بلاء التطرف والجمود والتخلف والجهل والتعصب والتكفير والخطط الاستراتيجية المستقبلية
أ.د. بسام صباغ
باحث ومفكر اسلامي - سوريا
بسم الله الرحمن الرحيم
1- مقدمةٌ: العدوُّ الخارِجي والعدو الداخليّ:
إن العالم يمر بمرحلة انهيار مادي (اقتصادي) وبانهيار أخلاقي، وإن العالم الإسلامي هو الحلقة الأضعف في هذا العالم وتكالب عليه عدوان: عدو خارجي حاقد على الإسلام، وعدو داخلي جاهل بالإسلام (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) [مريم 59]، وأكثرُ المسلمين حكاماً ومفكرين وعلماء وقادة، بوضع اللوم على العدو الخارجي الذي كان السبب في تفرقهم واختلافهم وفقرهم وجهلهم ومرضهم والى غير ذلك من الأمراض.
2-العدو الخارجي وغزة:
لقد ظهر في عصرنا القطب الواحد الذي هدفه السيطرة على العالم، وظهرت معه العولمة الأمريكية التي تريد أن تسيطر على كل ثروات العالم وإمكانياته وخيراته، فتدخلت القوات الأمريكية في أفغانستان والعراق والصومال والسودان وغيرها, وظهرت الدعوة إلى الشرق الأوسط الكبير، والتي تكون فيه إسرائيل مركزاً للمنطقة, والتي استولت على فلسطين وضمت أراضٍ عربية لها، بدعم من أمريكة وأوروبة، واستباحت إسرائيلُ الأراضي المجاورة من سيناء ثم لبنان والجولان والضفة، وظهرت حرب الإبادة على الفلسطينيين، وما شاهده العالم أجمع ذلك التدمير والحصار الشامل لغزة، إن حرب غزة كشفت نوايا إسرائيل الرافضة لكل الاتفاقيات المبرمة سابقاً مع السلطة، وأظهرت الحكام الفاسدين والمنافقين والخونة من العرب والمسلمين والعالم، وكشفت وسجلت الجرائم الصهيونية، وفضحت خبثهم وصلفهم، لقد سكت العالم عن أفظع جريمة ترتكب في العصر الحديث، حيث مليون ونصف غزاوي يموتون بالحصار جوعاً وبرداً وعطشاً، ويضربون بالقنابل الفسفورية المحرمة دولياً ولم يتحرك مجلس الأمن ولا زعماء أمريكة وأوروبة.
ووقفت سورية وإيران حكومة وشعباً مع مقاومة حزب الله في جنوب لبنان ومع مقاومة حماس في غزة، ولقد ظهر بحريق غزة وتدميرها فوق رؤوس الآمنين والسكان ضعف الجامعة العربية وضعف الحكم العربي، وضعف منظمة العالم الإسلامي والمؤسسات الدولية، وظهر تواطؤ الكثير الكثير على قضية فلسطين، وصموا آذانهم عن صوت الشعوب الإسلامية وغيرها، التي خرجت بالملايين تستنكر ما يحدث من هذه الجريمة الكبرى على مر التاريخ، حيث أصبحت هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن أحجاراً على طاولة الشطرنج تلعب بها الصهيونية الأمريكية المسيحية كما تشاء، وصارت سيفاً على رقاب أحرار العالم والدول التي تقول لا لأمريكة وإسرائيل والاستعمار والظالمين، ولن يكون هناك مساواة وأمن واستقرار في العالم حتى يعاد النظر في تركيب مجلس الأمن وإلغاء حق الفيتو المسلط على شعوب العالم، ولن أطيل في موضوع العدو الخارجي فهو ليس مجال بحثنا.
