خطة لتربية الجيل الإسلامي على ثقافة القوة والمقاومة والعزة
د. المرتضى بن زيد المَحَطْوَرِي الْحَسَنِي([1])
مؤسس ومدير مركز بدر العلمي
أستاذ الشريعة بجامعة صنعاء - اليمن
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، لكني بلسان العجز والتقصير أقول: الحمد لله عدد خلقه، ورضى نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
والصلاة والسلام على أكرم مولود، وأزكى وأنجب موجود، المبعوث للعالمين رحمة، وللجن والإنس نعمة، محمد الأمين، وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد: فإني أعبر أولاً عن سعادتي بالدعوة الكريمة، وامتناني للشيخ الرباني الذي نذر نفسه لخدمة الإسلام والمسلمين، ووهب حياته لإصلاح ذات البين؛ يعيش في الهواء أكثر من عيشه في الأرض؛ يجوب الدنيا شرقا وغربا محاولا تقريب وجهات نظر المختلفين، وردم الفجوات بين المتباعدين، بروح فياضة بالحب، ونفس جياشة بالأمل، وقلب مفعم بالرحمة والشفقة لعباد الله، ذلكم هو العالم العامل آية الله محمد بن علي التسخيري رئيس المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب حفظه الله تعالى.
والتحية والإجلال لمن يصدق عليهم: لله رجال؛ للشعب الإيراني المجاهد، وإمامه الماجد المجاهد رضوان الله عليه، وأخص بالتحية أعضاء المجمع داخل إيران وخارجها، راجيا أن تتقبلوا مشاركتي، متغاضين عن ركاكة تعبيري، ووضوح عجزي وتقصيري؛ كما هو شأن أهل المروءة والحلم والكرم؛ ولا سيما وقد استفحل الشر، وتفاقم في دنيا المسلمين الخطر، فلم نعد ندري أي حريق نخمد، أو أي جرح نضمد!! «كلما داويت جرحا سال جرح».
ولا أدل على ذلك من وفرة العناوين في ورقة المحاور
وقد آثرت الكتابة حول العنوان الأخير(خطة لتربية الجيل الإسلامي على ثقافة القوة والمقاومة والعزة)؛ فهو شامل لكل ما سبق، فلو أن الإنسان المسلم تربّى على ثقافة الولاء المطلق لرب العالمين، وارتبط بصاحب العزة والحول والطول، واحتذى حذو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي اختاره الله علما للخلق، وعنوانا للإنسان الكامل. وحين نتمكن من القرب من مواقف خاتم الرسل، ونطبق سيرته سنجد أنا سنستعصي على كثير من مؤامرات الأعداء التي ترمي إلى تدمير الأمة الإسلامية بكل الوسائل، وأنا غير قابلين للاستعمار ولا للاستحمار. وأنا لا أطمع في تحول الأمة الإسلامية قاطبة إلى صخرة صماء تتكسر عليها قرون أعداء الإسلام من داخله ومن خارجه؛ فهذا ما لا يكون إلا في عالم الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
أما عالم البشر فزاخر بالخير والشر، ولم يسلم مجتمع المسلمين في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من يهود خطرين، ومن منافقين أخطر منهم؛ لأنـهم أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر؛ فنخروا جسد المسلمين من داخله، وعاثوا فسادا في أحشائه، ومن كان سيصدق أن عربا أقحاحا ينضمون إلى اليهود ضد نبي عربي، كريم، جاءهم بدين العزة والكرامة والسيادة العالمية، والوعد بأن يكونوا ملوك الجنة -إن هم رفعوا راية التوحيد والعدل، والمساواة، والحرية، ومقارعة الظالمين؟!
لكنا نريد وضع خطة نتكاتف في تنفيذها، ونتعاضد، ونتعاون، ونتناصح؛ لكي نخرج للأمة قادة من نجبائها، وأحرارا أبطالا من أخيارها، وأقترح لهذا الغرض الخطة التالية:-
أولا: اعتماد القرآن الكريم منهجا مباشرا بعيدا عن تأثير الأفكار المختلفة في تفسيره، والآراء المتضاربة في تأويله؛ فهو بحفظ الله له قادر على صياغة المسلم صياغة ربانية، وهو كفيل بربط المؤمنين بالله ربطا يجعلهم لا يقدِّمون على رضاه أبا ولا أما، ولا يبذلون مودتـهم إلا لمن والى الله، ولا ينقادون إلا لمن عمل بطاعته، تالين قول ربـهم: (لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[المجادلة:22].
