وب سایت رسمی مجمع جهانى تقريب مذاهب اسلامى

اهم اخبار تقریب مذاهب اسلامی

مجمع جهانى تقريب مذاهب اسلامى
سایت رسمی مجمع جهانى تقريب مذاهب اسلامى
عالمية الإسلام العقلنة والواقعية
۱۳۹۷/۱۱/۳۰ ۱۰:۳۲ 1376

عالمية الإسلام العقلنة والواقعية

 

 

عالمية الإسلام العقلنة والواقعية

 

الشيخ نعيم قاسم

نائب أمين عام حزب الله ـ لبنان

 

بسم الله الرحمن الرحيم

مكانة العقل

أعطى الإسلام مكانة خاصة للعقل، واعتبره طريقاً للاعتقاد السليم، وأكّد على مسؤولية الفرد في الوصول إلى الإيمان من دون تقليد للآباء، وذلك بالتفكر في خلق الله وبعث الأنبياء وحقيقة المعاد وأهداف خلق الإنسان في الحياة الدنيا…، وحثّت الآيات القرآنية على النظر والتأمل فيما خلق الله تعالى حيث تكون النتيجة إيماناً والتزاماً مع كل عاقل سلك طريق التفكُّر السليم، من دون حجب أو جهل أو مقدمات خاطئة. قال تعالى: (إنّ في خلْق السّموات والأرْض واخْتلاف اللّيْل والنّهار والْفُلْك الّتي تجْري في الْبحْر بما ينْفعُ النّاس وما أنْزل اللهُ من السّماء منْ ماءٍ فأحْيا به الأرْض بعْد موْتها وبثّ فيها منْ كُلّ دابّةٍ وتصْريف الرّياح والسّحاب الْمُسخّر بيْن السّماء والأرْض لآياتٍ لقوْمٍ يعْقلُون)([1]).

 

بل تزيد الآيات الكونية المؤمنين إيماناً واطمئناناً وتوصلهم إلى درجة اليقين: (إنّ في السّموات والأرْض لاياتٍ للْمُؤْمنين * وفي خلْقكُمْ وما يبُثُّ منْ دابّةٍ آياتٌ لقوْمٍ يُوقنُون * واخْتلاف اللّيْل والنّهار وما أنْزل اللهُ من السّماء منْ رزْقٍ فأحْيا به الأرْض بعْد موْتها وتصْريف الرّياح آياتٌ لقوْمٍ يعْقلُون * تلْك آياتُ الله نتْلُوها عليْك بالْحقّ فبأيّ حديثٍ بعْد الله وآياته يُؤْمنُون) ([2]).

 

فإذا جحد البعض وانحرف عن الإيمان بالله تعالى، فلعمىً في بصيرته، وخللٍ في طريقة تفكيره ومقدماتها، لأن الأمور بيّنة وواضحة، ولا حجة للجاحد إلاّ تعطيل مسار عقله نحو الحقيقة، قال تعالى: (أفلمْ يسيرُوا في الأرْض فتكُون لهُمْ قُلُوبٌ يعْقلُون بها أوْ آذانٌ يسْمعُون بها فإنّها لا تعْمى الأبْصارُ ولكنْ تعْمى الْقُلُوبُ الّتي في الصُّدُور) ([3]).

 

وقال جلّ وعلا: (ومثلُ الّذين كفرُوا كمثل الّذي ينْعقُ بما لا يسْمعُ إلا دُعاءً ونداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فهُمْ لا يعْقلُون) ([4]).

 

هذا العقل الذي تدرك به النفسُ العلوم الضرورية والنظرية، هو الحجة البالغة على الإنسان، ففي الحديث الشريف عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): "إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأمّا الباطنة فالعقول"([5])، وهو الذي يقود إلى الفلاح أو الإنحراف، فعن الإمام الصادق(عليه السلام): "لمّا خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال: وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك، ولا أكملته إلاّ فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أُعاقب، وإياك أُثيب"([6]).

 

إنّه الدليل الذي لا يخيب، فعن الإمام الصادق(عليه السلام): "العقل دليل المؤمن"([7])، ولا أمل في التوصل إلى النتيجة الملائمة والحكم الصحيح على الأشياء من دون العقل، فعن الإمام الصادق(عليه السلام): "لا يفلح من لا يعقل"([8]).

تقليد الآباء

ولعلّ أخطر ما يصيب عقل الإنسان، رفض الاستماع إلى البراهين والأدلة، وتعطيل نتائج الحوار والنقاش مسبقاً، بالتصميم على القناعات التي تربّى عليها منذ الصغر في بيئته، والتي شكّلت له مقدمات خاطئة لا تؤدي إلاّ إلى نتائج خاطئة. فهو لا يبني مواقفه على قواعد منهجية، ولا يمتلك قدرة الدفاع عن فكره وسلوكه، وعندما ينكشف حاله يرد الأمر إلى تقليد الآباء والمحافظة على الموروث، ليقفل باب الحوار بسدّه عند حدود ما نشأ عليه واعتاده، (وإذا قيل لهُمُ اتّبعُوا ما أنْزل اللهُ قالُوا بلْ نتّبعُ ما ألْفيْنا عليْه آباءنا أولوْ كان آباؤُهُمْ لا يعْقلُون شيْئاً ولا يهْتدُون) ([9]).

 

إنّ دائرة تقليد الأبناء للآباء بتعطيل التفكير والاختيار، أوسع بكثير من التقليد في بيئة الأسرة، فهي تطال كل"ابن" في التقليد لكل"أب" مقلّد، فقد يكون المقلّد فرداً أو جهة أو حزباً أو جماعة أو نمطاً… وقد يكون التقليد لجاهلية أصنام الحجارة وعبدة النار في القرون السابقة، كما يكون لجاهلية أصنام الشهوة والمال والحتميات الفكرية المعلّبة والعصبيات العائلية والطائفية والحزبية والقومية…

 

هنا يتركّز البحث عن الأصول لا عن الفروع، وعن العقيدة لا عن مترتباتها، فإذا بنى الفرد منظومته الفكرية بالموروث العقائدي أو بالإلتزام بالتقاليد الموروثة التي يرعاها الزعيم ويورثها إلى منْ بعده، فإنّ النقاش حول بعض التفاصيل التطبيقية لا يحقق فائدة تُذكر، طالما أنها فروع يغلب عليها طابع الإلتزام التسليمي، سواءً اتخذ هذا الالتزام معنى العبادة، أو اتخذ معنى التقاليد والاعراف المقدسّة، أو اتخذ معنى السلوك المتوافق مع المقدمات الأولى.

 

فالماركسي ملحد بالله تعالى، ويعتقد بالمادية التأريخية الحاكمة على الحياة البشرية، من دون قدرة لأحد على تغييرها، ويتصرف في حياته اليومية على أساس مادية الحياة ونهايتها بالموت، فلا ينفع حواره في نقد السلوكيات الغارقة في المادية، لأنها تحقق بنظره دنياه المحدودة والنهائية، بل يجب البدء معه بالنقاش من المبدأ الأول، أي من الخالق، لحسم النظرة الأساسية نحو طبيعة الكون والإنسان والحياة، وموقعها من الخالق، وحدودها في الدنيا وما بعدها، فإذا رفض الحوار، أو لم يلتزم فيه بالبديهيات العقلية للإنطلاق من قاعدة مشتركة توصل إلى نتيجة ما في الحوار، يكون قد سدّ الباب العقلي، بحسب القاعدة المذمومة التي تحدّث عنها القرآن (قالُوا بلْ نتّبعُ ما ألْفيْنا عليْه آباءنا)، أي قادتنا ومن اتخذناهم قدوتنا بما اعتدنا عليه لسنوات طويلة.

 

والمنتمي إلى جماعة بسبب ظروفه، أو مكان سكنه، أو بيئته الإجتماعية، أو قناعاته التي تكوّنت لديه بحسب ما توفّر لديه من معطيات ومعلومات، لا يسلّم بأخطاء التفاصيل والسلوكيات المتّبعة، بل يدافع عنها بعصبية بالغة، ليحافظ على متانة منظومته الثقافية والعملية أمام التحديات، فضلاً عما تحمله التفاصيل من إلتزام تسليمي كجزء من الإنضباط العام في الطريق المختار. هنا يُفترض بنا أن نعود إلى الأسس التي انطلقت منها الجماعة لنناقشها، فإذا انهارت أمام الأدلة، لم يعد لباقي المنظومة قدرة على الصمود، وعندها يقف المؤمن بها أمام خيارين: إمّا التسليم والتخلي عنها واختيار ما يرشد إليه العقل، وإمّا التعصب ورفض التغيير لما اعتاد عليه والإنتقال من الحوار إلى التزمُّت والتمسك بما هو عليه، على قاعدة (بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا) أي جماعتنا وحزبنا، مهما كانت آراؤهم وسلوكياتهم،لأنهم اعتادوا عليها وعطّلوا قابلية وشجاعة التغيير.

 

أمّا الشريحة الأوسع في العالم، فهم الذين تلقوا من أسرهم مقدمات تعليمية وتربوية تحوّلت إلى مسلّمات، وترسّخت إلى درجة عطّلت معها قدرة العقل على التفكير والإختيار الحر، وذلك بترسيخ مجموعة من القناعات والسلوكيات التي تحوّلت إلى مقدسات في بيئتهم، وهي نتاج أصول إعتقادية تعود إليها منظومة الثوابت والتفاصيل والتقاليد، فلا بدّ من العودة إليها لنقاشها قبل الغرق في التفاصيل، وغالباً ما يكون الدافع (بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا) فيُواجه حوار هذه الأصول بالتعصب، ما يؤدي إلى صعوبة في التغيير.

 

وعلى الرغم من تأكيدنا للعودة إلى الأصول في الحوار العقلي، فهذا لا يعني رفض النقاش في التفاصيل والجزئيات حيث يمكن ذلك، بل لا نريد أن تمنع الأصول من التوصل إلى القواسم المشتركة في بعض الفروع، لكنّنا نشير إلى هذه المعضلة التأريخية التي تحتاج إلى حل، على أن لا تتحول إلى سبب لزيادة الخصومة والإنقسام، وما يساعد على ذلك، إتباع أسلوب الحوار الذي دعا إليه القرآن (ادْعُ إلى سبيل ربّك بالْحكْمة والْموْعظة الْحسنة وجادلْهُمْ بالّتي هي أحْسنُ) ([10]).

أهمية المنهج والمقدمات

لقد بيّن لنا القرآن بعض نماذج الحوار العقلي والمتسلسل في العقيدة، حيث لم يقتصر أداء الأنبياء مع أقوامهم على المعاجز، التي استهدفت إيجاد صدمة لإيقاظ العقل، وتحريره من الموروثات الخاطئة، وإطلاق العنان له للتفكير والاختيار، بل ركّزوا في دعواتهم على محاكاة الفطرة الإنسانية، وتقديم الأدلّة المقنعة لما يحملونه من إيمان.

 

من الأمثلة على ذلك، حوار إبراهيم (عليه السلام) مع أبيه، بتفنيد عقيدته وإبراز ضعف أدلتها، وإظهار متانة أدلة الإيمان الإبراهيمي، المستند إلى وقائع موضوعية يراها جميع الناس، في رد الأمور إلى الخالق، الذي يهدي ويطعم ويسقي ويشفي ويميت ويحيي ويغفر يوم القيامة. قال تعالى: (واتْلُ عليْهمْ نبأ إبْراهيم * إذْ قال لأبيه وقوْمه ما تعْبُدُون * قالُوا نعْبُدُ أصْناماً فنظلُّ لها عاكفين * قال هلْ يسْمعُونكُمْ إذْ تدْعُون * أوْ ينْفعُونكُمْ أوْ يضُرُّون * قالُوا بلْ وجدْنا آباءنا كذلك يفْعلُون * قال أفرأيْتُمْ ما كُنْتُمْ تعْبُدُون * أنْتُمْ وآباؤُكُمُ الأقْدمُون * فإنّهُمْ عدُوٌّ لي إلاّ ربّ الْعالمين * الّذي خلقني فهُو يهْدين * والّذي هُو يُطْعمُني ويسْقين * وإذا مرضْتُ فهُو يشْفين * والّذي يُميتُني ثُمّ يُحْيين * والّذي أطْمعُ أنْ يغْفر لي خطيئتي يوْم الدّين) ([11]).

 

وعندما يفتقر الطرف الآخر إلى أدنى قواعد الحوار، ويتلاعب بالألفاظ والوقائع، ليوهم الناس بوجود الدليل لديه، يتمُّ الإنتقال إلى الدليل الأوضح، بالألفاظ والوقائع التي لا تسبّب التباساً، ولا يستفيد منها الخصم في التدليس على الحاضرين. وهذا ما ينطبق على حوار النبي إبراهيم(عليه السلام) مع النمرود الذي ادّعى الربوبية، حيث حاجّه إبراهيم(عليه السلام) في أنّ الله هو الخالق الذي يحيي ويميت، فأجابه النمرود بأنه هو الذي يحيي ويميت، وطلب من جنده أن يحضروا له سجينين، فقتل احدهما بزعم أنّه يميت، وأفرج عن الآخر بزعم أنّه يحيي، عندها قال له إبراهيم(عليه السلام) بأن الله يأتي بالشمس من المشرق فآت بها من المغرب، فحار النمرود جواباً وسقط ما بيده، قال تعالى: (ألمْ تر إلى الّذي حاجّ إبْراهيم في ربّه أنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْك إذْ قال إبْراهيمُ ربّي الّذي يُحْيي ويُميتُ قال أنا أُحْيي وأُميتُ قال إبْراهيمُ فإنّ الله يأْتي بالشّمْس من الْمشْرق فأْت بها من الْمغْرب فبُهت الّذي كفر واللهُ لا يهْدي الْقوْم الظّالمين) ([12]).

