المسلمون في الأقطار غير الإسلامية
(حقوقهم ،واجباتهم ،مشاكلهم وحلولهم )
المحور الأول : التمهيدات
بسام الصباغ
استاذ بكلية الامام الاوزاعي ـ سورية
مقدمة :
قبل الحديث عن الأقليات المسلمة أو الجاليات ، لابد من الحديث عن صلة هذه الأقليات بالإسلام والأمة الإسلامية ، وماذا نعني بالأمة الإسلامية ، وما ميزتُها وخَيِّرتُها و رابطتُها وقيمُها وأخلاقها وأعداؤها ؟
أولاً : المسلمون أمة واحدة : قال تعالى : } إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ { [الأنبياء :92] ، وقال تعالى : } وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ { [ المؤمنون :52] فقد جعل الإسلامُ المسلميَن في مشارق الأرض ومغاربها أمةً واحدةً متميزة عن غيرها في عقيدِتها وشريعتِها وأخلاقِها ، منبثقة من إيمانها بالله ورسوله محمد r ومتمتعةً بنظرتها السامية المتوازنة للكون والحياة .
ثانياً : ولقد ميز الله هذه الأمة بالوسطية فقال تعالى : } وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً { [ البقرة : 143] ، فالإسلام يوازن باعتدال وحكمة بين متطلبات الروح والجسد ، والدنيا والآخرة ، بلا إفراط ولا تفريط في أي جانب ، تمشياً مع الفطرة الإنسانية القائمة على أن الإنسان جسدٌ وروحٌ .
ثالثاً : وجعل خيريِّة هذه الأمة عندما آمنت بالله ، وحملت أمانةَ التبليغِ والدعوة ، فقال تعالى: } كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ { [ آل عمران: 110] ، ,وأجمع أهل العلم أن الدَّعوةَ إلى الإسلام واجبٌ على كلِّ مسلم ومسلمة ، ( وكان ذلك الاتفاقُ إجماعاً انعقد في عصر الصحابة ، ثم عصر التابعين ، والإجماع لا يُنقَضُ إذا تخاذل المسلمون عنه ، وقعدوا عنه فلم يقوموا بحقه ) ([1])،( فقد أصبحت مهمةُ الدعوةِ الإسلاميةِ فرضاً من الفروض العينية ويخاطب به كلُّ مسلم ) ([2])، وسماها الله بالجهاد الكبير ، ( الذي ميدانُه الدعوةُ إلى الله ، والأمرُ بالمعروف ، والنهيُّ عن المنكر ، فقد قال سبحانه وتعالى في هذا الصدد : } فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً { [ الفرقان :52] أي بالقرآن ، وبدعوة القرآن ، والدعوة إلى الإسلام ليست أقوالاً ، إنما هي (أن يتمَّثلَ المسلم خصائص الإسلام ، ويتخلق بها ، فكراً وعقيدةً وإيماناً وعملاً ، ثم يقوم بعرضها على الناسِ والدعوةِ إليها بحكمةٍ بالغةٍ ودرايةٍ تامةِ بأسلوبٍ يناسبُ حال المدعوِّين، بالحكمةِ والموعظة الحسنة ) .
وقد أشارت سورة العصر إلى هذه المعاني ، وإلى ما ينقذُ الإنسانيةُ من الهلاكِ والخسران ، وهو : أولاً : الإيمانُ ، وثانياً : العملُ الصالح ، وثالثاً : الدّعوة والتبليغ ، فقال تعالى : } والعصر إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ { ([3]) [العصر ] .
رابعاً : وحفظ الله لهذه الأمة إسلامَها بحفظ كتابِ رِّبها ، فقال تعالى : } إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ { [ الحجر :9] وجاء في حديث رسول الله r : «لا تزالُ طائفةٌ من أمتي ظاهرين ، حتى يأتيهم اللهُ وهم ظاهرون ، لا يضرُّهم من خَذَلهم [ وفي رواية :من خَالفهم ] حتى يأتَي أمرُ الله وهم كذلك » ([4])،وجاء:« إن اللهَ يبعثُ لهذه الأمةِ على رأسِ كلِّ مئةِ سنةٍ من يجدد لها دينها » ([5]).