فالمؤمنون بالله سبحانه إيمانا راسخا كإيمانـهم بوجود الشمس، وثقتهم بالقرآن الكريم ثقة مطلقة كثقة الطفل بأمه، لا يتزحزحون عن هَدْي هذه الآية، ولا ينخدعون بالروايات المصادمة للقرآن؛ مثل ما روي أن النبي صانه الله قال في شأن الولاة: «أطيعوهم ما أقاموا فيكم الصلاة»([2]).
يعني أن لا حرج على الأمة من الخضوع للوالي وامتثال أمره حتى وإن شرب الخمر، وارتكب الفواحش: من الزنى، واللواط، وأخذ الأموال من الحرام، واستأثر بمال المسلمين لنفسه، وإحياء شهواته، وغرق في المنكرات إلى أذنيه، فهذا واجب الطاعة حسب مدلول الرواية ما أقام الصلاة، المهم أن يتظاهر بأداء الصلاة، وربما يكون حال الصلاة سكرانا كالوليد بن عقبة([3])، أو يكون بغير وضوء، أو على جنابة. وفي رواية: «إلا أن تروا كفرا بواحا». ولست أدري أي صلاة هذه التي أُمِرْنَا أن نطيع الولاة لأجلها؟! هل هي الصلاة التي قال الله عنها: (إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ)؟!.
أليس قتل الأبرياء من المنكرات؟! أليس سجن الناس ظلما من الكبائر؟! أليس أخذ الرشوة من المعاصي التي لعن الله مرتكبها؟! أليس التعامل بالربى مما آذن الله بالحرب عليه؟! أليس الكذب مجانب للإيمان؟! أليس نـهب المال العام والخاص من قبل الحكام الظالمين من الفواحش والمنكرات التي لا أفحش ولا أنكر منها؟!
فما معنى أقاموا فيكم الصلاة؟! لو أنـهم اخترعوا آية خاصة بالصلاة التي يقيمها الولاة والحكام وقالوا: إن صلاتـهم تأمر بالفحشاء والمنكر فمتى حافظوا على إقامتها فقد وجبت طاعتهم؛ لأنـها دليل على إخلاصهم في أداء المعاصي، ونشاطهم الفائق في أذية عباد الله، وإهانة مقدسات المسلمين، وإهدار حقوقهم وإسهامهم في استفحال الظلم وسيطرة الأقوياء.
وفساد القضاء فسادا تاما، ولو افترضنا وجود قضاءٍ نزيه؛ فإن التطويل يجعل المظلوم لا يصل إلى حقه إلا بعد سنوات وقد خسر أضعاف أضعاف حقه - وربما مات وغصته في حلقه- أما أن يكون خصمه الأمير، أو الوزير، أو الضابط، أو شيخ القبيلة، أو حتى مجرد مُخْبِر فالشمس أبعد عليه من الوصول إلى حقه، فهل يجوز لإنسان لديه ذرة من كرامة أن يصدق رواية توجب طاعة ولاة الأمر وهم بـهذه الوحشية والقباحة؟!
وقد عَضَدَ علماء السلطة ما تقدم من الروايات بروايات أخرى مثل روايتهم أن النبي ((صلى الله عليه وآله وسلم)) - وصانه- قال: «يكون من بعدي أئمة لا يهتدون بـهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبـهم قلوب الشياطين من جثمان إنس» قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك، قال: «تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع»([4]).
ورواية أخرى: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله فقال: يا نبي الله أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألون حقهم ويمنعون حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله، فأعرض عنه، ثم سأله في الثالثة، فقال: «اسمعوا وأطيعوا فإن عليه ما حمل وعليكم ما حملتم»([5]).
وما روي عن النبي ((صلى الله عليه وآله وسلم)): «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سَلِمْ، ولكن من رضي وتابع» قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا، ما صلوا»([6]).
وما روي أيضا: عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ فَقَالَ «لاَ مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاَةَ وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلاَتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ وَلاَ تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ»([7]).
وما روي أيضا: «من كره من أميره شيئا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية»([8]).