 

كما يتّخذ البعض الحوار طريقاً للتعجيز، بسبب ضعفه في سوق الأدلة المقنعة، وعدم رغبته أو عدم قدرته على الإنسحاب من المواجهة، فيبدو للوهلة الأولى بأنه يريد الحوار، لكنه ينكشف عند المحاججة على حقيقته.

 

فهذا نموذج لمن ينهج الأسلوب الفاشل من دون أن يعتبر ممن سبقه، ذلك بأنهم قوم يجهلون، لم يطّلعوا على الأدلة التي أسقطت منطق من سلفهم، قال تعالى: (وقال الّذين لا يعْلمُون لوْلا يُكلّمُنا اللهُ أوْ تأْتينا آيةٌ كذلك قال الّذين منْ قبْلهمْ مثْل قوْلهمْ تشابهتْ قُلُوبُهُمْ قدْ بيّنّا الآيات لقوْمٍ يُوقنُون)([13]).

وذاك نموذج آخر لمن ينتقل من مطلب إلى آخر، إذ كلّما فشل في دليل لجأ إلى دليل آخر، إنّهم الكافرون أولاً وأخيراً، قبل الدليل وبعده، لكنّهم يناورون، قال تعالى: (ولوْلا أنْ تُصيبهُمْ مُصيبةٌ بما قدّمتْ أيْديهمْ فيقُولُوا ربّنا لوْلا أرْسلْت إليْنا رسُولاً فنتّبع آياتك ونكُون من الْمُؤْمنين * فلمّا جاءهُمُ الْحقُّ منْ عنْدنا قالُوا لوْلا أُوتي مثْل ما أُوتي مُوسى أولمْ يكْفُرُوا بما أُوتي مُوسى منْ قبْلُ قالُوا سحْران تظاهرا وقالُوا إنّا بكُلٍّ كافرُون)([14]).

 

ثالث النماذج، إستبدال الحوار والدليل بالمغريات والمكاسب، فإن لم تنفع أصرّ القوم على موقفهم ورفضهم للحق. فقد اجتمع زعماء قريش في ناديهم بعد إسلام عم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حمزة بن عبد المطلب(رض)، وكلفوا عتبة بن ربيعة عرض أمور على النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ليتخلى عن دينه، فذهب إليه، ومما قاله له:

 

"يا بن أخي، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد مُلكاً ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع ردّه طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه…".

 

فأجابه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بتلاوة سورة فصلت: (بسم الله الرحمن الرحيم"حم * تنْزيلٌ من الرّحْمن الرّحيم * كتابٌ فُصّلتْ آياتُهُ قُرْآناً عربيّاً لقوْمٍ يعْلمُون * بشيراً ونذيراً فأعْرض أكْثرُهُمْ فهُمْ لا يسْمعُون * وقالُوا قُلُوبُنا في أكنّةٍ ممّا تدْعُونا إليْه وفي آذاننا وقْرٌ ومنْ بيْننا وبيْنك حجابٌ فاعْملْ إنّنا عاملُون) إلى آية السجدة، فسجد ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك.

 

عاد عتبة إلى قومه فقال: قد سمعتُ قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعتُ منه نبأٌ عظيم، فإن تُصبْه العربُ فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظْهر على العرب فمُلْكُه مُلْككم، وعزُّه عزُّكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه"([15]).

 

إن مشكلة الحوار لا تنحصر بما بين الإيمان والكفر، بل تشمل كل مواقع الحياة وكل الأطراف، سواءً أكان الاختلاف في الأصول أو في الفروع، وسواءً أكان الاختلاف بين المؤمنين بالرسالات السماوية وأصحاب الرأي والفكر أو داخل المذهب الواحد والجماعة الواحدة.

 

وبإمكاننا تضييق فسحة الخلاف، عندما نحسم منهجية البحث وقواعد التفاهم ونقاط الإلتقاء،ثم نستخدم المصطلحات التي تحمل مضموناً واضحاً متفقاً عليه، ليسهل الخطاب بلُغة واحدة وفهم واحد، وعلى هذا فقد نجد أنفسنا بحاجة إلى نقطة البداية، قبل أن نبني على المقدمات المطوية، وإلاّ وقعنا من اللحظة الأولى في مأزق تباين النتائج بسبب تباين الرؤى.

الإختلاف أمر تكويني

لكنّ جميع محاولات عقلنة الحوار لا توحّد البشرية في نهاية المطاف، لأن العقل يمثل قدرة الإدراك، أمّا النتائج المُدركة فخاضعة للمقدمات وللطريق الموصل إليها. فمع اختلاف المقدمات تختلف النتائج، ومع اختلاف منهجية البحث والتحليل تختلف النتائج أيضاً.

 

وما أودعه الله تعالى في فطرة الإنسان، قدرته على الفهم والإدراك وعقل الأشياء، وكذلك وجود المعلومات الضرورية(البديهية) التي تنطلق منها كل الأحكام، أمّا ما زاد عنها فهو إكتسابي، يقل أو يكثر تبعاً لجهد الإنسان في التحصيل وسعة تجاربه في الحياة.

 

فإذا كانت المقدمات محدودة وضعيفة، كانت النتائج كذلك، وإذا كانت المقدمات خاطئة أو ملتبسة، كانت النتائج كذلك، هذا إذا كان المنهج المعتمد في التفكير سليماً، فإذا كان خاطئاً، فإنّه يطيح أيضاً بالمقدمات الصحيحة التي لا توصل حينئذ إلى النتائج السليمة. ولا نستبعد من بحثنا ما تلعبه الأنانيات والمصالح الذاتية في تحوير النتائج بعناوين وإضافات مختلفة، وفي التباعد بين الرؤى من غير ارتباط بالمقدمات أو المنهج، وعندها تتعقّد الأمور أكثر.

 

أمام هذا الواقع، يجب الإهتمام بالعقلنة وفق المنهج والمقدمات الصحيحة، والعمل لكشف الأنانيات والذاتيات، لنضع أمام العقل الإنساني ما يساعده على الإختيار كجزء من أسلوبنا وأدائنا، ولن تضيرنا المقدمات والمنهجية الصحيحة في أي نتيجة تصل إليها، لأنّ ما طرحه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة منسجم مع الفطرة الإنسانية المتناغمة مع طريقة التفكير السليم، ونحن مطمئنون بأنّه متفوّق على ما عداه (وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) ([16]).

 

إن الاختلاف أمر تكويني، قال تعالى: (ولوْ شاء ربُّك لجعل النّاس أُمّةً واحدةً ولا يزالُون مُخْتلفين) ([17])، وهو اختلاف في القدرات الجسدية والعقلية والحياتية، ولا يشكل أزمة أو مأزقاً خاصةً عندما يتحول إلى تكامل وتفاعل وتنمية للطاقات، ولا يسبب مشكلة إذا انحصر في التعبير عنه بالحوار والنقاش حتى مع بقائه واستمراره، لكنّه يتحول إلى مأزق عندما يُستخدم مطية لأغراض خارجة عن السياق المنطقي والعقلي، كاستخدام القوة وحب السيطرة والإستئثار التي تدفع باتجاه الهيمنة وإسقاط القيم وعدم إحترام الإنسان وحقوقه.

 

من كان يدّعي الأحقيّة فليقارع بالبرهان والدليل، فقد خلق الله الخلق ورزق الكائنات وهداهم وهذا بيّنٌ واضح، وسيبقى المعاندون عاجزين في مواجهة التحدي، (أمّنْ يهْديكُمْ في ظُلُمات الْبرّ والْبحْر ومنْ يُرْسلُ الرّياح بُشْراً بيْن يديْ رحْمته أئلهٌ مع الله تعالى اللهُ عمّا يُشْركُون * أمّنْ يبْدأُ الْخلْق ثُمّ يُعيدُهُ ومنْ يرْزُقُكُمْ من السّماء والأرْض أئلهٌ مع الله قُلْ هاتُوا بُرْهانكُمْ إنْ كُنْتُمْ صادقين) ([18]).

 

وهل يستطيع المنكرون لنزول القرآن من عند الله تقديم دليل على مدّعاهم، بالإتيان بسورة من مثله؟ (أمْ يقُولُون افْتراهُ قُلْ فأْتُوا بسُورةٍ مثْله وادْعُوا من اسْتطعْتُمْ منْ دُون الله إنْ كُنْتُمْ صادقين)([19]).

 

فليُجل الناسُ النظر في أنفسهم وما تحمله من أسرار ودقة وتنظيم وتكامل وعظمة، وفي الآفاق وما فيها من سماء وأرض وكواكب ونجوم وليل ونهار وشجر وحيوانات وجبال وأنهار ألا ترشدهم إلى الخالق المدبّر الأوحد؟ (سنُريهمْ آياتنا في الآفاق وفي أنْفُسهمْ حتّى يتبيّن لهُمْ أنّهُ الْحقُّ)([20])، إنّها أدلة كثيرة تؤدي حتماً إلى الإيمان بالله الواحد الأحد، وهي أدلة واضحة للعيان يلاحظها أصحاب العقول السّويّة، فهل يملكون دليلاً واحداً عكس ذلك؟!

 

وهذه شريعة الله المقدسة بين أيديهم، وتلامس فطرتهم، (فأقمْ وجْهك للدّين حنيفاً فطْرة الله الّتي فطر النّاس عليْها لا تبْديل لخلْق الله ذلك الدّينُ الْقيّمُ ولكنّ أكْثر النّاس لا يعْلمُون)([21])، وتقدم لهم الأكمل (الْيوْم أكْملْتُ لكُمْ دينكُمْ وأتْممْتُ عليْكُمْ نعْمتي ورضيتُ لكُمُ الإسْلام ديناً)([22])، وهي تتناغم مع عقولهم لتقنعهم بأنّها شريعة الهداية والخلاص والسعادة.

 

إنّها غير محجوبة عن عامّة الناس لخواصهم، فهي للجميع من مختلف الفئات العمرية بحسبها، من الطفولة إلى الشيخوخة، وللجنسين الذكر والأنثى، بشمولية وإشتراك وتوازن وتفاوت محدود فيما يتطلب التمايز بينهما، وهي تتجه إلى المكلفين البالغين في تحميلهم المسؤولية، لأنهم قادرون على الإختيار وتحمل التبعات، وتنطلق من تأسيس الإعتقاد بالله تعالى من دلالة العقل عليه، ليكون الالتزام بالشريعة ثمرة القناعة، لا التسليم المسبق أو تعطيل التفكير، أو الغرق في إسقاطات ماورائية لكل ما في الحياة من دون أدنى فسحة للاقناع أو الدليل.

العقل والقران

القرآن معجزة الله الخالدة، (إنّا نحْنُ نزّلْنا الذّكْر وإنّا لهُ لحافظُون)([23])، وقد توصلنا إليها بالدليل العقلي، فالله جلّ وعلا خالق الكون والإنسان والحياة، أحدٌ لا شريك له، دلّت عليه مخلوقاته من خلال نظام العلة والمعلول، وبالوجدان، وقد أرسل الأنبياء لهداية البشرية، ودعمهم بالمعجزات لإثبات نبوّتهم، فحققت المعجزات أهدافها وقت حصولها، لأنها كانت مخصصة لتلك الأزمنة، إلاّ معجزة النبي محمّد (صلى الله عليه واله وسلم) وهي القرآن الكريم، التي بدأت بزمان حصولها لتستمر إلى الأبد، انسجاماً مع ختم النبوة وختم الرسالات السماوية، لتكون دليلاً دائماً من عند الله تعالى، فلم تتمكن أيدي المحرفين من تغيير أي شيء في القرآن، وهو يتحدى المعاندين أن يأتوا بحديث من مثله، (أمْ يقُولُون تقوّلهُ بلْ لا يُؤْمنُون * فلْيأْتُوا بحديثٍ مثْله إنْ كانُوا صادقين) ([24]).

 

فمع إثبات القرآن الكريم من عند الله تعالى بصيغته ومضمونه، نكون أمام نص صادق وصحيح، لا يأتيه الباطل من أي زاوية، وهذا ما ينطبق على كل آياته، سواء أكانت محكمة أو كانت متشابهة، تتحدث عن عالم الشهادة أو عالم الغيب، تعرض لأدلة العقيدة أو لتعاليم الشريعة، تسرد تأريخ الأمم أو تُنبئ بالمستقبل، تكشف بعض أسرار وخصائص خلق الكون أو تخفي بعضها الآخر، تقدم نماذج تفصيلية عن الحياة الآخرة أو تجمل وقائع أخرى، تربي الفرد على الأخلاق الفاضلة أو توجّه الجماعة، تدعو إلى الجهاد أو تحدد موارد الصبر. فالنص ثابت على المستوى العقلي من حيث الصدور، ويأتي التفسير وفق قواعده ليشرح المعاني المقصودة، فالاختلاف والتوصل إلى معانٍ متعددة لآية واحدة عائد لاختلاف الأفهام التي انطلقت من مقدمات أو مناهج مختلفة في التفسير أو معلومات متفاوتة.

