( قال C ) ( وإذا كان لرجل على رجل مال فضمنه له على إبراء الذي عليه الأصل فهو جائز والكفيل ضامن للمال ولا يأخذ الطالب المكفول عنه بشيء ) لأنهما أتيا بمعنى الحوالة وإن لم يصرحا بلفظها والألفاظ قوالب المعاني والمقصود هو المعنى دون اللفظ كأن العقد الذي جرى بينهما حوالة لتصريحهما . بموجب الحوالة كمن يقول لغيره ملكتك هذا الشيء بألف درهم فيكون بيعا وإن لم يصرح بلفظ البيع والكفالة والحوالة يتقاربان من حيث إن كل واحد منها إقراض للذمة والتزام على قصد التوثق فكما أنه لو شرط في الحوالة أن يطالب بالمال أيهما شاء كانت الكفالة فإذا شرط في الكفالة أن يكون الأصيل بريئا كانت الحوالة وقوله ضمنت وإلي وعلي بمنزلة قوله كفلت إذا شرط براءة الأصيل في ذلك كله كانت حوالة بناء على أصلنا . أن الحوالة توجب براءة المحيل وقد بينا هذه المسألة .
ولو ( توى ) المال على المحتال عليه عاد حق الطالب إلى المحيل وللتوى أسباب فمن ذلك أن يجحد المحتال عليه ويحلف على ذلك وليس للطالب بينة لأنه يتعذر على الطالب الوصول إلى حقه من جهة المحتال عليه على التأييد وهذا أبلغ أسباب ( التوى ) كالدرة الواقعة في البحر والعبد الآبق ونحو ذلك ومن ذلك أن يموت المحتال عليه مفلسا فيتحقق به التوى عندنا .
وعلى قول الشافعي - C - لا يعود المال إلى ذمة المحيل .
وعلى قول أبي يوسف ومحمد - رحمهما - الله - يقول : بأن الحوالة تبرئ المحيل براءة مطلقة فلا يعود المال إليه بحال كما لو بريء بالإبراء .
( وبيان الوصف ) : أنه لا يطالب بالمال ولا بشيء يشبهه وهذا موجب البراءة المطلقة وتقريره من وجهين : .
( أحدهما ) : أن الحوالة ليست بمعاوضة لأن معاوضة الذمة بالذمة والدين بالدين باطلة فإذا لم يكن ما وجب في ذمة المحتال عليه عوضا عما في ذمة المحيل لم يكن تعذر الوصول إليه مبنيا على حق الرجوع له على المحيل بل بالحوالة يصير كالقابض من المحيل والمقرض من المحتال عليه لأنه لا يتحقق إسقاط المال على المحيل وإيجابه على المحتال عليه معاوضة إلا بهذا الطريق .
أو يجعل ما في ذمة المحتال عليه كأنه عين ما كان في ذمة المحيل تحول من ذلك المحل إلى هذا المحل حكما هو قضية لفظة الحوالة وفوات الشيء من المحل الذي تحول إليه لا يكون سببا لعوده إلى المحل الأول بل فواته عن المحل الذي تحول إليه كفواته في المحل الأول وذلك يكون على الطالب لا غير وعند الحوالة المحتال له بالخيار بين أن يقبل فيثبت حقه في ذمة المحتال عليه وبين أن يأتي فيكون حقه في ذمة المحيل والمخير بين الشيئين إذا اختار أحدهما يتعين ذلك عليه وهو لا يعود إلى المحل الأول بعد ذلك قط كالغاصب الأول مع الثاني إذا اختار المغصوب منه تضمين أحدهما ثم توى عليه لم يرجع على الآخر بشيء والمولى إذا عتق عبده المديون واختار الغرماء استسعاء العبد ثم توى ذلك عليه لم يرجعوا على المولى بشيء من الضمان .
وحجتنا في ذلك : حديث عثمان Bه موقوفا عليه ومرفوعا في المحتال عليه يموت مفلسا . قال : ( يعود الدين إلى ذمة المحيل لأنه توى على مال امرئ مسلم ) والمعنى فيه أن هذه براءة بالنقل فإذا لم يسلم له حقه من المحيل الذي انتقل إليه يعود حقه إلى المحل الذي انتقل حقه عنه كما لو اشترى بالدين شيئا أو صالح من الدين على عين .