وما روي أيضا: عن عبادة بن الصامت، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله برهان»([9]).
وما روي أيضا: عن عبدالله بن وهب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ستكون أثرة وأمور تنكرونـها» قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: «تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم»([10]).
وما من شك أنـها روايات خرجت من مطبخ ملوك بني أمية، وهل يعقل أن يتفوه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قاد المهاجرين والأنصار وقارع الأَسْوَد والأحمر من أجل الحرية، والكرامة، والعدل، ورفع شأن الإنسان الذي كرمه الله؛ ليكون عبداً الله وحده وليس للظالمين المستبدين- بروايات كهذه تحث على الذل والهوان؟!.
ولا يجوز لإمام المجاهدين الأحرار، وخاتم الرسل أن يقول كلاما يُدجن به الأبطال، ويطأطأ هامات الرجال، بل قال لهم ولأمته إلى يوم القيامة: «من رآى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان»([11]).
وما روي عن زيد بن علي (عليه السلام)، عن آبائه، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «لا قدست أمة لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر، ولا تأخذ على يد ظالم، ولا تعين المحسن، ولا ترد المسيء عن إساءته([12]).
وقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يحل لعين ترى منكرا فتطرف حتى تغيره أو تنتقل»([13]).
وقال(صلى الله عليه وآله وسلم): «سيد الشهداء حمزة ورجل قال لسلطان ظالم: يا ظالم فقتله»([14]).
وقال: «أفضل ا لجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» أو «أمير جائر»([15]).
وقال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»([16]).
فهذه هي الروايات المطابقة للقرآن الكريم، والمُوجَّهة لكل مسلم أن يكون شجاعا حرا لا يخاف إلا الله، ولا يعطي قياده إلا لأولياء الله، الرحماء بعباد الله، المطبقين لشرع الله على أنفسهم وأقاربـهم قبل غيرهم.
إن ثقافة القرآن العزيز تغرس في النفوس محبة أولياء الله، وكراهية أولياء الشيطان، قال تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[التوبة:71].
(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[التوبة:67].
إن التدجين والتركيع واستذلال المسلمين- إنما جاء من مدرسة المُلك العضوض الذي اتخذ مال الله دُوَلا، وعباد الله خَوَلا، واستأجروا تجار الحديث، وعُبَّاد الدنيا؛ فأكثروا من الروايات في وجوب طاعة ولي الأمر، وتحريم شق عصى المسلمين، ومفارقة الجماعة، ووجوب الصبر والرضى بالظلم؛ لأن الوالي حسب زعمهم نائب عن الله سبحانه وتعالى، وهو ظل الله في الأرض، وتَوَلِّيهِ أمَرَ الأُمةِ إنما هو بقضاء الله وقدره: فإن أعطى فبقضاء الله، وإن منع فبقضاء الله وقدره، فهو حسب هذا المنطق متشبه برب العزة جل وعلا، (لا يسئل عما يفعل)، ولم يبق إلا إن يأتوا برواية تقول: إن الآية الشريفة: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )[آل عمران:26]- تنطبق على الولاة الظالمين مع الله عز وجل، تعالى الله عما يفترون علوا كبيرا. وما نقوله واقع ملموس في عالم الطغاة، ومطبق من الألف إلى اليا في دنيا الاستبداد، فالأرض ومن عليها بمثابة ملك شخصي، وأدهى من ذلك أن الطغيان قد أحيط بإيمان من العوام والمخدوعين؛ إذ قالوا لهم: لا يتم إيمانكم إلا بالرضى بالقدر، والصبر على البلاء؛ وما على المؤمنين سوى الصبر على الظلم، والذل، والكبت، والاستبداد، والقبول بولاية العهد ولو لطفل رضيع، أو حَمْلٍ في بطن أمه؛ لئلا تضيع الأمة التي لم تبلغ سن الرشد حسب سياسة المستبدين؛ ولكي لا تبقى كالغنم بلا راعٍ بمنطق الظالمين المتجبرين- أعني بلا ذئب مفترس، أو تمساح شرس.
