( قال C ) ( ولا يجوز الكفالة بشجة عمد فيها قصاص ولا بدم عمد فيه قصاص حتى لا يؤاخذ الكفيل بشيء من القصاص ولا من الأرش ) لأن الكفالة إنما تصح بمضمون تجري النيابة في إيفائه والقصاص عقوبة لا تجري النيابة في إيفائها فلا يصح التزامها بالكفالة والأرش لم يكن واجبا على الأصيل بالفعل الذي هو موجب للقصاص والكفيل لم يكفل به أيضا .
وكذلك الكفالة بحد القذف باطلة لأنه عقوبة لا تجري النيابة في إيفائها ولأن المغلب فيه حق الله تعالى فيكون على قياس سائر الحدود .
وكذلك لا تجوز الكفالة بشيء من الأمانات لأنها غير مضمونة على الأصيل ولا هو مطالب بإيفائها من عنده وإنما يلتزم الكفيل المطالبة بما هو مضمون الإيفاء على الأصيل فإذا استهلكها بعد ذلك من هي في يده أو خالف فيها لم يلزم الكفيل ضمانها لأن أصل الكفالة لم يصح والضمان إنما لزم الأصيل بسبب حادث بعد الكفالة وهو ما أضاف الكفالة إلى ذلك السبب .
وكذلك في القصاص لو صالح الطالب المطلوب على مال لم يلزم الكفيل من ذلك المال شيء لأنه وجب بعقد بعد الكفالة والكفالة ما أضيفت إليه وكما لا تصح الكفالة بهذه الأشياء فكذلك الرهن لأن جواز الرهن يختص بما يمكن استيفاؤه من الرهن فإن موجبه ثبوت يد الاستيفاء .
وكذلك إن كان الغريمان مقرين بالمال لأن حق الطالب عليهما ثابت بإقرارهما فشهادة ابني الطالب على هذا لا تكون لأبيهما وإنما تكون لأحدهما على الآخر ولو شهد ابنا أحدهما أن الأصل على أبيه والآخر كفيل عن أبيه جاز لأنهما يشهدان على أبيهما .
وكذلك إن كان الغريمان مقرين بالمال لأن حق الطالب عليهما ثابت بإقرارهما فشهادة ابني الطالب على هذا لا تكون لأبيهما وإنما تكون لأحدهما على الآخر ولو شهد ابنا أحدهما أن الأصل على أبيه والآخر كفيل عن أبيه جاز لأنهما يشهدان على أبيهما .
ولو شهدا أن الأصل على الآخر وأن أباهما كفيل به عنه لم تجز شهادتهما لأنهما يدفعان بهذه الشهادة عن أبيهما مغرما ويجران إليه المنفعة فكانا متهمين فيه والله تعالى أعلم بالصواب .
وكذلك إن كان الغريمان مقرين بالمال لأن حق الطالب عليهما ثابت بإقرارهما فشهادة ابني الطالب على هذا لا تكون لأبيهما وإنما تكون لأحدهما على الآخر ولو شهد ابنا أحدهما أن الأصل على أبيه والآخر كفيل عن أبيه جاز لأنهما يشهدان على أبيهما .
وكذلك الكفالة بالرهن عن المرتهن الرهن باطل لأن عين الرهن أمانة في يد المرتهن والكفالة بتسليم الأمانة لا تصح كالوديعة والعارية والمضاربة وكذلك الكفالة للمولى مملوكة وهو في بيت مولاه أو قد أبق عنه باطلة لأنه غير مضمون للمولى على العبد فإن المولى لا يستوجب على عبده حقا مضمونا وهذه الكفالة دون الكفالة ببدل الكتابة للمولى عن مكاتبه وذلك باطل فهذا أولى ولو دفع ثوبا إلى قصار ليقصره وضمنه رجل فضمانه باطل في قول أبي حنيفة - C - وكذلك من يشبهه من الصناع لأن العين عنده أمانة في يد الأجير المشترك ولهذا لو هلك من غير صنعه لم يضمن .