3-العدو الداخلي أخطر من العدو الخارجي:
وبحثنا هو الأخطر من العدو الخارجي وهو العدو الداخلي المتمثل بجهل أبناء المسلمين في فقه الحياة والقوة والمنعة وفي فقه (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [الأنفال 60]، وفقه (رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً)[البقرة 201]، فانتشرت الأمراض العقدية والفكرية بين المسلمين، وتجاذب أبناءَهم أفكارٌ بعيدة عن جوهر الدين، وانتشرت بينهم بسبب جهلهم واستغلال أعدائهم في بلاد المسلمين الإلحاديةُ والماديةُ والعرقيةُ والطائفيةُ والمذهبيةُ، التي استغلها أعداء الإسلام والمسلمين في زيادة مصائب العرب والمسلمين، فتفرقت كلمة المسلمين وضاع عزهم، واجتمع عليهم الأكلة الأشرار كما تجتمع الأكلة على قصعتها، مع أنهم يمثلون خمس العالم، ويملكون أكثر ثروات العالم وفعاليته، إننا يجب أن نبحث بشفافية ووضوح، وجرأة وشجاعة، عن تركيبة العالم الإسلامي، ونتحدث عن أهم أمراض العالم الإسلامي وأخطر بلاياه لنعالجها، وخاصة إذا أردنا أن نحقق الوحدة الفكرية أو المصيرية بين المسلمين وطوائفهم وثم ننطلق إلى التعاون الاقتصادي والإعلامي بين المسلمين.
لقد ابتليت الأمة الإسلامية بحالات مرضية وأخطرها بلاء التطرف والتعصب والتخلف الفكري، وبلاء التكفير، والاستعلاء عل الآخرين، والتهور والطيش، وإباحة دماء المسلمين المخالفين، واعتبار كل فئة وطائفة أنها الفئة الناجية من النار.
ومن أسباب هذه الأمراض هو اعتبار الماضي مقدساً وديناً، إن الكثير من حالات الانقسام والتفرقة سببه النظرة إلى الماضي دون إعمال الفكر لما يصلح منه لحاضرنا و مستقبلنا، فأخذ الماضي ليكون سبباً لفرقة المسلمين إلى اليوم، ونحن نعتقد أن الأنبياء والمرسلين هم المعصومون، وحتى هؤلاء، فقد شوه تاريخهم ورسالاتهم ممنْ بعدَهم، وتطرفوا خاصة بالأديان والطوائف الحالية، كاليهودية والنصرانية والبوذية والصابئة، وغير الأنبياء والمرسلين يؤخذ منهم ويرد.
وإن أغلب موضوع الخلاف بين المسلمين ينحصر في الماضي، وأغلبه هو خلاف سياسي، وكثير من المسلمين جعلوا من اختلاف الماضي واجتهادات رجاله ديناً وعقيدة، حتى أولئك الذين اختلفوا في عصرهم في الاجتهادات الفقهية كان اجتهادهم واختلافهم رحمة للمسلمين، وهو اختلاف في وجهات النظر والرأي، وذلك حسب ما يمليه عليهم علمهم وواقعهم آنئذ، ومن ثم نقلت الخلافات والاجتهادات لأمور العقدية، فكفرنا بعضنا، واتهمنا المخالف ولو كان على صواب بالكفر والشرك والتفسيق والتبديع، ولم نفكر بمآل تلك الأفكار التكفيرية والتفسيقية من تفرقة وشرذمة ومعاداة وخسارة للمسلمين، وأخذتنا عزة الجاهلية بعيدين عن المنطق والعقل والدين، ونسينا قول الله تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [البقرة 134]، وقوله تعالى (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [الأنعام 146]، فإذا كان البيان الإلهي لا يسألنا عن أعمالهم فلماذا ننصب أنفسنا مدافعين عن آرائهم أو أعمالهم أو اجتهاداتهم، ونتحارب على ماضٍ ولّى، وتاريخ لن يعود، وأحداث لا علاقة لنا بها، وأمامنا أعداء يكيدون لنا وللإسلام ليلاً ونهاراً، فحوادث الماضي ليست ديناً مقدساً، فالبشرية تختلف، وقال ربنا: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) [الزخرف 32]، وقال أيضاً سبحانه