 

إذاً لا حاجة للحديث عن كل آية إذا كانت تنسجم مع العقل أم لا؟ لأن إثبات القرآن من عند الله تعالى بالدليل العقلي، يجعل كل آية مقبولة عقلاً، وهي نص من الخالق العليم الذي يخبرنا بالحقائق لا بالظنون والإحتمالات.

 

ولا يصح إخضاع المعاني القرآنية لمستوى أفهامنا وإدراكاتنا، بل علينا أن نبذل أقصى الجهد لترقى أفهامنا إلى معاني الآيات الحقيقية ومقصد الشارع المقدّس منها، ما يستلزم العناية بإتقان اللغة العربية فالقرآن (بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ) ([25])، وقد خاطب العرب باللغة التي يفهمونها وبالقواعد التي تحكمها، وعلينا اختيار المنهج الأفضل في تفسير القرآن الكريم، والذي يحقق التعاطي مع معانيه ككل متكامل، ليفسّر بعضه بعضا، وتتكامل آياته مع بعضها البعض، من ضمن رؤية شاملة فيما أراد الله تعالى أن يبلّغنا إيّاه من خلال هذا الكتاب الخالد، ولعلّنا نصل إلى مراد الخالق بالتفسير الموضوعي للقرآن الكريم، التي تُتمّمها السنة النبوية الشريفة بما ورد من أقوال وأفعال وتقرير حول المعصوم أحكام الشريعة، بما يبيّن كامل المطلوب من الأوامر والنواهي والمستحبات والمكروهات والمباحات، على أن يلتزم المفسّر قواعد الأخذ بالأحاديث المعتبرة، ما يتطلب الاعتماد على علم الرجال، كما عليه أن يعمل لتوفير الرصيد الكافي من علم الأصول وعلم الفقه وعلم المنطق… الخ، فيكون بذلك قد أشرف على الفهم القرآني، بهذه الإحاطة العملية الملائمة، التي تساعد على فهم الخطاب الإلهي للمكلفين، ولا يكفي فهم اللغة العربية وحدها لفهم القرآن بإدعاء وضوح معاني الكلمات، فسياق الآيات وظروف نزولها وارتباطها بالسنة النبوية الشريفة وما ذكرناه من مستلزماتٍ للتفسير، تشكل معطيات ضرورية لفهم المراد من النص.

 

ولا يمكن عزل آية وحدها، لإخضاعها للتحليل العقلي بقياس مدى ملاءمتها للقناعة الشخصية، أو بتحديد مدى مقبوليتها النفسية أو المجتمعية، ففي هذه الطريقة خلل منهجي واضح. إذ تتحدّث آيات القرآن عن موضوعات شتّى ولأهداف عدة نذكر بعضها:

 

منها ما يتوجّه إلى العقل مباشرة لاندراجها في العقيدة، كإعطاء الدليل على اليوم الآخر في الإجابة على من أنكره (وضرب لنا مثلاً ونسي خلْقهُ قال منْ يُحْيي الْعظام وهي رميمٌ * قُلْ يُحْييها الّذي أنْشأها أوّل مرّةٍ وهُو بكُلّ خلْقٍ عليمٌ) ([26]).

 

ومنها ما يؤسس لآيات الأحكام ونظام العبادات، حيث المصلحة بالالتزام بها، لخصائص وأسرار فيها لا يدركها الإنسان، ولفوائد عملية بتطبيقها في حياته، كالأمر بإقامة الصلاة بالكيفية التي اختارها الله تعالى، وبالأوقات المحددة لها يومياً، (أقم الصّلاة لدُلُوك الشّمْس إلى غسق اللّيْل وقُرْآن الْفجْر إنّ قُرْآن الْفجْر كان مشْهُوداً) ([27])، وقال تعالى: (إنّ الصّلاة تنْهى عن الْفحْشاء والْمُنْكر) ([28]).

 

ومنها ما يحدد الأخلاق الفاضلة المنسجمة مع النموذج الأفضل لسعادة الإنسان والمجتمع، ما يوفّر التجارب الكثيرة لاستكشاف الأسس التربوية السليمة، كالنهي عن الغيبة: (ولا يغْتبْ بعْضُكُمْ بعْضاً أيُحبُّ أحدُكُمْ أنْ يأْكُل لحْم أخيه ميْتاً فكرهْتُمُوهُ) ([29])، والمبادرة إلى الأحسن: (ولا تسْتوي الْحسنةُ ولا السّيّئةُ ادْفعْ بالّتي هي أحْسنُ فإذا الّذي بيْنك وبيْنهُ عداوةٌ كأنّهُ وليٌّ حميمٌ)([30])، والتوازن في الإنفاق: (والّذين إذا أنْفقُوا لمْ يُسْرفُوا ولمْ يقْتُرُوا وكان بيْن ذلك قواماً) ([31])… الخ.

 

ومنها ما يسرد وقائع التأريخ، وقد حصلت بالفعل، بصرف النظر عن كونها وردت في كتب أخرى أو خالفتها أو نقلت أحداثاً غير مألوفة، فعلمها عند الله تعالى، فهو الذي أخبرنا عن إدعاء فرعون للألوهية: (فقال أنا ربُّكُمُ الأعْلى) ([32])، وطول عمر قوم نوح (عليه السلام) ومنهم نوح(عليه السلام): (ولقدْ أرْسلْنا نُوحاً إلى قوْمه فلبث فيهمْ ألْف سنةٍ إلا خمْسين عاماً) ([33]).

 

ومنها ما يتحدث عن الغيب، وهو مجهول بالنسبة إلينا، ولا نعلم منه إلاّ ما اطلعنا الله تعالى عليه، وهو النذر اليسير، ومنه ثواب المؤمنين في الجنة: (على سُرُرٍ موْضُونةٍ * مُتّكئين عليْها مُتقابلين * يطُوفُ عليْهمْ ولْدانٌ مُخلّدُون * بأكْوابٍ وأباريق وكأْسٍ منْ معينٍ * لا يُصدّعُون عنْها ولا يُنْزفُون * وفاكهةٍ ممّا يتخيّرُون * ولحْم طيْرٍ ممّا يشْتهُون * وحُورٌ عينٌ * كأمْثال اللُّؤْلُؤ الْمكْنُون * جزاءً بما كانُوا يعْملُون * لا يسْمعُون فيها لغْواً ولا تأْثيماً * إلا قيلاً سلاماً سلاماً) ([34]).

 

وعقاب الكافرين في النار: (وأصْحابُ الشّمال ما أصْحابُ الشّمال * في سمُومٍ وحميمٍ * وظلٍّ منْ يحْمُومٍ * لا باردٍ ولا كريمٍ)([35]).

 

والرقابة الدائمة على أعمال الإنسان من خلال الملائكة: (ما يلْفظُ منْ قوْلٍ إلا لديْه رقيبٌ عتيدٌ)([36]).

 

ووجود الملائكة: (الْحمْدُ لله فاطر السّموات والأرْض جاعل الْملائكة رُسُلاً أُولي أجْنحةٍ مثْنى وثُلاث ورُباع يزيدُ في الْخلْق ما يشاءُ إنّ الله على كُلّ شيْءٍ قديرٌ) ([37]).

 

ووجود الجن: (وما خلقْتُ الْجنّ والإنْس إلا ليعْبُدُون) ([38]).

 

فالتسليم بما ورد في القرآن من الغيب يحصل في مرحلة ثانية، بعد الإيمان بنزول القرآن من عند الله تعالى. إن عالم الغيب حقيقة كعالم الشهادة، فإذا كانت معلوماتنا المتاحة عن عالم الشهادة قليلةً ومحدودة، ونستكشفها تباعاً، فالأولى أن تكون معلوماتنا عن عالم الغيب أقل، لأننا نعرفها بالإخبار عن الخالق فيما أراد إخبارنا به، لا بالتجارب والاستكشاف.

تعليل الأحكام

بما أن القرآن الكريم كتاب هداية للبشر، (ذلك الْكتابُ لا ريْب فيه هُدًى للْمُتّقين)([39])، فإنّ غرض الهداية يتحقق بوصول الشريعة إليهم والتزامهم بها، ولا إمكانية لتعليل كل حكم من الأحكام، وذلك لكثرتها وسعتها وتنوع مراميها من ناحية، ما يعني عسراً في الإحاطة الحقيقية والفعلية لكل خفايا وأسرار ودقة التشريع، ولعدم إمكانية كل فرد من استيعاب علل الأحكام، ما يؤدي إلى اعتماده على تقييم غيره ممن يثق به، وعندها لا يكون الإختيار ذاتياً وإنما غيريّاً، فيكون الأولى أن يردّ الأمر إلى الله تعالى، ولتمايز العقول والأفهام، ما يُخضع الأحكام إلى جدل واختلاف، فيما لو كان المطلوب توفير القناعة بكل حكم، وهذا ما يبطل فاعلية الشريعة من أن تكون موجّهة ومترابطة، لأنها ستتفكك باختيارات الأمزجة المختلفة لما يُقنعها، في مقابل ما لا يقنعها.

 

وهل تتحقق الهداية بهذه الجدلية العقلية لكل شيء؟ وهل يوجد منهج صالح للاتباع يتلاءم مع هذه الطريقة لاعتمادها في حياة الإنسان؟ وأي سبيل أرقى وأفضل من الاعتماد على عالم الغيب والشهادة الخالق الخبير الذي وسع علمه كل شيء؟ والأهم من كل هذا، أنّ الفطرة الإنسانية تتلاءم مع هذا النمط من التوجيه للهداية، بالإيمان الكلي بأهلية الموجّه، لتكون تعاليمه التفصيلية أوامراً مقبولة ومُسلّماً بها، وقد اعتمد البارئ المقدس على هذا الاتجاه، فكانت الشريعة الإسلامية حافلة بالقواعد والضوابط التي يطغى عليها التسليم، في مقابل بعض الأحكام المعلّلة لحكمه في إبراز تعليلها، ولا تتحقق الهداية الفعلية إلاّ بهذا المنهج، لوجود أسرار كثيرة يصعب إدراكها من العاجز الناقص، ولأهمية الانقياد بما له من فوائد تتكامل مع ترابط وكمال الشريعة، ولأن جزءًا مهماً من بناء الإنسان يتحقق بالأوامر العبادية والتوجيهات السلوكية، التي لا يمكن إخضاعها لتحليل عقلي من تفسير الأدلة الموجبة لها، وإن كان بالإمكان استخلاص الحكم والفوائد على سبيل الاستئناس، لا الجزم بانحصارها فيما يتم استخلاصه.

 

ومما أعطى الخالق تعليلاً في القرآن لتحريمه: الخمر الذي كان سائداً، والميسر الذي شكّل آفة اجتماعية ضارّة، فبإبراز مخاطرهما الفردية والاجتماعية يُسهّل الامتناع عنهما، كما أنّ إمكانية استيعاب أسباب التحريم يسيرٌ على جميع الناس، فالخمر والميسر فيهما إثم كبير على الرغم من بعض المنافع التي لا تتناسب مع حجم الأضرار البالغة في حياة الناس: (يسْألُونك عن الْخمْر والْميْسر قُلْ فيهما إثْمٌ كبيرٌ ومنافعُ للنّاس وإثْمُهُما أكْبرُ منْ نفْعهما ويسْألُونك ماذا يُنْفقُون قُل الْعفْو كذلك يُبيّنُ اللهُ لكُمُ الآيات لعلّكُمْ تتفكّرُون)([40])، ومن أضرارهما إشاعة العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة: (إنّما يُريدُ الشّيْطانُ أنْ يُوقع بيْنكُمُ الْعداوة والْبغْضاء في الْخمْر والْميْسر ويصُدّكُمْ عنْ ذكْر الله وعن الصّلاة فهلْ أنْتُمْ مُنْتهُون)([41]).

 

أمّا تحريم إتيان النساء أثناء الحيض فللأضرار التي يتسبب بها، والتحريم يتجه عادة لمنع الإنسان عن الأعمال التي تضره، قال تعالى: (ويسْألُونك عن الْمحيض قُلْ هُو أذًى فاعْتزلُوا النّساء في الْمحيض ولا تقْربُوهُنّ حتّى يطْهُرْن فإذا تطهّرْن فأْتُوهُنّ منْ حيْثُ أمركُمُ اللهُ إنّ الله يُحبُّ التّوّابين ويُحبُّ الْمُتطهّرين) ([42]).

 

وعلى العموم فقاعدة التحريم مبنية إجمالاً على حماية الإنسان من الضرر، الذي يدركه والذي لا يدركه، وهي ليست متجهة إلى حرمانه من ملذّات الدنيا المحلّلة، فالشريعة لا تقيّد الفرد لمعاقبته في هذه الدنيا، بل لحمايته فيها من الفواحش والمنكرات والعدوان والظلم والبغي والشرك والكذب والانحراف…، ولا تقبل أن يحرم الإنسان نفسه بحجة الالتزام بها، بل تستنكر عليه هذه المنهجية، قال تعالى: (قُلْ منْ حرّم زينة الله الّتي أخْرج لعباده والطّيّبات من الرّزْق قُلْ هي للّذين آمنُوا في الْحياة الدُّنْيا خالصةً يوْم الْقيامة كذلك نُفصّلُ الآيات لقوْمٍ يعْلمُون * قُلْ إنّما حرّم ربّي الْفواحش ما ظهر منْها وما بطن والإثْم والْبغْي بغيْر الْحقّ وأنْ تُشْركُوا باللّه ما لمْ يُنزّلْ به سُلْطاناً وأنْ تقُولُوا على الله ما لا تعْلمُون) ([43]).

