عالمية الإسلام رسالة المثقفين المسلمين ومفكري المذاهب الإسلاميـة والمؤسسـات الجامعيـة والحوزات العلمية تجاه العولمة
الدكتور عبدالرزاق قسوم
أستاذ الفكر الإسلامي بجامعة الجزائر
بسم الله الرحمن الرحيم
العولمة وحقيقتها
إن العولمة او العولمية، مفهوم تمت صياغته وصناعته في المخابر والمصانع الأميركية وما يتبعها. وهي أي هذه العولمة ـ كمذهب اميركي ـ إنما جاءت خاتمة مطاف لمجموعة من الأحداث العالمية، التي تمثلت على الخصوص في صياغة ما سمي بالنظام العالمي الجديد، الذي قام على أنقاظ النظام الشيوعي، وسقوط حائط برلين، وقبل ذلك انتصار الثورة الإسلامية الايرانية وما تلا ذلك من اندلاع للحروب كحرب الخليج الأولى، والمد المتنامي للصحوة الإسلامية، والإنتفاضة الفلسطينية، والتلويح بنظرية نهاية التاريخ وصدام الحضارات … الخ.
فالعولمة نظام فاعل ومؤثر، بل إنه موجه وآمر، يعيش آثاره البعض منا متلقياً، ومنفعلاً ومشدوهاً، بل ومنسلباً في كثير من الأحيان.
وإن من الإجحاف اختزال مفهوم العولمة وحصرها في ما يسمى بحرية السوق، وتنقل رؤوس الأموال بدون حواجز جمركية او جبائية، فذلك إنما يدل على سطحية في الفهم، واستهانة بمخاطرها.
إن العولمة أبعد مدى من ذلك، وأكثر تعقيداً مما يظنه البعض منا، فهي نظرية، متعددة الجوانب الايديولوجية، تشمل الجانب الثقافي، والإعلامي، والأخلاقي، والإقتصادي والسياسي ولاسيما العقدي، فهي ـ إذن ـ مذهب عولمي، ولا نقول عالمي، يعمل على إشاعة أحادية الثقافة، وأحادية الاتصال وبالتالي القضاء على الخصوصيات الثقافية، والعقدية للشعوب الأخرى، ولاسيما الثقافة الإسلامية.
ويمكن القول بأن العولمة، إنما جاءت لمواجهة العالمية الإسلامية، خصوصاً بعد سقوط الشيوعية العالمية.
1 ـ مجالات العولمة
هناك مجموعة من العوامل تعتبر الممهدة لتجسيد العولمة من الناحية الفلسفية الايديولوجية، وتعتبر كلها عاكسة للذهنية الغربية المحددة لنظرية العولمة.
ومن هذه النظريات، مقولة اعتبار الإنسان حيوان إقتصادي مستهلك .. ومعنى هذا أنه إنسان نهم يستبيح كل المحرمات، من غش، واستغلال، وكذب، وربا، لتحقيق مآربه، وهو ما أنتج ما يعرف بالعولمة الإقتصادية.
والعولمة الإقتصادية ثورة على الحواجز الجمركية التقليدية من أجل إزالتها، وتحويل العالم الى قرية بلا حدود، تفتح فيه كل الأبواب أمام السلع الإقتصادية الواردة من الدول القوية مالياً، والمتميزة سلعها بالوفرة أولاً، ثم الجودة المقرونة بالأسعار المنخفضة، وهو ما يمثل عملياً سحقاً لانتاج المستضعفين للإمكانات والوسائل مما يحول دون قدرتهم على المنافسة، وبالتالي الإنهيار والسقوط، والعجز عن الصمود أمام قوة الانتاج العولمي الغازي.
إن المعادلة المعكوسة التي يفضي اليها هذا الواقع الإقتصادي الجديد، تتجلى في كون الشركات العولمية الكبرى، والتي يمثل أصحابها على الخريجة العالمية نسبة 20% من سكان العالم، سيتمكنون بقوتهم الإقتصادية، من التمكين لنشاطهم التجاري من تجاوز الحدود والجغرافيا، لتشمل العالم بأسره، وبذلك يتم رهن مصير الأغلبية الباقية من سكان العالم، وهم يمثلون الاغلبية التي تصل نسبتها الى 80% ومعنى هذه المعادلة فرض الفقر، والتبعية على هذه الأغلبية السكانية، وجعلها تقتات من المساعدات الجائرة، التي تذل المستضعفين، واضطرارهم الى التضحيات بجوانب كبيرة من السيادة الوطنية، كفتح القواعد العسكرية والتوقيع على اتفاقيات مذلة، والإنضواء تحت أحلاف سياسية أو عسكرية الخ.
إن العولمة الإقتصادية، نسسيج للشركات المتعددة الجنسيات، والتي بدورها تنطوي على منظمات دولية كثيرة تتخذها غطاء لإملاء شروطها المجحفة تحت ستار القروض والمساعدات.
إن أخطر ما تفضي إليه هذه العولمة الإقتصادية، في ضوء تحليلنا لها على ضوء راهنية الواقع، هو تحقيقها لمبدأ الاقصاء الذي يمثل العائق أمام حصول أغلبية شعوب العالم، ومعظم الأفراد فيها على الحد الأدنى من حق العيش، وهو ما يجعلها ـ تحت وطأة الحاجة ـ فاقدة لحقها الطبيعي في المواطنة، بعد أن تذل إقتصادياً، ويتم إخضاعها لممارسة اقسى المهن، بأقل مقابل، وتستخدم هي نفسها لنهب موارد بلادها الطبيعية لصالح تلك الشركات العالمية، وهو ما ينتج عنه تلوث في الطبيعة وفي المناخ.
ويتضح لنا، من كل هذه المعطيات أن الهدف المنشود من مسعى الشركات العالمية المتعددة الجنسيات ممثلاً في القيام بما تسميه (التعاون) والمساهمة في تنمية الشعوب المتخلفة، إنما هو ابتزاز خيرات هذه الشعوب، للحصول على الكسب الفاحش على حساب كل القيم.
لذلك، لا نجد عناء في الكشف عن اسباب الظلم السائد، وتقسيم العالم الى عالم متخلّف يمثل الأغلبية، وعالم متقدم يمثل الأقلية، وأهم هذه الأسباب وجود هذه الشركات المستغلة التي تستحوذ على ما يزيد على 84% من الناتج الإجمالي العالمي، وما يماثله في النسبة من التجارة العالمية، وهو ما زاد أغنياء العالم غنى، وهم الأقلية، وضاعف من حاجة فقرائه وهم الأغلبية.
سقط إذن قناع العولمة الخادع الذي استخدمته كطلاء جذاب وفشلت مزاعمها في التبشير بإحداث القرية الكونية الواحدة، التي تجمع بين من يملك ومن لا يملك، وما هذا الغزو، والقتل، والتخريب، واحتلال بلدان المستضعفين، لاستغلال خيراتهم إلا الدليل القاطع على ازدواجية الخطاب العولمي، بين القول النظري، والتطبيق الفعلي.
بهذه الإحصائيات التي يقدمها البنك العالمي، حول مؤشرات التنمية في عام 2001م، تمثل أحسن دليل على فضح مزاعم العولمة؛ وهو يمثل صفعة من المستضعفين، على وجه القوة المستغلة بإسم العولمة.
فالإحصائيات تقدم لنا أرقاماً مرعبة حينما تشير الى أن مليار ومئتي مليون نسمة، (أي أكثر من سدس العالم) يعيشون على أقل من دولار واحد يومياً.
وإن حوالي عشرة ملايين طفل توفوا عام 1999 تحت سن الخامسة، وأن وفاة اغلبهم كانت بسبب أمراض كان يمكن الوقاية منها لو وجدت العناية الصحية والغذائية.
وإن مئة وثلاثة عشر مليون طفل لا ينتظمون في أية مدرسة.
فهل بعد هذه الإحصائيات، التي تدحض كل زعم هل بعدها من قول؟
على أن هذه العولمة الإقتصادية ـ بالرغم مما تخفيه من أوجه قبيحة ـ فإنها تمثل بالنسبة للمثقفين في العالم المتخلف، ولاسيما المسلمين منهم، التحدث الذي ينبغي أن يواجه بالاستجابة، وما دام التحدي عنيفاً كما لاحظنا، فينبغي أن تكون الاستجابة أعنف، وما من ظالم إلا سيبلى بأظلم ..