وأما في قول من يضمن الأجير المشترك ما هلك عنده بسبب يمكن التحرز عنه وهو قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - فالكفيل ضامن لأن العين عندهما مضمونة في يد القابض بنفسها وهو بمنزلة المغصوب في يد الغاصب فتصح الكفالة به .
ولو كفل بعبد رجل إن هو أبق من مولاه فهو باطل لأنه ما أضاف الكفالة إلى سبب وجوب الضمان فالإباق ليس بسبب يوجب ضمانا للمولى على عبده .
وكذلك لو كفل بدابته إن انفلتت منه أو بشيء من ماله إن تلف لأن الكفيل يلتزم مطالبة هي على الأصيل وذلك ينعدم هنا .
ولو استودع رجلا وديعة على أن هذا كفيل بها إن أكلها أو جحدها فهو جائز على ما شرط لأنه أضاف الكفالة إلى سبب وجوب الضمان والمتعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز .
وكذلك لو قال : أنا كفيل بما صالحته عليه من مال من القصاص الذي تملك عليه في نفس أو من مال لك عليه لأنه أضاف الكفالة بالمال إلى سبب توجه المطالبة بها .
وكذلك لو قال إن قتلك فلان خطأ فأنا ضامن لديتك فقتله فلان خطأ فهو ضامن أرشه لأنه أضاف الكفالة بالأرش إلى سبب موجب له وهو مما تجري النيابة في إيفائه ولو قال : إن أكلك سبع أو ذئب فأنا ضامن لديتك فهذا باطل لأنه ما أضاف الضمان إلى سبب موجب له ولو قال : إن غصبك إنسان فأنا ضامن له فغصبه إنسان شيئا فلا ضمان عليه لأنه عم معناه أن المكفول عنه مجهول جهالة متفاحشة وذلك يمنع انعقاد الكفالة مضافا كان أو مجردا ولو خص إنسانا أو قوما لزمه ذلك لأن المكفول عنه معلوم .
ولو دفع ثوبا إلى قصار يقصره بأجرة وكفل به رجل إن أفسده كان جائزا لأن الأجير المشترك ضامن لما جنت يده فقد أضاف الكفالة إلى سبب موجب الضمان فصحت الكفالة لهذا .
ولو ادعى قبل رجل قصاصا في نفس أو دونها أو حدا في قذف وسأل القاضي أن يأخذ له كفيلا بنفسه وقال : بينتي حاضرة لم يجبه القاضي إلى ذلك في قول أبي حنيفة - C .
وفي قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - يجيبه إلى ذلك لأن تسليم النفس مستحق على الأصيل الطالب في هذا الموضع فتصح الكفالة به كما في دعوى المال وهذا لأن تسليم النفس تجري فيه النيابة فالكفيل إنما يلتزم ما يقدر على إيفائه .
وأبو حنيفة - C - يقول : تسليم النفس هنا لمقصود لا تصح الكفالة به وهو الحد والقصاص فلا يجبر على إعطاء الكفيل بالنفس فيهما بخلاف المال وهذا لأن العقوبات تدرأ بالشبهات فلا ينبغي للقاضي أن يسلك فيها طريق الاحتياط بالإجبار على إعطاء الكفيل بالنفس لأن ذلك يرجع إلى الاستيثاق وهو ضد موضوع العقوبات ولكن السبيل أن يقول له ألزمه ما بينك وبين قيامي فإن أحضر البينة قبل أن يقوم القاضي وإلا خلي سبيله ولو أقام شاهدا واحدا لا يعرفه القاضي فإن أقام شاهدين أو واحدا عدلا يعرفه القاضي فإن القاضي يحبسه في السجن حتى يسأل الشهود لأنه صار متهما بارتكاب الحرام الموجب للعقوبة حين تم أحد شطري الشهادة والحبس مشروع في حق مثله .
( ألا ترى ) أن الداعر يحبس ولا يكفل حتى يأتي بشاهد آخر لأن الكفيل للاستيثاق بالحدود والقصاص وذلك غير مشروع فأما الحبس للتعزير فهو مشروع - في حق من هو متهم بارتكاب الحرام وعلى قولهما لا يحبسه قبل تمام الحجة الموجبة للقضاء ولكنه يكفله ثلاثة أيام كما في دعوى المال .