 

إنّ الطبيب المعالج لأمراض الجسم، يُوضح للمريض بعض أسباب المرض وكيفية تأثير الدواء في تحقيق العلاج، لكنّه يحتفظ لنفسه بالكثير الكثير نتيجة علمه وإطلاعه، في مقابل جهل المريض، وعدم قدرته على استيعاب كل شيء، بل وعدم الضرورة لذلك، إذ أنّ الهدف هو العلاج الذي يقع على عاتق الإخصائي، والمهم أن يتحقق العلاج لا العلم بتفاصيله. فكيف بمعالج الجسد والروح وتعقيدات وتشابك النفس الإنسانية؟ حيث تكون المهمة أصعب، والهدف أنبل، والنتيجة سعادةٌ أو شقاء. فالأولى أن يكون الإتجاه للهداية بالطرق الملائمة الموصلة إليها ببعض علم وكثير تسليم.

 

وهذا هو دين المسار الإنساني في تنظيم الحياة، فالمدير في المدرسة، والقائد في المعسكر، والحاكم في الرعية، والأب في الأسرة، ورب العمل في مصنعه، يتصرفون بتنظيم وتوجيهات لا تخضع للجدل، لحسن الإدارة وتحقيق الأهداف وإلاّ إنهار النظام العام، وما تعتمده الشريعة، يحقق تنظيماً لحياة وسلوك الإنسان يوصله إلى الطمأنينة والسعادة.

بين العقلنة والتسليم

إنّ حكم العقل في أصول الدين يستلزم تسليماً بفروعه، ويكون تدخله في الفروع لاستنباطها واستخراجها من مظانها لتحديد التكاليف المطلوبة بعد الحكم على شرعيتها، فمع إثبات المشروعية وحدود التكاليف لا مجال لإخضاعها مجدداً لحكم العقل بالقبول أو الرفض، فهذا مخالف للمنهج البشري المعتمد في مثل هذه الحالات، حيث لا يستقيم اختيار أو ثبات أو مبدأ من دون هذه القاعدة الملائمة للفطرة الإنسانية وضوابط العقل في التفكير، والمطبقة عملياً في كل مجالات الحياة.

 

فمن اختار المبدأ الرأسمالي أو الشيوعي، اختاره في أصوله وسلّم بتفريعاته، فالالتزام بمادية الإنسان في كل منهما، يجعل التفاصيل التي تُغرق الجسد في الملذات نتيجة طبيعية لاستبعاد الحساب في الآخرة ونهائية الحياة في الدنيا، ولو لم يعجب البعض نتائج هذا الغرق في الملذات، فإنه عاجز عن تغيير مسارٍ نتج عن قاعدة كلّية، ومهما كان الهامش متاحاً فهو أسير هذه القاعدة.

 

والالتزام بمحورية الملكية الفردية يستبع الإحتكار الجشع، والتفاوت الاجتماعي، وتأثير رأس المال على السلطة والقوانين مهما كانت الإجراءات الواقية من هذه النتائج لمن يرفضها، علماً بأن كتلة المصالح لفئة مسيطرة من الناس تجعلها مشروعة عندهم من ضمن النظام العام، وهم الأقدر على الدفاع عنها.

 

وكذلك الالتزام بمحورية ملكية الدولة، وحرمان الفرد من الملكية الخاص بأداء حدّي وقمعي، يعطل الحوافز الفردية، ويُفقر المجتمع، ويحصر الثروة بالسلطة الحاكمة باسم حماية ملكية الدولة، ويخالف الفطرة في طموحاتها ومتطلباتها، ومهما حاول البعض تلطيف النتائج، فإن الخط العام حاكمٌ ومؤثر، وقد فشلت الشيوعية فشلاً ذريعاً بسقوط الاتحاد السوفيتي، الذي كشف البنيان القائم على أعمدة غير ثابتة، وما نريد الاعتبار منه هو ارتباط التفاصيل والفروع مع أصولها، حيث يكون التسليم بها أمراً طبيعياً بعد القناعة بالأصول.

 

وهذا لا يعني أن العقل لا يقتنع بتفاصيل الفروع في الإسلام، فهي تنسجم مع التفكير السليم بكليّاتها وأبعادها وأهدافها ونتائجها، لكنّنا نتحدّث عن منهجية الأخذ بها عن طريق التسليم وليس عن طريق العقلنة، وإلاّ فإن التحليل واستخلاص الحكمة من أي تشريع يثبت إختزانه لأسباب مقنعة وراء تشريعه، ويحمل دلالات كافية لاثبات تفوقه على ما يغايره من حلول بديلة لفروع ناتجة عن أصول أخرى، إلاّ أن تجزئة الأحكام عن بعضها البعض وعن أصولها يُفقدها موقعها الطبيعي، ويُضعف فهم آثارها المتوخاة، التي تتكامل مع المنظومة التشريعية الكاملة والمترابطة، إضافة إلى أن الموافقة على طريق العقلنة في تفاصيل الفروع يربك خيارات الإنسان ويشوش استقراره العملي.

 

وهل الإنسان عقلٌ مجرد لتتجه منهجية هدايته إلى مخاطبة عقله فقط؟

 

إنّ دراستنا لفطرة الإنسان ووقائع تجربته عبر التأريخ، تبيّن أنّه عقلٌ ومشاعر، جسد وروح، ولا بدّ لأي تنظيم ناجح لحياته أن يتعاطى مع هذه الأمور الأربعة بتناسق وتوازن بينها.

 

فالمبدأ الملائم هو الذي يخاطب العقل بقواعد المخاطبة المنسجمة مع الاختيار الحر والمسؤول في تحديد مسار الحياة الدنيا، ويتفاعل مع المشاعر الإنسانية فيما تؤمن به وترتاح له وتحتاجه لتحقيق الاستقرار النفسي، لترسم الفروع ما يلبي حاجات الجسد بكل متطلباته، وفق ضوابط تحميه وتوصله إلى نموه الطبيعي والسليم، من دون إسراف او تقتير، ويلبي حاجات الروح في سمو النفس الإنسانية ووصولها إلى الطمأنينة والاستقرار، الذي ينعكس في امتلاك زمام المبادرة لضبط الجسد من ناحية، وتغذية الروح وقدرتها على رفع ما يحجبها عن فلاحها من ناحية أخرى.

عالمية الإسلام

ولعلّ أفضل تعبير لوصف الدين الإسلامي الذي يواكب الأمور الأربعة المذكورة، ويحقق لكل واحد منها دائرته الملائمة، أن نقول بأنّ "الإسلام دين الفطرة"، وقد قال تعالى: (فأقمْ وجْهك للدّين حنيفاً فطْرة الله الّتي فطر النّاس عليْها لا تبْديل لخلْق الله ذلك الدّينُ الْقيّمُ ولكنّ أكْثر النّاس لا يعْلمُون)([44])، وهو بذلك دين العقل والعاطفة، دين تنظيم حاجات الجسد والروح، دين الكمال الإنساني من أي زاوية ننظر من خلالها إلى الإنسان وبتكامل الزوايا مع بعضها البعض.

 

لقد توجّهت الرسالة الإسلامية إلى الإنسان، ولم تقتصر على جماعة دون أخرى، فقال تعالى: (وما أرْسلْناك إلا رحْمةً للْعالمين) ([45])، ووردت آيات كثيرة تتحدث مع الناس بلغة الحوار والاقناع والدليل: (يا أيُّها النّاسُ قدْ جاءكُمْ بُرْهانٌ منْ ربّكُمْ وأنْزلْنا إليْكُمْ نُوراً مُبيناً) ([46]).

 

(قُلْ يا أيُّها النّاسُ إنْ كُنْتُمْ في شكٍّ منْ ديني فلا أعْبُدُ الّذين تعْبُدُون منْ دُون الله ولكنْ أعْبُدُ الله الّذي يتوفّاكُمْ وأُمرْتُ أنْ أكُون من الْمُؤْمنين)([47]).

 

(يا أيُّها النّاسُ ضُرب مثلٌ فاسْتمعُوا لهُ إنّ الّذين تدْعُون منْ دُون الله لنْ يخْلُقُوا ذُباباً ولو اجْتمعُوا لهُ وإنْ يسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شيْئاً لا يسْتنْقذُوهُ منْهُ ضعُف الطّالبُ والْمطْلُوبُ)([48]).

 

فهي رسالة عالمية، انطلقت من شبه الجزيرة العربية لتخاطب الشعوب والقوميات والأعراق والأجناس، على أساس أن المكانة العليا للأتقى: (يا أيُّها النّاسُ إنّا خلقْناكُمْ منْ ذكرٍ وأُنْثى وجعلْناكُمْ شُعُوباً وقبائل لتعارفُوا إنّ أكْرمكُمْ عنْد الله أتْقاكُمْ إنّ الله عليمٌ خبيرٌ) ([49])، وهي بذلك تكون متحررة من أسر المكان لتشمل العالم، ومن اسر الزمان لتشمل كل العصور، بما فيها العصر الحديث، إذ أنها تتعاطى مع الفطرة الإنسانية، وقد أعدّها الله تعالى لذلك، ولم يحدّها بالزمان والمكان، بل ترك فيها من المرونة ما يلبي حاجات اختلاف الزمان والمكان.

 

إنّها رسالة قادرة على التحدي على مستوى العالم، وتملك مقومات إثبات أرجحيتها على ما عداها بالحجة والبرهان، فهي لا تعتمد تعطيل العقل بإسقاطات بدوية للإيمان بمسلمات غير قابلة للنقاش، ولا تنطلق من عصبيات مسبقة ترفض تشريح القناعات السابقة التي تولدت في ظروف تربوية خاصة، ولا تفرض حتميات تأريخية لمصادرة قدرة الاختيار، وإنما تنطلق من أدلة لاثبات الإيمان بالله تعالى وما يترتب عليه، في سياق وجداني يتناغم مع فطرة الإنسان وعقله.

ولعل سائلاً يستغرب، كيف لا يؤمن البشر جميعاً بهذا الدين؟‍‍!

وهنا نعيده إلى مقدمات هذا البحث، ليستخلص ويستنتج بأن العقل البشري لا يصدر أحكامه بشكل مجرّد، نظراً لتأثره بالمقدمات والمنهج والأنانيات، فإذا وردت أخطاء في المقدمات أو المنهج، وسيطرت الأنانيات والمصالح، فستقف الحجب التي تمنع العقل عن التفكير الصحيح مانعة من الوصول إلى النتيجة السليمة.

 

لقد حفظ الله تعالى القرآن الكريم من التحريف، (إنّا نحْنُ نزّلْنا الذّكْر وإنّا لهُ لحافظُون)([50])، ليوفّر مقدمات الهداية السليمة باتجاه الرسالة التي تُسعد الإنسان، فلا تكون لديه أي حجة لانحرافه أو ضياعه، وهو يتحمل مسؤولية البحث لعدم الوقوع في شرك حجب العقل والذات.

الفصل الثاني الـواقـعـيـة

واقعية ضوابط الفطرة

الواقعية تعبير عن انسجام الفكرة والسلوك مع حقيقة الإنسان ومتطلباته. وهذا ما يستدعي منّا البدء بتحديد واقع الفطرة الإنسانية لنستكشف مطالبها الواقعية.

 

خلق الله الإنسان من طين مجبول على الاختيار بين الخير والشر، في قالب جسدي تسكنه حاجات وغرائز لا بدّ من تلبيتها، وفي نفخة للروح تسمو أو تهوي به بحسب تغذيتها، وقد مكّنه الله تعالى من قدرة إعمار الأرض وبناء الحضارات.

 

بينما خلق الحيوان منقاداً لغرائزه لاشباعها، برتابة ومحدودية لا تمكّنه من التطور، وخلق الملائكة مأمورين بالطاعة، لا يختارون ولا يعصون ولا تشتهي أنفسهم، وينفذون مهمات محدّدة لا يحيدون عنها.

 

وقد جاء التشريع الإسلامي منسجماً مع متطلبات الجسد والروح، ضمن ضوابط الإعتدال في كل منهما والتوازن بينهما، رافضاً لأي إنكار للحاجات والغرائز، ومربياً على سلوك يرقى بالإنسان نحو الأفضل، بما ينسجم مع إمكاناته وقابلياته لعروج درجات التقوى، ليصل إلى أي منها بسعيه وجهده.

 

يشمل هذا التوازن النظرة إلى الدنيا والآخرة، فالدنيا متاع زائل والآخرة متاع دائم، فليأخذ الإنسان من الدنيا بقدر قيمتها وأثرها ليُبقي، للآخرة الثمرة النهائية الدائمة، ولا داعي لإنكار حياة الدنيا بحجة الآخرة، فللمرء فيها ما يؤدي إلى الآخرة، وله فيها ما يحتاجه بشكل طبيعي ومشروع، فليعشها بحدودها ومتطلباتها بشكل سليم.

 

قال تعالى: (وابْتغ فيما آتاك اللهُ الدّار الآخرة ولا تنْس نصيبك من الدُّنْيا وأحْسنْ كما أحْسن اللهُ إليْك ولا تبْغ الْفساد في الأرْض إنّ الله لا يُحبُّ الْمُفْسدين) ([51]).

