( قال الشيخ الإمام ) الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي C إملاء : اعلم بأن المزارعة مفاعلة من لزراعة والاكتساب بالزراعة مشروع أول من فعله آدم صلوات الله وسلامه عليه على ما روي أنه لما أهبط إلى الأرض أتاه جبريل عليه السلام بحنطة وأمره بالزراعة وازدرع رسول الله A بالجرف وقال E : ( الزارع يتاجر ربه D ) وقال E : ( اطلبوا الرزق تحت خبايا الأرض ) يعني عمل الزراعة والعقد الذي يجري بين اثنين لهذا المقصود يسمى مزارعة ويسمى مخابرة أيضا على ما روي عن زيد بن ثابت Bه أن النبي A نهى عن المخابرة فقيل : وما المخابرة ؟ قال : المزراعة بالثلث والربع وإنما سميت مخابرة من تسمية العرب الزارع خبيرا وقيل هذا الاشتقاق من معاملة رسول الله A مع أهل خيبر فسميت مخابرة بالإضافة إليهم وبيانه في الحديث الذي بدئ الكتاب به ورواه عن أبي المطرف عن الزهري قال : حدثني من لا أتهمه أن رسول الله A قال لليهود حين عاملهم على خيبر : ( أقركم ما أقركم الله ) وفيه بيان أن المرسل حجة فإن الزهري C أرسل الحديث حين لم يبين اسم الراوي ورواه محمد C مستدلا به على جواز المزارعة والمعاملة فقد عامل رسول الله A أهل خيبر على الشطر وفعل رسول الله A دليل الجواز وتأويل ذلك عند أبي حنيفة C من وجهين أحدهما : أن النبي A حين افتتح خيبر استرقهم وتملك أراضيهم ونخيلهم ثم جعلها في أيديهم يعملون فيها للمسلمين بمنزلة العبيد في نخيل مواليهم وكان في ذلك منفعة للمسلمين ليتفرغوا للجهاد بأنفسهم ولأنهم كانوا أبصر بذلك العمل من المسلمين وما جعل لهم من الشرط بطريق النفقة لهم فإنهم مماليك للمسلمين يعملون لهم في نخيلهم فيستوجبون النفقة عليهم فجعل نفقتهم فيم يحصل بعملهم وجعل عليهم نصف ما يحصل بعملهم ليكون ذلك ضريبة عليهم بمنزلة المولى يشارط عبده الضريبة إذا كان مكتسبا وقد نقل بعض هذا عن الحسين بن علي Bهما والثاني : أنه من عليهم برقابهم وأراضيهم ونخيلهم وجعل شطر الخارج عليهم بمنزلة خراج المقاسمة وللإمام رأي في الأرض الممنون بها على أهلها إن شاء جعل عليها خراج الوظيفة وإن شاء جعل عليها خراج المقاسمة وهذا أصح التأويلين فإنه لم ينقل عن أحد من الولاة أنه تصرف في رقابهم أو رقاب أولادهم كالتصرف في المماليك وكذلك عمر Bه أجلاهم ولو كانوا عبيدا للمسلمين لما أجلاهم فالمسلم إذا كان له مملوك في أرض العرب يتمكن من إمساكه واستدامة الملك فيه فعرفنا أن الثاني أصح ثم بين لهم رسول الله A أن ما فعله من المن عليهم بنخيلهم وأراضيهم غير مؤبد بقوله E : ( أقركم ما أقركم الله ) وهذا منه شبه الاستثناء وإشارة إلى أنه ليس لهم حق المقام في نخيلهم على التأبيد لأنه علم من طريق الوحي أنه يؤمر بإجلائهم فتحرز بهذه الكلمة عن نقض العهد لأنه كان أبعد الناس عن نقض العهد والغدر وفيه دليل أن المن المؤقت صحيح سواء كان لمدة معلومة أو مجهولة وأن الغدر ينتفي بمثل هذا الكلام وإن لم يفهم الخصم فإنهم لم يفهموا مراد رسول الله A وقد صح منه التحرز عن الغدر بهذا اللفظ قال : وإن بني عذرة جاؤوا إلى رسول الله A حين افتتح خيبر وجاءته يهود وادي القرى شركاء بني عذرة بالوادي فأعطوا بأيديهم وخشوا أن يغزوهم رسول الله A وهؤلاء كانوا بالقرب من أهل خيبر وإن اليهود بالحجاز كانوا ينتظرون ما يؤول إليه حال النبي A مع أهل خيبر فقد كانوا أعز اليهود بالحجاز كما روي أنه كان بخيبر عشرة آلاف مقاتل فلما صاروا مقهورين ذلت سائر اليهود وانقادوا لطلب الصلح فمنهم يهود وادي القرى جاؤوا إلى رسول الله A فأعطوا بأيديهم أي انقادوا له وطلبوا الأمان وخشوا أن يغزوهم فكان هذا من النصرة بالرعب كما قال E : ( نصرت بالرعب مسيرة شهر ) فلما أعطوا بأيديهم والوادي حين فعلوا ذلك نصفان نصف لبني عذرة ونصف لليهود فجعل رسول الله A الوادي أثلاثا ثلثا له وللمسلمين وثلثا خاصة لبني عذرة وثلثا لليهود فكان هذا بطريق الصلح من رسول الله A فدل أن للإمام أن يصالح أهل بلده على بعض الأموال والأراضي إذا رضوا بذلك ثم كان رسول الله A قد هم بإجلاء اليهود إلى الشام على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه .
وسلم : ( لا يجتمع في جزيرة العرب دينان ) وقال E : ( إن عشت إلى قابل لأخرجن نجران من جزيرة العرب ) وكان في ذلك إظهار فضيلة رسول الله A وفضيلة أمته حيث أن جزيرة العرب مولده ومنشأه طهر الله تلك البقعة عن سكني غير المؤمن فيها وهي أفضل البقاع لأن فيها الحرم وبيت الله تعالى حرم الله تعالى نعم مشاركة غير المؤمن مع المؤمن في السكنى فيها إلا أن رسول الله A قبض قبل أن يتمم ذلك ولم يتفرغ أبو بكر الصديق Bه لذلك لأنه لم تطل مدة خلافته وقد كان مشغولا بقتال أهل الردة حتى إذا كان في زمن عمر Bه وكان قد سمع ذلك من رسول الله A أجلى اليهود من خيبر وأمر يهود الوادي أن يتجهزوا بالجلاء إلى الشام وكان المعنى في ذلك أن اليهود إنما جاؤوا من الشام إلى أرض الحجاز وكان مقصود رؤسائهم من ذلك طلب الحنيفية لما وجدوا في كتبهم من بعث رسول الله A ونعت أمته وبذلك كان يوصي بعضهم بعضا فلما بعث الله تعالى رسول الله A امتنعوا من متابعته والانقياد للحق الذي دعا إليه حسدا وكفرا قال الله تعالى : { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا } الآية فجوزوا على سوء صنيعهم بأن لا يمكنوا من المقام في أرض العرب وأن يعودوا إلى الموضع الذي جاء من ذلك الموضع آباؤهم فلهذا أجلاهم عمر Bه ثم احتج عليه يهود الوادي بقولهم : إنما نحن في أموالنا قد أقرنا رسول الله A وقاسمنا ومعنى هذا الكلام الإشارة منهم إلى الفرق بينهم وبين أهل خيبر فإن خيبر قد افتتحها المسلمون فصارت مملوكة لهم فأما نحن فصالحنا رسول الله A على بعض الأراضي فأقرنا في أموالنا على ما كنا عليه في الأصل ولم يظهر منا خيانة فليس لك أن تجلينا من أرضنا فقال لهم عمر Bه : إن رسول الله A قال لكم : ( أقركم ما أقركم الله ) يعني أن هذا اللفظ كان استثناء من رسول الله A في الصلح الذي جرى بينه وبينكم فلا يمنعني ذلك من إجلائكم وأن رسول الله A قد عهد أن لا يجتمع في أرض العرب دينان وإني مجل من لم يكن له عهد من رسول الله A يعني عهدا خاصا سوى ذلك الصلح العام فقد كان ذلك مقيدا بالاستثناء وأنا مقوم أموالكم هذه فمعطيكم أثمانها يعني بهذا الإجلاء لا أبطل حقكم عن أموالكم ولا أتملكها عليكم مجانا ولكني أعطيكم قيمتها وفيه دليل أن الملك الذمي من الحرمة ما لملك المسلم وأنه متى تعذر إيفاء العين في ملكه يجب إزالته بالقيمة ولهذا قلنا في الكافر إذا أسلم عبده يجبر على بيعه وإذا أسلمت أم ولده تخرج إلى الحرية بالسعاية في القيمة وفيه دليل أن الإمام إذا أحس بالغدر من أهل بلدة من بلاد أهل الذمة وأنهم يخبرون المشركين بعورات المسلمين يكون له أن يجليهم من تلك الأرض إلى أرض أخرى وأنه يقوم من أملاكهم ما يتعذر نقله فيعطيهم عوض ذلك من بيت المال أو من أرض أخرى إن كانت لعامة المسلمين كما فعله عمر Bه فإنه أمر بأموالهم فقومت بتسعين ألف دينار فدفعها إليهم وأجلاهم وقبض أموالهم ثم قال لبني عذرة : إنا لن نظلمكم ولن نستأثر عليكم أنتم شفعاؤنا في أموال اليهود فإن شئتم أعطيتم نصف ما أعطيناهم وأعطيتكم نصف أموالهم وإن شئتم سلمتم لنا البيع فتولينا الذي لهم وفيه دليل أن الشفعة تستحق بالشركة في العقار فقد كانت بنو عذرة في الوادي شركاء وأن أحد الشركاء إذا اشترى فله الشفعة فيما اشترى كما للشريك الآخر وإنما يشتريه الإمام للمسلمين بمال بيت المسلمين ليستحق بالشفعة ولكن الإشكال في أنهم لم يطلبوا الشفعة حتى قال لهم عمر Bه ما قال والشفعة تبطل بترك الطلب بعد العلم بالبيع فقيل هم قد طلبوا الشفعة وأظهروا ذلك بينهم ولكنهم احتشموا عمر Bه فلم يجاهروه بذلك فلما بلغه طلبهم قال ما قال وقيل : هم عمر Bه أن ذلك بيع شرعي وأن لهم الشفعة بذلك فعند ذلك طلبوا الشفعة وقالوا : بل نعطيكم نصف الذي أعطيتم من المال وتقاسمونا أموالهم فباعت بنو عذرة في ذلك الرقيق والإبل والغنم حتى دفعوا إلى عمر Bه خمسة وأربعين ألف دينار فقسم عمر الوادي نصفين بين الإمارة وبين بني عذرة وذلك زمان التحظير حين حظر عمر Bه الوادي نصفين يعني جمع أنصباء المسلمين في جانب وأنصباء بني عذرة في جانب وكان ذلك أمرا عظيما قد اشتهر في العرب حتى جعلوه تاريخا وكانوا يسمون .