ولو ادعى قبل رجل مالا بسرقة منه وقال بينتي حاضرة فإنه يؤخذ له منه كفيل بنفسه ثلاثة أيام لأن المدعي مال والاستيثاق بالكفالة فيه مشروع فإن قال قبضت منه السرقة لكني أريد أن أقيم عليه الحد لا يؤخذ منه كفيل لأن الحد يجب لله تعالى وهو ينبني على البرء والإسقاط فلا يستوثق بأخذ الكفيل بالنفس فيه وكذلك حد الزنا فإن الطلب المشهود عليه من الذي شهد عليه بالزنا حد القذف فقال الشاهد عندي بذلك أربعة شهداء أجل فيه إلى قيام القاضي ليظهر عجزه بهذا الإمهال عن إقامة أربعة من الشهداء فإن لم يحضرهم أقام عليه حد القذف لأن السبب الموجب للحد قد تقرر وهو القذف مع العجز عن إقامة أربعة من الشهداء ولم يحل عنه ولا يكفل لأن ذلك يرجع إلى الاستيثاق ولكن الطالب يلزمه إلى قيام القاضي مراعاة لحقه حتى لا يهرب .
فإن قال الشاهدان المشهود عليه عبد فالقول قوله لأن ثبوت حريته بطريق الظاهر وبمثله يدفع الاستحقاق ولا يستحق الحد .
وإن طلب المقذوف من القاضي أن يأخذ له منه كفيلا حتى يحضر البينة أنه حر لم يؤخذ لأن هذا استيثاق لإقامة الحد ولكن القاذف يحبس على وجه له فقد استوجب ذلك بإشاعة الفاحشة حرا كان المقذوف أو عبدا ويؤجل المقذوف أياما بمنزلة ما لو أقام رجل عليه البينة بالرق فزعم أن له بينة حاضرة على الحرية وكما يؤجل هناك أياما ليتمكن من إثبات حريته بالبينة فكذلك هنا .
وإن أقام رب السرقة شاهدين على السارق وعلى السرقة وهي بعينها في يديه لم يؤخذ منه كفيل ولكنه يحبس وتوضع السرقة على يدي عدل حتى يزكي الشهود لأن في الاشتغال بأخذ الكفيل بنفسه أو بالعين المسروقة استيثاقا لإقامة الحدود ذلك غير مشروع ولكنه يحبس على وجه التعزير وتوضع السرقة على يدي عدل لأن السارق غير مأمون على العين المسروقة والمدعى عليه المال إذا كان يخاف منه أن يتلف المال فللقاضي أن يضعه على يدي عدل بعد إقامة البينة حتى يزكي الشهود وإخراج العين فيه نوع تعزير له .
وإذا ادعى عبد على حر قذفا وأراد أن يعزر له أو ادعى رجل قبل رجل مسألة فيها تعزير وقال : بينتي حاضرة أخذ له منه كفيلا بنفسه ثلاثة أيام لأنه ليس بحد . وإنما هو تعزير وهو من حقوق العباد حتى يجوز العفو عنه وهو مما لا يندرئ بالشبهات التي هي في معنى البدل بمنزلة الأموال .
ولو ادعت امرأة على زوجها أنه قذفها والزوج حر أو عبد لم يؤخذ منه كفيل في قول أبي حنيفة - C - لأن اللعان في قذف الزوج زوجته بمنزلة الحد في قذف الأجنبي وقد بينا الخلاف هناك بين أبي حنيفة - وصاحبيه - رحمهم الله - فكذلك هنا .
ولو ادعى الولد قبل الوالد قذفا لم يؤخذ منه كفيل ولم يترك أن يلزمه لأن الابن لا يستوجب على والده شيئا من نوع العقوبة تعزيرا كان أو حدا أو قصاصا .
وكذلك لا يستوجب عليه الحبس في دين له واجب عليه وكذلك لا يستوجب الملازمة في دعواه قبله .
وكذلك لو ادعاه قبل والدته أو جده أو جدته .