2 ـ العولمة الثقافية
لعل أخطر تحد تواجهنا به العولمة، بعد التحدي الإقتصادي إنما هو التحدي الثقافي، فما تجابهنا به هذه العولمة على الصعيد الثقافي، إنما هو محاولة تحقيق نمطية العالم، وجعله واحداً في السلوك والذوق والعادات، دون الأخذ بالاعتبار، لثقافات الشعوب وخصوصياتها..
ولعل هذا ما يفسر عنف الإستجابة للتحدي العنيف كما نلحظه في المجتمع الإسلامي لدى الهيآت الثقافية والدينية ممثلة في تنظيمات المثقفين، واتحاد الكتاب، ومفكري المذاهب الإسلامية. وغيرها، في محاولة منهم لتحصين الذات المسلمة وحماية الأصالة الثقافية من فقد خصوصياتها او الذوبان في عولمة ثقافية تقتضي وجود ثقافة أخرى، عبر الثقافة العولمية.
وعند تلمسنا لأبعاد خطورة تحدي العولمة في المجال الثقافي نلاحظ خطورة المنهج الاستراتيجي المطبق وذلك بدء بزعزعة العلاقة الوثيقة بين الثقافة وباقي المجالات، وأهمها:
1ـ الفصل بين الدولة والأمة
فالتلويح بإقامة الدولة، ومنحها من الأوصاف ما أمكن، كالديمقراطية، والتداول على السلطة، وعدم الوصول أو البقاء على رأسها بالعنف، وهي كلها كلمات مظلومة، لا مكان لها في عالم التطبيق حتى لدى المنادين بذلك.
وفي ثنايا المطالبة بإقامة الدولة، تكمن مكيدة القضاء على الأمة ومحاولة اسقاط مقوماتها. وتستغل العولمة الثقافية بيادق لها ممن تكونوا في مؤسساتها وتغذوا بحليب منهجها، تستغلهم للتبشير بمبادئها، والدفاع عن شعاراتها الجوفاء، ومن ذلك لا للدولة الثيوقراطية، لا لأسلمة الدولة، لا للتمييز بين الجنسين في الحقوق لا لتنشئة الأطفال على الخوف بتعليمهم حقائق الجنة والنار والموت، الى غير ذلك من الجمل غير المفيدة لواقعنا الإسلامي، مما يروج له عن جهل من أبناء الأمة او عن غباء، وخبث ..
2ـ تسييس الثقافة بدل تثقيف السياسة
في نطاق العمل على إسقاط الأمة ومقوماتها، تدعو العولمة الثقافية الى التخلي عن فكرة الأمة بوصفها دعوة الى التعصب الديني، او القومي، او العرقي، وفي هذا السياق قامت الدعوة الى تسييس الثقافة، وتتمثل في جلب المثقفين للحكم، بعد إفراغهم من الشحنة والسحنة، وإغرائهم بالمناصب، والأموال، وتكميم أفواههم، وتعصيب عقولهم عن رؤية واقع الأمة والمساهمة في إحيائه والنهوض به.
ولعل العولمة قد استفادت من تجارب التأريخ حيث أننا نجد في الجزائر أن الإستعمار الفرنسي قد حطم الدولة أثناء احتلاله العسكري، ولكنه لم يتمكن ـ رغم كل جهوده المبذولة من القضاء على مقومات الأمة التي تكفل بالمحافظة عليها علماء الأمة بقيادة الإمام عبدالحميد بن باديس وصحبه، حينما رفعوا في وجه المحتل شعار الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا، فاستطاعت الأمة أن تعيد لنا الدولة بفضل بقاء الأمة حية بقيادة العلماء والمثقفين المخلصين.
ويمكن أن ينسحب نفس المثال على الجمهورية الإسلامية في ايران الشقيقة، التي تكفلت الأمة بقيادة علمائها ومثقفيها الصادقين، بالإبقاء على شعلة الوعي في عقول أبناء الأمة، فتجندوا لإسقاط الدولة الظالمة واستبدالها بدولة الأمة الإسلامية العادلة.