وتعالى: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) [الحجرات 13]، وجاء في الحديث الشريف: (الخلق عيال الله، وأحب العباد إلى الله أنفعهم لعياله) ([1]), وفي الحديث: (المسلم من سلم الناس من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم) ([2]), إن الاختلافات والاجتهادات تقضيها الضرورات العملية وتطورات الحياة، واختلاف المعاني الاجتهادية، فهي طبيعية، وبهذه الاختلافات تتنوع العلوم وتتطور الحياة، وكما قيل: (الاختلاف رحمة)، فالاختلاف العلمي ضروري لتقدم الحياة، ورحمة لتأمين مصالح العباد، ولقد بنيت الحضارة الإسلامية على ثقافة التنوع والاختلاف السعيد، والتسامح وقيم الصلح والإصلاح، والأخوة الإسلامية والإنسانية، وعندما ذهبت هذه القيم الإسلامية وحل عوضاً عنها بلاء التكفير والتفسيق والتضليل، وبلاء العنف والتعصب والإرهاب، والتناحر الطائفي والمذهبي والعرقي وغيره، تفرقت الأمة الإسلامية وذهبت حضارتها، وعزها ومجدها وكرامتها.
وطالما هناك فكر وتفكير، وعقل وتعقل، وجهد واجتهاد، فلا بد من الاختلاف، وإن علماء الأمة وفقهاءها ومجتهديها إنما اختلفوا في سبيل الوصول إلى الحق، وتحقيق مقاصد الشرع، بما أعطاهم الله من فهم لكتاب الله وسنة رسوله، فكان اجتهادهم ثروة حضارية يفتخر بها المسلمون على مدى العصور والأزمنة، ولما قلب المسلمون ذلك، وصار الخلاف عنواناً رئيسياً بين الطوائف المسلمة أدى إلى الشقاق والنزاع وتفريق وحدة المسلمين.
لقد حذرنا الإسلام من الخلاف والشقاق والنزاع، وتكفير الآخر أو استباحة دمه، وأمرنا بالوحدة، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران 103]، وقال تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال 46]، وقال في تحكيم شرع الله تعالى في الخلاف: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء 59], لقد انتشر في الأمة التكفير منذ انقلب الاجتهاد إلى عقيدة ودين، وأصبح يردده العلماء قبل العوام، فمنذ الخوارج ثم المعتزلة والأمويين ثم السياسات العباسية التي كانت مرة مؤيدة للمعتزلة وأخرى للحنابلة، أو مرة مع الشيعة وأخرى معادية لهم، وأصبح هناك إرهاب فكري ضد المستنيرين من أفراد المذاهب الأخرى أو الطوائف، واتجه الجامدون والمتزمتون إلى قراءة كتب المذهب وتصانيفه وألزموا أنفسهم بالاقتصار عليها، وكان الذي يخرج من التكفير والتعصب والانغلاق ضد الآخرين ويفكر بالوحدة والتقارب ويحكِّم العقلَ أو الشرعَ يُتَّهم بالتكفير والزندقة حتى من أفراد مذهبه، وينطبق على هذه المرحلة قوله تعالى: (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [آل عمران 19]، واتخذ العوام المفرقين للجماعة المهتمين بالجماعة ووحدتها المتهمين غيرهم بالتكفير والتفسيق والتبديع، اتخذ العوام رجالَ المذاهب قدوتهم ولو على باطل، كما قال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) [التوبة 31]، وأصبحت ظاهرة التشيع للمذهبية أو الحزبية مظهراً لهؤلاء الذين وصفهم القرآن بقوله: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) [البقرة 78]، وحلَّ الأغبياء من هؤلاء المكفرين محل الأذكياء والمجتهدين، فهبط الفكر الإسلامي إلى الانغلاق والجمود والتطرف، ومضى دون تبصرٍ فكري يفكر بواقع الأمة ومآسيها ومخازيها، ويعجل للنهوض بها من رقدتها وتأخرها.