ذلك زمان التحظير فيقول بعضهم لبعضهم : كنت زمان التحظير ابن كذا سنة كما يكون مثله في زماننا إذا حدث أمر عظيم في الناس يجعل التاريخ منه بمنزلة وقت الوباء وغيره وقال الزهري C : كان رسول الله A حين صالح أهل خيبير أعطاهم النخل على أن يعملوا ويقاسمهم نصف الثمار وكان يبعث لقسمة ذلك عبدالله بن رواحة فيخرص عليهم فيقول : إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا وفي هذا الحديث بيان حكمين حكم المعاملة وقد بيناه وحكم الخرص فهو دليل على أن للإمام في الأرض التي يكون للإمام خراجها خراج المقاسمة وفي الأرض العشرية أن يبعث من يخرص الثمار والزروع على أربابها إلا أن عند الشافعي هذا الخرص بمنزلة الكيل حتى إذا ادعوا النقصان بعد ذلك لا يقبل قولهم إلا بحجة وعندنا هذا الخرص لا يكون ملزما إياهم شيئا لأن الذي يخرص إنما يقول شيئا بظن والظن لا يغني من الحق شيئا فالقول قولهم في دعوى النقصان وعلى من يدعي عليهم الخيانة والسرقة إثبات ذلك بالبينة وعلى هذا الأصل جوز الشافعي C بيع العرايا وهو بيع الثمر على رؤوس النخل بتمر مجدود على الأرض خرصا فيما دون خمسة أوسق وقال : الخرص بمنزلة الكيل ولم يجوز ذلك علماؤنا رحمهم الله وقالوا : الخرص ليس بمعيار شرعي تظهر به المماثلة فيكون هذا بيع الثمر بالثمر مجازفة وقال رسول الله A : ( التمر بالتمر مثلا بمثل ) وتأويل ما فعله عبدالله بن رواحة Bه بأمر رسول الله A من وجهين أحدهما : أن ذلك كان على سبيل النظر للمسلمين منه حتى يتحرز اليهود من كتمان شيء فقد كانوا في عداوة المسلمين بحيث لا يمتنعون مما يقدروا عليه من الإضرار بالمسلمين وقيل : كان ابن رواحة مخصوصا بذلك حتى كان خرصه بمنزلة كيل غيره لا يتفاوت قد علم ذلك رسول الله A من طريق الوحي أو كان له ذلك بدعاء رسول الله A وبكونه مبعوث رسول الله A وذلك بين فيما رواه بعد هذا ولا يوجد مثل ذلك في حق غيره ومعنى قوله : إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا أي إن شئتم أخذتم على ما خرصت وأعطيتمونا نصف ذلك بعد الإدراك وإن شئتم أخذنا ذلك وأعطيناكم نصف ذلك بعد الإدراك فهذا منه بيان أنه عدل في الخرص ولم يمل إلى المسلمين ولا قصد الحيف على اليهود وعن مكحول أن رسول الله A دفع خيبر إلى أهلها الذين كانت لهم على أن يعملوها فإذا بلغت الثمار كان لهم النصف وللمسلمين النصف فبعث ابن رواحة Bه فخرصها عليهم وقد بينا فائدة الحديث وفي اللفظ المذكور في هذا الحديث دليل على ما ذهب إليه أبو حنيفة C أنه من عليهم بأراضيهم وجعل عليهم نصف الخارج بطريق خراج المقاسمة وعن حجاج بن أرطاة قال : سألت محمد بن علي Bه عن المزارعة بالثلث فالنصف فقال : أعطى رسول الله A خيبر بالشطر وأبو بكر وعثمان وعلي Bهم وأهلوهم إلى يومهم هذا يفعلونه وفيه دليل جواز استعمال القياس فقد سئل عن المزارعة وجوازها استدلالا بالمعاملة التي كانت بين رسول الله A وأهل خيبر في النخيل وقيل : بل كانت بخيبر نخيل ومزارع فقد كان عقد رسول الله A معه في المزارعة عقد مزارعة وفي هذا الحديث دليل لهما على أبي حنيفة C في جواز المزارعة والمعاملة وعن سعيد بن المسيب Bه أن رسول الله A حين افتتح خيبر قال لليهود : ( أقركم ما أقركم الله على أن التمر بيننا وبينكم ) فكان رسول الله A بعث ابن رواحة فخرص عليهم ثم يقول : إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا فكانوا يأخذونه وفي هذا الحديث بيان أن ما جرى بين رسول الله A وبينهم كان على طريقة الصلح وقد يجوز من الإمام المعاملة بين بيت المال وبين الكفار على طريق الصلح ما لا يجوز مثله فيما بين المسلمين فيضعف من هذا الوجه استدلالهم بمعاملة رسول الله A معهم وفيه دليل هداية ابن رواحة Bه في باب الخرص فإنهم كانوا أهل نخل وقد علموا أنه أصاب في الخرص حين رغبوا في أخذ ذلك وعن سليمان بن يسار أن رسول الله A كان يبعث ابن رواحة فيخرص بينه وبين اليهود قال : فجمعوا له حليا من حلى نسائهم فقالوا : هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم فقال : يا معشر اليهود إنكم أبغض خلق الله تعالى إلي وما ذاك بحاملي على أن أحيف عليكم أما الذي عرضتم .