خامساً : وجعل الإسلامُ رابطة هذه الأمة الإيمانُ والتقوىُ ، فالناس جميعاً خلقوا من نفس واحدة } يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً { [النساء:1] على اختلاف عناصرِهم وأجناسهِم وبيئاتهِم ولغاتِهم وألوانِهم وأوطانِهم ، جعلَ التمايزَ بين البشرِ بالتقوى والعمل الصالَح ، فقال تعالى : } يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ { [ الحجرات :13] لا فضل لأحد على أحدٍ إلا بالتقوى ([6])، وما العباداتُ إلا تقويةً للتقوى والعمل الصالح التي تجعل هذه الأمة كالجسدِ الواحد كما جاء في الحديث :« مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطَفهم ، مثلُ الجسدِ الواحدِ ، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى » ([7])، ووصف الله وحدة قلوب هذه الأمة فقال جل شأنه : } وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ { [ الأنفال : 63] وجاء في الحديث الشريف : « المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً » ([8]) وكان التوجه للكعبةِ صلاةً وحجاً ، من أهم عناصر الوحدة لهذه الأمة الإسلامية ، فهو يغذي الوحدَة الإسلاميةَ العامة ، التي تترفع على العصبياتِ والقومياتِ ، فكانت الرسالةُ الإسلاميةُ رسالةً عالميةً ، لا تقتصر على شعبٍ دون شعب أو بلد دون بلد ، فالإسلامُ دينٌ لجميع البشر ، غير مخصصٍ وغير مقيِّدٍ بزمن مخصوصٍ أو مكانٍ أو أفرادٍ ، قال تعالى : } وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ { [سبأ : 28] } !$tBur »oYù=yör& wÎ) ZptHôqy úüÏJn=»yèù=Ïj9 { [ الأنبياء : 107] } قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ { [الأعراف : 158] ، وقال تعالى } تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً { [ الفرقان : 1] فالإسلامُ دينُ الإنسانيةِ جمعاء ، ورحمةً للعالمين ، وللناسِ كافةً ، بلا تفريق أو تمييز .
سادساً : ومضمون عقيدة هذه الأمة هو مضمون كلِّ الرسالات السابقة ، ولهذا فهي تؤمنُ بوجودِ الله ووحدانيته وتنزيهه عن كل ما لا يليق به من صفات النقَّص ، وتؤمنُ بملائكتهِ وكتبهِ ورسلهِ واليوم الآخر والحسابِ والجنة والنارِ وما إلى ذلك ، قال تعالى : } شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ { [ الشورى : 13] } آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ { [البقرة : 285] وقال r : « كلُّ نبيٍ بعثُ إلى قومه ، وإنما بعثت للأحمر والأسود » ([9])، وقال أيضاً : « إن مثلَي ومثلَ الأنبياءِ من قبلي كمثلِ رجلٍ بنى بيتاً فأحسنَه وأجملَه إلا موضعَ لبنةٍ من زاوية ، فجعلَ الناسِ يطوفون به ويعجبون له ، ويقولون : هلا وُضِعت هذه اللبنة ؟ قال : فأنا اللبنةُ وأنا خاتم النبيين » ([10]).
سابعاً : وقيمُ هذه الأمةِ وأخلاقُها واحدةٌ في جميعِ أنحاء الأرض ، لأن الأخلاقَ والقيمَ والعاداتِ والتقاليدَ مرتبطةٌ بعقيدةِ المسلم وإيمانِه ، كبِّر الوالدين وصلةِ الأرحام ، وحقِ الجوار ، والعفةِ ، والحشمةِ والوقارِ ، ونبذ المنكراتِ ، وأكلِ الطيباتِ ، وأعرافِ الأسرةِ المسلمةِ ، وآدابِ المعاملاتِ ... وغير ذلك ، لأن الأخلاقَ في الإسلامِ مرسومةٌ بمنهجٍ ربانيٍّ قرآنيٍ ، فهي مستمدة من كتاب اللهِ ، المشروح بسيرة رسوله r ؛ بينما العاداتُ والأخلاقُ في الغربِ مرتبطةٌ بالمنفعةِ واللذةِ ، وهما يولدان الأنانيةَ والأثرةَ وحبَ الذاتِ والعجبَ والكبرَ ، وأيا كانت مقياسُ الأخلاقِ والعاداتِ في الغربِ فكرياً فلسفياً أو ذاتياً أنانياً ، فهو مقياسٌ ماديٌ نفعي ينطلقُ من المادةِ والواقعِ والمصلحة .
ثامناً : وأعداءُ الأمةِ الإسلاميةِ واحدٌ في جميعِ أنحاءِ الأرض ، وهم يكيدونُ ويتآمرون ويحاربوُن كلَّ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وإن اختلفت أسماؤهم وأشكالهم ووسائلهم وأساليبهم ، لأنها معركةٌ بين الحقِ والباطلِ ، والخيرِ و الشرِ ، ولمةَ الخيرِ ولمةَ الشيطانِ ، وتكادُ تكون مشاكلِ الأمةِ الإسلاميةِ واحدةٌ .
تاسعاً : وعدَ اللهُ الأمةَ الإسلاميةَ بالنصر والتأييد والاستخلاف في الأرض إذا صدقت مع ربها ، وتمسكت بقرآنها ، وسارت على سنة نبيها ، قال تعالى : } وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ { [ النور :55] } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ { [ محمد :7] وقال : } وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ { [ الروم :47] ، وقال أيضاً : } ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ { [ الأنفال :53] } إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ { [ الرعد : 11] والآيات التي تشير إلى نصرِ المؤمنين وتأييدِ الله لهم إذا كانوا مع اللهِ ومع شرعهِ كثيرة ، ولكلِ فرد صادقٍ في الأمة الإسلامية ، على يقين أن هذه الأمة ستعود إلى غابر عزتها وكرامتها إن شاء الله ، وسيسود الإسلام العالم ، وسينتصر الحقُ ، إذا عدنا إلى اللهِ ورسولهِ ، والعالم أجمع اليوم ينتظر دورنُا وإسلامنا ، ولا حلَّ لمشاكله إلا الإسلام .