وكذلك لو ادعى عبد أن مولاه قذف أمه وهي حرة مسلمة لأن حقوق الملك في إخراج المملوك من أن يكون أهلا لاستيجاب العقوبة على مالكه بمنزلة الولادة ولو ادعى حر قبل عبد قذفا فأراد أن يأخذ منه كفيلا بنفسه أو نفس مولاه وخاف أن لا يقام عليه الحد إلا بمحضر من مولاه لم يؤخذ له الكفيل من واحد منهما ولكنه يؤمر بتلازمهما إلى أن يقوم القاضي في قول أبي حنيفة - C .
ولو أقام البينة عليه بذلك بمحضر من مولاه فإن العبد يحبس له ويؤخذ له من مولاه كفيل في قول أبي حنيفة - C .
وفي قول أبي يوسف - C - لا يحبس العبد ولكن يؤخذ له كفيل بنفس العبد خاصة دون نفس المولى .
وفي قول محمد - C - يؤخذ له الكفيل بنفس العبد ونفس مولاه والذي قال في الكتاب أن قول محمد - C - مثل قول أبي حنيفة - C - إنما يريد به أخذ الكفيل من المولى فأما حبس العبد فقوله كقول أبي يوسف - C - وهو بناء على مسئلتين .
إحداهما ما بينا من أخذ الكفيل بنفس المدعي قبله حد القذف .
والأخرى ما تقدم بيانه في الآبق أن حد القذف بالبينة لا يقام على العبد إلا بمحضر من مولاه في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله .
وفي قول أبي يوسف - C - يقام عليه .
وإن لم يحضر المولى فقال أبو يوسف - C - لا يأخذ الكفيلين بنفس المولى لأنه لا حاجة إلى حضوره في إقامته الحد ويؤخذ الكفيل بنفس العبد ولا يحبس قبل إقامة البينة ولا بعدها قبل ظهور عدالة الشهود لأن هذا بمنزلة المال عنده في حكم الكفالة بالنفس .
وقال محمد - C - : كذلك إلا أنه قال يؤخذ الكفيل بنفس المولى لأنه لا بد من حضرة المولى لإقامة الحد على العبد عنده .
وعند أبي حنيفة - C - في دعوى حد القذف لا يجبر على إعطاء الكفيل بالنفس . قبل إقامة البينة ولكن يصار فيه إلى الملازمة ولا بد من حضرة المولى عنده لإقامة البينة فيكون للمدعي أن يلازمهما وبعد إقامة البينة يحبس العبد تعزيرا كما يحبس الحر إذا قامت البينة عليه بالقذف ويؤخذ من مولاه كفيل لأنه لا بد من حضرة المولى لإقامة الحد ولا سبيل إلى حبسه لأنه ما ارتكب حراما فيؤخذ منه كفيل نظرا للمدعي لأنه ليس في أخذ الكفيل من المولى هنا توثق بحد عليه إذ لا حد على المولى .
ولو ادعى رجل على رجل حدا في قذف فأقام شاهدين على شهادة شاهدين أو شاهدا وامرأتين لم يكفل ولم يحبس وكذلك هذا في القصاص لأنه لا مدخل لهذا النوع من الحجة في حد أو قصاص ولو كان هذا في سرقة أخذ منه كفيل بنفسه حتى يسأل عن الشهود لأن المال يثبت بهذه الحجة فإن زكوا قضى عليه بالمال وكذلك كل جراحة لا قصاص فيها لا في دعوى المال وبمثل هذه الشهادة يثبت المال .
فإذا ادعى رجل دم عمد على ثلاثة نفر فأقر اثنان منهم بذلك وشهدا على الثالث أنه قتل معهما عمدا فإنهما يحبسان فإقرارهما على أنفسهما بمباشرة السبب الموجب للعقوبة ولا يحبس الآخر بشهادتهما ولا يكفل لأن شهادتهما ليست بمقبولة على الثالث فإنهما فاسقان ولأنهما يشهدان بفعل كان مشتركا بينه وبينهما ولا شهادة لهما في مثله فإنما يبقى في حق الثالث مجرد دعوى المدعي وبه لا يثبت الحبس ولا التكفيل .