من الرشوة فهو سحت وإنا لا نأكلها فقالوا : بهذا قامت السموات والأرض وإنما طلبوا من ابن رواحة Bه ما ظهر منهم من الميل إلى أخذ الرشوة وترك بيان الحق لأجله فإنهم كتموا بعث رسول الله A وبعث أمته من كتابهم وحرفوا الكلم عن مواضعه بهذا الطريق كما قال الله تعالى : { ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون } وما طلبوا منه التخفيف من غير ميل وخيانة فقد كان ابن رواحة Bه يفعل ذلك من غير طلبهم وبه كان أمره رسول الله A على ما روي أنه E قال للخراصين : ( خففوا في الخرص فإن في المال العرية والوصية ) ثم أنه قطع طمعهم بما قال : إنكم أبغض خلق الله تعالى إلي وهكذا ينبغي لكل مسلم أن يكون في بغض اليهود بهذه الصفة فإنهم في عداوة المسلمين بهذه الصفة كما قال تعالى : { لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود } وقال E : ( ما خلا يهودي بمسلم إلا حدثته نفسه بقتله ) وكان شكواهم رسول الله A في كل وقت حتى قال : ( لو آمن بي اثنا عشر منهم آمن بي كل يهودي على وجه الأرض ) يعني رؤساءهم ثم بين أن هذا البغض لا يحمله على الحيف والظلم عليهم فالحيف هو الظلم قال الله تعالى : { أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله } فكيف يحمله ما عرضوا من الرشوة على الميل إليهم وقال : أما الذي عرضتم من الرشوة فإنها سحت يعني تناول السحت من معامليكم دون المسلمين وقد وصفهم الله بذلك بقوله : { سماعون للكذب أكالون للسحت } والسحت هو الحرام الذي يكون سببا للاستئصال مأخوذ من السحت قال الله تعالى : { فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى } أي يستأصلنكم فقالوا : بهذا قامت السموات والأرض يعني ما يقوله حق وعدل وبالعدل قامت السموات والأرض وكان شيخنا الإمام C يقول في هذا الحديث إشارة إلى أن أمتعة النساء وحليهن لم تزل عرضة لحوائج الرجال فإن اليهود لحاجتهم إلى ذلك تحكموا على نسائهم فجمعوا من حلى نسائهم وحكي أن رجلا من أهل العلم كانت له امرأة ذات يسار فسألها شيئا من مالها لحاجته إلى ذلك فأبت فقال : لا تكوني أكفر من نساء خيبر كن يواسين أزواجهن بحليهن وأنت تأبي ذلك وعن ابن سيرين C قال : بعث رسول الله A ابن رواحة Bه إلى خيبر فقال : بعثني إليكم من هو أحب إلي من نفسي ولأنتم علي أهون من الخنازير ولا يمنعني ذلك من أن أقول الحق هكذا ينبغي لكل مسلم أن يكون في محبة رسول الله A بهذه الصفة فيكون رسول الله A أحب إليه من نفسه وأهله وولده وماله لأنه به نال العز في الدنيا والنجاة في الآخرة قال الله تعالى : { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } يعني بمتابعة رسول الله A وتصديقه وينبغي أن يكون اليهود عند كل مسلم بهذه الصفة والمنزلة أيضا فهم شر من الخنازير فيما أظهروا من عداوة رسول الله A حسدا وتعنتا فكأنه قال ذلك لأنه قد مسخ منهم قردة وخنازير كما قال الله تعالى : { وجعل منهم القردة والخنازير } وإليه أشار رسول الله A حين حاصر بني قريظة فسمع من بعض سفهائهم شتيمة فقال E : ( أتشتموني يا أخوة القردة والخنازير ) فقالوا : ما كنت فحاشا يا أبا القاسم قال : ( وذلك لا يمنعني من أن أقول الحق ) فقالوا بهذا قامت السموات والأرض أي بالحق ومخالفة الهوى والميل بها ثم قال : قد خرصت عليكم نخيلكم ففيه دليل أن النخيل كانت مملوكة لهم إن ما كان يؤخذ منهم بطريق خراج المقاسمة فإن شئتم فخذوه ولي عندكم الشطر وإن شئتم أخذته ولكم عندي الشطر فخذوه فإن لكم فيه منافع فأخذوه فوجدوا فيه فضلا قليلا وهذا دليل على حذاقته في باب الخرص وإن خرصه بمنزلة كيل غيره حين لم يخف عليه الفضل اليسير وإنما تجوز بذلك لأن رسول الله A كان يأمره بالتخفيف في الخرص ولم يترك النصيحة لهم في الأخذ مع شدة بغضه إياهم فدل أنه لا ينبغي للمسلم أن يترك النصيحة لأحد من ولي أو عدو إذا كان لا يخاف على نفسه لأن نصيحته بحق الدين وعن الحسن بن علي Bهما أن رسول الله A أعطى خيبر بالشطر وقال : ( لكم السواقط ) قيل : المراد من السواقط ما يكسر من الأغصان من النخيل مما يستعمل استعمال الحطب والأصح أن المراد ما سقط من الثمار قبل الإدراك فإن ذلك مما لم يكن .