إن الذي يرضى بولاية ماجن فاسق ظالم ويسميه أمير المؤمنين، أو خليفة رب العالمين، أو ولي أمر المسلمين، ويدعو له في كل أوان وحين -إنما هو نعجة بشرية، ودابة آدمية لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحترم القرآن الذي (لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)[فصلت:42] الذي حملت نصوصه القاطعة الساطعة ما يكذب الروايات الباطلة، والأحاديث التي يُراد بـها الاستخفاف بعقول الناس، وامتهان كرامتهم، وهاهي نصوص القرآن تقول لنا: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ* وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ*وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ* وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ*وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ*وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ*أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[المائدة:44-50].
فهل الفاسقُ الظالمُ الكافرُ يُوَالَى، أو يطاع، أو يُسْكَتُ عن فسقه وظلمه وكفره؟! حاشا وكلا. (لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)[آل عمران:28].
لكن مطابخ ملوك الظلم، وولاة الجور- قد قدمت وجبات شهية صبغتها بالسم والعسل، وهوَّنت من شأن ارتكاب الكبائر، وطبخت في ذلك روايات مزقت القرآن إربا إربا، واعتقدها المرجئة والمجبرة والعامة.
فالمرجئة هم الذين يعتقدون أن العصاة مهما بالغوا في العصيان فيرجى لهم الجنة؛ ولا سيما وقد تكفل بعض المحدثين برواية قيل: إنـها صحيحة وهي: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى، وإن سرق، قال الرواي وهو أبو ذر -صانه الله-: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق - كررها ثلاثا- وفي الثالثة، قال: على رغم أنف أبي ذر. وفي رواية: على رغم أنف أبي الدرداء!!.
وهذه رواية مناسبة ومتناغمة لمن تأملها مع رواية: «أطع الأمير وإن جلد ظهرك، وأخذ مالك»؟! لأن الجلد انتهاك للعِرض، وأخْذَ المال انتهاك للمال المحرم، ولم يتجرأ الرواي على القول: أطع الأمير وإن نكح امرأتك، وأخذ مالك فاستبدلها بالجلد والصفع.
ولم يلتفتوا للقرآن الكريم المشحون بآيات الوعيد: مثل قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ)[النساء:14]. وقوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيراً) [النساء:123].
وقوله تعالى:(إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ*وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ*يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ*وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ)[المطففين:13-16].
وقوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه*َمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه)[الزلزلة:7-8]. وآيات أخرى مشابـهة يطول المقام بحصرها.
كل تلك الآيات لا يريدها أصحاب مشروع استعباد الأمة؛لأنـهم يريدون نعاجاً وكباشا مخصية؛ فلا بد من قلع الأنياب، وتقليم الأظفار لكي يتصرف الولاة الظلمة بحرية وأمان، كما يتصرف الذئب مع الغنم.
وعندما تدمن الأمة الإسلامية على عيش الذل في الداخل فهي أمام العدو الخارجي أقل وأذل؛ ولا أدلَّ على ذلك من انـهزام جميع الجيوش العربية أمام إسرائيل، وما نشاهده من إمعان الصهاينة في إذلال الأمتين العربية والإسلامية، وهذه إسرائيل دكَّت لبنان في تموز عام 2006م، والأُمَّتَانِ على كراسي المتفرجين، ما عدا بعض الأحرار (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ)، لا بل ذهب بعضهم إلى التوسل إلى إسرائيل بأن تتفضل بمواصلة القصف والحرب حتى يُقضى على حزب الله الشيعي البطل.
ولمَّا انـهزمت الصهيونية والصليبية المتحالفة معها، واعترفوا بالهزيمة تبارى تلاميذ مدرسة الذلة والمهانة في التعبير عن الكبت الذي لحق بـهم، ومرارة الانتصار المشرف الذي سحق نفوسهم، فقالوا: لم يحقق المجاهدون أي نصر، وظلوا يرددون: بأن المقاومين المجاهدين هم المسئولون عن خراب لبنان. أما أمريكا التي كانت ترسل القنابل الفتاكة والصواريخ المدمرة حديثة الصنع، فإنما هي بلد ديمقراطي مدني، ودولة حضارية، وقنابلها شديدة الفتك إنما هي بمثابة الدواء والغذاء، ومن حقها أن تحمي حليفتها اليهودية. وأما العربدة الصهيونية فليست سوى دفاع عن النفس. والشيء المدان والموسوم بالإرهاب إنما هم المقامون للاحتلال، والرافضون لمنطق الإذلال؟!.