( وبيان الوصف ) : أن حق الطالب كان في ذمة المحيل فنقله إلى ذمة المحتال عليه بالحق الذي له كما له أن ينقله إلى العين بالشراء ثم هناك إذا هلكت العين قبل القبض عاد حقه في الدين كما كان فكذلك هنا وكما أن ذلك السبب محتمل الفسخ فهذا السبب محتمل للفسخ حتى لو تراضيا على فسخ الحوالة انفسخت .
( وتقريره ) : أن ما في ذمة المحتال عليه ليس بعوض كما كان في ذمة المحيل كما قاله الخصم ولا هو واجب بطريق الإقراض كما زعم هو لأن القبض يكون بالمال لا بالذمة والحوالة التزام في الذمة فلا يمكن أن يجعل به قابضا ولأنه يثبت في ذمة المحتال عليه على الوجه الذي كان في ذمة المحيل حتى لو كان بدل صرف أو سلم . لا يجوز الاستبدال به مع المحتال عليه كما لا يجوز مع المحيل ويبطل عقد الصرف والسلم بافتراق المتعاقدين قبل القبض من المحتال عليه .
ولو صار بالحوالة قابضا ثم مقرضا لا تثبت فيه هذه الأحكام ولا يمكن أن يجعل كأن عين ذلك المال تحولت من ذمة إلى ذمة لأن الشيء إنما يقدر حكما إذا تصور حقيقة وليس في الذمة شيء يحتمل التحول فلم يبق الطريق فيه إلا جعل الذمة الثانية خلفا عن الذمة الأولى في ثبوت الحق فيها كما في حوالة الفراش المكان الثاني يكون خلفا عن المكان الأول ويكون الثابت في المكان الثاني عين ما كان في المكان الأول فإذا كان الطريق هذا فنقول إنما رضي الطالب بهذه الخلافة على قصد التوثق لحقه فيكون رضاه بشرط أن يسلم له في ماله في الذمة الثانية فإذا لم يسلم فقد انعدم رضاه فيعود المال إلى المحل الأول كما كان بمنزلة ما لو اشترى به عينا إلا أن هناك المحل الذي هو خلف في يد الغريم فكان مطالبا بتسليمه وهنا المحل الذي هو حق ليس في يد الغريم فلم يكن هو مطالبا بشيء ولكنه ليس في يد الطالب أيضا فلم يصر قابضا لحقه ولا يدخل في ضمانه فلا يكون التواء عليه وبه فارق الغاصب الأول مع الثاني والمولى مع العبد فإن إحدى الذمتين هناك ليست بخلف عن الأخرى ولكن صاحب الحق كان مخيرا ابتداء والمخير بين الشيئين إذا اختار أحدهما تعين ذلك عليه .
وعلى هذا الأصل قال أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - إذا فلسه الحاكم عاد الدين إلى ذمة المحيل لأن رضاه بالخلافة كان بشرط السلامة فإذا لم يسلم عاد الحق إلى المحل الأول ولا معتبر ببقاء المحل الثاني حقيقة كالعبد المشتري بالدين إذا أبق واختار الطالب فسخ العقد عاد حقه كما كان .
توضيحه : أن الذمة تتعيب بالإفلاس أما عندهما حكما فمن حيث إن التفليس والحجر يتحقق من حيث العادة وهذا ظاهر فإن الناس يعدون الذمة المفلسة معيبة حتى يعدون الحق فيها تاويا وكما أن فوات المحل موجب انفساخ السبب فتعيبه مثبت حق الفسخ كما إذا تعيب المشتري بالدين قبل القبض والأصل فيه قوله A ( من أحيل على مليء فليتبع ) فقد قيد الأمر بالاتباع بشرط ملاء المحتال عليه فلا يكون مأمورا بالاتباع بدون هذا الشرط وأبو حنيفة - C يقول : الإفلاس لا يتحقق لأن المال غاد ورائح فقد يصبح الرجل فقيرا ويمسى غنيا ثم عود المال إلى المحيل التوي لا يتعذر به الاستيفاء .