من هنا يتجلى لنا أن الأساليب الملتوية التي يستخدمها الأعداء اليوم والتي تعمل على مغالطة العقول هي محاولة الفصل بين الأمة ولغتها وعقيدتها، ووحدتها، وحضارتها، كي يسهل عليهم بعد ذلك إسقاطها، وإنه لدرس بليغ يجب أن يستوعبه أبناء الأمة الإسلامية في ضوء ما يعيشه من مستجدات في الخليج، وفي فلسطين، وفي افغانستان، فالمهم ليس سقوط الأنظمة او الحكومات وإنما المهم بقاء الأمة ومقوماتها للحفاظ على مقومات الإنسان والمجتمع وأهمها المقوم الثقافي بمفهومه الحضاري الشمولي.
إن الثقافة في مفهومها الشمولي للإنسان والمجتمع تتصل اتصالاً عضوياً وثيقاً بمختلف جوانب الحياة من نوعية المأكل، ونمطية الملبس، وطريقة العيش وقوالب الفكر والأدب، والفن، والقيمة الخلقية وغيرها.
فالعولمة الثقافية ـ إنطلاقاً من هذه المعطيات ـ تحاول تحت ستار توحيد الجميع ضمن القرية الكونية الواحدة التي تسع الجميع ـ إحداث الثقافة الكونية الواحدة ـ وهي ثقافة القوى القائمة على انقاض ثقافة الضعفاء.
وقد استخدم فلاسفة العولمة ومنظروها في سبيل التمكين للعولمة الثقافية، استخدموا طرق وأساليب شتى، أهمها التسلل الى العقل، والى القلق للتأثير على السلوك.
فشلال الأغاني الهابطة التي تدعو الى الجنس وتشجع عليه، والنداءات الملحة لتخليص الإنسان من طابع الدين، وطابع العقيدة إن هي إلا مقدمات باسم الدافع العاطفي، والوازع العقلي لإحداث التوازن ـ المزعوم ـ في الإنسان بين عقله وقلبه. وفي هذا السياق نتج ما وصف بثنائية الجنس والعنف. وقد عبئت لهذه الأهداف الخبيثة طاقات خارجية وداخلية.
فبالنسبة للطاقات الخارجية، نجدها تتمثل في الغزو الإعلامي بفضائياته، ومواقعه الإباحية للإستيلاء على قلب وعقل الإنسان، وتجنيده بسهولة ـ بعد إحداث القابلية فيه ـ ضمن ثقافة العولمة الأحادية.
أما عن الطاقات المحلية داخل المجتمع الإسلامي، فإنها تكمن في التسلل الى المنظمات الحيوية في المجتمع كمنظمات الشباب والنساء، بصفة أخص وشحنها بفكرة وجوب التخلص من قيود الأسرة، والمجتمع والدين، تحت زعم التحرر من الكبت، والوصاية، والتبعية.
وتنتهي المحاولات كلها الى عدم قبول الآخر لمواصفاته وإلغاء خصوصيته الثقافية، والدينية، التي هي الكامن خلف نظام الأسرة، والزواج، والتكوين، وبناء العلاقات الإجتماعية.
وهنا بالذات تبرز مسؤولية المثقفين في واقعنا الفكري الإسلامي؛ فما يزال المثقفون عندنا مختلفين حول كيفية التعامل مع العولمة خصوصاً في المجال الثقافي.
ففي حين استسلم بعض المثقفين عندنا لمعزوفة وحدة الثقافة مستسلمين لفكرة أن العولمة حتمية لارادّ لها، وبذلك دعوا الى الإنضواء تحت لوائها على اعتبار ان الثقافة مفهوم انساني، وأن المنتوج العقلي قاسم مشترك بين الجميع، وهو أعدل قسمة بين الناس، فلا غضاضة، إذن، أن يندمج الجميع على اختلاف معتقداتهم، وخصوصياتهم العرقية واللغوية ضمن الثقافة الإنسانية الشمولية، العولمية.
ويقف ـ بالمقابل ـ البعض الآخر من مثقفينا، موقف الرافض لثقافة العولمة، لا بوفصها ثقافة إنسانية كما يروج لها ظلماً، وإنما لكونها ثقافة غازية تحمل بين طياتها فيروس الهدم للثقافة الأخرى بقيمتها وعقيدتها، وخصوصيتها، وهو ما يعتبر نوعاً من الإستعمار الثقافي الجديد.