ولا بد من المصارحة بما يلي:
1-لقد فسدت أهداف تعليم الدين وغاياته عند الكثير، وأصبح كثير من علماء الدين همهم المناصب والإدارات والعمل لإرضاء الحاكم ولو لم يكن ينتهج الشريعة الإسلامية. (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) [البقرة 170].
2-لقد حصرت مناهج البحث في الفقه خاصة بالعبادات والمعاملات التي تحددت بالأطر المذهبية، دون التفكير بخطط استراتيجية مستقبلية لتوحيد المسلمين، وبناء قوتهم.
3-وحصرت أيضاً في تقديس الماضي وتسخير كل جماعة حوادث التاريخ الماضية إلى مصلحتها ضد الآخر.
4-ومن أخطر ما أصيب المسلمون به وهي قضية (نبش قبور التاريخ)، فآلاف الرسائل والكتب تكتب حول الاختلاف على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وموقعة الجمل وصفين ومقتل سيدنا علي والحسين عليهما السلام، وحوادث النزاع التاريخي، دون أن نرتقي للتفكير بواقعنا ومستقبلنا، وفي حين أن غيرنا يغزون الفضاء ونحن ننبش الأرض لنبحث عن الفرقة والخلافات.
5- إن التكفير والتعصب المذهبي عمانا عن القرآن الكريم وما جاء به مثل قوله تعالى (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) [الحجرات 9].
6- إن الاختلاف في المسلمين راجع إلى العامل السياسي بالدرجة الأولى حول موضوع الخليفة والخلافة، وعن كيفية الحكم وقواعد الشورى والعدل والإنصاف، وحاولت كل فرقه جعله عقائدياً، وتحول الخلاف السياسي إلى عقدي فيما بعد، ويأتي العامل الثاني الذي كان سبب الخلاف وهو موضوع الغيب الذي هو ما وراء الحس والواقع، والذي يحمل التأويل والمجاز، كرؤية الله وكلامه، والقرآن وخلق القرآن والخلود في النار للكفار وأصحاب الكبائر وما شابهه.
7- لقد أجمع علماء المسلمين على أنه من شهد الشهادتين فقد عصم دمه وماله، وأجمع علماء التقريب في هذه الأمة الإسلامية في العصر الحديث وخاصة مع ظهور مجمع التقريب في القاهرة، وظهرت من الشيخ شلتوت فتواه القائلة بجواز التعبد عل المذاهب الإسلامية الثابتة الأصول، المعروفة المصادر، المتبعة لسبيل المؤمنين، ومنها مذهب الشيعة الإمامية (الاثني عشرية)، ومنذ ذلك الوقت درست المذاهب الإسلامية في الأزهر والعديد من المؤسسات الدينية الإسلامية، وأصبحت تدرس المذاهب الإسلامية سنيها وشيعتها وزيديتها وإباضيتها، وجاء الشيخ عبد المجيد سليم، ومحمد علي علوبة، والإمام الأكبر الحاج أقا حسين البروجردي أحسن الله مثواهم، والإمام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء، والسيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي، وما أجمل كلمة العلامة الكبير الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء يقول فيها: (ولكن ينبغي أن يكون من المقطوع به أن ليس المراد من التقريب بين المذاهب الإسلامية إزالة الخلاف بينها، الغرض تبديل التباعد والتضارب، بالإخاء والتقارب، فإن المسلمين جميعاً مهما اختلفوا في أشياء من الأصول والفروع فإنهم قد اتفقوا على مضمون الأحاديث المقطوع عندهم بصحتها، من أن: من شهد الشهادتين واتخذ الإسلام ديناً له، فقد حرم دمه وماله وعرضه، والمسلم أخو المسلم، وأن من صلى إلى قبلتنا، وأكل من ذبيحتها، ولم يتدين بغير ديننا فهو منا، له مالنا وعليه ما علينا) ([3])، من أجمل الكلمات تلك التي قالها الإمام الخميني (رحمه الله) (السنة والشيعة جناحا طائر لا يطير إلا بهما)، وآلاف المفكرين والعلماء والدعاة الذين يحضرون مؤتمرات المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية والذي بلغ إلى اليوم الثاني والعشرين للوحدة الإسلامية، كلهم يعبرون عن صدق مشاعرهم وإخلاص أفئدتهم وغيرتهم على دينهم، وتحسرهم لفرقة المسلمين واختلافاتهم، وتأخرهم وضعفهم، وكلهم مجمعون أن من قال (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله) فقد عصم دمه وماله وصار منا ونحن منه.
