" مكناكم في الأرض " جعلنا لكم فيها مكانا وقرارا . أو ملكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها " وجعلنا لكم فيها معايش " جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها . أو ما يتوصل به إلى ذلك . والوجه تصريح الياء . وعن ابن عامر : أنه همز على التشبيه بصحائف .
" ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين " .
" ولقد خلقناكم ثم صورناكم " يعني خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور ثم صورناه بعد ذلك . ألا ترى إلى قوله : " ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " الآية " من الساجدين " ممن سجد لآدم .
" قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " .
" ألا تسجد " لا في " أن لا تسجد " صلة بدليل قوله : " ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي " ص : 75 ، ومثلها " لئلا يعلم أهل الكتاب " الحديد : 29 ، بمعنى ليعلم : فإن قلت : ما فائدة زيادتها ؟ قلت : توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه كأنه قيل : ليتحقق علم أهل الكتاب . وما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك ؟ " إذ أمرتك " لأن أمري لك بالسجود أوجبه عليك إيجابا وأحتمه عليك حتما لا بد منه فإن قلت : لم سأله عن المانع من السجود وقد علم ما منعه ؟ قلت : للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وازدرائه بأصل آدم وأنه خالف أمر ربه معتقدا أنه غير واجب عليه لما رأى أن سجود الفاضل للمفضول خارج من الصواب . فإن قلت : كيف يكون قوله : " أنا خير منه " جوابا لما منعك وإنما الجواب أن يقول : منعني كذا ؟ قلت : قد استأنف قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم وبعلة فضله عليه وهو أن أصله من نار وأصل آدم من طين فعلم منه الجواب وزيادة عليه وهي إنكار للأمر واستبعاد أن يكون مثله مأمورا بالسجود لمثله كأنه يقول : من كان على هذه الصفة كان مستبعدا أن يؤمر بما أمر به .
" قال فأهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين " .
" فاهبط منها " من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة إلى الأرض التي هي مقر العاصين المتكبرين من الثقلين " فما يكون لك " فما يصح لك أن تتكبر فيها " وتعصي " فاخرج إنك من الصاغرين " من أهل الصغار والهوان على الله وعلى أولياؤه لتكبرك كما تقول للرجل : قم صاغرا إذا أهنته . وفي ضده : قم راشدا . وذلك أنه لما أظهر الاستكبار ألبس الصغار . وعن عمر Bه : من تواضع لله رفع الله حكمته وقال : انتعش أنعشك الله . ومن تكبر وعدا طوره وهصه الله إلى الأرض .
" قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال أنك من المنظرين " .
فإن قلت : لم أجيب إلى استنظاره وإنما استنظر ليفسد عباده ويغويهم قلت : لما في ذلك من ابتلاء العباد وفي مخالفته من أعظم الثواب وحكمه حكم ما خلق في الدنيا من صنوف الزخارف وأنواع الملاذ والملاهي وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده .
" قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين "