هذا انتقال من توجيه الله تعالى الخطاب إلى المشركين للتبصير بالحجج والدلائل وما تخلل ذلك من الوعيد أو التهديد إلى خطابهم على لسان رسوله A بأن يقول لهم ما سيذكر تفننا في البيان وتنشيطا للاذهان حتى كأن الكلام صدر من قائلين وترفيعا لقدر نبيه A بإعطائه حظا من التذكير معه كما قال تعالى ( فإنما يسرناه بلسانك ) .
والانتقال هنا إلى الاستدلال بفروع المخلوقات بعد الاستدلال بأصولها ومن الاستدلال بفروع أعراض الإنسان بعد أصلها فمن الاستدلال بخلق السماوات والأرض والموت والحياة إلى الاستدلال بخلق الإنسان ومداركه وقد اتبع الأمر بالقول بخمسة مثله بطريقة التكرير بدون عاطف اهتماما بما بعد كل أمر من مقالة يبلغها إليهم الرسول A قال ( هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار ) الخ .
والضمير ( هو ) إلى الرحمان من قوله ( من دون الرحمان ) .
والإنشاء : الإيجاد .
وإفراد ( السمع ) لأن أصله مصدر أي جعل لكم حالة السمع وأما ( الأبصار ) فهو جمع البصر بمعنى العين وقد تقدم وجه ذلك عند قوله تعالى ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ) في سورة البقرة .
و ( الأفئدة ) القلوب والمراد بها العقول وهو إطلاق شائع في استعمال العرب .
والقصر المستفاد من تعريف المسند إليه والمسند في قوله ( هو الذي أنشأكم ) إلى آخره قصر إفراد بتنزيل المخاطبين لشركهم منزلة من يعتقد أن الأصنام شاركت الله في الإنشاء وإعطاء الإحساس والإدراك .
و ( قليلا ما تشكرون ) حال من ضمير المخاطبين أي أنعم عليكم بهذه النعم في حال إهمالكم شكرها .
و ( ما ) مصدرية والمصدر المنسبك في موضع فاعل ( قليلا ) لاعتماد ( قليلا ) على صاحب حال . و ( قليلا ) صفة مشبهة .
وقد استعمل ( قليلا ) في معنى النفي والعدم . وهذا الإطلاق من ضروب الكناية والاقتصاد في الحكم على طريقة التمليح وتقدم عند قوله تعالى ( فقليلا ما يؤمنون ) في البقرة وقوله تعالى ( فلا يؤمنون إلا قليلا ) في سورة النساء وتقول العرب : هذه أرض قلما تنبت .
( قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون [ 24 ] ) إعادة فعل ( قل ) من قبيل التكرير المشعر بالاهتمام بالغرض المسوقة فيه تلك الأقوال .
والذرء : الإكثار من الموجود فهذا أخص من قوله ( هو الذي أنشأكم ) أي هو الذي كثركم على الأرض كقوله ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) أي أعمركم إياها .
والقول في صيغة القصر في قوله ( هو الذي ذرأكم في الأرض ) مثل القول في قوله ( هو الذي أنشأكم ) الآية .
وقوله ( وإليه تحشرون ) أي بعد أن أكثركم في الأرض فهو يزيلكم بموت الأجيال فكني عن الموت بالحشر لأنهم قد علموا أن الحشر الذي أنذروا به لا يكون إلا بعد البعث والبعث بعد الموت فالكناية عن الموت بالحشر بمرتبتين من الملازمة وقد أدمج في ذلك تذكيرهم بالموت الذي قد علموا أنه لابد منه وإنذارهم بالبعث والحشر .
فتقديم المعمول في ( وإليه تحشرون ) للاهتمام والرعاية على الفاصلة وليس للاختصاص لأنهم لم يكونوا يدعون الحشر أصلا فضلا عن أن يدعوه لغير الله .
A E ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين [ 25 ] قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين [ 26 ] ) لما لم تكن لهم معارضة للحجة التي في قوله ( هو الذي أنشأكم ) إلى ( هو الذي ذرأكم في الأرض ) انحصر عنادهم في مضمون قوله ( وإليه تحشرون ) فإنهم قد جحدوا البعث وأعلنوا بجحده وتعجبوا من إنذار القرآن به وقال بعضهم لبعض ( هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد افترى على الله كذبا أم به جنة ) وكانوا يقولون ( متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) واستمروا على قوله فلذلك حكاه الله عنهم بصيغة المضارع المقتضية للتكرير .
والوعد مصدر بمعنى اسم المفعول أي متى هذا الوعد فيجوز أن يراد به الحشر المستفاد من قوله ( وإليه تحشرون ) فالإشارة إليه بقوله ( هذا ) ظاهرة ويجوز أن يراد به وعد آخر بنصر المسلمين فالإشارة إلى وعيد سمعوه .
والاستفهام بقولهم ( متى هذا الوعد ) مستعمل في التهكم لأن من عادتهم أن يستهزئوا بذلك قال تعالى ( فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو )