال قد رضيت يسقط خياره لأن الأعمى إذا كان زكيا يقف على مقصوده في ذلك بالمس .
وحكي أن أعمى اشترى أرضا فقال قيدوني إليها فقادوه فجعل يمس الأرض حتى انتهى إلى موضع منها فقال أموضع كدس هذه فقالوا : لا فقال : هذا الأرض لا تصلح لأنها لا تكسوا نفسها فكيف تكسوني فكان كما قال فإذا كان الأعمى بهذه الصفة فرضي بها بعدما مسها سقط خياره والله أعلم بالصواب