والمقصد الثاني عمراني وهو أن تكون أواصر العائلة قوية العرى مشدودة الوثوق فأمر بما يحقق ذلك الوثوق بين أفراد العائلة وهو حسن المعاشرة ليربي في نفوسهم من التحاب والتواد ما يقوم مقام عاطفة الأمومة الغريزية في الأم ثم عاطفة الأبوة المنبعثة عن إحساس بعضه غريزي ضعيف وبعضه عقلي قوي حتى أن أثر ذلك الإحساس ليساوي بمجموعه أثر عاطفة الأم الغريزية أو يفوقها في حالة كبر الابن . ثم وزع الإسلام ما دعا إليه من ذلك بين بقية مراتب القرابة على حسب الدنو في القرب النسبي بما شرعه من صلة الرحم وقد عزز الله قابلية الانسياق إلى تلك الشرعة في النفوس .
جاء في الحديث : " أن الله لما خلق الرحم أخذت بقائمة من قوائم العرش وقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة . فقال الله : أما ترصين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك " . وفي الحديث : " إن الله جعل الرحم من اسمه الرحيم " .
وفي هذا التكوين لأواصر القرابة صلاح عظيم للأمة تظهر آثاره في مواساة بعضهم بعضا وفي اتحاد بعضهم مع بعض قال تعالى ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ) .
وزاده الإسلام توثيقا بما في تضاعيف الشريعة من تأكيد شد أواصر القرابة أكثر مما حاوله كل دين سلف . وقد بينا ذلك في بابه من كتاب " مقاصد الشريعة الإسلامية " .
( ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا [ 25 ] ) تذييل لآية الأمر بالإحسان بالوالدين وما فصل به وما يقتضيه الأمر من اختلاف أحوال المأمورين بهذا الأمر قبل وروده بين موافق لمقتضاه ومفرط فيه ومن اختلاف أحوالهم بعد وروده من محافظ على الامتثال ومقصر عن قصد أو عن بادرة غفلة .
ولما كان ما ذكر في تضاعيف ذلك وما يقتضيه يعتمد خلوص النية ليجري العمل على ذلك الخلوص كاملا لا تكلف فيه ولا تكاسل فلذلك ذيله بأنه المطلع على النفوس والنوايا فوعد الولد بالمغفرة له إن هو أدى ما أمره الله به لوالديه وافيا كاملا . وهو مما يشمله الصلاح في قوله ( إن تكونوا صالحين ) أي ممتثلين لما أمرتم به . وغير أسلوب الضمير فعاد إلى ضمير جمع المخاطبين لأن هذا يشترك فيه الناس كلهم فضمير الجمع أنسب به .
ولما شمل الصلاح الصلاح الكامل والصلاح المشوب بالتقصير ذيله بوصف الأوابين المفيد بعمومه معنى الرجوع إلى الله أي الرجوع إلى أمره وما يرضيه ففهم من الكلام معنى احتباك بطريق المقابلة . والتقدير : إن تكونوا صالحين أوابين إلى الله فإنه كان للصالحين محسنا وللأوابين غفورا . وهذا يعم المخاطبين وغيرهم وبهذا العموم كان تذييلا .
وهذا الأوب يكون مطردا ويكون معرضا للتقصير والتفريط فيقتضي طلب الإقلاع عما يخرمه بالجوع إلى الحالة المرضية وكل ذلك أوب وصاحبه آيب فصيغ له مثال المبالغة ( أواب ) لصلوحه الميالغة لقوة كيفية الوصف وقوة كميته . فالملازم للأمثال في سائر الأحوال المراقب لنفسه أواب لشدة محافظته على الأوبة إلى الله والمغلوب بالتفريط يؤوب كلما راجع نفسه وذكر ربه فهو أواب لكثرة رجوعه إلى أمر ربه وكل من الصالحين .
وفي قوله ( ربكم أعلم بما نفوسكم ) ما يشمل جميع أحوال النفوس وخاصة حالة التفريط وبوادر المخالفة . وهذا من رحمة الله تعالى بخلقه .
وقد جمعت هذه الآية مع إيجازها تيسيرا بعد تعسير مشوبا بتضييق وتحذير ليكون المسلم على نفسه رقيبا .
( وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ) القرابة كلها متشعبة عن الأبوة فلا جرم انتقل من الكلام على حقوق الأبوين إلى الكلام على حقوق القرابة .
وللقرابة حقان : حق الصلة وحق المواساة . وقد جمعهما جنس الحق في قوله ( حقه ) والحوالة فيه ما هو معروف وعلى أدلة أخرى .
والخطاب لغير معين مثل قوله ( إما يبلغن عندك الكبر ) .
A E والعدول عن الخطاب بالجمع في قوله ( ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين ) الآية إلى الخطاب بالإفراد بقوله ( وآت ذا القربى ) تفنن لتجنب كراهة إعادة الصيغة الواحدة عدة مرات والمخاطب غير معين فهو في معنى الجمع . والجملة معطوفة على جملة ( ألا تعبدوا إلا إياه ) لأنها من جملة ما قضى الله به