والسؤال الهام، أين يكمن الخلاص؟ وكيف يمكن تجاوز مرحلة التأزم، الى مرحلة اكتساب المناعة؟ كل شيء يبدأ ـ من وجهة نظرنا ـ بالتحصين، تحصين الذات، والوعي بكينونتها.
وفي هذا السياق، تبدو الحاجة ماسة الى البدء ـ في عملية التحصين ـ بوجوب إعادة النظر في منظومتنا المنتجة للقيم، والحاضنة للإنسانية، بمفهومها العقدي، وبعدها الخلقي، بدء بالبيت، والمحيط بجميع مكوناتهما التربوية، والإشهارية، والإعلامية، وانتهاء بالمدرسة والثانوية والجامعة.
لقد أخلت هذه المؤسسات جميعها بجانبيها التربوي والخلقي، تحت عوامل شتّى، واختزل دورها في تلقين معلومات للناشئة، مشحونة بمفردات جامدة، ومعاني ميتة، منقطعة الصلة بالواقع الديني، والخلقي، والحضاري، وصانعة لإنسان لا انتماء له ولا لون، مشوه القسمات، عولمي اللمحات، أسمر السحنة، غربي الشحنة.
كما تخلى البيت عن مهمة تحصين الذات، ذات الطفل ضد عواصف العولمة الهوجاء، فوجدت فيه الجسم الهش الذي لا يصمد أمام أقل التيارات هبوباً، فكان ما نلاحظه من تلقي سلوك تقليدي في بيته، وتصرف أهوج متحلل من كل القيم والمبادئ، بإسم الحرية الأخلاقية ولا عجب ـ إذن ـ أن نجد في مجتمعنا الإسلامي، اليوم، تحت وطأة التمزق النفسي، من يثور على السلوكيات والأخلاق التي تبثها الأسرة، كالأمانة، والصدق، والعفة، والوفاء والوطنية، فيأتي سلوك الناشئة مناقضاً لكل هذه القيم، ويطالب بحرية الجنس خارج مفهوم الزوجية، ويدعو الى الغش والخديعة في التعامل الإقتصادي، تحت غطاء إقتصاد السوق، ويبيح لنفسه التعامل المشين مع أعداء وطنه بإسم دافع المنفعة.
وما يقال عن البيت ينسحب على كل المؤسسات الثقافية من مدرسة، وجامعة، وإذاعة، وتلفزة، وكلها تساهم في زعزعة الشخصية، واهتزاز المفاهيم، ودبدبة الإنسان عندنا في انتمائه بحيث يصبح مذهبه في الحياة ـ أن لا مذهب له ـ.
يحدث كل هذا ، بعد أن فقدت الثقافة مدلولها الصحيح تحت معول العولمة، وبعد أن أقصى المثقفون من دائرة الحكم، في أوطانهم، وحكم عليهم بالتهميش من بعض الوصوليين، الإنتهازيين، الفاقدين للإنتماء، والمطعمين بفيروس الإنسلاب العولمي ذلك أن الثقافة ـ في فلسفة المعاني ـ هي مقياس كل شيء في أي بناء حضاري. وما لم يعد تحديد العلاقة الصحيحة التي تربط بين العلم بمفهومه الإسلامي، والثقافة بمعناها الحضاري الدقيق والعميق، فإن كل طرح لقضية الثقافة في عالمنا الإسلامي، سيظل طرحاً بلا مقدمات سليمة، ومن ثم يقود الى نتائج خاطئة كما هو حالنا اليوم.
3ـ رسالة المثقفين المسلمين
إن مما لا جدال فيه، أن العولمة بجميع مفاهيمها، وخاصة مفهومها الثقافي الشمولي، هي نظام ينطلق من العقل في اتجاه العقل الإنساني العام، قصد إعادة تشكيل تفكيره، وبالتالي صياغة تعامله مع الأشياء ومع القيم.
وإذا كانت هذه العولمة الوافدة إلينا من الغرب الحضاري لا تقتصر على عالم الأشياء المحايد، بل تتجاوزه الى عالم الأخلاق والقيم، فإن أبشع ما يميز هذه العولمة، هو التعصب لكل ما هو غربي ورفض ما سوى ذلك على زعم أن ما عندهم صواب وما عند غيرهم باطل.
