موقع هذه الآية هنا غامض وانتزاع المعنى من نظمها وألفاظها أيضا ولم يأت فيها المفسرون بما يثلج له الصدر والذي يظهر لي أن الآية التي قبلها لما اشتملت على بشارة وإنذار وكان المنذرون إذا سمعوا الوعيد والإنذار يستهزئون به ويقولون ( متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) عطف هذا الكلام على ما سبق تنبيها على أن لذلك الوعد أجلا مسمى . فالمراد بالإنسان الإنسان الذي لا يؤمن بالآخرة كما هو في قوله تعالى ( ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا ) و ( أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ) وإطلاق الإنسان على الكافر كثير في القرآن .
وفعل ( يدعو ) مستعمل في معنى يطلب ويبتغي كقول لبيد : .
أدعو بهن لعاقر أو مطفل ... بذلت لجيران الجميع لحامها وقوله ( دعاءه بالخير ) مصدر يفيد تشبيها أي يستعجل الشر كاستعجاله الخير يعني يستبطئ حلول الوعيد كما يستبطئ أحد تأخر خبر وعد به .
وقوله ( وكان الإنسان عجولا ) تذييل فالإنسان هنا مراد به الجنس لأنه المناسب للتذييل أي وما هؤلاء الكافرون الذين لا يؤمنون بالآخرة إلا من نوع الإنسان وفي نوع الإنسان الاستعجال فإن ( كان ) تدل على أن اسمها متصف بخبرها اتصافا متمكنا كقوله تعالى ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) .
A E والمقصود من قوله ( وكان الإنسان عجولا ) الكناية عن عدم تبصره وأن الله أعلم بمقتضى الحكمة في توقيت الأشياء ( ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ) ولكنه درج لهم وصول الخير والشر لطفا بهم في الحالين .
والباء في قوله ( بالشر وبالخير ) لتأكيد لصوق العامل بمعموله كالتي في قوله تعالى ( وامسحوا برؤوسكم ) ؛ أو لتضمين مادة الدعاء معنى الاستعجال فيكون كقوله تعالى ( يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ) .
وعجول : صيغة مبالغة في عاجل يقال : عجل فهو عاجل وعجول .
وكتب في المصحف ( ويدع ) بدون واو بعد العين إجراء لرسم الكلمة على حالة النطق بها في الوصل كما كتب ( سندع الزبانية ) نظائرها . قال الفراء : لو كتبت بالواو لكان صوابا .
( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا [ 12 ] ) عطف على ( ويدعو الإنسان بالشر ) إلخ . والمناسبة أن جملة ( ويدعو الإنسان ) تتضمن أن الإبطاء تأخير الوعد لا يرفعه وأن الاستعجال لا يجدي صاحبه لأن لكل شيء أجلا ولماذا كان الأجل عبارة عن أزمان كان مشتملا على ليل ونهار متقضيين . وهذا شائع عند الناس في أن الزمان منقض وإن طال .
فلما أريد التنبيه على ذلك أدمج فيه ما هو أهم في العبرة بالزمنين وهو كونهما آيتين على وجود الصانع وعظيم القدرة وكونهما منتين على الناس وكون الناس ربما كرهوا الليل لظلمته واستعجلوا انقضاءه بطلوع الصباح في أقوال الشعراء وغيرهم ثم بزيادة العبرة في أنهما ضدان وفي كل منهما آثار النعمة المختلفة وهي نعمة السير فيالنهار . واكتفى بعدها عن عد نعمة السكون في الليل لظهور ذلك بالمقابلة وبتلك المقابلة حصلت نعمة العلم بعدد السنين والحساب لأنه لو كان الزمن كله ظلمة أو كله نورا لم يحصل التمييز بين أجزائه .
وفي هذا بعد ذلك كله إيماء إلى ضرب مثل للكفر والأيمان وللضلال والهدى فلذلك عقب به قوله ( وآتينا موسى الكتاب ) الآية وقوله ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) إلى قوله ( أعتدنا لهم عذابا أليما ) ولذلك عقب بقوله بعده ( من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ) الآية . وكل هذا الإدماج تزويد للآية بوافر المعاني شان بلاغه القرآن وإيجازه .
وتفريع جملة ( فمحونا آية الليل ) اعتراض وقع بالفاء بين جملة ( وجعلنا الليل والنهار ) وبين متعلقه وهو ( لتبتغوا )