 

وقال: (قُلْ منْ حرّم زينة الله الّتي أخْرج لعباده والطّيّبات من الرّزْق قُلْ هي للّذين آمنُوا في الْحياة الدُّنْيا خالصةً يوْم الْقيامة كذلك نُفصّلُ الآيات لقوْمٍ يعْلمُون * قُلْ إنّما حرّم ربّي الْفواحش ما ظهر منْها وما بطن والإثْم والْبغْي بغيْر الْحقّ وأنْ تُشْركُوا باللّه ما لمْ يُنزّلْ به سُلْطاناً وأنْ تقُولُوا على الله ما لا تعْلمُون) ([52]).

 

فالاتجاه الإسلامي يركّز على ضبط سلوك الإنسان في الدنيا، وعدم إطلاق العنان لملذاته وشهواته، فما حُرّم هو ما منعه الله تعالى لضرره وسلبيته ووجود مصلحة في ذلك، علماً بأن المنع عن بعض الأمور سلوك بشري في كل الأمم والتعاليم، التي قد تحرّم ما أحلّ الله، وقد تحلل ما حرم الله، وقد تتلاقى في بعض الضوابط مع تعاليم الإسلام، ما يؤكد على الحاجة الطبيعية لحماية الإنسان بهذه الإجراءات. وحتى الغرب الذي أعطى الجسد الكثير، فقد وضع بعض القيود لحقوق الفرد كي لا تتعارض مع حقوق الآخرين، وركّز على أهمية الإلتزام بالقانون الذي يحكمها، والذي يحدد ضوابط العلاقات بين الأفراد في المجتمع ومع الدولة.

 

فالخلاف حول الضوابط ، وعلى كل طرف أن يثبت مدّعاه ومنطلقاته في نظرته إلى الدنيا، فلا معنى للقول بأن "الاتجاه المادي واقعي والاتجاه الإلهي مثالي"، إلاّ إذا كان المقصود بالمثالي الوصول للحياة الأفضل والأمثل، لأن الاتجاه الإلهي واقعي بانسجامه مع متطلبات الإنسان، وهو أكثر واقعية من الاتجاه المادي، لأنّه يتعاطى مع حقيقة الإنسان وحاجاته، من موقع المعرفة والعلم، ومن موقع الخالق مع مخلوقه. أمّا الاتجاه المادي، فهو اتجاه تجريبي جاهل بحقيقة الإنسان، يتعرّف عليه تدريجياً، ويجرب الحلول ويغيرها باستمرار، ولا يُعبر عن نظرة واحدة عند جميع الموجّهين، فهو اتجاه ناقص يتصرف من وحي الواقع الذي يراه، لكنّه لا يحقق الواقعية المنسجمة مع الحقيقة.

 

ومع اهتمام الإسلام بالروح وتغذيتها، والعبادات وتأثيرها في هذا المجال، بهدف تزكية النفس، ما يؤثر على مركز التوجيه لاختيارات وأعمال الإنسان، فإنه لم يقبل جنوحاً يعاقب الجسد أو يحرمه من حاجاته الطبيعية، "فلا رهبانية في الإسلام"([53])، ولا عزلة عن الحياة، فالإيمان يُترجم بعيش الدنيا للفوز بحسن السلوك فيها لا بالإمتناع عنها.

 

رُوي عن ثلاثة رهط استقلُّوا أعمالهم في مقابل أعمال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد غفر الله تعالى ما تقدم من ذنبه وما تأخر بسبب عبادته وأعماله، فقال أحدهم: أمّا أنا أصلي الليل أبداً.

 

وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر.

 

وقال الثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً.

 

فجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله واتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني"([54]).

 

وترك الإسلام فسحة لتغذية الروح، في مستحبات العبادة ورقي النفس الإنسانية، آخذاً بعين الاعتبار تقلب النفس مع مشاغل ومصاعب الحياة، فإنّ لها إقبالاً على العبادة في بعض الحالات، وإدباراً عنها في حالات أخرى، فلكي تبقى تربية النفس في دائرتها الصحيحة، لم يقيّد المكلف بواجبات عبادية صعبة، فقد أوجب عليه خمس صلوات في اليوم، وصيام شهر في السنة، وحج مرة واحدة في العمر… الخ وهو يطيق أكثر من ذلك، فعن الإمام الصادق(عليه السلام): (ما كلف الله العباد فوق ما يطيقون، فذكر الفرائض وقال:إنما كلّفهم شهر من السنة وهم يطيقون أكثر من ذلك) ([55])، ووجّهه في المستحبات لينسجم مع حالة نفسه، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "إن للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فتنفّلوا، وإذا أدبرت فعليكم بالفريضة"([56])، وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): "إن للقلوب إقبالاً وإدباراً، فإذا أقبلت فاحملوها على النوافل، وإذا أدبرت فاقتصروا بها على المستحبات"([57]).

 

عندما تطبق هذه التعاليم في مجتمع من المجتمعات، فتنجح وتستمر آثارها، فهذا يدل على واقعيتها وقابليتها للتأثير ، أمّا رفضها في مجتمع آخر فعائد إلى الثقافة السائدة والأعراف والتقاليد، وما تراكم عبر الزمن من تربية للنفوس، ما شكّل حجباً مانعة من استقبال الشريعة أو الاستعداد لفهمها وتطبيقها.

 

ولو استعرضنا بعض المحرمات وبيّنا أضرارها، لوافقنا الجميع على ذلك من أي اتجاه كانوا، إلاّ أنّهم يعطون المبررات المختلفة والقاصرة لعدم المنع لديهم. فالخمر يُذهب العقل، ويسبب الحوادث والمشاكل الاجتماعية الأسرية، والأهم من ذلك ما يسببه من أضرار للجسد باعتراف الأطباء. والزنا يخلط مياه الأنساب ويعطل استقرار العلاقات الاجتماعية، ويحرم أولاد الزنا من العيش الكريم، ويُغرق في ملذات الجسد، ويسبب أمراضاً متنقلة كالزهري والسفلس وغيرهما، إضافة إلى مضاره الأخرى. وإبراز جسد المرأة بالتركيز على مفاتنها، يجعلها سلعة وأداة متعة للعامة، ما يؤثر على مكانتها ودورها. ولن نستعرض كل المحرمات، لكنّهم يتجاوزون التحريم مع اعترافهم بالأضرار ويدعون إلى التخفيف من الخمر أو عدم قيادة السيارة عند الإكثار منه، تلبية للرغبة الشخصية بعدم حرمانها من لذّتها، ولا يوافقون على تحريم الزنا! لكنهم يدعون إلى توفير الوقاية من الأمراض الجسدية من دون التعرض لحرية الإنسان، ويحمّلون الأفراد في المجتمع مسؤولية الاختيار في طريقة التعاطي مع العري كجزء من الحرية أيضاً… الخ. لأن الأساس الذي ينطلقون منه حريةُ الإنسان في إعطاء الجسد أقصى ملذاته، ثم يعالجون بعض الانعكاسات السلبية بطريقة جزئية، من دون التوقف عند السلبيات الأخرى الكثيرة، طالما أنها رغباتُ الهوى.

تطبيق المسلمين لإسلامهم

ومع كل هذه القواعد الإسلامية في التربية والحياة والسلوك والعمل، فإن استجابة المسلمين لها متفاوتة، ولا تكفي القناعة بها ليتغيّر الحال، بل لا بدّ من جهد متواصل وجهاد أكبر(جهاد النفس) لمواجهة تحديات الشهوات ودعوات الشيطان، وفي الطريق يسقط البعض وينجح البعض الآخر، لذا لا يمكن الربط بين الإسلام وأخطاء المسلمين، "إن الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله"([58])، ولا يمكن تكوين صورة نموذجية عن مجتمع المسلمين، فحسن الصورة يزداد ويرتقي مع حسن التزامهم وتقيدهم بالتكاليف، كما أن الصورة السلبية موجودة بسبب التقصير والاهمال وضعف الالتزام.

 

وقد تحدث القرآن بواقعية عن مجتمع المسلمين، فعرض إيجابياته وسلبياته، وأبرز نقاط القوة والضعف فيه، وتابعه في متغيراته، ليقدّم الصورة الحقيقية لنا، فلا يلتبس أحدنا بتجميل ما آل إليه حال المسلمين، لأنّ المسؤولية تقع عليهم، وأي نتيجة في مجتمعهم تنشأ عن مستوى التزامهم، ويجب أن نعرف واقع هذا المجتمع حتى في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا نعيش في عالم المثل، وهذا ما يدعونا إلى الاعتبار والاستفادة من تجارب المسلمين، من دون أن يصيب تقييمنا للإسلام بأي خدش.

 

فالمنافقون يعيشون في مجتمع المدينة المنورة في الدولة التي يحكمها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (وممّنْ حوْلكُمْ من الأعْراب مُنافقُون ومنْ أهْل الْمدينة مردُوا على النّفاق لا تعْلمُهُمْ نحْنُ نعْلمُهُمْ سنُعذّبُهُمْ مرّتيْن ثُمّ يُردُّون إلى عذابٍ عظيمٍ) ([59])، وقد تحدثت سورة التوبة عنهم وعن أفعالهم بإسهاب.

 

واختلف حال المؤمنين في بدر عن أحد، ففيما تميّزوا بإيمانهم في معركة بدر حيث كان الواحد منهم بعشرة من الكفار في القوة والشجاعة والفعّالية: (يا أيُّها النّبيُّ حرّض الْمُؤْمنين على الْقتال إنْ يكُنْ منْكُمْ عشْرُون صابرُون يغْلبُوا مائتيْن وإنْ يكُنْ منْكُمْ مائةٌ يغْلبُوا ألْفاً من الّذين كفرُوا بأنّهُمْ قوْمٌ لا يفْقهُون) ([60])، أصبح الواحد منهم باثنين في معركة أحد، بسبب ما دخل في نفوسهم من حب الدنيا، والتراجع في مستوى إيمانهم واندفاعهم نحو التضحية: (الآن خفّف اللهُ عنْكُمْ وعلم أنّ فيكُمْ ضعْفاً فإنْ يكُنْ منْكُمْ مائةٌ صابرةٌ يغْلبُوا مائتيْن وإنْ يكُنْ منْكُمْ ألْفٌ يغْلبُوا ألْفيْن بإذْن الله واللهُ مع الصّابرين) ([61]).

 

فالتجربة الإسلامية متحركة، وتختلف من مجتمع لآخر، ومن زمان لآخر، وتتبع فهمها ومستوى الاستجابة لها، كما تتأثر بعدد المنتمين إليها والفرصة التي تهيأت لهم للتربية بتعاليم الإسلام، فالمؤمنون في مكة المكرمة تميّزوا بنماذجهم الراقية، فهم قلّة تربوا على يد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ظروف صقلت شخصيتهم، وكذلك كان الأنصار في المدينة المنورة حيث حسُن إسلامهم أكثر مما كان عليه الحال مع قريش، فأبلوا بلاء حسناً وأقاموا دولة الإسلام، لكنّ فتح مكة في السنة الثامنة للهجرة استقطب أعداداً كبيرة من سكان الجزيرة العربية فدخلوا في دين الله أفواجاً، (إذا جاء نصْرُ الله والْفتْحُ * ورأيْت النّاس يدْخُلُون في دين الله أفْواجاً) ([62])، ما جعل الفرصة لاستيعابهم تعاليم الإسلام قليلة، فأثار بعضهم مجموعة من السلبيات مما حملوه معهم من جاهليتهم.

 

ولا نقول بسهولة الالتزام الديني، خاصة مع وجود المعيقات التربوية والمجتمعية التي تحاصر الالتزام وتعارضه، لكنّنا نثق بالقدرة على تحقيقه بالصبر والحكمة والموعظة الحسنة والاستفادة من التجارب وإعادة الإنسان إلى فطرته السليمة، وهذا ما يتطلب عملاً هادئاً ومحسوباً برفق، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تكرّهوا عبادة الله إلى عباد الله، فتكونوا كالراكب المنبت، الذي لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى) ([63]).

فإذا سلك المرء طريق الإيمان فسيجده يسيراً وطبيعياً ليصبح بعد ذلك نمطاً عادياً في حياته.

النص محور التشريع

لقد حققت أطروحة الإسلام بمحورية اهتمامها بحقيقة الإنسان قدرة على تشكيل النظام الأصلح له، خاصة بمعالجتها لثوابت متطلبات الفطرة بثوابت التشريع، وتركت المجال مفتوحاً بمرونة أمام المتغيرات المرتبطة بالزمان والمكان، وشكّل النص الشرعي هيكل الأوامر والنواهي، ليحقق طريق الهداية الموضوعي والواقعي، فلم يُترك الإنسان لقدره ليبحث عن الحل، بل وضعت له الخطوات الضرورية لهذا الحل من خلال منهج الإسلام.