( ألا ترى ) أنه لو تعذر استيفاؤه من المحتال عليه لعيبه لم يرجع على المحيل بشيء ولا تصور للتوي في الدين حقيقة وإنما يكون ذلك حكما بخروج محله من أن يكون صالحا للالتزام وبعد الإفلاس الذمة في صلاحيتها للالتزام كما كانت من قبل فلا يتحقق التوي ولا العيب بهذا السبب بخلاف ما لو كان بعد الموت مفلسا لأن الذمة خرجت من أن تكون محلا صالحا للالتزام فيثبت التوي بهذا الطريق حكما وأما ذات المحتال عليه فقال الطالب : لم يترك شيئا وقال المطلوب : قد ترك وفاء فالقول قول الطالب مع يمينه على علمه لأنه متمسك بالأصل وهو العسرة ولأنه بالحوالة لم يدخل في ملك المحتال عليه ولو كان وهو حي يزعم أنه مفلس فالقول قوله فكذلك بعد موته إذا زعم الطالب أنه مفلس فالقول قوله مع يمينه على علمه .
توضيحه : أن ذمته بالموت خرجت من أن تكون محلا صالحا للالتزام وبه يتحقق التوي إلا أن يكون هناك مال يخلف الذمة في ثبوت حق الطالب فيه فالمطلوب يدعي هذا الخلف والطالب منكر لذلك فجعلنا القول قوله لهذا .
ولو كفل بالمال من غير شرط البراءة ثم أن الطالب أبرأ الذي عليه الأصل من المال بعد الكفالة برئا جميعا لأن إبراء الكفيل إسقاط لأصل الدين وذلك موجب لبراءة الكفيل ضرورة فكما أن الكفالة لا تصح إلا باعتبار مال واجب في ذمة الأصيل فكذلك لا تبقى بعد سقوط المال عن ذمة الأصيل بالإبراء وهذا بخلاف ما لو كانت الكفالة بشرط الأصل لأن ذلك صار عبارة عن الحوالة واللفظ إذا جعل عبارة عن غيره مجازا سقط اعتبار حقيقته في نفسه .
توضيح الفرق : أن الكفالة بشرط براءة الأصيل لا تكون إسقاطا لأن أصل الدين يكون تحويلا إلى ذمة الكفيل بالطريق الذي قلنا فأما إبراء الأصيل بعد الكفالة فيكون إسقاطا لأصل الدين والمطالبة تنبني على وجوب أصل الدين فكما لا يبقى على الأصيل مطالبة بعد الإسقاط فكذلك على الكفيل والدليل على الفرق ما أشار إليه وهو أن الصبي التاجر إذا كان له على رجل مال فضمنه له آخر على أن أبرأ الأول أو كان عليه مال لرجل فضمنه لآخر بأمر صاحبه على أن أبرأ المكفول له فهو جائز ولو كان هذا إسقاطا لأصل الحق عن الأصيل ما ملك الصبي التاجر فيما له على غيره كإبراء الأصيل بعد الكفالة .
ولو كان هذا من المحتال عليه التزاما للمال في ذمته ابتداء ما ملكه الصبي التاجر فيما عليه وبهذا الفصل يتبين الفرق وكذلك في الصرف ورأس مال السلم الحوالة تصح والكفالة بشرط براءة الأصيل تصح ولا يبطل به عقد السلم بخلاف ما إذا أبرأ الأصيل بعد الكفالة فقبله الأصيل حيث يبطل به عقد السلم .
ولو قال لرجل آخر : ما أقر لك به فلان من شيء فهو علي فقامت عليه بينة أنه أقر بعد الكفالة بألف درهم لزم الكفيل الألف لأن الثابت من إقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة وإن شهدوا أنه أقر بذلك قبل الكفالة لم يلزم الكفيل شيء لأن هذا اللفظ وإن كان في صورة الماضي فالمراد به المستقبل عادة فلا يصير به ملتزما لما سبق الإقرار به على العقد وإنما يكون ملتزما لما يقر به بعد العقد بمنزلة قوله ما يقر لك كما أن قوله ما ذاب لك في معنى ما يذوب فهذا قياسه والله أعلم