ولو كان أولياء الدم ثلاثة فادعى أحدهم على رجل وادعى الآخر على الشريك قتل العمد وكل واحد منهما يدعي بينة حاضرة لم يحبس أحد منهم ولكن يؤخذ من كل واحد منهم كفيل ثلاثة أيام لأنه لا قصاص في هذه الدعوى وإنما إنهاء المال بشيء واحد منهما على من بينته عليه في دعوى المال يكفل بالنفس ثلاثة أيام .
ولو ادعى رجل قبل رجل قطع يد عمدا ثم أبرأه وادعاه على آخر لم يكفل الثاني ولا تقبل بينة عليه لوجود التناقض منه في الدعوى فإن أقر الثاني بذلك قضى عليه لأنه مناقض صدق خصمه في ذلك إلا أنه لا يقضي عليه بالقصاص لأن ما تقدم من الدعوى منه على غيره يمنعه من استيفاء القصاص منه فيصير ذلك شبهة في حق القصاص دون المال وهذا مشكل .
فإن تعذر استيفاء القصاص لمعنى من جهة من له الحق وهو تناقضه في الدعوى وفي مثله لا يقضي بالدية كما لو قال : قتلت وليك عمدا فقال لا بل قتلته خطأ لا يقضي بالمال .
وكل ما لا قصاص فيه فهو بمنزلة الخطأ في حكم الكفالة حتى إذا ادعى على رجلين قطع يد عمدا أخذ له منهما الكفيل بالنفس لأن هذا غير موجب للقصاص وإنما الدعوى فيه دعوى المال .
ولو أقام شاهدين عدلين على قتل خطأ قضى له بالدية ولا حبس على القاتل في ذلك ولا كفالة لأن الخاطئ معذور والخطأ موضع رحمة من الشرع علينا فالخاطئ لا يستوجب التعزير إلا أن يكون داعرا فيحبس للدعارة لأن في حبس الداعر تسكين الفتنة .
ولو أن رجلا قطع يميني رجلين فاجتمعا وطلبا كفيلا بنفسه لا يؤخذ لهما منه كفيل بنفسه من قبل أن كل واحد منهما يدعي القصاص .
( ألا ترى ) أن أحدهما إذا أقام البينة قضى له بالقصاص وإذا أقاما جميعا البينة قضى لهما بالقصاص حتى إذا بادر أحدهما واستوفى كان مستوفيا لحقه إلا أنهما إذا استوفيا القصاص يقضي لهما حينئذ بأرش اليد وقضى بنصف طرفه حقا مستحقا عليه لكل واحد منهما .
وإذا ثبت أن دعوى كل واحد منهما دعوى القصاص لم يؤخذ الكفيل بنفسه في قول أبي حنيفة - C .
ولو ادعى رجل قبل رجل قطع يد عمدا ويد القاطع شلاء فقال المدعي أنا أختار الدية فخذ لي منه كفيلا بنفسه أخذ له الكفيل لأن باختياره يتعين حقه في المال وفي دعوى المال تجري الكفالة بالنفس .
وإذا ادعى رجل قبل رجل شتمة فاحشة وأقام عليه شاهدين بالشتمة لم يحبس المدعى عليه ولكن يؤخذ منه كفيل بنفسه حتى يسأل عن الشهود ولما بينا أن دعوى التعزير كدعوى المال وفي دعوى المال لا يحبس ما لم تظهر عدالة الشهود ثم الحبس نهاية العقوبة في هذه الدعوى .
( ألا ترى ) أن بعد عدالة الشهود لو رأى القاضي أن يحبسه أياما عقوبة ولا يعزر بالسوط كان له ذلك فلما كان الحبس له نهاية العقوبة هنا لا يمكن إقامتها قبل ظهور العدالة بخلاف القصاص والحدود وأشار في الحدود والقصاص إلى أن على قولهما بعد إقامة البينة قبل ظهور عدالة الشهود يحبس ولا يؤخذ الكفيل ولكن يبرأ الكفيل إن كان أخذه منه .