 

فالنص محور التشريع، وهو قرآني أو من السنة الشريفة (بما تتضمن من أقوال وأفعال وتقرير). أمّا القرآن فقطعي الصدور عن الله جلّ وعلا، وآياته: واضحة الدلالة وظاهرة الدلالة، فما كانت دلالتها واضحة فهي ثابتة المعنى، وتدل على مراد الشارع الجدي، وما كانت دلالتها ظاهرة فهي التي تحتمل التأويل، وتجري عليها قواعد اللغة وأصول الفقه لتحديد معناها الظني، الذي يمكن أن يطابق الواقع المراد أو أن لا يطابقه، لكنّ بذل الوسع في استنباط المعنى المراد هو المطلوب، ويتأثر الاستنباط بسعة علم المفسّر أو المجتهد وإلمامه بكل الخصوصيات التي لها علاقة بالموضوع، فالنص القرآني الثابت بدلالته غير قابل للاجتهاد، والظاهر بدلالته قابل للاجتهاد وفق المعايير المعتمدة لا بشكل استنسابي.

 

أمّا السنة فتحتاج إلى مرحلة أسبق لحسم صدورها عن المعصوم، فما تواتر منها أو صح صدوره يتم التعاطي معه كقطعي الصدور، وما تبين عدم صدوره يخرج عن دائرة البحث، وما احتمل صدوره يكون ظني الصدور، عندها يتم التعاطي مع قطعي الصدور كالنص القرآني في دلالته الواضحة أو الظاهرة بمراعاة مناسبات الحكم والموضوع وأخذها بعين الاعتبار، ومع ظني الصدور على أساس دلالته الظاهرة.

 

فالمساحة التي يمكن للمجتهد أن يتحرك فيها، دائرة النص ظني الصدور من السنة الشريفة، ودائرة النص ظاهر الدلالة من القرآن الكريم والسنة، أما قطعي الصدور وواضح الدلالة فلا إمكانية للاجتهاد فيه، لأنه محكم وثابت، ومعبرٌ عن الإرادة الجدية كنص معتمد في التشريع.

 

ولا شك بأن فهم المعنى المراد في مساحة الاجتهاد يختلف من مجتهد لآخر في بعض الاستنتاجات، وهي مساحة تشمل ما استنبطه المجتهدون في فترات سابقة لقضايا مطروحة، وما يمكن أن يستنبطوه بتجديد نظرهم فيه أو لقضايا مستجدة في الأمور المستحدثة.

 

ويؤثر المنهج المعتمد في طريق الاستنباط على النتائج المستفادة، فالبحث التفصيلي التجزيئي للآية أو الرواية بما هي نص، يُعبّر عن المراد، ما لم يسري عليه التعارض مع نص آخر، أو قواعد الجمع العرفي، أو الاطلاق والتقييد، أو العام والخاص…الخ، وهو يختلف عن البحث التكاملي، الذي يضع النص في سياق ربطه بالنصوص الأخرى، التي لها علاقة مباشرة وغير مباشرة بالموضوع بالنظر إليه كجزء من كل. وكذلك اعتماد خبر الآحاد في الأحكام كنص صحيح يختلف عن عدم اعتماده، في إدخال مجموعة من الأحكام أو إخراج مجموعة أخرى من دائرة الصحة، والأمر نفسه يتكرر في علم الرجال بتحديد الثقة، ومتى يؤخذ بخبره ومتى لا يؤخذ، وهكذا نجد المنهج مؤثراً في عملية الاستنباط.

تجديد الفهم للدين

من الطبيعي أن يكون التجديد سمة دائمة في فهم الدين، لسببين جوهريين:

 

الأول: صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، فمع اختلاف الزمان تستجد أمور، وتتغير معطيات، وتتضح خفايا، ما يستدعي الإجابة على الأسئلة المعاصرة، سواءًا المثارة منها حول قضايا قديمة، أو المستجدة منها بسبب تغير الزمان. ومع اختلاف المكان، تتفاوت الأعراف ومجالات الاهتمام، ما يستدعي مواكبة متطلباته على أساس الشريعة. وبما أن الشريعة قد ارتكزت على الثوابت والمتغيرات، فدائرة التجديد في المتغيرات مرنة وطبيعية، تتطلب من المهتمين بذل وسعهم للاستفادة منها، فإذا قصّروا، حُرمت الأمة من فعالية ومواكبة الإسلام للحياة، وعندها لا تكون المشكلة من عدم قدرة الإسلام على مواكبة الحياة المعاصرة، وإنما من عدم قدرة المسلمين وقلة سعيهم لمواكبة حاجاتهم في الحياة المعاصرة.

 

الثاني: وجود دائرة كبيرة من النصوص ظنية الدلالة أو ظنية الصدور، ووجود مساحة واسعة للمباحات، وكذلك للمستحبات والمكروهات التي يغلب على تحديدها في كثير من الأحيان التسامح في أدلة السنن، وهذا ما يمكّن الفقيه من التحرك بشكل واسع في استنباط الأحكام الشرعية، والبحث الدقيق عمّا يساعده للاستفادة من معانٍ لم تكن مستنتجة، أو أحكام لم تكن مستنبطة، أو دلائل لم تكن ظاهرة، وهو بذلك يواكب العصر، لا على قاعدة البحث عن تخفيف التكاليف الشرعية، بل على قاعدة التدقيق في فهم أفضل وأوثق واستنباط الحكم الشرعي من مظّانه للاقتراب من الحكم الواقعي الذي قد يؤدي إلى التخفيف في كثير من الأحيان، وإلى التشدد والتضييق في بعضها. أمّا السبب الداعي للتأكيد على منهجية استكشاف الحكم الشرعي فلأن هذه المنهجية تضع الفقيه أمام طريق للاستنباط يختلف عنه فيما لو كان اهتمامه التخفيف. وبما أننا نؤمن بسماحة الشريعة ويسرها، فالمطلوب استكشاف مضامينها التي تؤدي إلى التسهيل بشكل طبيعي.

 

وهنا يساعد التجديد في لفظ ما تراكم من انحرافات أو تشويهات أو أخطاء في الفهم الديني، كما يؤدي إلى التخلص من التقليدية والجمود لاكساب الفهم الديني حيوية تتلاءم مع اكتمال الدين وثباته، فهو استجابة لتحديات الواقع الإنساني المتحرك، وهو السبيل لامتداد الدين الكامل وثوابته إلى الميادين الجديدة والأمور المستحدثة.

 

فالمطالبة بالتجديد لا يعني تجديد الدين، وإنما تجديد فهم الدين، بالاستفادة من صلاحيته ونصوصه، ودعوات التجديد موجّهة إلى الفقهاء والباحثين ليوفروا الشروط الموضوعية وفق المناهج المقبولة في عملية الاستنباط، كي يقدموا استنتاجاتهم، قليلة كانت أو كثيرة، عاديّة كانت أو استثنائية.

 

ومن الخطأ أن يتحول التجديد إلى عقدة تُطيح بما بين أيدينا، أو تثير إشكالات الشك ببعض الأحكام لمجرد الإحساس باحتمال أن يكون الموقف الشرعي غيرها، أو أن نعيش ضغوطات الواقع في أسئلة لا تجد حلولاً منسجمة مع رغباتنا، ففي هذا الأسلوب خطر كبير، لأنّه يهز الثقة بالشريعة وقدرتها على مواكبة الحياة، ولا يقدم في المقابل فهماً مقنعاً، فيتحول تطبيقها في حياة الناس عقوبة وليس حلاً، لوجود شك في أهليتها بصيغتها المطروحة.

 

والسؤال المطروح: هل نعتبر الأحكام الشرعية المقبولة في زماننا هي التي تلائم رغباتنا وتخلصنا من بعض الإحراجات العملية؟ أو أننا نعتبرها منظومة كاملة لبناء الإنسان وتوجيهه فيما يعجبه وما لا يعجبه؟

 

بتعبير آخر: هل نريد الأحكام متوافقة مع الهوى والاتجاه المادي الذي انتشر انتشاراً واسعاً في زماننا فأوجد أسئلة معاصرة؟ أم نريدها لتعالج لنا ما نشخصه من مشاكل فردية واجتماعية وفق ما يتحمل النص من قابلية لذلك وفي المساحة المتاحة للاختيار؟

 

ليس وارداً على المستوى المنهجي أن نغلّب الهوى على الشرع، وإلاّ كانت الحلول من مبانٍ أخرى لا علاقة لها بالشريعة. لكنّ المطلوب أن نحدّد المشاكل المستعصية والأسئلة المستجدة، وأن نعتمد في تحديدها على دراسات وإحصاءات اجتماعية منهجية، وأن نصنفها في أبوابها الفردية والجماعية، العائلية والاجتماعية، السياسي والاقتصادية والثقافية… الخ، ثم تعرض بين أيدي الفقهاء والمختصين، مع كل الحيثيات الزمانية والمكانية التي تساعد على استكناه طبيعة المشكلة وحجم انتشارها، ليجمع الفقيه بين إلمامه بطبيعة السؤال المطروح، وإلمامه طبعاً باستنباط الأحكام الشرعية، معتمداً في ذلك على ما تراكم من تطور في حركة الاجتهاد، ومستفيداً من المناهج والآليات الحديثة الملائمة مع هذه الحركة، وعند بروز قضية معقدة يُتوقع لها حلٌ ما، لكنّ الفقيه لم يتمكن من الوصول إليه بما بين يديه، عندها من المفيد عقد لقاءات أو مؤتمرات، أو كتابة أبحاث متخصصة حول موضوع معين، لاستكشاف الحلول الممكنة.

 

لكن عندما يتبين أن جميع المحاولات لم تنتج الحلول التي يتمناها البعض، فقد تكون حكمة التشريع بأن ينحصر الحل بما استنبطه الفقهاء سابقاً، وعندها يمكن أن تتجه المعالجة إلى جهة أخرى تحيط بالمشكلة المطروحة، لتعالج بعض المقدمات بطريقة تمنع الوصول إلى المشكلة، وربما تبين أن المشكلة موجودة في مكان وغير موجودة في مكان آخر، فيكون الحل المطروح طريقاً للمعالجة في المكان المناسب.

 

مثال تطبيقي: أجمع الفقهاء بأن الطلاق بيد الرجل، وعند إنشاء عقد الزواج من دون شروط، يستطيع الرجل تطليق زوجته في أي وقت شاء من دون تحديد أسباب ذلك، ولا تملك الزوجة هذا الحق، ويتدخل الحاكم الشرعي بناء لطلب الزوجة ليلزم الرجل بطلاق زوجته في حالتين: الامتناع عن الإنفاق، وعدم معاشرتها لمدة تزيد عن الأربعة أشهر مع إصراره على ذلك، فإذا لم يطلقها، طلّقها الحاكم الشرعي نيابة عنه.

ناقش البعض هذه القضية من زوايا عدة:

1- هل يمكن أن يكون للزوجة حق طلاق نفسها في أصل العقد كي تتساوى صلاحيتها في ذلك مع الرجل؟

 

2- هل يمكن تقييد الرجل بعدم حقه في الطلاق الاستنسابي كي لا تكون المرأة عرضة للآثار الاجتماعية الكثيرة بسبب طلاقها؟

 

3-ماذا تفعل المرأة إذا لم تنسجم نفسياً في استمرار حياتها الزوجية حيث لا يساعدها العقد للطلاق إلاّ إذا وافق الزوج؟

 

4-تصرف المرأة جهدها في المنزل وتربية الأولاد، ويهتم الرجل بتنمية قدراته العملية والمالية، ليكون الرجل في نهاية المطاف مالكاً، بينما تكون جهودها قد اتخذت طابعاً طوعياً ولم يتراكم على المستوى المالي، فهل تجد حلاً يضمن لها شيئاً من التوازن إذا طلقها أو إذا مات ولم يكن الثمن كافياً لإعالة نفسها مع فقده؟

 

5-قد لا تتحمل بعض النساء تعدد الزوجات، وهو حق لا يمكن سلبه منه، ولا تستطيع فعل شيء إذا لم يوافق على طلاقها فيما لو طلبت ذلك، ما يعني أنها ستعيش غصباً عنها في حياة لا تريدها، وبذلك تكون عاصية إذا قصّرت في واجباتها الشرعية فلا مبرر لها بذلك مع وجود العُلقة الزوجية؟

 

أمّا الدافع لهذه الأسئلة وغيرها، فبعض الوقائع الاجتماعية التي برز بعضها في مكان دون آخر، أو في زمان دون آخر، وقد تحولت في بعض الأحيان إلى ظواهر اجتماعية حادة.

 

بما أن إجماع الفقهاء لم يتوصل في أساس العقد إلى غير ما ذكرنا، لكنهم اجمعوا أيضاً بإمكانية وضع شروط خاصة أثناء العقد، تتلاءم مع الحقوق الثابتة لكل من الرجل والمرأة، وهي قادرة على معالجة كل الأسئلة الواردة أعلاه، فلا داعي للتوقف عند أصل العقد مع انسداد احتمالات تعديله، طالما أن الحلول المطلوبة موجودة في إضافة الشروط. إذ يمكنها أن تشترط:

 

1- أن تكون وكيلة عن زوجها في طلاقها فتتساوى بذلك مع الرجل.

 

2- يمكن تقييد طلاق الرجل لها بدفع مبلغ مالي كبير، أو مجموعة تأمينات تعيق إقدامه على هذه الخطوة عندما تكون استنسابية.

 

3- حل مشكلة الانسجام النفسي بالعودة إلى الحاكم الشرعي ليقدر المصلحة وحجم المشكلة، ليجري طلاقها بوكالته في العقد، أو لتجريه بوكالتها عن زوجها.

 

4- أن تكون الثروة مناصفة أو بنسبة مئوية معينة لكل ما حصّله بعد الزواج في حال الطلاق أو الموت.