ادخاره إلى وقت القسمة لأنه يفسد فشرط ذلك لهم دفعا للحرج عنهم وفيه دليل على أن مثل هذا يجعل عفوا في حق المزارع والمعامل لأنه لا يتأتى التحرز عنه إلا بحرج والحرج مدفوع وعن ابن عمر Bهما أن النبي A بعث ابن رواحة Bه فخرص عليهم مائة وسق فقالت اليهود : أشططتم علينا فقال عبدالله Bه : نحن نأخذه ونعطيكم خمسين وسقا فقالت : بهذا تنصرون وقوله : أشططتم علينا أي ظلمتمونا وزدتم في الخرص والشطط عبارة عن الزيارة قال عليه السلام : ( لا وكس ولا شطط ) وكان ذلك منهم كذبا وكانوا يعلمون ذلك ولكن كان من عادتهم الكذب وقول الزور مع علمهم بذلك كما وصفهم الله تعالى به بقوله : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } فرد عليهم تعنتهم بما قال إنا نأخذه ونعطيكم خمسين وسقا فقالوا : بهذا تنصرون أي بالعدل والتحرز عن الظلم فالنصر موعود من الله تعالى للعادلين المتمسكين بالعدل والحق في الدنيا والآخرة قال الله تعالى : { إن تنصروا الله ينصركم } يعني أن تنصروا الله تعالى بالانقياد للحق والدعاء إليه وإظهار العدل ينصركم ويثبت أقدامكم وعن علي بن أبي طالب Bه قال : لا بأس بالمزارعة بالثلث والربع واعلم بأن المزارعة في جوازها اختلاف بين العلماء رحمهم الله وكان الخلاف في الصدر الأول والتابعين رحمهم الله تعالى بعدهم واشتبهت فيها الآثار عن رسول الله A فجمع محمد C ما نقل من الآثار من ذلك ثم بنى عليه بيان المسألة من طريق المعنى فممن قال بجوازها من الصحابة Bهم علي Bه ومعاذ Bه على ما روي عن طاوس C قال : قدم علينا معاذ Bه اليمن ونحن نعطي أراضينا بالثلث والربع فلم يعب ذلك علينا وفيه بيان أن ترك التكثر ممن تعين عليه البيان دليل التقرير فقد كان معاذ Bه متعينا للبيان لأهل اليمن لأن رسول الله A بعثه إليهم ليبين لهم الأحكام واستدل بترك التكثر عليهم بعد ما اشتهر هذا العقد بينهم على جوازه ثم روي عنه أنه أمضى ذلك وفي هذا تنصيص على الفتوى بالجواز . وعن طاوس C أنه سئل عن المخابرة في الأرض فقال : خابروا على الشطر والثلث والربع ولا تخابروا على كيل معلوم فكأن طاوسا تعلم من معاذ Bه وفيه دليل أن المزارعة على كيل معلوم يشترطه أحدهما لا تجوز وبه يأخذ من يجوز المزارعة لأن هذا الشرط يؤدي إلى قطع الشركة في الخارج بعد حصوله . وعن موسى بن طلحة قال : أقطع عمر Bه خمسة من أصحاب رسول الله A عبدالله بن سعد بن مالك والزبير وخبابا ورأيت هذين يعطيان أرضهما بالثلث والربع وعبدالله وسعدا Bهم والمراد عبدالله بن مسعود وقد ذكره مفسرا بعد هذا وهو من كبار فقهاء الصحابة وسعد بن مالك من العشرة وكانا يباشران المزارعة بالثلث والربع وفي الحديث دليل أن للإمام ولاية الإقطاع فيما ليس بملك لإنسان بعينه لأن ما كان الحق فيه لعامة المسلمين فالتدبير فيه إلى الإمام وله أن يخص بعضهم بشيء من ذلك على حسب ما يرى كما يفعله في بيت المال وعن أبي الأسود قال : إنا كنا لنزارع على عهد علقمة والأسود رحمهما الله بالثلث والربع فما يعيبان ذلك علينا وهما من كبار أصحاب علي وعبدالله Bهما وفتواهما في ذلك على موافقة فتوى علي وعبدالله رضي الله عهما حجة أيضا وعن محمد بن رافع بن خديج قال : بعث رسول الله A رجلا إلى قوم يطمس عليهم نخلا فجاء أرباب النخيل فقالوا : يا رسول الله إن فلانا قد طمس علينا نخلنا فقال E : قد بعثت رجلا في نفسي أمينا فإن أحببتم أن تتخذوا نصيبكم بما طمس وإلا أخذنا وأعطيناكم نصيبكم فقالوا : هذا الحق وبالحق قامت السموات والأرض والمراد بالطمس المذكور في أول الحديث الحزر والمذكور ثانيا الظلم فالطمس هو الاستئصال ومنه يقال عين مطموسة قال الله تعالى : { فطمسنا أعينهم } وكان الحديث في ابن رواحة Bه في أهل خيبر وإن لم يفسره في هذه الرواية وقول رسول الله A : ( بعثت رجلا في نفسي أمينا ) في معنى الرد لتعنتهم عليه وهكذا ينبغي للإمام أن يختار لعمله من هو أمين عنده ثم يقبل قوله فيما يخبر به ولا يرده لطعن الطاعنين فالقائل بحق لا بد أن يطعن فيه بعض الناس فالناس أطوار وقليل منهم الشكور وقد تحقق تعنتهم لما خيرهم رسول الله A فقالوا : هذا الحق وبالحق قامت السموات والأرض وبيانه في قوله .