8-إن الكثير من صيحات "التقريب" ضاعت، لأن التقريب لم يخرج من دائرة المؤتمرات والندوات التي تجتمع فيها النخبة فقط، ولم تتبنى هذه الصيحات الدول والحكومات، ولم تنتقل هذه الصيحات للعامة وطلاب العلم.
9-إن التجديد واجب على أئمة المسلمين وعلمائهم، والتجديد ليس هو علم ننشأه, بل التجديد هو الرجوع إلى منابع الشريعة التي هي كالشمس في رابعة النهار، فيها ينابيع التجديد، وما على علماء الأمة الإسلامية وحكمائها إلا البحث والاكتشاف، والصبر والثبات، والعزيمة والاستمرار، وقد بشر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمته حيث قال: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها) ([4])، وإن هؤلاء المجددين الحكماء عليهم أن يجمعوا بعضهم ويناصروا بعضهم، لينهضوا بشأن الأمة وليمحصوا ويبعدوا نصوص تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، واستبشروا بالنصر، فقد وعدكم ربكم (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف 9]، وقال: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور55].
10- يجب علينا أن نستغل الظروف، فإن الأحداث في جنوب لبنان وغزة وحَّدت الطوائف الإسلامية ومذاهبها على المقاومة، فأحيت في نفوس كثير من المسلمين روح المقاومة التي كانت راقدة، وأعطت المقاومة دفعاً قوياً نحو الوحدة والتقارب بين السنة والشيعة.
11- لقد افتتحنا الجامعات الإسلامية الفقهية والأصولية بالآلاف، وكتبت آلاف الرسائل في المواضيع الفقهية، والتاريخية، والخلافية، ولم يهتم العالم الإسلامي بالجامعات العلمية التي تتوقف عليها نهضة الأمة ومواكبتها لحاجيات العصر، فما لم نجعل ثقافة العصرنة والتكنولوجية والعلم عبادة وديناً، فلن ننجح، علينا أن لا نشغل الأجيال بالتكفير والتفسيق ودخول معارك كلامية تزيدنا تأخراً وفرقة وقتالاً وخصاماً وربنا أمرنا بقوله (رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة 201]، وليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ولا من ترك آخرته لدنياه ولكن يصيب منهما جميعاً، وبهذه المناسبة فإننا نبارك لإيران حكومة وشعباً على تقدمها العلمي وفهمها للعصر واحتياجاته.
12- إننا نملك من أسباب الوحدة والتقارب 90% ونقاط الاختلاف لا تتجاوز 10% فعلينا أن نبحث ونكتشف وننشر هذا الرصيد الفكري الكبير الوحدوي للأمة الإسلامية، ونتصدى لكل من يريد أن يزعزع تقاربنا، نعمل فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.
