ويمكن أن يقال من طرف الجمهور الذاهبين إلى أن المراد رؤية المومنين المشركين مثلى أنفسهم بأنه بالتفسير المأثور عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه ولا نسلم أن رؤيتهم إياهم أقل من أنفسهم أحق بالذكر فى كونها آية من رؤيتهم مثليهم لجواز أن تكون الآية والعلامة لليهود على أنهم سيغلبون قتال المؤمنين لهؤلاء المشركين وغلبتهم عليهم مع وجود السبب العادى للجبن وهو رؤية المؤمنين إياهم أكثر من أنفسهم من عددهم فكأنه قيل : يا معشر اليهود تحققوا قتال المسلمين لكم وغلبتهم عليكم ولا تغتروا بعلمهم بقلتهم وكثرتهم فانهم يقدمون على قتال من يرونه أكثر منهم عددا ولا يجبنون ولا يهابون ينتصرون فما ذاك إلا لأن الله تعالى قد ملأ قلوبهم إيمانا وشدة على من خالفهم وأحاطهم بتأييده ونصره ووعدهم الوعد الجميل .
لا يقال : إن الأوفق لهذا الغرض أن يرى المؤمنون المشركين على ما هم عليه من كون المشركين ثلاثة أمثالهم او يرونهم أكثر من ذلك لأن إقدامهم حينئذ على قتالهم أدل على سبب الغلبة على اليهود لأنا نقول : نعم الامر كما ذكر إلا أن هذه الرؤية لوفائها بالمقصود مع تضمنها مدح المؤمنين بالثبات الناشئ من قوة الإيمان بالنصر الموعود آخرا بقوله تعالى : فان يكن منكن مائة صابرة يغلبوا مائتين اختيرت على ما ليس فيها إلا أمر واحد غير متضمن لذلك المدح المخصوص وعلى هذا لا يحتاج إلى التزام كون التثنية مجازا عن التكثير كما فى قوله تعالى : ثم ارجع البصر كرتين ولا إلى القول بأن ضمير مثلهم راجع إلى الفئة الأخيرة أى ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلى عدد الفئة الكافرة أعنى قريبا من ألفين وإن ذهب إلى ذلك البعض ويرد ايضا على قوله : على أن إبانة الخ بعد تسليم أن الإرادة نفسها كانت هى الآية أن إرادة القليل كثيرا لم تقع لليهود المخاطبين بصدر الآية لتكون إبانة آثار قدرته تعالى بذلك أدخل فى كونها آية لهم وحجة عليهم وكون ذلك اقرب لا عترافهم لكثرة مخالطتهم الكفرة الرائين يتوقف على أن الرائين قد أخبروهم بذلك وأنهم صدقوا به ولم يحملوه على أنه خيل لهم لخوفهم بسبب عدم علمهم بالحرب والخائف يخيل إليه أن اشجار البيداء شجعان شاكية وأسد ضارية وإثبات كل من هذه الأمور صعب على ان فيما روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما من أن اليهود قالوا له صلى الله تعالى عليه وسلم بعد تلك الواقعة : لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم بالحرب فأصبت منهم فرصة ولئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس ما يشعر فى الجملة بأنهم لو أخبروهم بذلك وصدقوا لحملوه على نحو ما ذكرنا وما ذكر من أن تعلق الفعل بالفاعل اشد الخ فمسلم إلا أنا لا نسلم أنه يستدعى أولوية جعل أول المذكورين السابقين فاعلا وأبعدهما مفعولا من العكس مطلقا بل ذلك إذا لم يكن فى العكس معنى لطيف تحسن مراعاته نظرا للمقام وهنا قد كان ذلك ولا سيما وقد سبق مدح الفئة الأولى بالمقاتلة فى سبيل الله تعالى وعدل عن مدحهم بالإيمان الذى هو الأساس إليه ولا شك ان مقاتلتهم للمشركين مع رؤيتهم إياهم أكثر من أنفسهم ومثليهم أمدح وأمدح كما لا يخفى وقرأ نافع ويعقوب ترونهم بالتاء واستشكلت على تقدير كون الخطاب لليهود بأنهم لم يروا المؤمنين مثلى أنفسهم ولا مثلى الكافرين ولم يروا الكافرين ايضا مثلى أنفسهم ولا مثلى المؤمنين واجيب بأنه يصح أن يقال : إنهم رأوا المؤمنين مثلى أنفسهم أو مثلى الكافرين على سبيل المجاز حيث نزلت رؤية المشركين منزلة رؤيتهم لما بينهم من الاتحاد فى الكفر والاتفاق فى الكلمة لا سيما بعد ما وقع بينهم بواسطة كعب بن الاشرف من العهد والميثاق فأسندت الرؤية اليهم مبالغة فى البيان وتحقيقا لعروض مثل تلك الحالة لهم ةكذا يصح أن يقال : إنهم رأوا حقيقة الكافرين مثلى المؤمنين