من هنا جاءت الحاجة الى تحديد مكانة المثقفين المسلمين في مواقعهم الأصلية، والإضطلاع بالدور القيادي التغييري المنوط بهم داخل مجتمعاتهم من أجل العمل على تحصين الذات، والتصدي للعولمة.
ويهمنا أن يؤكد هنا على أن حرصنا على تبوّء المثقفين لمكانتهم، واضطلاعهم بالدور الحاسم في عمليتي التغيير والبناء، إنما ينبع من حقيقة هامة، وهي أن العولمة الثقافية بمفهومها الغربي هي بمثابة الدبابة الكاسحة لكل الخصوصيات والمميزات، وحاملة في معناها لكل ما هو شمولي في السياسة والإقتصاد، والأخلاق، مادامت الثقافة المتخصصة هي المدلول عليها ـ في الغرب ـ كمسعى للتمكين للعولمة في مواجهة العالمية، والشمولية التي تطبع الثقافة الإسلامية.
فما يزال مطلب العولمة الثقافية ـ كما أشرنا ـ هو ايجاد عالم بلا حدود يقضي على كل الخصوصيات والمميزات لفسح المجال أمام تنقل الأفكار، والاتجاهات وأنواع السلوك، وهدفها جميعاً، هو إسقاط الأنظمة، وإزالة مقومات الأمة، والقضاء على معالم السيادة، وتسهيل الإنضباط تحت العلم العولمي، وأوامر الجيش العولمي الغازي، والمشاركة في عزف معزوفة النشيد العولمي، بدل النشيد الوطني.
إن المشكلة الأخلاقية في صلة العولمة بالثقافة الإسلامية وسياستها، وإقتصادها إنما تبدو من مناصبة العولمة الغربية العداء لهذه الثقافة بكل خصوصياتها التي تشكل نظام انسانها العقدي، والخلقي، والإجتماعي وتطبع حياته بطابع العالمية التي تناقض ـ أساساً ـ طابع العولمية.
فإذا تنادى المثقفون المسلمون للتباحث واتخاذ موقف موحد حول طرق الحماية ومنهجية تحصين الذات من الذوبان وتعزيز الكيان الإسلامي الذي يكسبهم القوة والمناعة الفاعلة للتصدي قامت كل أنواع الحملات، ومشاعر العداء، ووصفوا بأبشع النعوت كالظلامية، والأصولية، والإرهاب والإسلاموفوبيا وما أشبهها.
على أن هذه المواقف المعادية، إنما هي حوافز لنا نحن المثقفين المسلمين، على شحد العزائم، وزيادة التصميم على تلمس طرق الخلاص، وكل سبيل للخلاص يبدأ من استعادة المثقفين المسلمين لدورهم العلمي، الذي خصهم به الإسلام حينما جعلهم أهل الحل والعقد وكفى بهذا اللقب فخراً لهم.
لكن هذا الدور القيادي للمثقفين المسلمين في مجتمعهم يتطلب منهم الاستجابة لمجموعة من القيم لعل أهمها:
1ـ السمو الى مستوى العلماء الراسخين في العلم الذي يستمدون كل معنى القوة من الله (فلا يخشون أحداً إلا الله) ـ سورة الأحزاب / 29ـ و(إنما يخشى الله من عباده العلماء) ـ سورة فاطر / 28.
إن سمو من المثقفين، والعلماء، والجامعيين، والكتّاب والمفكرين، هو الذي يحدث فيهم القابلية للقيادة والتوجيه فيطهرهم من كل تزلف للحكّام، وينأى بهم عن كل وصولية تحت أي غطاء كانت، ويجعلهم ينذرون أنفسهم لما وضعوا له، وهو قيادة الأمة بالعمل الصالح، والقدوة الحسنة.
2ـ الوعي بمسؤوليتهم كعلماء في ترشيد أبناء الأمة حكّاماً ومحكومين، والصدع بكلمة الحق، بإسداء النصيحة لعامة المؤمنين وخاصتهم.
3ـ العمل على ترسيخ القيم الإنسانية النبيلة كما دعا إليها الإسلام، وفي ضبط علاقة الإنسان بالله، وبإخوانه المؤمنين على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، ومذاهبهم، على قاعدة أدب الاختلاف.