وها هي غزة حال كتابة هذه السطور تحترق، وآلات التدمير تقصفها من الجو والبحر والبر، وأصحاب عقيدة تحريم الخروج على الظالم هامدون جامدون محنطون، قد ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، وصار أصحاب السبت يعبثون بأصحاب الجمعة تقتيلا، وهدما للبيوت على أهلها، والمساجد على المصلين، والمدارس والجامعات فوق رؤوس التلاميذ والمدرسين، ولم تسلم حتى المستشفيات وسيارات الإسعاف.
ولو أن الشعوب الإسلامية والعربية أزاحت حكامها، وامتلكت قرارها، وفتحت الطرق للمجاهدين، وانـهالت الصواريخ على الصهاينة من كل حدب وصوب، فمن المؤكد أنـهم سيفرون ويهاجرون إلى البلاد التي أتوا منها.
لكن الجماهير عندما يحولها الحاكم إلى قطعان تلطم صدورها زاعقة: بالروح والدم نفديك يا بلعم، نفديك يا بلغم!!
إن السواد الأعظم لم يعد قادرا على التفريق بين عدو الله ووليه؛ نتيجة الأمية والجهل، والتضليل الإعلامي، والانخداع بنفاق من وضعوا على رؤوسهم عمائم، وأسبلوا في وجوههم لحى، وأمعنوا في التسبيح والتقديس لولي الأمر؛ ليملأ جيوبـهم، وهذا الصنف من البشر مستعد للحس الأحذية مقابل حفنة من المال، وهؤلاء هم المتبوؤن لكراسي رئاسة الجامعات، وإدارات المدارس، والأوقاف، والإعلام...الخ.
إن ثقافة مقاومة الظلم، وجهاد المنتهكين لحرمات الله ليست من ثقافة الموت، ولكنها ثقافة الحياة الكريمة، فلا خير في حياة يعيشها المرؤ مُنَكَّسَ الرأس، مهدورَ الكرامة، منتهكَ الحقوق، يلتقط رزقه من فتات موائد المسرفين العابثين، ويكتفي بعظمة يسد بـها فمه كما يفعل الضبع في بقايا فريسة الأسد، وكما تلتقط الغربان والرخم فضلات النسور.
إن الأمة الإسلامية مثخنة بثقافة الدروشة، وصار لديها قناعة بأن الصابر على الذل والظلم في درجة أيوب، وأن الفقير يدخل الجنة قبل الغني بخمسمائة عام- مع احترامي الشديد للأحرار.
ولذلك صار لدينا فائض من الروايات المادحة للفقر والفقراء، ولا تستغرب أن تجد في كتب الحديث: باب فضل الفقر!
وشاع وذاع بين البسطاء أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما شبع من طعام قط، وكانت تمر الشهور ولم يوقد في بيت رسول الله نار، وأن أمهات المؤمنين ما كن يتقوتن بما يحفظ الحياة ويسد الرمق إلا من هدايا الجيران، وكأن أعظم خلق الله محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غير قادر على توفير العيش الكريم-صانه الله-.
والخلاصة: فقد أبدع مؤسس الملك العضوض، واسع البلعوم، مندحق البطن أن يسد أفواه الجماهير ويزويها عن خيرات الأرض، وأن يُضَمِّرَ بطونـها فلا تستمتع بطيبات الحياة بأحاديث إلى رسول الله مسندة، وروايات من صحابة معتمدة، توجب على المسلم أن يعيش فقيرا ليكون من السعداء، فإن مات جوعا فهو من الشهداء، وثروات الأمة يعبث بـها وحوش الظلم، ونسور الوحشية الذين لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة.
لقد كان العراق في مفهوم ملوك بني أمية ومن بعدهم بستان قريش، فلا حرج على خالد بن عبدالله القسري أن يتقاسم ثروة بلاد النهرين، وخيرات أرض الرافدين مع ما يسمى بالخليفة هشام بن عبد الملك بن مروان، ولا غرابة أن يتذمر والي خراسان من مطالبة الخليفة له بإرسال الجبايات إليه فيقول: إن خراسان لا تكفي مطبخي!
