والبصير : العليم مشتق من البصيرة فهو هنا غير الوصف الذي هو من الأسماء الحسنى في نحو : السميع البصير وإنما هو هنا من باب قولهم : فلان بصير بالأمور . وقوله تعالى ( إن الله بصير بالعباد ) فهو خبر لا وصف ولا منزل منزلة الاسم . وتقديم ( بكل شيء ) على متعلقه لإفادة القصر الإضافي وهو قصر قلب ردا على من يزعمون أنه لا يعلم كل شيء كالذين قيل لهم ( وأسروا قولكم أو اجهروا به ) .
( أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور [ 20 ] ) ( أم ) منقطعة وهي للاضطراب الانتقالي من غرض إلى غرض فبعد استيفاء غرض إثبات الإلهية الحق لله تعالى بالوحدانية وتذكيرهم بأنهم مفتقرون إليه انتقل إلى إبطال أن يكون أحد يدفع عنهم العذاب الذي توعدهم الله به فوجه إليهم استفهام أن يدلوا على أحد من أصنامهم أو غيرها يقال فيه هذا هو الذي ينصر من دون الله فإنهم غير مستطيعين تعيين أحد لذلك إلا إذا سلكوا طريق البهتان وما هم بسالكيه في مثل هذا لافتضاح أمره .
وهذا الكلام ناشئ عن قوله ( أأمنتم من في السماء ) الآية فهو مثله معترض بين حجج الاستدلال .
و ( أم ) المنقطعة لا يفارقها معنى الاستفهام والأكثر أن يكون مقدارا فإذا صرح به كما هنا فأوضح ولا يتوهم أن الاستفهام يقدر بعدها ولو كان يليها استفهام مصرح به فيشكل اجتماع استفهامين .
والاستفهام مستعمل في التعجيز عن التعيين فيؤول إلى الانتفاء والإشارة مشار بها إلى مفهوم ( جند ) مفروض في الأذهان استحضر للمخاطبين فجعل كأنه حاضر في الخارج يشاهده المخاطبون فيطلب المتكلم منهم تعيين قبيله بأن يقولوا بنو فلان . ولما كان الاستفهام مستعملا في التعجيز استلزم ذلك أن هذا الجند المفروض غير كائن .
وقريب من ذلك قوله تعالى ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) ونحوه .
و ( من ) في موضع مبتدأ واسم الإشارة خبر عن المبتدأ .
وكتب في المصحف ( أمن ) بميم واحدة بعد الهمزة وهما ميم ( أم ) وميم ( من ) المدغمتين بجعلهما كالكلمة الواحدة كما كتب ( عم يتساءلون ) بميم واحدة بعد العين ولا تقرأ إلا بميم مشددة إذ المعتبر في قراءة القرآن الرواية دون الكتابة وإنما يكتب القرآن للإعانة على مراجعته .
و ( الذي هو جند ) صفة لاسم الإشارة و ( لكم ) صفة ل ( جند ) و ( ينصركم ) جملة في موضع الحال من ( جند ) أو صفة ثانية ل ( جند ) .
ويجوز أن يكون اسم الإشارة مشارا به إلى جماعة الأصنام المعروفة عندهم الموضوعة في الكعبة وحولها الذي اتخذتموه جندا فمن هو حتى ينصركم من دون الله .
A E فتكون ( من ) استفهامية مستعملة في التحقير مثل قوله ( من فرعون ) في قراءة فتح ميم ( من ) ورفع فرعون أي من هذا الجند فإنه أحقر من أن يعرف واسم الإشارة صفة لاسم الاستفهام مبينة له و ( الذي هو جند لكم ) صفة لاسم الإشارة . وجملة ( ينصركم ) خبر عن اسم الاستفهام أي هو أقل من أن ينصركم من دون الرحمان . وجيء بالجملة الاسمية ( الذي هو جند لكم ) لدلالتها على الدوام والثبوت لأن الجند يكونوا على استعداد للنصر إذا دعي إليه سواء قاتل أم لم يقاتل لأن النصر يحتاج إلى استعداد وتهيؤ كما قال النبي A " خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها " أي هيعة جهاد .
فالمعنى : ينصركم عند احتياجكم إلى نصره فهذا وجه الجمع بين جملة ( هو جند لكم ) وجملة ( ينصركم ) ولم يستغن بالثانية عن الأولى .
و ( دون ) أصله ظرف للمكان الأسفل ضد " فوق " ويطلق على المغاير فيكون بمعنى غير على طريقة المجاز المرسل .
فقوله ( من دون الرحمان ) يجوز أن يكون ظرفا مستقرا في موضع الحال من الضمير المستتر في ( ينصركم ) . أي حالة كون الناصر من جانب غير جانب الله أي من مستطيع غير الله يدفع عنكم السوء على نحو قوله تعالى ( أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا ) فتكون ( من ) زائدة مؤكدة للظرف وهي تزاد مع الظروف غير المتصرفة ولا تجر تلك الظروف بغير ( من ) قال الحريري في المقامة الرابعة والعشرين " وما منصوب على الظرف لا يخفضه سوى حرف " وفسره بظرف " عند " ولا خصوصية ل " عند " بل ذلك في جميع الظروف غير المتصرفة .
وتكرير " وصف الرحمان " عقب الآية السابقة للوجه الذي ذكرنا في إيثار هذا الوصف في الآية السابقة