ثم أكد التحذير بجملة ( وكان الشيطان لربه كفورا ) . وهذا تحذير شديد من أن يفضي التبذير بصاحبه إلى الكفر تدريجا بسبب التخلق بالطبائع الشيطانية فيذهب بتدهور في مهاوي الضلالة حتى يبلغ به إلى الكفر كما قال تعالى ( وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون ) . ويجوز حمل الكفر هنا على كفر النعمة فيكون أقرب درجات إلى حال التخلق بالتبذير لأن التبذير صرف المال في غير ما أمر الله به فهو كفر لنعمة الله بالمال . فالتخلق به يفضي إلى التخلق والاعتياد لكفران النعم .
وعلى الوجهين فالكلام جار على ما يعرف في المنطق بقياس المساواة إذ كان المبذر مؤاخيا للشيطان وكان الشيطان كفورا فكان المبذر كفورا بالمآل أو بالدرجة القريبة .
وقد كان التبذير من خلق أهل الجاهلية ولذلك يتمدحون بصفة المتلاف والمهلك المال فكان عندهم الميسر من أسباب الإتلاف فحذر الله المؤمنين من التلبس بصفات أهل الكفر وهي من المذام وأدبهم بآداب الحكمة والكمال .
( وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا [ 28 ] ) عطف على قوله ( وآت ذا القربى حقه والمسكين ) لأنه من تمامه .
والخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب . والمقصود بالخطاب النبي A لأنه على وزان نظم قوله ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) فإن المواجهة ب ( ربك ) في القرآن جاءت غالبا لخطاب النبي A . ويعدله ما روي أن النبي كان إذا سأله أحد مالا ولم يكن عنده ما يعطيه يعرض عنه حياء فنبهه الله إلى أدب أكمل من الذي تعهده من قبل ويحصل من ذلك تعليم لسائر الأمة .
وضمير ( عنهم ) عائد إلى ذي القربى والمسكين وابن السبيل .
والإعراض : أصله ضد الإقبال مشتق من العرض " بضم العين " أي الجانب فأعرض بمعنى أعطى جانبه ( وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه ) وهو هنا مجاز في عدم الإيتاء أو كناية عنه لأن الإمساك يلازمه الإعراض أي إن سألك أحدهم عطاء فلم تجبه إليه أو إن لم تفتقدهم بالعطاء المعروف فتبائنت عن لقائهم حياء منهم أن تلاقيهم بيد فارغة فقل لهم قولا ميسورا .
والميسور : مفعول من اليسر وهو السهولة وفعله مبني للمجهول . يقال : يسر الأمر " بضم الياء وكسر السين " كما يقال : سعد الرجل ونحس والمعنى جعل يسيرا غير عسير وكذلك يقال : عسير . والقول الميسور : اللين الحسن المقبول عندهم شبه المقبول بالميسور في قبول النفس إياه لأن غير المقبول عسير . أمر الله بإرفاق عدم الإعطاء لعدم الموجدة يقول لين حسن بالاعتذار والوعد عند الموجدة لئلا يحمل الإعراض على قلة الاكتراث والشح .
وقد شرط الإعراض بشرطين : أن يكون إعراضا لابتغاء رزق من الله أي إعراضا لعدم الجدة لا اعتراضا لبخل عنهم وأن يكون معه قول لين في الاعتذار وعلم من قوله ( ابتغاء رحمة من ربك ) أنه اعتذار صادق وليس تعللا كما قال بشار : .
وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود فقوله ( ابتغاء رحمة من ربك ) حال من ضمير ( تعرضن ) مصدر بالوصف أي مبتغيا رحمة من ربك . و ( ترجوها ) صفة ل ( رحمة ) . والرحمة هنا هي الرزق الذي يتأتى منه العطاء بقرينة السياق . وفيه إشارة إلى أن الرزق سبب للرحمة لأنه إذا أعطاه مستحقه أثيب عليه وهذا إدماج .
وفي ضمن هذا الشرط تأديب للمؤمن إن كان فاقدا ما يبلغ به إلى فعل الخير أن يرجو من الله تيسير أسبابه وأن لا يحمله الشح على السرور بفقد الرزق للراحة من البذل بحيث لا يعدم البذل الآن وهو راج أن يسهل له في المستقبل حرصا على فضيلته وأنه لا ينبغي أن يعرض عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل إلا في حال رجاء حصول نعمة فإن حصلت أعطاهم .
( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا [ 29 ] ) A E