( تأويله ) بعد ظهور العدالة فأما قبل ذلك فلا يشتغل بحبسه عندهما على ما فسره في دعوى الحد على العبد .
وإن كان المدعى عليه الشتمة رجلا له مروءة وخطر استحسنت أن لا أحبسه ولا أعزه إذا كان ذلك أول مرة لأن إحضاره مجلس القاضي فيه نوع تعزير في حقه فيكتفي به في أول مرة ويؤخذ بما رواه الحسن - C - عن رسول الله - A - ( تجافوا عن ذوي المروءة إلا في الحد ) وإذا ادعى رجل قبل رجل شيئا يجب عليه فيه عقوبة فأخذ منه كفيلا بنفسه ثلاثة أيام فهرب المكفول به وقدم الطالب الكفيل إلى القاضي فإنه يحبسه حتى يجيء به لأنه التزم تسليم نفسه فيحبس لإيفاء ما التزمه ولو ادعى قبل رجل أنه ضربه وخنقه وشتمه وأن له بينة حاضرة أخذت له منه كفيلا ثلاثة أيام فإن أقام على ذلك شاهدين أو شاهدا وامرأتين أو شاهدين على شهادة شاهدين عزر به لأن التعزير بمنزلة المال يثبت مع الشبهات وقد بينا في كتاب الحدود أنه لا يبلغ بالتعزير أربعين سوطا في قول أبي حنيفة ومحمد - رحمهما الله - وفي قول أبي يوسف - C - يبلغ بالتعزير خمسة وسبعين سوطا إذا كان في أمر متفاحش وتعزير العبد في مثل ذلك تسعة وثلاثون سوطا عنده ذكر هذه الزيادة هنا لأن الأربعين حد في حق العبد وقد قال A : ( من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين ) .
ولو ادعت امرأة قبل زوجها أنه ضربها ضربا فاحشا وادعت بينة حاضرة أو ادعى رجل ذلك قبل ولده الكبير . أو قبل أخيه يؤخذ منه كفيل ثلاثة أيام وكذلك الذمي يدعي الشتمة قبل المسلم أو الذمي أو العبد يدعيها قبل الحر لأن الدعوى في هذا كله دعوى التعزير والكفالة فيه مشروعة .
وإذا مات الرجل وعليه دين ولم يترك شيئا فكفل ابنه أجنبي للغريم بما له على الميت لم تجز الكفالة في قول أبي حنيفة - C .
وهي جائزة في قول أبي يوسف ومحمد والشافعي - رحمهم الله .
وإذا كان الميت ترك وفاء جازت الكفالة عندهم جميعا .
وإن ترك شيئا ليس فيه وفاء فإنه يلزم الكفيل بقدر ما ترك الميت في قوله وفي قولهما يلزمه جميع ما كفل به وحجتهم في ذلك ما روي أن النبي - A - ( أتي بجنازة رجل من الأنصار ليصلي عليه فقال A هل على صاحبكم دين ؟ فقالوا : نعم درهمان أو ديناران فقال صلوات الله عليه وسلامه : صلوا على صاحبكم ) فقال أبو قتادة هما علي يا رسول الله وفي رواية قال : ذلك علي - كرم الله وجهه - فصلى عليه رسول الله - A - ) فلو لم تصح الكفالة عن الميت المفلس لما صلى عليه رسول الله - A - بعد الكفالة .
وعن عبدالحميد بن أبي أمية عن رجل من الأنصار أنه قال لأصحابه : من استطاع منكم أن يموت وليس عليه دين فليفعل فإني شهدت رسول الله - A - ( وقد أتى بجنازة رجل من الأنصار فقال A هل على صاحبكم دين : فقالوا : نعم فقال صلوات الله عليه وسلامه : وما ينفعكم صلاتي عليه وهو في قبره مرتهن بدينه ثم قال A فمن ضمنه قمت فصليت عليه ) . فهذا تنصيص على تصحيح الضمان عن الميت المفلس والمعنى فيه أنه كفل بدين واجب فيصح كما في حال حياة المديون وهذا لأن الدين كان واجبا عليه في حال حياته فلا يسقط إلا بإيفاء أو إبراء أو انفساخ سبب الوجوب وبالموت لا يتحقق شيء من ذلك .