كيف تسد ثروات المشرق والمغرب حاجة خليفة لديه أربعة آلاف جارية، ولعله يمتلك عددا مثلهن من الولدان؛ كما يحكى ذلك عن المتوكل العباسي، وهناك الندماء والمغنون والشعراء والمنافقون وأمراء البلاد من الأتراك والأكراد والسلاجقة، وهلم جرا.
وهناك أسرة الخليفة، وأولياء العهد، وقضاة الجور، وعلماء السوء إلى آخر مسلسل العبث والمجون.
ولقد مر أحد أئمة آل البيت بأرملةٍ تلقط النوى والحصرم، فسألها عن حالها، فأخبرته عن فقرها، وأنـها تعول بناتـها بعد ممات زوجها، فلا تجد سوى ما يُلقَى من البيوت، فدمعت عيناه، وقال: أنت وأمثالك يحملنني على الخروج على صاحب هذا القصر، الذي يعطي المغنية مائة ألف، فسأخرج وأقتل.
إننا أمَامَ تَحَدٍ صعب، وتركة ثقيلة ألقت على القرآن الكريم ظِلالاً كثيفة أثقلت كواهل المسلمين، وحجبت عنهم كثيراً من الحقائق.
وألحظ المثقفين المنصفين والعلماء الورعين عندما يدركون الحقائق مباينة لما هم عليه من التثقيف، ويحاولون الخروج على المألوف، يواجهون صعوبات، وغمزا، ولمزا، وأحيانا تفسيقا وتبديعا.
وقد واجه الشيخ محمد الغزالي رحمة الله عليه هجمة ضارية، ولا سيما في كتابه الرائع: السنة بين أهل الحديث والفقه، انتقد فيه روايات لا رأسَ لها ولا ذَنَبَ تخالف القرآن والعقل، فقامت عليه الدنيا ممن سماهم أصحاب الفقه البقري وبدو الصحراء.
ثانيا: الرسول قدوة، فلنجمد ثقافة: اسمع وأطع وإن جُلِدَ ظهرك...، ولنُفَتِّشْ عن ومضات العز والإباءِ في سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فعندما اشتد الضغط على أبي طالب ليُسَلِّمَ ابن أخيه رسول الله فقال: يا ابن أخي ارفق بي وبنفسك، فظن (صلى الله عليه وآله وسلم) أن عمه خاذله، فقال قولته الشهيرة التي وقف لها التاريخ على رجليه إحتراماً لها: «يَا عَمِّ واللهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي وَالقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ، مَا تَرَكْتُهُ»!([17])، فانبهر عَمُّهُ الكريم لهذه العزيمة الحديدية، والإرادة الفولاذية، والبسالة النادرة، والشجاعة الفائقة، فتدفقت في عروقه الحمية والنخوة، وقال: يا ابن أخي قل ما شئت، وعاد من شئت، وصادق من شئت، فوا الله لن أسلمك لشيء أبدا. هذه هي سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذه هي همته.
له همم لا منتهى لكبارها
وهمته الصغرى أجل من الدهر
هل سمع أحدكم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فَرَّ من معركة؟ أو تزحزح في مواقف الخطر الشديد؟ إن أشجع الخلق علي بن أبي طالب يقول: كنا إذا حمي الوطيس، واشتد البأس نلوذ برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وقد وَرِثَ من الرسول: نـهجه كرامُ أصحابه وعلى رأسهم عليٌّ وبنوه.
