ويحتمل أن هذا الندم لم يكن ناشئا عن خوف عذاب الله ولا قصد توبة فلذلك لم ينفعه . فجاء في الصحيح " ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ذلك لأنه أول من سن القتل " . ويحتمل أن يكون دليلا لمن قالوا : إن القاتل لا تقبل توبته وهو مروي عن ابن عباس وقد تقدم عند قوله تعالى ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها ) الآية من سورة النساء .
( من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) يتعين أن يكون ( من أجل ذلك ) تعليلا ل ( كتبنا ) وهو مبدأ الجملة ويكون منتهى التي قبلها قوله ( من النادمين ) . وليس قوله ( من أجل ذلك ) متعلقا ب ( النادمين ) تعليلا له للاستغناء عنه بمفاد الفاء في قوله ( فأصبح ) .
و ( من ) للابتداء . والأجل الجراء والتسبب أصله مصدر أجل يأجل ويأجل كنصر وضرب بمعنى جنى واكتسب . وقيل : هو خاص باكتساب الجريمة فيكون مرادفا لجنى وجرم ومنه الجناية والجريمة . غير أن العرب توسعوا فأطلقوا الأجل على المكتسب مطلقا بعلاقة الإطلاق .
والابتداء الذي استعملت له ( من ) هنا مجازي شبه سبب الشيء بابتداء صدوره وهو مثار قولهم : إن من معاني ( من ) التعليل فإن كثرة دخولها على كلمة ( أجل ) أحدث فيها معنى التعليل وكثر حذف كلمة أجل بعدها محدث فيها معنى التعليل كما في قول الأعشى : .
فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من حفى حتى ألاقي محمدا واستفيد التعليل من مفاد الجملة . وكان التعليل بكلمة من أجل أقوى منه بمجرد اللام ولذلك اختير هنا ليدل على أن هذه الواقعة كانت هي السبب في تهويل أمر القتل وإظهار مثالبه .
وفي ذكر اسم الإشارة وهو خصوص ( ذلك ) قصد استيعاب جميع المذكور .
وقرأ الجمهور ( من أجل ذلك ) بسكون نون ( من ) وإظهار همزة ( أجل ) .
وقراءة ورش عن نافع بفتح النون وحذف همزة أجل على طريقته . وقرأ أبو جعفر ( من اجل ذلك ) بكسر نون ( من ) وحذف همزة أجل بعد نقل حركتها إلى النون فصارت غير منطوق بها .
ومعنى ( كتبنا ) شرعنا كقوله ( كتب عليكم الصيام ) .
ومفعول ( كتبنا ) مضمون جملة ( أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ) .
و ( أن ) من قوله ( أنه ) بفتح الهمزة أخت ( إن ) المكسورة الهمزة وهي تفيد المصدرية وضمير ( أنه ) ضمير الشأن أي كتبنا عليهم شأنا مهما هو مماثلة قتل نفس واحدة بغير حق لقتل القاتل الناس أجمعين .
ووجه تحصيل هذا المعنى من هذا التركيب يتضح ببيان موقع حرف ( أن ) المفتوح الهمزة المشدد النون فهذا الحرف لا يقع في الكلام إلا معمولا لعامل قبله يقتضيه فتعين أن الجملة بعد ( أن ) بمنزلة المفرد المعمول للعامل فلزم أن الجملة بعد ( أن ) مؤولة بمصدر يسبك أي يؤخذ من خبر ( أن ) .
وقد اتفق علماء العربية على كون ( أن ) المفتوحة الهمزة المشددة النون أختا لحرف ( إن ) المكسورة الهمزة وأنها تفيد التأكيد مثل أختها .
واتفقوا على كون ( أن ) المفتوحة الهمزة من الموصولات الحرفية الخمسة التي يسبك مدخولها بمصدر . وبهذا تزيد ( أن ) المفتوحة على ( إن ) المكسورة .
وخبر ( أن ) في هذه الآية جملة ( من قتل نفسا بغير نفس ) الخ . وهي مع ذلك مفسرة لضمير الشأن .
ومفعول ( كتبنا ) مأخوذ من جملة الشرط وجوابه وتقديره : كتبنا مشابهة قتل نفس بغير نفس الخ بقتل الناس أجمعين في عظيم الجرم .
A E