والإتيان باسم الإشارة في ( فأولئك كان سعيهم مشكورا ) للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما سيخبر به عنهم لأجل ما وصفوا به قبل ذكر اسم الإشارة .
والسعي المشكور هو المشكور ساعيه فوصفه به مجاز عقلي إذ المشكور المرضي عنه . وإذ المقصود الإخبار عن جزاء عمل من أراد الآخرة وسعى لها سعيها لا عن حسن عمله لأنه قسيم لجزاء من أراد العاجلة وأعرض عن الآخرة ولكن جعل الوصف للعمل لأنه أبلغ في الإخبار عن عامله بأنه مرضي عنه لأنه في معنى الكناية الراجعة إلى إثبات الشيء بواسطة إثبات ملزومه .
والتعبير ب ( كان ) في ( كان سعيهم مشكورا ) للدلالة على أن الوصف تحقق فيه من قبل أي من الدنيا لأن الطاعة تقتضي ترتب الشكر عاجلا والواب آجلا . وقد جمع كونه مشكورا خيرات كثيرة يطول تفصيلها لو أريد تفصيله .
( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا [ 20 ] ) تذييل لآية ( من كان يريد العاجلة ) إلى آخرها .
وهذه الآية فذلكة للتنبيه على أن الله تعالى لم يترك خلقه من أثر رحمته حتى الكفرة منهم الذين لا يؤمنون بلقائه فقد أعطاهم من نعمة الدنيا على حسب ما قدر لهم وأعطى المؤمنين خيري الدنيا والآخرة . وذلك مصداق قوله ( ورحمتي وسعت كل شيء ) وقوله فيما رواه عنه نبيه A " إن رحمتني سبقت غضبي " .
وتنوين ( كلا ) تنوين عوض عن المضاف إليه أي كل الفريقين وهو منصوب على المفعولية لفعل ( نمد ) .
وقوله ( هؤلاء وهؤلاء ) بدل من قوله ( كلا ) بدل مفصل من مجمل .
ومجموع المعطوف والمعطوف عليه هو البدل كقول النبي A : " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " . والمقصود من الإبدال التعجيب من سعة رحمة الله تعالى .
والإشارة ب ( هؤلاء ) في الموضعين إلى من كان يريد العاجلة ومن أراد الآخرة . والأصل أن يكون المذكور أول عائدا إلى الأول إذا اتصل بأحد الاسمين ما يعين معاده . وقد اجتمع الأمران في قول المتلمس : .
ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته وذا يشج فلا يرئي له أحد والإمداد : استرسال العطاء وتعاقبه . وجعل الجديد منه مددا للسالف بحيث لا ينقطع . وجملة ( وما كان عطاء ربك محظورا ) اعتراض أو تذييل وعطاء ربك جنس العطاء والمحظور : الممنوع أي ما كان ممنوعا بالمرة بل لكل مخلوق نصيب منه .
( انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا [ 21 ] ) لما كان العطاء المبذول للفريقين هو عطاء الدنيا وكان الناس مفضلين فيه على وجه يدركون حكمته لفت الله لذلك نظر نبيه " E " لفت اعتبار وتدبر ثم ذكره بأن عطاء الآخرة أعظم عطاء وقد فضل الله به المؤمنين .
والأمر بالنظر موجه إلى النبي A ترفيعا في درجات علمه ويحصل به توجيه العبرة إلى غيره .
والنظر حقيقته توجه آلة الحس البصري إلى المبصر . وقد شاع في كلام العرب استعماله في النظر المصحوب بالتدبر وتكرير مشاهدة أشياء في غرض ما فيقوم مقام الظن ويستعمل استعماله بهذا الاعتبار ولذلك شاع إطلاق النظر في علم الكلام على الفكر المؤدي إلى علم أو ظن وهو هنا كذلك . وقد تقدم نظيره في قوله تعالى ( أنظر كيف يفترون على الله الكذب ) في سورة النساء .
A E و ( كيف ) اسم استفهام مستعمل في التنبيه وهو معلق فعل ( انظر ) عن العمل في المفعولين . والمراد : التفضيل في عطاء الدنيا لأنه الذي يدركه التأمل والنظر وبقرينة مقابلته بقوله ( وللآخرة أكبر درجات . . ) .
والمقصود من هذا التنظير التنبيه إلى أن عطاء الدنيا غير منوط بصلاح الأعمال ؛ ألا ترى إلى ما فيه من تفاضل بين أهل العمل المتحد وقد يفضل المسلم فيه الكافر ويفضل الكافر المسلم ويفضل بعض المسلمين بعضا وبعض الكفرة بعضا وكفاك بذلك هاديا إلى أن مناط عطاء الدنيا أسباب ليست من وادي العمل الصالح ولا مما يساق إلى النفوس الخيرة .
ونصب " درجات وتفضيلا " على التمييز لنسبة " أكبر " في الموضعين والمفضل عليه هو عطاء الدنيا