( ألا ترى ) أنه مؤاخذ به في الآخرة مطلوب به ولو تبرع إنسان بقضائه جاز التبرع إلا أنه تعذرت مطالبته به في الدنيا بموته وبهذا لا يخرج الحق من أن يكون مطلوبا في نفسه كما لو أفلس في حال الحياة وكالعبد إذا أقر على نفسه بدين ثم كفل عنه كفيل به صح وإن كان هو لا يطالبه في حال رقه لأن الحق مطلوب في نفسه وهذا لأن ذمته باقية بعد الموت حكما لأنها كرامة اختص بها الآدمي وبموته لا يخرج من أن يكون محترما مستحقا لكرامات بني آدم .
( ألا ترى ) أنه لو مات مليا بقي الدين ببقاء ذمته حكما لا للانتقال إلى المال وليس بمحل لوجوب الدين فيه وإنما هو محل القضاء الواجب منه ولو كان بالدين رهن بقي الرهن على حاله وإن كان مات عن إفلاس بأن كان الرهن مستعارا من إنسان وبقاء الرهن لا يكون إلا باعتبار بقاء الدين .
ولو قتل عمدا وهو مفلس فكفل به كفيل بالدين الذي عليه صح والقصاص الواجب ليس بمال ولو لم تكن الذمة باقية حكما لما صحت الكفالة هنا وهذا بخلاف دين الكتابة فالحق هناك غير مطلوب وكذلك الديون الواجبة لله تعالى فإنها غير مطلوبة في الحكم في الدنيا والكفالة تكون بالحق فيشترط كون الحق مطلوبا في نفسه على الإطلاق وهناك الحق مطلوب في نفسه وبموته لم يتغير الحكم فبقي مطلوبا وجه قول أبي حنيفة - C - : أن الحق قد توى وإنما تصح الكفالة بالقائم مثلا من الدين دون التاوي وبيان ذلك هو أنه لا يتصور قيام الحق بدون محله ومحل الدين الذمة وقد خرجت ذمته بموته من أن يكون محلا صالحا لوجوب الحق فيها فإن الذمة عبارة عن العهدة ومنه يقال : أهل الذمة وأصل ذلك من الميثاق المأخوذ على الذرية المأخوذة من ظهر آدم - صلوات الله عليه - قال تعالى : { وإذا أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم } ( الأعراف : 172 ) الآية وتمامه بالإلزام المذكور في قوله تعالى : { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } ( الإسراء ) 13 ) وذلك باعتبار صفة الحياة قبله فأما بالموت فخرج من أن يكون أهلا لالتزام شيء من الحقوق في أحكام الدنيا فعرفنا أنه لم يبق له ذمة صالحة تكون محلا للحق ولكنه في أحكام الآخرة معد للحياة فتبقى الذمة في أحكام الآخرة ولهذا كان مؤاخذا به وهو معد للحياة في الدنيا عادة فلا تبقى الذمة في أحكام الدنيا وباعتبار المطالبة في أحكام الآخرة لا يمكن تصحيح الكفالة كما في ديون الله جلت قدرته .
وكذلك لو قال : أنا كفيل بما صالحته عليه من مال من القصاص الذي تملك عليه في نفس أو من مال لك عليه لأنه أضاف الكفالة بالمال إلى سبب توجه المطالبة بها .
وكذلك لو قال : أنا كفيل بما صالحته عليه من مال من القصاص الذي تملك عليه في نفس أو من مال لك عليه لأنه أضاف الكفالة بالمال إلى سبب توجه المطالبة بها .
وكذلك لو قال إن قتلك فلان خطأ فأنا ضامن لديتك فقتله فلان خطأ فهو ضامن أرشه لأنه أضاف الكفالة بالأرش إلى سبب موجب له وهو مما تجري النيابة في إيفائه ولو قال : إن أكلك سبع أو ذئب فأنا ضامن لديتك فهذا باطل لأنه ما أضاف الضمان إلى سبب موجب له ولو قال : إن غصبك إنسان فأنا ضامن له فغصبه إنسان شيئا فلا ضمان عليه لأنه عم معناه أن المكفول عنه مجهول جهالة متفاحشة وذلك يمنع انعقاد الكفالة مضافا كان أو مجردا ولو خص إنسانا أو قوما لزمه ذلك لأن المكفول عنه معلوم .