13- عندما أسس مجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة تعرض أصحابه للنقد والتجريح، ولكن بثباتهم واستمراريتهم أثمرت جهودهم، وأسسوا لطريق التقارب والوحدة والمحبة بين المسلمين، ونحن اليوم لا تظنون أن هذه الدعوات التقريبية طريقها مفروش بالورود، لا بل بالأشواك والصعاب، فعلينا الاقتداء بالأنبياء والمرسلين، وعلينا أن نذكر الإمامين الجليلين، إمام الجهاد الحسين بن علي سيد الشهداء، وإمام الوحدة الحسن بن علي رضي الله عنهما، عندما مد يده إلى معاوية بن أبي سفيان، يدعوه إلى الوحدة والجماعة، فيما كانت أصوات كثيرة تطالب بالحرب والعنف، وعندما دخل مسجد الكوفة وكان بانتظاره أكثر من أربعين ألفاً تجهزوا للقتال, ولكن تفاجأ الجميع بدخوله عليهم وبصحبته معاوية، ومقولته الشهيرة: أيها الناس، نحن أهل البيت الذين هداكم الله بأولنا، ويحقن دماءكم بآخرنا.. (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب 33]، وبكى الناس، فقال (أيها الناس.. إن هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية لا يخلو أن يكون حقاً له فأنا أردّه إليه، أو حقاً لي فأنا أنزل عنه إرادة صلاح المسلمين ، ثم قال: (والله ما يسرني أن لي خلافة هذه الأمة وأن يراق من دم المسلمين محجن دم), صدق رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) (صلى الله عليه وآله وسلم)(إن ولدي هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، وسمي ذلك العام بعام الجماعة، عام واحد وأربعين للهجرة، (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر 10].
14- أيها الإخوة، إن لرجال الفكر والدعوة والمذاهب أن يميزوا بين صوت النصيحة وبوق الفضيحة، بين الأصوات التي تريد توحيد الله ووحدة المسلمين، وبين الأبواق التي تنشد الفرقة والخصام.
15- علينا أن نكثر من مثل هذه المؤتمرات والندوات والملتقيات، وندخلها ونحن مفتقرون إلى الله، سائلينه توحيد كلمة المسلمين، وعلينا جعل مجامع فقهية مشتركة بين جناحي المسلمين السنة والشيعة، وأن يصدع العلماء المخلصون الحكماء في كل طائفة مع أبناء طائفته وأتباعه بالخطاب الوحدوي التقريبي، وأن يقف بوجه كل من يريد أن يفرق جماعتنا ووحدتنا، وينقي المقولات والوعظ والخطب والعادات والمظاهر من كل ما يباعد وينشر الفرقة.
16- الواقع يفرض علينا أن نبحث في الواقع السياسي العالمي، فواقعنا لا يحتمل أن نبحث في الخلافيات أو الفقهيات، واقعنا يفرض علينا أن نوحد الفكر السياسي ضد عدونا المشترك، ومن أكبر الأخطاء أن نجعل الآن معركة حول مسائل فقهية اجتهادية، والعالم الإسلامي تدمره قوى البغي والعدوان التي اجتمعت علينا من كل حدب وصوب.
17- يجب علينا تجسيد مقولة (أنه يجوز التعبد بكل المذاهب الفقهية المعتمدة)، ليس فقط بالمؤتمرات بل في طلابنا وأتباعنا، بسلوك عملي لا نظري.
18- يجب أن نؤكد ونصدرَ فتاوى على جواز الزواج بن أفراد هذه المذاهب، لنرتفع عن العصبية والقبلية والحزبية والطائفية، ولنا برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أسوة حسنة، عندما تزوج زوجاته الطاهرات ولكل واحدة منهن عدة دروس يستفاد, لقد حقق الزواج ما لم تحققه الجيوش، فجمع الرسول كل زوجاته مع اختلاف انتماءاتهم القبلية والدينية، فمنهن ابنة أحب الناس إليه، ومنهن ابنة أعدى الناس إليه، منهن القرشية والهاشمية واليهودية والنصرانية، والعربية والقبطية، والحضرية والأعرابية، والصغيرة والكبيرة، والبكر والثيب، والأرملة واليائس، ومن كانت بالأمس عدوة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) غدت بعد المعركة زوجة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
19- يجب التركيز في دراستنا الجامعية والرسائل والأطروحات عن سبل التقريب, والتي تبحث عن الحاضر والواقع وتستشرف المستقبل بين العلاقة بين المذاهب والطوائف الإسلامية، وتضع استراتيجيات له، والبعد عن سياسة نبش قبور التاريخ عن الذي يفرق وحدة المسلمين.