تعالى : { ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض } . وعن الضحاك Bه أن عمر Bه كان يكري الأرض الجرز بالثلث والربع وكان لا يرى بذلك بأسا والمراد به الأرض البيضاء التي تصلح للزراعة قال الله تعالى : { أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز } وعمر Bه كان ممن يرى جواز المزارعة وقد قال رسول الله A : ( أينما دار عمر فالحق معه ) Bه فهو حجة لمن يجوزها . وعن ابن عمر Bهما أنه قال لرافع بن خديج : ما حديث بلغني عن عمومتك في كراء المزارع ؟ فقال : دخل عمومتي على رسول الله A ثم خرجوا إلينا فأخبرونا أن رسول الله A نهى عن كراء المزارع فقال ابن عمر Bه : قد كنت أعلم أنا كنا نكري الأرض على عهد رسول الله A على أن لرب الأرض ماء في الربيع الساقي الذي يتفجر منه الماء وطائفة من الدين قال : لا أدري كم هو قال محمد C : وهذا عندنا هو الذي نهى عنه رسول الله A من كراء المزارع أنهم كانوا يكرونها بشيء لا يدرون كم هو ولا ما يخرج وفيه دليل أن النهي العام يجوز أن يقيد بالسبب الخاص إذا علم ذلك فقد قيد ابن عمر Bه النهي المطلق بما عرف من السبب والخصوصية وهو تأويل النهي عند من أجاز المزارعة قال : المزارعة بهذه الصفة لا تجوز لأنها تؤدي إلى قطع الشركة في الخارج مع حصولها فمن الجائز أن يحصل الخارج في الجانب الذي شرط لأحدهما دون الجانب الآخر والربيع الساقي الماء وهو ماء السيل ينحدر من الموضع المرتفع فيجتمع في موضع ثم يسقى منه الأرض ولكن أبو حنيفة C أخذ بعموم النهي بحديثين رويا في الباب عن رافع بن خديج Bه أحدهما أن النبي A مر بحائط فأعجبه فقال : ( لمن هذا ) ؟ فقال رافع Bه : لي استأجرته فقال E : ( لا تستأجره بشيء منه ) وهذا الحديث يمنع حمله على هذا التأويل والثاني ما روي عن رافع بن خديج Bه أن النبي A نهى عن كراء المزارع فقلت : إنا نكريها بما على الربيع الساقي فقال : لا فقلت : إنا نكريها بالتبن فقال : لا فقلت : إنا نكريها بالثلث والربع فقال عليه السلام : لا أزرعها أو امنحها أخاك ) وهذا إن ثبت فهو نص وكأن هذه الزيادة لم تثبت عند من يرى جوازها وإنما الثابت القدر الذي رواه محمد C عن رافع بن خديح Bه أن أسد بن ظهير جاء ذات يوم إلى قومه فقال : يا بني خارجة قد دخلت عليكم اليوم مصيبة قالوا : ما هي ؟ قال : نهى رسول الله A عن كراء الأرض قلنا : يا رسول الله إنا نكريها بما يكون على الربيع الساقي من الأرض فقال عليه السلام : ( لا أزرعها أو امنحها أخاك ) وإنما سمى ذلك مصيبة لهم لأن اكتسابهم كان بطريق المزارعة وكانوا قد تعارفوا ذلك وكان يشق عليهم تركها فلو كان المراد التأويل الذي أشار إليه في الحديث الأول لم يكن في ذلك كبير مصيبة لتمكنهم من تحصيل المقصود بدفع الأرض مزارعة بجزء شائع من الخارج فهو دليل لأبي حنيفة C وظاهر قوله E : ازرعها أو امنحها أخاك يدل على سد باب المزارعة عليهم بالنهي مطلقا وبه يستدل من يقول من المتعسفة أنه لا يجوز استئجار الأرض بالذهب والفضة لمقصود الزراعة ولكن ما روينا من حديث رافع بن خديج Bه وهو قوله : لي استأجرته دليل على جواز ذلك وقد ذكر بعد هذا آثارا تدل على جوازه والمراد ههنا الانتداب إلى ما هو من مكارم الأخلاق بأن يمنح الأرض غيره إذا استغنى عن زراعتها بنفسه ولا يأخذ منه أجرا على ذلك وعن يعلى بن أمية وكان عاملا لعمر Bه على نجران فكتب إليه يذكر له أرض نجران فكتب إليه عمر Bه ما كان من أرض بيضاء يسقيها السماء أو تسقى سحا فادفعها إليهم لهم الثلث ولنا الثلثان وما كان من أرض تسقى بالغروب فادفعها إليهم لهم الثلثان ولنا الثلث وما كان من كرم يسقيه السماء أو يسقى سحا فادفعه إليهم لهم الثلث ولنا الثلثان وما كان يسقى بالغروب فادفعه إليهم لهم الثلثان ولنا الثلث والمراد بالأراضي التي هي لبيت المال حق عامة المسلمين أنه يدفعها إليهم مزارعة ( ألا ترى ) أنه فاوت في نصيبهم بحسب تفاوت عملهم بين ما تسقيها السماء أو تسقى بالغروب وهي الدوالي فهو دليل لمن يجوز المزارعة . وعن عمرو بن دينار قال : قلت لطاوس : يا أبا عبدالرحمن لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن رسول الله A نهى .