 

5- أن توافق على تعدد الزوجات، أو يكون لها الحق في طلاق نفسها وكالة عنه فيما لو لم توافق.

 

لكنّ مجتمعاتنا لا تتحمل أن تشترط كل زوجة هذه الشروط الخاصة، التي تخيف الرجل، وتجعله يُعرض عن الزواج ممن تشترط هذه الشروط. ونجيب بأن العقد اتفاق بين طرفين، وليدرس كل منهما مصلحته، فإذا وجدت المرأة مصلحتها في الزواج أبلغ من بعض هذه الشروط قدمته عليها، وإذا وجدتها ضرورية توقفت عندها.

 

ومع ذلك يمكن رفع المشكلة من دائرة الزوجين، ليضع علماء المنطقة التي تعاني بعض المشاكل عقداً يتضمن شروطاً مقترحة، بحيث تُتلى على الزوجين قبل إجراء العقد، فما وافقا عليه يصبح جزءًا من العقد ملزماً لهما، فيرتفع الحرج الشخصي، كما يمكن للعلماء أن يقوموا بتوجيه ثقافي للمجتمع، لتشجيعه على بعض الشروط كي تصبح مألوفة وطبيعية، فنكون بذلك قد عالجنا المعضلة الموجودة في مكان وزمان معين. وقد خطت إيران الإسلام خطوة مهمة في هذا المجال، فوضعت عقداً فيه مجموعة من الشروط للاختيار، وهي مستقاة من واقع مجتمعهم، ويتعاطى الزوجان مع الشروط بشكل طبيعي في اختيار بعضها من دون حرج.

 

هذا الإجراء يستلزم قناعة من المتصدين للشأن العام بطبيعة المشكلة وحدودها وأساليب معالجتها، وتتطلّب جرأة ليختاروا هذا الأسلوب، ويحددوا الشروط العامة الملائمة، التي تقدم علاجاً يختار منه الزوجان ما يناسبهما، فنكون بذلك قد ربطنا المعالجة بالأسباب التي أوصلت إلى المشكلة، بوضع الشروط المناسبة وتوجيه عامة الناس حول جدوى هذه المعالجة،فيكون الحل قد ارتبط بالتشخيص الذي ساعدت عليه مرونة التشريع.

 

وعندما لا يتوصل الفقهاء إلى أي إمكانية لتعديلات في الحقوق الواردة في أصل العقد، لعدم قابلية النصوص لذلك، فهذا يدل على وجود مصلحة أكيدة في هذه الحقوق العامة، ومع تطبيقها من دون شروط في عقد الزواج، تستقيم الحياة في أزمنة وأمكنة كثيرة، لأنها تحفظ المباني العامة الأساسية للحياة الزوجية، فتأتي الشروط بعد ذلك لمعالجة ما يطرأ أو يحتمل حدوثه في ظروف معينة.

إشكالية جمود الفهم للنص

إننا لا نعاني من جمود النص ولكن من جمود الفهم للنص عند البعض، خاصة عند سلوك التجزيئية في فهم النصوص، وذلك بعزل النص عن النصوص الأخرى، والتمسك بظاهره من دون أن ينسجم مع النظرة الكلية له مع غيره، فعندما نقرأ قوله تعالى: (الرّحْمنُ على الْعرْش اسْتوى) ([64])، ونفسر العرش بكرسي الملك، والاستواء بالجلوس عليه، ما يعني أن الرحمن قد جلس على كرسي له شكل وحدود، فإن المفسر يقع في مأزق التجسيم للخالق، لكن لو ربطنا الآية بقوله تعالى: (وهُو معكُمْ أيْن ما كُنْتُمْ) ([65])، يتضح أنه في كل مكان، ولا يحده مكان، فيكون المقصود بالتأويل أنّ الله عزّ وجل مسيطر من موقعه كخالق على الكون، وما استخدام ألفاظ العرش والاستواء إلاّ لتقريب الفكرة إلى الأذهان كي تستوعبها.

 

وكذلك عندما نحمّل التجارب التاريخية مضموناً مقدساً بجعلها بمصاف النص القطعي الصدور والدلالة، فإننا نجمّد الفهم الديني ونحاصره بمسلّمات لم تثبت، ومثالها طبيعة الدولة الإسلامية، هل هي حكومة بنمط الخلافة من حيث التنظيم والإدارة ومفردات تدبير شؤونها؟ أم أنّها تحمل مرونة الالتزام بضوابط الحكم العامة من تطبيق تعاليم الإسلام واستقامة الحاكم وأولوية الكفوء وغيرها من الشروط؟

 

تكفي المقارنة بين واقع المجتمع في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وواقع المجتمعات اليوم، ليتبيّن استحالة تطبيق تنظيم دولة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمفرداتها وآلياتها على الدولة المعاصرة بتعقيداتها وتشعباتها وعدد سكانها وترابطها مع دول العالم.ولا تجبرنا النصوص على التقيد بنمط معين، وهذا منسجمٌ مع قدرة الإسلام على مواكبة الحياة. فالحكم الإسلامي حكم بالمضمون الشرعي من دون أي تقييد للآليات التنظيمية المساعدة لتحقيق هذا المضمون، باستثناء ما شكّل منها عائقاً أمام تحقيق المضمون، الذي يكون رفضه لتسبيبه حرفاً عن الهدف المنشود.

 

وبما أنّ شكل آليات الحكم متعددة، فبإمكان الفقهاء دراسة الشكل الملائم وإخضاعه للتجربة، وإجراء التعديلات المناسبة عليه، وإخضاعه للتطوير الدائم، وهي إجراءات لا تضر بأصل الشكل الذي استنتجه المجتهد، بل تنسجم مع المعالجة الواقعية لمستلزمات المجتمع الذي يطبق شكل الحكم هذا.

 

لقد رسم الإمام الخميني(قدس سره) عناوين عامة لإقامة الحكومة الإسلامية، ودعا لها بتبيان شرعيتها ووجوبها، ومع قيام الدولة الإسلامية في إيران، اختار لها شكلاً رئاسياً بانتخابات شعبية للرئيس، ومجلساً للشورى كممثل للشعب عن طريق الانتخاب، ومجلساً لصيانة الدستور لضبط شرعية الأحكام المقررة في مجلس الشورى، ومجلساً لتشخيص المصلحة لدراسة الأولويات التي تستدعي فك النزاع بين مجلس الشورى ومجلس صيانة الدستور في إطار ما للولي الفقيه من صلاحية لحسم الموقف، ويرعى الدولة ولي للأمر يمتلك صلاحيات الضبط لمسار الدولة الإسلامية، وقد أطلق على هذا التنظيم العام المعتمد اسم الجمهورية الإسلامية كخصوصية تختلف عن جمهوريات الغرب. هذا كله في منطقة الفراغ التي تملأ بحسب الزمان والمكان وتقدير المصلحة، والتي يمكن أن يطرأ عليها تعديلات كثيرة، أو اختيار نماذج تنظيمية مختلفة في بلدان أخرى، من غير الوقوع في أسر الشكل المعتمد، فلا قداسة للشكل التنظيمي للدولة الذي يكتسب أهميته من اختيار الفقيه له، ليلائم مصلحة منشودة في بلد ما.

 

ومن اعترض بعدم استخدام اسم الخلافة، أو اللجوء إلى الانتخابات الشعبية، أو عدم إيكال الأمر لأهل العقد والحل، أو عدم مجاراة الشكل التنظيمي لمجتمع الخلفاء، فقد توقف عند الشكل والآليات غير الملزمة، والتي لم يرد فيها نص شرعي ملزم، لكنّه اختزان لموروث تعصبي لا مبرر له، بل يشكّل عائقاً أمام الاستفادة من قدرة الإسلام العظيمة لمواكبة الحياة.

سلبية الحلول المفترضة

ولا نوافق أولئك الذين يصرون على التجديد بصيغة افتراض الحلول المحتملة، مع عدم قدرتهم أو عدم توصل الفقهاء إلى هذه الحلول، لأنهم بذلك يضعون التشريع الإسلامي في قفص الاتهام، بسبب عدم قدرة الفقهاء على استنباط الحلول المفترضة، وقد يستحيل الوصول إليها، لأنّ تفسير النص قد أخذ مداه وهذا هو الموقف الشرعي، علماً بأن الهدف هو الوصول إلى مراد الشارع لا إلى تصوراتنا ورغباتنا، ولا يصح أن يتأثر النص بتوقعات المفسر وقناعاته، (ولو اتّبع الْحقُّ أهْواءهُمْ لفسدت السّمواتُ والأرْضُ ومنْ فيهنّ) ([66]) ، لكنّ طريقتهم هذه تهدم من دون أن تبني، وتزرع الشك في الحل الإسلامي، ما يؤدي إلى البحث عن حلول أخرى من خارجه، كما يترك المجال للمعادين في أن يكيلوا الاتهامات للحل الإسلامي، مستندين إلى "المتنورين" من أبناء الأمة. ولا يجدي نفعاً قولهم بتقديس الشريعة وانتقاد الفهم لها، لأن الفصل بينهما صعب فيما درج عليه الفقهاء لفترة طويلة من الزمن، وقد يكون فهمهم لها صحيحاً، وبذلك يتركز الاتهام على النص بفهمه الصحيح وتناله سهام المنتقدين، ما يضر بأولوية النص وأصالة الشريعة في الانطباع العام، وعادة ما تتراكم هذه الأمور لتؤدي مع الزمن إلى التشكيك بقدرة الشريعة على مواكبة الحياة. وهذا لا يعني بأن الخطأ لا يحصل في استنباط الفقهاء، لكن علينا أن نميز بين الحلول المفترضة وآثارها مع عدم مساعدة الدليل عليها، وبين مطالبة الفقهاء بالإجمال للمساعدة على استكشاف الحلول الممكنة من دون إلزامهم بالنتائج مسبقاً.

 

لقد حرّم الإسلام الربا، قال تعالى: (وأحلّ اللهُ الْبيْع وحرّم الرّبا) ([67])، وقال: (وما آتيْتُمْ منْ رباً ليرْبُو في أمْوال النّاس فلا يرْبُو عنْد الله) ([68])، والربا زيادة يدفعها المدين للدائن عند رد القرض، وبما أن النظام الاقتصادي العالمي اليوم يعتمد على المعاملات الربوية من خلال البنوك، فإن المسلم في حرج من أمره في كيفية التعاطي مع هذا الواقع. فأثار البعض هذه المشكلة مفترضين إمكانية إيجاد الحلول لتشريع المعاملات الربوية كما هو مُتعارف عليها، وأن على الفقهاء البحث عن الدليل المناسب أو إعادة النظر بتفسير الأدلة التي تتحدث عن الربا.

وقد حاول الفقهاء معالجة الأمر فتوصلوا إلى مجموعة حلول:

1- صحة العقد بين الدائن والمدين مع بطلان الشرط الربوي فيه، فإذا دفع المدين الزيادة بعد ذلك فلخوفه من الملاحقة القانونية وليس لقناعته بها، ولو تمكن من التخلص منها لفعل، وبذلك تمت معالجة ضرورة الاستدانة بهذه الصورة.

 

2- تبديل العملة بما يساعد على افتراض أي زيادة على سعرها من دون الوقوع في شبهة الربا، فلو كان ثمن الدولار الفعلي 1500 ل. ل، فبالإمكان بيعه مؤجلاً بسعر 1800 ل. ل، ليستفيد الدائن بسبب المدة، كالبيع المؤجل الذي يكون سعره أعلى من البيع المباشر، ومع اختلاف الجنس بين الدولار والليرة فلا تقع شبهة الربا.

 

3- يمكن إضافة شيء آخر في المعاملة بين الدائن والمدين، كأن يعطي الدائن كمية من الريالات والدنانير مقابل استردادها لاحقاً بكمية من الريالات فقط بحيث تزيد عن السعر الفعلي للريالات والدنانير المدينة، بأن يكون السعر الزائد للريالات مقابل الدنانير في حل شبيه بما ورد في الفقرة الثانية.

 

4- جواز أخذ الفائدة على الأموال المودعة في البنوك غير الإسلامية، انطلاقاً من قاعدة "الزموهم بما ألزموا به أنفسهم"، وعدم شمول أدلة الحرمة لهذه المعاملة مع غير المسلم.

 

ومع وجود تفاصيل أخرى في هذا الشأن، إضافة إلى المعاملات التي قررتها البنوك الإسلامية في بعض الدول بعمليات المضاربة وغيرها، فإن أخذ الربا للمسلم من المسلم لم يجد له حلاً، وبقي تحريمه قائماً. ربما كان الحل مستحيلاً بغير التحريم للربا، وهو ما يريده الإسلام كجزء من منظومة مالية تدفع للبحث عن حلول أخرى للتنمية الاقتصادية، وقد يكون المطلوب إجراءات واتفاقات مع أصحاب الشأن على المستوى العالمي لإيجاد صيغ تتفق مع الحلول الإسلامية بالنسبة للمسلمين فيما لو تكتلوا وحدُّوا من تعاملاتهم مع البنوك الربوية إلاّ إذا أُنجزت بعض الحلول الشرعية الملائمة، وقد يدفع التحريم إلى عدم استسهال المسلم لزيادة أمواله ربوياً فيبحث عن طرق لزيادة رأسماله، وذلك بتشغيل أمواله في المضاربة والمتاجرة وغيرهما.