وكذلك لو قال : أنا كفيل بما صالحته عليه من مال من القصاص الذي تملك عليه في نفس أو من مال لك عليه لأنه أضاف الكفالة بالمال إلى سبب توجه المطالبة بها .
والدليل عليه : أن الذمة لم تبق محلا لوجوب الحق فيها بعد الموت وكما يشترط المحل لابتداء الالتزام فكذلك يشترط المحل لبقاء الحق ولم يبق المحل فلا يبقى في أحكام الدنيا أيضا والكفيل إنما يلتزم المطالبة بما على الأصيل ولا يلتزم أصل الدين في ذمته ولم يبق في ذمة الأصيل شيء في أحكام الدنيا فلا تصح الكفالة وهذا الدين في حكم المطالبة دون دين الكتابة فالمكاتب يطالب بالمال وإن كان لا يحبس فيه ثم هناك الكفالة به لا تصح فهنا أولى بخلاف المفلس في حال الحياة فإن ذمته محل صالح لوجوب الحق فيها ابتداء فبقي الواجب وبخلاف العبد أيضا فإن له ذمة صالحة لوجوب الحق فيها وإن ضعفت ذمته بسبب الرق وبخلاف ما إذا مات مليا فالمال هناك خلف عن الذمة فيما هو المقصود وهو المطالبة والاستيفاء لأن الاستيفاء يكون من المال بجعل الأصل قائما حكما وهنا لم يبق حلف بعد موته مفلسا وتوهم أن يتبرع إنسان بماله فيقضي عنه الدين لا يجعل مال الغير خلفا عن ذمته قبل جعل صاحبه وبخلاف ما إذا كان بالدين كفيل لأن ذمة الكفيل هنا خلف عن ذمته وبعد صحة الكفالة قد يتحول الدين إلى ذمة الكفيل عند الضرورة وهو عند أداء الكفيل أو الهبة وقد تحققت الضرورة هنا فلهذا بقي الكفيل في الكفالة وكذلك الرهن خلف عن الذمة فيما هو المقصود وهو استيفاء الدين منه بقدر استيفائه من محل آخر .
وإذا قتل عمدا فقد قال بعض أصحابنا - رحمهم الله - لا تصح الكفالة عند أبي حنيفة - C - وبعد التسليم يقول القصاص الواجب بفرض أن يصير مالا بعفو بعض الشركاء أو تمكن الشبهة فتوهم توجه المطالبة في الدنيا بقضاء ذلك الدين يجعل الذمة باقية حكما فتصح الكفالة لهذا المعنى .
والحديث المروي في الباب يحتمل أن يكون ذلك من أبي قتادة أو علي - Bهما - إقرارا بكفالة سابقة فإن لفظ الإقرار والإنشاء في الكفالة سواء والعموم بحكاية الحال لا يثبت ويحتمل أن يكون وعدا منهما لا كفالة وقد كان رسول الله - A - يمتنع من الصلاة على الميت ليظهر طريق لقضاء ما عليه فلما ظهر الطريق لوعدهما صلى عليه لهذا .
( ألا ترى ) أنه ما روي ( أنه كان يقول لعلي - Bه - بعد ذلك ما فعل الديناران حتى قال يوما قضيتهما ) فقال A : ( الآن بردت عليه جلدته ) ولم يجبره على الأداء وبه يتبين أنه كان وعدا لا كفالة والحديث الآخر شاذ ويحتمل أن النبي - A - عرف أن لذلك الرجل مالا ولكنه ما كان ظاهرا عند الناس فلهذا ندبهم إلى الضمان عنه ليصلي عليه ثم هذا حكم منسوخ لاجماعنا على جواز الصلاة على المديون المفلس والاستدلال بالمنسوخ لا يقوى والله أعلم بالصواب