عنها فقال : أخبرني أعلمهم أن رسول الله A لم ينه عنها ولكنه قال : ( يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ من خرجا معلوما ) أو قال : خراجا معلوما وكل واحد من اللفظين لغة صحيحة والمراد بقوله أعلمهم معاذ Bه فكأنه أشار به إلى قول رسول الله A : ( أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ) أو قال ذلك لأنه أخذ العلم منه وهكذا ينبغي لكل متعلم أن يعتقد في معلمه أنه أعلم أقرانه ليبارك له فيما أخذ منه ثم قد دعاه عمرو بن دينار إلى الأخذ بالاحتياط والتحرز عن موضع الشبهة والاختلاف فأبى ذلك لأنه كان يعتقد فيه الجواز كما تعلمه من أستاذه وفيه دليل أنه لا بأس للإنسان من مباشرة ما يعتقد جوازه وإن كان فيه اختلاف العلماء رحمهم الله ولا يكون ذلك منه تركا للاحتياط في الدين وقوله : يمنح أحدكم أخاه إشارة إلى الانتداب الذي بيناه في الحديث الأول . وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال : لم ينه رسول الله A عنها حتى تظالموا كان الرجل يكري أرضه ويشترط ما يسقيه الربيع والنطف فلما تظالموا نهى عنها والنطف جوانب الأرض فهذا إشارة إلى التأويل الذي ذكره محمد C وأن النهي كان بناء على تلك الخصومة فكان تقييدا بها . وعن ابن عمر Bه قال : كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى زعم رافع بن خديج أن رسول الله A نهى عنها فتركنا من أجل قوله يعني من أجل روايته وابن عمر كان معروفا بالزهد والفقه بين الصحابة Bهم وأشار بهذا إلى أنه يعتقد في المزارعة الجواز ولكنه تركها لحيثية مطلق النهي المروي عن رسول الله A وكم من حلال يتركه المرء على طريق الزهد وإن كان يعتقد الجواز على ما جاء في الحديث : ( لا يبلغ العبد محض الإيمان حتى يدع تسعة أعشار الحلال مخافة الحرام ) وعن ابن عمر قال : أكثر رافع Bه على نفسه ليكريها كراء الإبل معناه شدد الأمر على نفسه بروايته النهي مطلقا من غير رجوعه إلى سبب النهي ولأجل روايته يترك المزارعة ويكري الأرض بالذهب والفضة كراء الإبل فهو دليلنا على جواز الإجارة في الأراضي لمقصود الزراعة . وعن ابن عمر Bهما أنه كان إذا أكرى الأرض اشترط على صاحبها أن لا يدخلها كلبا ولا يعذرها وهذا من المتقرر الذي اختاره عمر Bه ولسنا نأخذ به فلا بأس بإدخال الكلب الأرض لحفظ الزرع . ( ألا ترى ) أن الحديث جاء أن رسول الله A رخص في ثمن الكلب للصيد والحرث والماشية وقوله : ولا يعذرها أي لا يلقي فيها العذرة وهو ما ينفصل من بني آدم وقد كان بين الصحابة خلاف في جواز استعمال ذلك في الأرض فابن عمر Bه كان لا يجوز ذلك وكان ابن عباس Bهما كان ينهى عن إلقاء العذرة في الأرض . وعن سعد Bه أنه كان يجوز ذلك وهكذا روي عن أبي هريرة Bه حتى كان يباشر ذلك بنفسه فعاتبه إنسان على ذلك فجعل يقول : مكيل بر بمكيل بر وعن أبي حنيفة فيه روايتان في إحدى الروايتين يجوز إلقاؤها في الأرض إذا كان غير مخلوط بالتراب وفي الرواية الأخرى لا يجو ز ذلك إلا مخلوطا وهو الظاهر من المذهب إذا صار مغلوبا بالتراب فحينئذ يجوز إلقاؤها في الأرض ويجوز بيعها لأن المغلوب في حكم المستهلك فأما إذا كانت غير مخلوطة بالتراب فلا يجوز بيعها ولا استعمالها في الأرض لنجاسة عينها بمنزلة الخمر وكانت هذه الحرمة لاحترام بني آدم فبيع السرقين وإلقاؤه في الأرض جائز ولكن لاحترام بني آدم لا يجوز ذلك في الرجيع وهو كالشعر فإن شعر الآدمي لا ينتفع به بعد ما بان عنه بخلاف شعر سائر الحيوانات وصوفها وعلى الرواية الأخرى عن أبي حنيفة إذا ألقاها في الأرض وخلطها بالأرض وصارت مستهلكة فيها يجوز استعمالها كذلك ولكن لا يجوز بيعها غير مخلوطة بالتراب . وعن خالد الحذاء قال : كنت عند مجاهد فذكر حديث رافع بن خديج Bه في كراء الأرض فرفع طاوس يده فضرب صدره ثم قال : قدم علينا معاذ Bه اليمن وكان يعطي الأرض على الثلث والربع فنحن نعمل به إلى اليوم ومعنى ما قاله طاوس أن معاذا Bه كان أعلمهم بالحلال والحرام وما كان يخفى عليه النهي الذي رواه رافع بن خديج وقد كان يباشر المزارعة بالثلث والربع فنحن نتبرم في ذلك ونحمل النهي على ما حمله معاذ Bه فقد كان دعا له رسول الله A وحمد الله تعالى لما وفقه لما يرضى به رسول الله A . وعن كليب بن وائل قال : قلت لابن عمر رضي الله .
عنهما : رجل له أرض وماء وليس له بذر ولا بقر أعطاني أرضه بالنصف فزرعتها ببذري وبقري ثم قاسمته فقال حسن : وفيه منه دليل على أن العالم يفتي بما يعتقد فيه الجواز وإن كان لا يباشره فقد روينا أن ابن عمر Bهما ترك المزارعة لأجل النهي ثم أفتى بحسنها وجوازها للسائل . وعن جابر Bه قال : دخل رسول الله A على أم مبشر فقال : يا أم مبشر من غرس هذا النخل مسلم أو كافر ؟ قالت : بل مسلم قال عليه السلاة والسلام : ( لا يغرس المسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا سبع ولا طير إلا كانت له صدقة يوم القيامة ) وفي رواية : ( وما أكلت العافية منها فهي له صدقة ) يعني الطيور الخارجة عن أوكارها الطالبة لأرزاقها وفيه دليل أن المسلم مندوب إلى الاكتساب بطريق الزراعة والغراسة ولهذا قدم بعض مشايخنا رحمهم الله الزراعة على التجارة لأنها أعم نفعا وأكثر صدقة وقد باشرها رسول الله A على ما روينا أنه ازدرع بالجرف وفي الحديث رد على من يكره من المتعسفة الغرس والبناء وقالوا : إنه يركن به إلى الدنيا وينتقص بقدره من رغبته في الآخرة والآخرة خير لمن اتقى وهذا غلط ظنوه فإنه يتوصل بهذا الاكتساب إلى الثواب في الآخرة وهو معنى قوله E : ( نعم مطية المؤمن الدنيا إلى الآخرة الغرس والبناء ) وإن كان حسنا من كل واحد ولكن معنى القربة فيه إذا باشره المسلم دون الكافر فإن الكافر ليس من أهل القربة وهو مأمور بتقديم الإسلام على الاشتغال بالغرس ولكن قد ورد أثر عن رسول الله A فيما يأثر عن ربه D حيث قال عمرو ابلادي فعاش فيها عبادي فلهذا قلنا هذا الفعل حسن من كل أحد . وعن ابن المسيب Bه أنه كان لا يرى بأسا بكراء الأرض البيضاء بذهب وفضة وعن جبير أنه كان لا يرى بأسا بإجارة الأرض بدراهم أو بطعام مسمى وقال : هل ذلك إلا مثل دار أو بيت وهو حجة على مالك C فإنه لا يجوز إجارة الأرض بالطعام لظاهر قوله E : ( لا يستأجر بشيء منه ) ولكنا نقول الأرض غير منتفع بها كالدار والبيت وكل ما يصلح ثمنا في البيع يصلح أجرة في الإجارة وتأويل النهي الاستئجار بأجرة مجهولة معدومة هي على خطر الوجود كما يكون في المزارعة وهذا ينعدم في الاستئجار بطعام مسمى وربما يكون في هذا نوع رفق لأن من يستأجر الأرض للزراعة فأداء الطعام أجرة أيسر عليه من أداء الدراهم لقلة النقود في أيدي الدهاقين . وعن رافع بن خديج Bه قال : نهى رسول الله A عن المحاقلة والمزابنة وقال : ( إنما يزرع ثلاثة رجل له أرض فهو يزرعها أو رجل منح أرضا فهو يزرع ما منح أو رجل استكرى أرضا بذهب أو فضة ) . والمزابنة بيع التمر على رؤوس النخل بتمر مجدود على الأرض خرصا فالنهي عنها حجة لنا في إفساد ذلك العقد . والمحاقلة قيل بيع الحنطة في سنبلها بحنطة والعرب تقول الحقلة تنبت الحقلة أي الحنطة تنبت السنبلة وقيل : المحاقلة المزارعة وهذا أظهر فقد فسره E بقوله : إنما يزرع ثلاثة فهو دليل لأبي حنيفة على أن الانتفاع بالأرض للزراعة مقصور على هذه الطرق الثلاثة وأن المزارعة بالربع والثلث لا تكون صحيحة لأن كلمة إنما لتقرير الحكم في المذكور ونفيه عما عداه . وعن ابن عباس Bهما قال : إن أمثل ما أنتم صانعون أن يستكري أحدكم الأرض البيضاء بذهب أو فضة عاما بعام يعني أبعدها عن المنازعة والجهالة واختلاف العلماء رحمهم الله فإن الأمثل ما يكون أقرب إلى الصواب والصحة وذلك فيما يكون أبعد عن شبهة الاختلاف . وعن مجاهد قال : اشترك أربعة نفر على عهد رسول الله A فقال أحدهم : من عندي البذر وقال الآخر : من عندي العمل وقال الآخر : من عندي الفدان وقال الآخر : من عندي الأرض فقضى في ذلك رسول الله A أن لصاحب الفدان أجرا مسمى وجعل لصاحب العمل درهما كل يوم وألحق الزرع كله لصاحب البذر وألغى الأرض وبهذا يأخذ من يجوز المزارعة فيقول : المزارعة بهذه الصفة فاسدة لما فيها من اشتراط الفدان وهي البقر وآلات الزراعة على أحدهم مقصودا به وبما فيها من دفع البذر مزارعة على الانفراد وكل واحد من هذين مفسد للعقد ثم في المزارعة الفاسدة الخارج كله لصاحب البذر لأنه بما بذره ( ألا ترى ) أن النبي A ألحقه بصاحب البذر وألغى الأرض يعني لم يجعل لصاحب الأرض من الخارج شيئا إلا أنه يستوجب على صاحب البذر أجر مثل أرضه بل يستوجب .
ذلك عليه كصاحب الفدان وقد أعطاه أجرا مسمى والمراد أجر المثل وصاحب العمل فقد أعطاه درهما كل يوم وتأويله أن ذلك كان أجر مثله في عمله وكما أنه سلم لصاحب البذر منفعة الفدان والعامل بحكم عقد فاسد فقد سلم له منفعة الأرض بعقد فاسد فيستوجب أجر المثل وبهذا تبين أن المراد بالإلغاء أنه لم يجعل لصاحب الأرض شيئا من الخارج فكان الطحاوي لا يصحح هذا الحديث ويقول الخارج لصاحب الأرض أو رد ذلك في المشكل وقال : البذر يصير مستهلكا لأن النبات يحصل بقوة الأرض فيكون النابت لصاحب الأرض وجعل الأرض كالأم وفي الحيوانات الولد يكون مملوكا لصاحب الأم لا لصاحب الفحل ولكن هذا وهم منه والحديث صحيح وكل قياس بمقابلته متروك ثم في الحيوانات توجد الحضانة من الأم لماء الفحل في رحمها وفي حجرها بلبنها نموه بعد الانفصال فلهذا جعلت تابعة للأم في الملك وذلك لا يوجد في الأرض ثم الخارج نماء البذر . ( ألا ترى ) أنه يكون من جنس البذر وقوة الأرض ويكون بصفة واحدة ثم جنس الخارج يختلف باختلاف جنس البذر فعرفنا أنه يكون نماء البذر فيكون لصاحب البذر وهذا هو الحكم في كل مزارعة فاسدة أن للعامل أجر مثل عمله إن عمل بنفسه أو بأجرائه أو بغلمانه أو بقوم استعان بهم بغير أجر ويكون الخارج لصاحب البذر في هذه المسألة بعينها قول جميع المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله . أما عند أبي حنيفة C فلأن المزارعة فاسدة على كل حال وعندهما المزارعة فاسدة هنا كما بينا ثم صاحب البذر يؤمر فيما بينه وبين ربه D أن ينظر إلى الخارج فيدفع فيه مثل ما بذر ومقدار ما غرم فيه من الأجر لصاحب الأرض ولصاحب العمل ولصاحب البقر في