 

إنّ عدم التوصل إلى معالجة ما تولّد عالمياً بانتشار المعاملات الربوية، لا يبرر النقد الدائم للفقهاء بتقصيرهم في ذلك، ولا يُبرر افتراض حلول مسبقة من دون أدلة مساعدة عليها، جلّ ما يمكننا المطالبة به هو استمرار سعي الفقهاء لنقاش مثل هذه المسائل، مع التأكيد على احتمال أن يكون التحريم بصيغته هو الوضع النهائي المطلوب شرعياً في إطار النظرة الاقتصادية والمالية الإسلامية لذلك، واعتبار أن الالتزام بما توصل إليه الفقهاء من موقف هو الحل الصحيح إلى أن يثبت غيره، لا أن يكون الحل مشكوك الصحة إلى أن يتغير.

حدود الإستفادة من العلوم الإنسانية

إنّ الإعتماد على المناهج المتفق عليها بين الفقهاء طريق ضروري للتوصل إلى معرفة الأحكام الشرعية، وإنّ تطوير قواعد الأصول والاستنباط الفقهي في إخضاعها للنقاش والتحليل الدائمين عملٌ إيجابي في خدمة التجديد، ومن المفيد الاستفادة مما توصّل إليه العلم اليوم من علم الاجماع وعلم السياسة والعلوم الأخرى ذات الصلة بحياة الإنسان والمجتمع لتعزيز الرصيد المعرفي بين يدي الفقيه ما يفتح آفاقاً جديدة وإيجابية لمصلحة مطابقة الأحكام المستنبطة لمعنى النص وإرادة الشارع وواقع الإنسان.

 

لكن لا يمكن التسليم بكل القواعد المستخلصة من العلوم الإنسانية التي راكمت تجارب الغرب، وتوصلت إلى معالجات واستنتاجات ترتبط به، وبمعنى آخر عندما يتوصلون إلى نظريات اجتماعية أو سياسية أو غيرها لمفكرين مختلفين في قناعاتهم وطروحاتهم، فليس بإمكاننا تبنّيها كنظريات مُسلّمة، لأنها كنظريات لا تحمل اليقين العلمي، وعادة ما نجد آراءًا مختلفة في العلم الواحد، إضافة إلى استخلاص النظريات المختلفة لظروف مختلفة عن ظروف المجتمعات الإسلامية.

 

فعلى سبيل المثال، نحتاج إلى علم اجتماع إسلامي في مقابل علم الاجتماع الغربي، يستفيد منه في نظرياته ثم يضفي الخصوصيات الإسلامية عليها، ويضيف ما يتناسب معها ويعدل ما يتعارض معها. وربّ معترض في ضرورة تعميم علم الاجتماع بطريقة إنسانية؟ لكن فاته بأن النظريات تفترض معيارية فكرية تشكل الرصيد الذي يتكئ عليه العالم، وينطلق منها لتحليل الظواهر وللتوصل إلى الاستنتاجات، وعندما تكون معياريته مادية الإنسان وأولوية تلبية رغباته ليكسب الفترة الزمنية القصيرة التي يعيشها، فإنّ حلوله تأتي في هذا السياق المختلف عن المعيارية الفكرية الإسلامية التي تتعاطى مع الدنيا كمعبر للآخرة، ومع الإنسان بتأدية رغباته المشروعة وثنْيه عن المحرّمة منها. فما توصل إليه الغرب من قواعد في العلوم الإنسانية لا تعبر عن تراكم التجارب الإنسانية كلها، وكأنها وصلت في حالة الغرب إلى سقفها الأعلى والأفضل، بل تعبر في أكثر الأحيان عما تراكم من خصوصيات مستفادة من المجتمع الغربي نفسه.

 

فالبحث الاجتماعي لا يعبّر عن الأدوات البحثية فقط، والتي هي عمليات عقلية لا تنتمي إلى دين أو تجربة خاصة(كالتحليل والاستقراء والحياة والطريقة العقلية في التفكير)، بل له مقدمات تسبقه، وهي تصورات الباحث ورؤيته الفكرية إلى الكون والإنسان والحياة، والتي تشكل مجموعة القيم التي ينطلق منها، لتكون الأدوات البحثية في خدمتها وأسيرة لها، وبالتالي فإن الأحكام التي يطلقها الباحث تستند إلى هذه القيم المسبقة والتي يحشد لها الأدلة في هذا الاتجاه.

 

إذاً يجب أن نلتفت إلى ارتباط ما هو مطروح عند الآخرين بالنظام الذي يؤمنون به، فلا يمكن إسقاط جزء منه على النظام الإسلامي للبحث عن توليفة بينهما، كما لا يصح نقل الأسئلة الناشئة في مجتمع غير إسلامي بسبب النظام المعتمد وآثاره، إلى المجتمع الإسلامي وكأنها مشكلته مع عدم وجودها فيه. وتستدعي الواقعية أن ندرس الواقع ونقدم الحلول له، لا أن نقع أسرى الواقع بمتطلباته، فقد تكون مطالبه مرفوضة وتحرف الشريعة عن مسارها، كما يمكن أن تكون منصفة، وعندها لا بدّ من سلوك المنهج الصحيح للتوصل إلى الحلول الممكنة.

 

لقد اعترض بعضهم على فكرة التجديد في فهم الشريعة بالاستناد إلى المناهج المعتمدة حالياً والأدوات المعرفية المتعارف عليها بين الفقهاء، ودعا إلى إطلاق العنان لكل باحث من غير الفقهاء لاستنباط الأحكام الشرعية، كما دعا إلى تغيير جذري لكل المناهج والأدوات المعرفية السائدة، كطريق ضروري للتجديد. واعتبر البعض أنّ التغيير الجذري مستحيل ما لم تتغير المناهج الدراسية وأدواتها المعرفية التي تُعد طلبة العلوم الدينية، لتأسيس جيل كامل يفكر بطريقة مختلفة تماماً عن السائد.

 

هذا أشبه بهدم كل شيء وإحداث الفوضى وإعطاء صورة سلبية عن كل إنجازات الماضين، وهو تشكيك بقدرة الإسلام على مواكبة الحياة من خلال العجز السابق على فهم مضمونه الحقيقي.

 

أعود لأؤكد بأنّ التجديد في فهم الشريعة ضروري، وبأنّ تطوير الأدوات البحثية والمعرفية يزيد الفقه غنى، على أن نتبع المسار العلمي التدريجي والمنسجم مع أصالة النص ومحوريته، وأن نبحث عن الأدلة المساعدة للوصول إلى الأحكام الشرعية، من دون أن نضغط بالحلول المفترضة إلاّ أن يضعها الفقيه نصب عينيه كاحتمال يتأكد أو يُلغى على ضوء استنباطه، فالتجديد مطلب موضوعي له مبرراته وليس فكرة ضاغطة من دون أفق.

الحداثة مصطلح غربي

إنّ مصطلح التجديد في فهم الشريعة مُعبّرٌ عن مواكبة حاجات العصر انطلاقاً من الإسلام، ولا حاجة لإرباك ساحتنا بمصطلحات مستوردة، تحمل معاني بلدان منشئها، ويختلف مطلقوها في تعريف دقيق لها، ومنها مصطلح الحداثة. فما هو موقفنا من الحداثة؟ وأين مجتمعنا منها؟

 

الحداثة مصطلح غربي، نشأ في إطار الثورة الثقافية على المفاهيم الغربية التي كانت سائدة في القرنين الماضيين بدءًا من الثورة الفرنسية وما بعدها، وقد أنتجت الحداثة منظومة ثقافية مادية انعكست على نمط الحياة في الغرب الأوروبي والأمريكي، بالإغراق في ملذات الجسد مع إبعاد الإيمان ومتطلبات الروح بشكل كامل، وجاءت كردة فعل على نظام الاكليروس وسلطتهم، وقد سلكت طريق العلوم التجريبية، فحققت إنجازات كبيرة على مستوى هذه العلوم، وترافقت معها المادية الإجتماعية فأنتجت علومها. وقد كثُر الحديث في العقدين الماضيين عن مرحلة جديدة بدأت بالتكون، وهي مرحلة ما بعد الحداثة، ويقصدون بها إعادة الإهتمام بالمسألة الروحية بسبب الفراغ القاتل الذي أنتجته مادية الحداثة، كما يعتبر بعض آخر بأنها رفض للمادية باتجاه إنجاز جديد لم تكتمل صورته، وهو يحمل تناقضات وتفاعلات كثيرة لا يمكن الحكم على نتائجها إلاّ بعد تبلورها واتخاذها لصيغ محددة.

 

وبما أننا لم نمر في منطقتنا بالمراحل التي مرت بها أوروبا وأمريكا، وهو ما أنتج الحداثة التي تُهيء لما بعد الحداثة، ولم نعاني مما عانوا منه في السابق، حيث بقيت مجتمعاتنا الإسلامية متأثرة بالإسلام، وإن عاشت التخلف في الميادين العملية، وتراجع موقعها بسبب واقعها، وبسبب ما أنتجه الاستعمار الجديد من تفكيك وسيطرة عليها، وقد فشلت الأفكار المستوردة من المعسكرين الرأسمالي والشيوعي في إحداث تغيير لمفاهيم وعادات مجتمعاتنا، بحيث لم تتحول هذه المجتمعات إلى المادية الاجتماعية الغربية وإن تأثرت ببعض آثارها، لكنّ منظومة الحداثة الغربية لم تجر على مجتمعاتنا، لذا فإن بإمكاننا أن ندرس ما جرى في إطار الحداثة للاستفادة مما أصاب تلك المجتمعات، وما طرحته من أسئلة، وما تعانيه من أزمات، لا على قاعدة إسقاطها عشوائياً على مجتمعاتنا في العالم الإسلامي، والتي تختلف في همومها وشؤونها عمّا في الغرب، فالمقارنة هنا غير صالحة، لأنّها ليست مقارنة بين طرفين يشتركان في طبيعة واحدة، وهذا أمرٌ مختلف عن الاستفادة الكاملة من العلوم التجريبية، التي لا تحمل طابعاً فكرياً أو توجيهياً للإنسان، وإنما هي استكشاف لقواعد المادة من غير ربط بالمبدأ والمنطلقات، أو بمسار وحياة البشر.

الهوامش:

([1]). سورة البقرة : 146.

([2]). سورة الجاثية: 3-6.

([3]). سورة الحج : 46.

([4]). سورة البقرة : 171.

([5]). تحف العقول عن آل الرسول للحرّاني، ص386.

([6]). الكافي للشيخ الكليني، ج1 ص10.

([7]). المصدر نفسه، ج1، ص25.

([8]). المصدر نفسه، ج1، ص26.

([9]). سورة البقرة : 170.

([10]). سورة النحل : 125.

([11]). سورة الشعراء : 69-82.

([12]). سورة البقرة : 258.

([13]). سورة البقرة : 118.

([14]). سورة القصص: 47-48.

([15]). السيرة النبوية لابن هشام، المجلد الأول، ص 313.

([16]). سورة التوبة : 40.      

([17]). سورة هود : 118.

([18]). سورة النمل : 63-64.

([19]). سورة يونس : 38.

([20]). سورة فصلت: 53.

([21]). سورة الروم : 20.

([22]). سورة المائدة: 3.

([23]). سورة الحجر : 9.

([24]). سورة الطور : 33 - 34.

([25]). سورة الشعراء : 195.

([26]). سورة يس : 78 - 79.

([27]). سورة الإسراء : 78.

([28]). سورة العنكبوت : 45.

([29]). سورة الحجرات: 12.

([30]). سورة فصلت : 34.

([31]). سورة الفرقان :67.

([32]). سورة النازعات : 24.

([33]). سورة العنكبوت: 14.

([34]). سورة الواقعة: 15 إلى 26.          

([35]). سورة الواقعة: 41 إلى 44.

([36]). سورة ق : 18.

([37]). سورة فاطر : 1.

([38]). سورة الذاريات: 56.

([39]). سورة البقرة : 2.

([40]). سورة البقرة : 219.

([41]). سورة المائدة : 91.

([42]). سورة البقرة :222.

([43]). سورة الأعراف : 32 و33.

([44]). سورة الروم : 30.

([45]). سورة الأنبياء : 107.

([46]). سورة النساء : 174.

([47]). سورة يونس : 104.

([48]). سورة الحج : 73.

([49]). سورة الحجرات : 13.

([50]). سورة الحجر : 9.

([51]). سورة القصص : 77.

([52]). سورة الأعراف : 32 و33.

([53]). دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي، ج2، ص193.

([54]). صحيح البخاري، ج6، ص 116.              

([55]). تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي، ج4، ص153.

([56]). الكافي للشيخ الكليني، ج3، ص 454.

([57]). نهج البلاغة، حكم ومواعظ رقم 312.

([58]). تفسير مجمع البيان للطبرسي، قول لأمير المؤمنين علي(ع)، ج1، ص 187.

([59]). سورة التوبة : 101.

([60]). سورة الأنفال : 65.

([61]). سورة الأنفال : 66.

([62]). سورة النصر : 1و2.

([63]). الكافي للشيخ الكليني، ج2، ص 86.

([64]). سورة طـه : 9.

([65]). سورة الحديد : 4.

([66]). سورة المؤمنون : 71.

([67]). سورة البقرة : 275.

([68]). سورة الروم: 39.

ارسال نظر