ضرب مثال لإهلاك القرى الذي وصف سببه وكيفية في الآية السابقة فعقب ذلك بتمثيله لأنه أشد في الكشف وأدخل في التحذير المقصود . وفي ذلك تحقيق لكون حلول العذاب بالقرى مقدما بإرسال الرسول إلى أهل القرية ثم بتوجيه الأوامر إلى المترفين ثم فسقهم عنها . وكان زعماء الكفرة من قوم نوح مترفين وهم الذين قالوا " وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادئ الرأي " وقال لهم نوح " عليه السلام " " ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا " .
فكان مقتضى الظاهر عطف هذه الجملة بالفاء لأنها كالفرع على الجملة قبلها ولكنها عطفت بالواو إظهار لاستقلالها بوقع التحذير من جهة أخرى فكان ذلك تحريجا على خلاف مقتضى الظاهر لهذا الاعتبار المناسب .
و ( كم ) في الأصل استفهام عن العدد وتستعمل خبرية دالة على عدد كثير مبهم النوع فلذلك تحتاج إلى تمييز لنوع العدد وهي هنا خبرية في محل نصب بالفعل الواقع بعدها لأنها التزم تقديمها على الفعل نظرا لكون أصلها الاستفهام وله صدر الكلام . و ( من القرون ) تمييز للإبهام الذي اقتضته ( كم ) .
والقرون : جمع قرن وهو في الأصل المدة الطويلة من الزمن فقد يقدر بمائة سنة وبأربعين سنة ويطلق على الناس الذين يكونون في تلك المدة كما هنا وفي الحديث " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم " أراد أهل قرني أي أهل القرن الذي أنا فيه وقال الله تعالى ( وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا ) .
وتخصيص ( من بعد نوح ) إيجاز كأنه قيل : من قوم نوح فمن بعدهم وقد جعل زمن نوح مبدأ لقصص الأمم لأنه أول رسول واعتبر القصص من بعده لأن زمن نوح صار كالمنقطع بسبب تجديد عمران الأرض بعد الطوفان ولأن العذاب الذي حل بقومه عذاب مهول وهو الغرق الذي أحاط بالعالم .
ووجه ذكره تذكير المشركين به وأن عذاب الله لا حد له والتنبيه على أن الضلالة تحول دون الاعتبار بالعواقب ودون الاتعاظ بما يحل بمن سبق وناهيك بما حل بقوم نوح من العذاب المهول .
وجملة ( وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا ) إقبال على خطاب النبي A بالخصوص لأن كل ما سبق من الوعيد والتهديد إنما مآله إلى حمل الناس على تصديق محمد A فيما جاء به من القرآن بعد أن لجوا في الكفر وتفننوا في التكذيب فلا جرم ختم ذلك بتطمين النبي بأن الله مطلع على ذنوب القوم . وهو تعريض بأنه مجازيهم بذنبوهم بما يناسب فظاعتها ولذلك جاء بفعل ( كفى ) وبوصفي ( خبيرا بصيرا ) المكنى بذكرهما عن عدم إفلات شيء من ذنوبهم المرئية والمعلومة من ضمائرهم أعني أعمالهم ونواياهم .
وقدم ما هو متعلق بالضمائر والنوايا لأن العقائد أصل الأعمال في الفساد والصلاح . وفي الحديث : " ألا وإن في الجسد مضعة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب " .
وفي ذكر فعل " كفى " إيماء إلى أن النبي غير محتاج إلى من ينتصر له غير ربه فهو كافية وحسبه قال ( فسنيكفيكهم الله وهو السميع العليم ( ؛ أو إلى أنه في غنية عن الهم في شأنهم كقوله لنوح ( فلا تسألني ما ليس لك به علم ) فهذا إما تسلية له عن أذاهم وإما صرف له عن التوجع لهم .
وفي خطاب النبي بذلك تعريض بالوعيد لسامعيه من الكفار .
A E ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلياها مذموما مدحورا [ 18 ] ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا [ 19 ] ) هذا بيان لجملة ( من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ) وهو راجع أيضا إلى جملة ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ) تدريجا في التبيان للناس بأن أعمالهم من كسبهم واختيارهم فابتدئوا بأن الله قد ألزمهم تبعة أعمالهم بقوله ( وكل إنسان ألزمناه طائره ) ثم وكل أمرهم إليهم وأن المشي لا يضر بإساءته غيره ولا يحملها عنه غيره فقال ( من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ) الآية . ثم أعذر إليهم بأنه لا يأخذهم على غرة ولا يأخذهم إلا بسوء أعمالهم بقوله ( وما كنا معذبين ) إلى قوله ( خبيرا بصيرا ) . ثم كشف لهم مقاصدهم من أعمالهم وأنهم قسمان :