20- لم تزل ثقافة التقارب محصورة في المؤتمرات فيجب أن ندرس الطرق والأساليب لنشرها بين طلبة العلم أولاً، في مدارسنا وحوزاتنا وجامعاتنا، لأنه إذا صلح هؤلاء صلح من بعدهم.
21- هل يمكن إنشاء كتب مشتركة لتدرس لأبنائنا كل حسب مستواه، تجمع ولا تفرق، مع العلم أنه لا يزال التعليم الديني منغلقاً على نفسه، ولم تزل مرجعيتهم الكتب القديمة.
لقد كتب ميثاق الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين واشترك فيه علماء أجلاء من السنة والجعفرية والزيدية والإباضية (ونذكر منهم الشيخ د. يوسف القرضاوي والشيخ علي التسخيري والشيخ أحمد الخليلي وغيرهم الكثير)، فأصبح مرجعاً هاماً، وقررته أنا على الآلاف من طلبة الجامعات في كليات إسلامية مختلفة.
وأخيراً، أصيب العالم الإسلامي بعدوين، بعدو خارجي، وعدو داخلي، والعدو الداخلي هو أخطر من العدو الخارجي، وأخطر ما أفرزه هذا العدو الداخلي حالات التفرقة والانقسام، وحالات التطرف والتعصب، والجهل والفساد، وابتلي الكثير منها بساسة فاسدين يبغون مصالحهم، كما ابتلي بعلماء دين وشخصيات همها مصالحها وأطماعها بالرياسة أو المال أو الجاه، وابتلي عالمنا الإسلامي بحالات استفزازية بين أهل الطوائف والمذاهب وخاصة لدى العامّة من بعض الجاهلين أو المنتفعين أو ممن كانت تسيره شهواتهُ ورغباتهُ، أو أعداء الأمة الإسلامية من داخلها وخارجها، وهناك بلايا كثيرة.
وليس المهم أن نبث ألمنا، نبكي حالنا، المهم أن نحصي تلك الأمراض لنجعل لها علاجاً شافياً، لنرسم خططاًً مستقبلية نواجه بها التحديات بصدق وإخلاص، وعلم وبصيرة، ويصل تنفيذ هذه الخطط الاستراتيجية المستقبلية إلى جماهير الأمة الإسلامية بمختلف طبقاتها وتنوعاتها وثقافاتها، تصل إلى الإنسان المسلم، أينما كان، في الإقامة والمهجر، في البلاد الإسلامية وفي غيرها، عند المرأة والرجل المسلم، والصغير والكبير، والحاكم والمحكوم، والعالم وغير العالم، مركزين على حركة النضال والمقاومة لدى أبناء أمتنا الإسلامية، فإن المقاومة وحدت المسلمين وهذا ما لمسناه في مقاومة جنوب لبنان وأهل غزة، وعلينا أن نجد طرق تواصل واتصال بين علماء هذه الأمة.
(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء 92].
الهوامش:
([1]). شعب الإيمان للبيهقي 7190.
([2]). النسائي 4909.
([3]). مسالة التقريب بين المذاهب _ دار التقريب الإسلامية _ بيروت _ ط 1994.
([4]). سنن أبي داوود رقم (4291)، والمستدرك للحاكم رقم (8592)، والمعجم الأوسط للطبراني رقم (6527)، وكلهم عن أبي هريرة، وقال الألباني صحيح.
ارسال نظر