ثالثا: القدوة في سيرة أهل البيت عليهم السلام:
أما في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعلي فارس الإسلام المُعْلَم، وصنديدها المقدم، وحمل بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مقارعة الباطل بسنانه ولسانه حتى لقي الله شهيدا، وأوصى بنيه وعلى رأسهم سيدا شباب أهل الجنة قائلا لهما خاصة: «كونا للظالم خصما، وللمظلوم عونا»([18])، فما خَيَّبَا ظنه بل شمرا تشمير أبيهما، وسارا على درب جدهما وأبيهما، وقادا قافلة الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، وحفزا آل علي وبني هاشم وشيعة آل البيت للوقوف في وجه الظلم، والخروج على الظالم مهما كان الثمن، فكانوا بحق قلب المسلمين النابض حين أراد الملك العضوض أن يعيشوا عبيدا يسمعون، ويطيعون، ويَجْبُونَ الأموال للطاغية، وولي عهد الطاغية؛ فقضى الحسن بالسم، وقضى الحسين مع أهله في واقعة كربلاء، ونـهض بعد حين حفيد الحسين الإمام زيد بن علي، وتبعه ولده الإمام يحيى الذي أنشده أبوه وهو يلفظ روحه الطاهرة بلسان المقال أو الحال:
يا ابن زيد أليس قد قال زيد *** من أحب الحياة عاش ذليلا
كن كزيد فأنت مهجة زيد *** واتخذ في الجنان ظلا ظليلا
لقد أوصاه أن لا يتوانى في جهاد الظالمين، وقد فتح زيد رضوان الله عليه طريق الشهادة لقافلة الأئمة الهداة من آل البيت، فتتابعوا باذلين مهجهم، رافعين راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فصادموا كل جبار عنيد، وبذلوا في نصرة المظلومين حياتـهم، وباعوا لله نفائسهم ونفوسهم، واستخفوا بالقتل والتنكيل والتشريد، لم يرعبهم جبروت أبي الدوانيق، ولا هزمتهم وحشيته وقسوته، ولا فَتَّ في أعضادهم ظلمة سجنه تحت الأرض، بل أيقنوا أن ذلك قليل في نيل رضى الله، وما يجب عليهم من معاداة أعدائه، وكانت أعينهم شاخصة إلى أعالي الجنان، وكان عليهم أن يقدموا مهر الجنة، وليس بعد الفرائض أغلى من مقاومة الطغاة المستبدين، فلا نامت أعين الجبناء. ألم يقل عميد آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عليٌ (عليه السلام): والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل الرضيع بثدي أمه، وما أبالي أدخلت على الموت أم خرج الموت إلي. هذه هي حياة الأحرار، وتلك هي نفوسهم ولهجتهم ومنهجهم وحياتـهم.
وبـهذه الثقافة تستعيد الأمة هويتها، وعلى دربـهم تجد الأمة كرامتها.
وفقنا الله لما يحب ويرضى
الهوامش:
([1]). www.almahatwary.org
([2]). مسلم 3/1481 رقم 1855، باب خيار الأئمة وشرارهم، والبيهقي 8/158، والطبراني في الكبير 18/63 رقم 116، 117، وأبو يعلى 2/473 رقم 1300، وصحيح ابن حبان 10/449 رقم 4589، وأحمد بن حنبل 4/ 56 رقم 11224، وفيه: «يكون عليكم أمراء تطمئن إليهم القلوب، وتلين إليهم الجلود، ثم يكون عليكم أمراء تشمئز منهم القلوب، وتقشعر منهم الجلود» فقال رجل: أنقاتلهم يا رسول الله، قال: «لا ما أقاموا الصلاة» 16، 117، وأبو يعلى 2/473 رقم 1300، وصحيح ابن حبان 10/449 رقم 4589، وأحمد بن حنبل 4/ 56 رقم 11224، وفيه: «يكون عليكم أمراء تطمئن إليهم القلوب، وتلين إليهم الجلود، ثم يكون عليكم أمراء تشمئز منهم القلوب، وتقشعر منهم الجلود» فقال رجل: أنقاتلهم يا رسول الله، قال: «لا ما أقاموا الصلاة».
([3]). ينظر: الاستيعاب 4/114 رقم 2750 ، وأسد الغابة 5/420 رقم 5475، وطبقات ابن سعد 6/24، ومروج الذهب 3/79، والإصابة ترجمة رقم 9167.
([4]). مسلم 3/1475 رقم 1847، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وأبو دواد 2/496 رقم 4244، باب ذكر الفتن ودلائلها، وفيه: «إن كان لله تعالى خليفة في الأرض فضرب ظهرك وأخذ مالك فأطعه وإلا فمت وأنت عاض بجذل شجرة» ، والبيهقي في السنن 8/157 ، وفي شعب الإيمان 6/62 رقم 7051، والطبراني في الأوسط 3/190 رقم 2893، ومصنف عبدالرزاق 11/341 رقم 20711، ومصنف ابن أبي شيبة 7/477 رقم 37113، ومسند أحمد بن حنبل 9/112، 113 رقم 23485- 23489، وفيه: «فالزمه وإن نهك جسمك، وأخذ مالك، فإن لم تره فاهرب في الأرض ولو أن تموت وأنت عاض بجذل شجرة»، والحاكم في المستدرك على الصحيحين 4/502. وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وصححه الذهبي.
