والخسران حقيقته ضد الربح وهو عدم تحصيل التاجر على ما يستفضله من بيعه ويستعار لفقدان نفع ما يرجى منه النفع فمعنى ( خسروا أنفسهم ) فقدوا فوائدها فإن كل أحد يرجو من مواهبه وهي مجموع نفسه أن تجلب له النفع وتدفع عنه الضر : بالرأي السديد وابتكار العمل المفيد ونفوس المشركين قد سولت لهم أعمالا كانت سبب خفة موازين أعمالهم أي سبب فقد الأعمال الصالحة منهم فكانت نفوسهم كرأس مال التاجر الذي رجا منه زيادة الرزق فأضاعه كله فهو خاسر له فكذلك هؤلاء خسروا أنفسهم إذ أوقعتهم في العذاب المقيم وانظر ما تقدم في قوله تعالى : ( الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ) في سورة الأنعام . وقوله تعالى : ( فما ربحت تجارتهم ) في سورة البقرة .
والباء في قوله : ( بما كانوا ) باء السببية وما مصدرية أي بكونهم ظلموا بآياتنا في الدنيا فصيغة المضارع في قوله ( يظلمون ) لحكاية حالهم في تجدد الظلم فيما مضى كقوله تعالى : ( والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه ) .
والظلم " هنا " ضد العدل : أي يظلمون الآيات فلا ينصفونها حقها من الصدق . وضمن ( يظلمون ) معنى يكذبون فلذلك عدي بالباء فكأنه قيل : بما كانوا يظلمون فيكذبون بآياتنا على حد قوله تعالى : ( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ) .
وإنما جعل تكذيبهم ظلما لأنه تكذيب ما قامت الأدلة على صدقة فتكذيبه ظلم للأدلة بدحضها وعدم إعمالها .
وتقديم المجرور في قوله : ( بآياتنا ) على عامله وهو ( يظلمون ) للاهتمام بالآيات . وقد ذكرت الآية حال المؤمنين الصالحين وحال المكذبين المشركين إذ كان الناس يوم نزول الآية فريقين : فريق المؤمنين وهم كلهم عاملون بالصالحات مستكثرون منها وفريق المشركين وهم أخلياء من الصالحات وبقي بين ذلك فريق من المؤمنين الذين يخلطون عملا صالحا وآخر سيئا وذلك لم تتعرض له هذه الآية إذ ليس من غرض المقام وتعرضت له آيات أخرى .
( ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون [ 10 ] ) عطف على جملة : ( ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون ) فهذا تذكير لهم بأن الله هو ولي الخلق لأنه خالقهم على وجه الأرض وخالق ما به عيشهم الذي به بقاء وجودهم إلى أجل معلوم وتوبيخ على قله شكرها كما دل عليه تذييل الجملة بقوله : ( قليلا ما تشكرون ) فإن النفوس التي لا يزجرها التهديد قد تنفعها الذكريات الصالحة وقد قال أحد الخوارج وطلب منه أن يخرج إلى قتال الحجاج بن يوسف وكان قد أسدى إليه نعما .
أ أقاتل الحجاج عن سلطانه ... بيد تقر بأنها مولاته وتأكيد الخبر بلام القسم وقد المفيد للتحقيق تنزيل للذين هم المقصود من الخطاب منزلة من ينكر مضمون الخبر لأنهم لما عبدوا غير الله كان حالهم كحال من ينكر أن الله هو الذي مكنهم من الأرض أو كحال من ينكر وقوع التمكين من أصله .
والتمكين جعل الشيء في مكان وهو يطلق على الأقدار على التصرف على سبيل الكناية وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى : ( مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم ) في سورة الأنعام وهو مستعمل هنا في معناه الكنائي لا الصريح أي جعلنا لكم قدرة أي أقدرناكم على أمور الأرض وخولناكم التصرف في نخلوقاتها وذلك بما أودع الله في البشر من قوة العقل والتفكير التي أهلته لسيادة هذا العالم والتغلب على مصاعبه وليس المراد من التمكين هنا القوة والحكم كالمراد في وقله تعالى : ( إنا مكنا له في الأرض ) لأن ذلك ليس حاصلا بجميع البشر إلا على تأويل وليس المراد بالتمكين أيضا معناه الحقيقي وهو جعل المكان في الأرض لأن قوله : ( في الأرض ) يمنع من ذلك لأنه لو كان كذلك لقال ولقد مكناكم الأرض وقد قال تعالى عن عاد : ( ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه ) أي جعلنا ما أقررناهم عليه أعظم مما أقدرناكم عليه أي في آثارهم في الأرض أما أصل القرار في الأرض فهو صراط بينهما