ويجوز أن يكون ( في ) للظرفية المجازية متعلقة بفعل ( يتفكروا ) تعلق المفعول بالفعل أي يتدبروا ويتأملوا في أنفسهم . والمراد بالأنفس الذوات فهو في معنى قوله تعالى ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) ؛ فإن حق النظر المؤدي إلى معرفة الوحدانية وتحقق البعث أن يبدأ بالنظر في أحوال خلقة الإنسان قال تعالى ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ) وهذا كقوله تعالى ( أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ) أي في دلالة ملكوت السماوات والأرض وتكون جملة ( ما خلق الله السماوات والأرض ) اله على هذا التفسير بدل اشتمال من قوله ( أنفسهم ) إذ الكلام على حذف مضاف تقديره : في دلالة أنفسهم فإن دلالة ( أنفسهم ) تشتمل على دلالة خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق لأن ( أنفسهم ) مشمولة لما في الأرض من الخلق ودالة على ما في الأرض وكذلك يطلق ما في الأرض دال على خلق أنفسهم .
وعلى الاحتمالين وقع تعليق فعل ( يتفكروا ) عن العمل في مفعولين لوجود النفي بعده . ومعنى خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق : أن خلقهم ملابس للحق .
A E والحق هنا هو ما يحق أن يكون حكمة لخلق السماوات والأرض وعلة له وحق كل ماهية ونوع هو ما يحق أن يتصرف به من الكمال في خصائصه وأنه به حقيق كما يقول الأب لابنه القائم ببره : أنت ابني حقا ألا ترى أنهم جعلوا تعريف النكرة بلام الجنس دالا على معنى الكمال في نحو : أنت الحبيب لأن اسم الجنس في المقام الخطابي يؤذن بكماله في صفاته وإنما يعرف حق كل نوع بالصفات التي بها قابلته ومن ينظر في القابليات التي أودعها الله تعالى في أنواع المخلوقات يجد كل الأنواع مخلوقة على حدود خاصة بها إذا هي بلغتها لا تقبل أكثر منها ؛ فالفرس والبقرة والكلب الكائنات في العصور الخالية وإلى زمن آدم لا تتجاوز المتأخرة من أمثالها حدودها التي كانت عليها فهي في ذلك سواء . دلت على ذلك تجارب الناس الحاضرين لأجيالها الحاضرة وأخبار الناس الماضين عن الأجيال المعاصرة لها وقياس ما كان قبل أزمان التاريخ على الأجيال التي انقرضت قبلها حاشا نوع الإنسان فإن الله فطره بقابلية للزيادة في كمالات غير محدودة على حسب أحوال تجدد الأجيال في الكمال والارتقاء وجعله السلطان على هذا العالم والمتصرف في أنواع مخلوقات عالمه كما قال ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) وذلك بما أودع فيه من العقل . ودلت المشاهدة على تفاوت أفراد نوع الإنسان في كمال ما يصلح له تفاوتا مترامي الأطراف كما قال البحتري : .
ولم أر أمثال الرجال تفاوتا ... لدى الفضل حتى عد ألف بواحد