([5]). أخرجه مسلم عن وائل بن حجر 3/1474 رقم 1846، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، والترمذي 4/488 رقم 2119، والطبراني في الكبير 7/40 رقم 6322، 22/16 رقم 20، ص 442 رقم 634، والبيهقي في السنن 8/158، 188.
([6]). مسلم 3/1480 رقم 1854، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وأبو داود 2/655 رقم 4760، والترمذي 4/485 رقم 2265، والطبراني في الكبير 23/330 رقم 760، وأحمد بن حنبل 10/181 رقم 26590، ومسند أبي يعلي 12/414 رقم 6980، ومصنف عبد الرزاق 11/330 رقم 20681، والبيهقي في السنن 3/367 ، 8/158، ومصنف ابن أبي شيبة 7/469 رقم 37296.
([7]). مسلم 3/1481 رقم 1855، باب خيار الأئمة وشرارهم، والبيهقي 8/158، والطبراني في الكبير 18/63 رقم 116، 117، وأبو يعلى 2/473 رقم 1300، وأحمد بن حنبل 4/ 56 رقم 11224، وفيه: «يكون عليكم أمراء تطمئن إليهم القلوب، وتلين إليهم الجلود، ثم يكون عليكم أمراء تشمئز منهم القلوب، وتقشعر منهم الجلود» فقال رجل: أنقاتلهم يا رسول الله، قال: «لا ما أقاموا الصلاة»
([8]). البخاري 6/2588 رقم 6645 ، باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «سترون بعدي أمورًا تنكرونها ، مكرر، ومسلم 3/1477 رقم 1849، وأحمد1/590 رقم 2487، والطبراني في الكبير 12/160 رقم 12759، ومسند أبي يعلى 4/234 رقم 2347، والبيهقي في السنن 8/157.
([9]). البخاري 6/2588 رقم 6647، ومسلم 3/1469 رقم 1709، والبيهقي 8/145، وصحيح ابن حبان 10/428 رقم4567، وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا عبادة » قلت: لبيك، قال: «اسمع وأطع في عسرك ويسرك ومكرهك وأثرة عليك، وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك، إلا أن تكون معصية لله بواحا».
([10]). البخاري 3/1318 رقم 3408، باب علامات النبوة، ومسلم 3/1472 رقم 1843، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء، وابن حبان في الصحيح 10/447 رقم 4587، والطبراني في الأوسط 7/73 رقم 6896، وأبو يعلى 9/88 رقم 5151، والبيهقي 7/465 رقم 37265، وأحمد بن حنبل 2/27 رقم 3640، 3641.
([11]). مسلم 1/69 رقم 49، والترمذي 4/408 رقم 4173، وأبو داود 1/677 رقم 1140، وابن ماجة 1/1330 رقم 4013.
([12]). مسند الإمام زيد ص 420.
([13]). أخرجه الإمام أحمد بن عيسى في الأمالي (رأب الصدع) 3/1588 رقم 2661، والإمام الهادي في الأحكام 2/540، وأمالي المرشد بالله الخميسية 2/228، وأبو داود 2/514 رقم 4344، وابن ماجة 1/1329 رقم 4017.
([14]). أخرجه الحاكم في المستدرك 3/195.
([15]). أمالي المرشد بالله 2/228، أبو داود 4/514 رقم 4344، والترمذي 4/409 رقم 2174، وابن ماجة 1/1329 رقم 4011، والطبراني في الكبير 8/292 رقم 8081، ص 281 رقم 8080 بلفظ: «أحب الجهاد».
([16]). أحمد بن حنبل 1/278 رقم 1094 عن علي عن النبي. وروي أيضا عن الحكم بن عمرو الغفاري.
([17]). المصابيح ص 183، والبداية والنهاية 3/63، وابن هشام 1/285، وتاريخ الطبري 2/326، وعيون الأثر 1/189، والسيرة لابن كثير 1/463، 474، ودلائل النبوة للبيهقي 2/63 رقم (495)، والروض الأنف 2/6.
([18]). الأحكام في الحلال والحرام2/524، ونهج البلاغة ص613، والمختار من كتب أمير المؤمنين ووصاياه رقم 74.
ارسال نظر