4ـ بث العلم في شموليته، وبجميع اختصاصاته وصيانته عن الابتذال والسقوط، كي يغدو علماً نافعاً لبني الإنسانية قاطبة، وليتخذ قاعدة صلبة للنهوض بالأمة. إنه وحده العلم الذي يبني ولا يبدد، ولا يهدد، ويوحد ولا يعدد.
5ـ إعداد الأمة، واستعداده انطلاقاً من الوعي بالضعف الذي يتطلب اعداد القوة لمجابهة الأقوياء امتثالاً لفقه الآية في قوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ـ سورة الأنفال / 60.
6ـ العمل على تصحيح المفاهيم السائدة، التي تضبط العلاقة بين أفراد المجتمع الإسلامي الواحد، وتحديد مكانة كل واحد فيه، كالمرأة، والطفل، والشيخ، لا على أساس التجزيئية المشينة، ولكن على أساس التنوع داخل الوحدة.
هذه هي رسالة المثقفين المسلمين اليوم، في عالم تطبعه عولمة آحادية أميركية متوحشة، هدفها اقتلاع الناس من جذورهم وأصولهم، ولذلك فإن المثقفين على اختلاف فآتهم، وتنوع اتجاهاتهم واخصاصاتهم، من فقهاء وفلاسفة، ومفكرين وعلماء، وإعلاميين، وتكنولوجيين، مدعوون الى ضم الصفوف، وتوحيد الخطة، والتنسيق فيما بينهم لتكوين الهيآت الفئوية الفاعلة، كل في مجال تخصصه، ليضعوا لبنات البناء الحضاري، داخل وحدة الأمة التي تتصدى بالاعتماد على العلم والتكنولوجيا لكل معالم العولمة الزاحفة.
إن مسؤولية المثقفين تفوق كل مسؤولية، إذ على عاتقهم تلقى مهمة الإحياء والبناء.
استنتاج
وبعد فها هي العولمة الأحادية الأميركية، قد ألقت بكلاكلها، الإقتصادية، والسياسية، والعسكرية والثقافية، كالأخطبوط النهم، لابتلاع خيرات العالم.
وإنها في زحفها الوحشي التوسعي هذا، لم تستثن جزء، ولم تخطئ منطقه، وإنما هي تفرض بقوة المال والسلاح ايديولوجيتها، وهيمنتها .. وما عشناه في افغانستان، والعراق، وفلسطين، لهو الدليل القاطع على أن العولمة الأميركية لا ترقب إلا ولا ذمة في الشعوب الضعيفة، مادامت مصلحتها هي المكتسبة .. ومما لا شك فيه، أن الأمة الإسلامية بالذات التي ماتزال الهدف في المخطط التوسعي العولمي، بما تمثله هذه الأمة من خصائص ومقومات تجعل منها أمة عالمية بالإسلام، وهو ما يجعلها تقف كالشوكة في حلق هذا الاخطبوط البشري العدواني.
وإذا كانت كل ثقافة، تجد نفسها مهددة اليوم بهذا الخطر الداهم، وإذا كان المطلوب من الشعوب الضعيفة الانصياع لمتطلبات العولمة، وإن أدى ذلك الى التضحية بجزء من سيادتها السياسية، والكسر من مواردها الإقتصادية، والأساسي من مقوماتها الثقافية. فإن العلماء، والباحثين والمثقفين، في دول العالم الثالث بصفة عامة والمثقفين في العالم الإسلامي بصفة أخص هم مدعوون أكثر من غيرهم، واليوم بالذات لتوحيد الصف، وتحديد الهدف، كي يمثلوا قوة تقف في وجه سياسة الابتلاع، والاتباع، إن هي أرادت المحافظة على كينونتها، وهويتها، ووجودها المتميز.
ولن ينفع الأمة الإسلامية، الاكتفاء بالملتقيات وإلقاء الخطب الحماسية المنددة بالعولمة، والكاشفة لمساوئها، ومخاطرها .. إن المطلوب هو العمل الجماعي، المخطط له، المنظم، المتسم بالديمومة والبقاء، الذي يتم تجسيده في شكل هيآت ومؤسسات فاعلة، إن الانتصار على الاقوياء لا يكون إلا بتحالف الضعفاء، وهو ما يطمح لقاء في هذا المستوى من نخبة العلماء.
(وقل اعلموا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) صدق الله العظيم.
ارسال نظر