المطلب الأول : تحديد المصطلحات : ( الأقليات ، الجاليات ، الفئات )
أولاً:المسلمون في الأقطارِ غير الإسلامية قد يطلقُ عليهم الأقلياتُ أو الجالياتُ أو الفئات..
ومن الحقائق الثابتة أن الإسلام لا يعرف الأقليات فهو يعترف بالتعددية الدينية والأثنية والعرقية
والأقلية المسلمة هي جزءٌ من الأمة الإسلامية ، وهي تعني وجود مسلمين ولو بنسبة قليلة في بلدان غالبيتها من غير المسلمين ، ويتفاوت عددها من أفرادٍ إلى ملايين ، حيث إن عدد المسلمين في الهند يقارب المئتي مليون نسمة ويظلون أقلية بالنسبة لعددِ سكانَ الهند.
ومصطلح الأقليات ليس مصطلحاً إسلامياً ، وهو غريبٌ عن الفكر الإسلامي وعلى تراثنا الحضاري ، ومصطلح الأقلية أو الأكثرية كلاها لا يحملان صفات ايجابية أو سلبية لمجرد هؤلاء أقلية أو أكثرية فهذا مصطلح سياسي جديد بدأ ظهوره واستعماله بشكل كبير في بداية العهد الاستعماري الحديث ، وبأبسط تعريف للأقلية : هي مجموعة من سكان قطر أو إقليم أو دولة ما تخالف الأغلبية في الانتماء العرقي أو اللغوي أو الديني ، دون أن يعني ذلك بالضرورة موقفاً سياسياً متميزاً ، أو هو في العرف الدولي فئات من رعايا دولة من الدول تنتمي من حيث الجنس أو اللغة أو الدين إلى غير ما تنتمي إليه أغلبية رعاياها ، والأقلية الإسلامية هي كل مجموعة بشرية تعيش بين مجموعة أكبر منها وتختلف عنها في كونها تنتمي إلى الإسلام وتحاول بكل جهدها الحفاظ عليه .
فالأقليات الإسلامية هي مجاميع المسلمين بمختلف مذاهبهم السنة والشيعة المتواجدون في بلدان غير إسلامية الطابع .
ثانياً : تكوين الأقليات الإسلامية : تكونت الأقليات الإسلامية من ثلاث فئات :
الأولى : من سكان البلاد الأصليين ، أسلمت وبقيت في ديارها الأصلية ، وإن أعدادها تتزايد يوماً تلو يوم ، ويشهد العالم إقبالاً شديداً على الإسلام ( فقد أخذ الإسلام ينتشر انتشارا الفجر في الظلام ، وارتفع عدد الداخلين في الإسلام في كل من البلاد الأوربية وكثير من الولايات المتحدة الأمريكية ...) ([11]).
وتشهد اليابان إقبالاً على اعتناق الإسلام ، فقد أسلم رئيس طائفة الأموتو ([12]) ( كيوتارو ديكوشي ) مع رؤساء طائفته بدعوة من مفتي سورية الشيخ أحمد كفتارو ، حيث التقاهم في اليابان ثم دعاهم لسورية ، ثم اعتمروا بصحبته ، وقد ألقى (كيوتارو ) كلمة في مجمع أبي النور في 12/4/1991م ، قال فيها : ( سنعود إلى اليابان لننقل إليهم تعاليم الإسلام الرائعة وفي كل مراحل التجربة التي مررنا بها .. نحن نشعر في الأوموتو أننا على عتبة عصر جديد وفتح جديد ، وأم زيارتنا هذه هي بداية الفتح ، أليس مدهشاً أن تقوم عائلة الديكوشي – وهي التي أسَّست الأوموتو – بعد ألف وأربعمائة عام للدعوة لأفكار النبي محمد r في اليابان ...) ([13])،.. وإن كتباً كثيرة ومؤلفات ظهرت اليوم تتحدث عن دخول الآلاف في الإسلام في كل أنحاء العالم ، وتشهد المراكز الدعوية الإسلامية تزايد الإقبال على الإسلام ، ولهذا لا يمكن إحصاء عدد المسلمين في هذه البلاد بدقة لأنه يحتاج إلى تجديد كل عام .
والفئة الثانية : مهاجرة من بلاد إسلامية عديدة ، واستوطنت في الديار غير الإسلامية ، وتعددت أسباب الهجرة ،كما تعددت أهداف الإقامة وغاياتها لأسباب سياسية أواقتصادية أو اجتماعية .
والفئة الثالثة : جيء بهم من قبل الدول الاستعمارية إلى مناطق متعددة لاستغلالهم وتشغيلهم ونظراً لحاجتهم إليهم ولسرعة النمو الاقتصادية في الدول الأوربية والأمريكية وغيرها ، فالإنكليز مثلاً جاؤوا بالأيدي العاملة من أغلبية مسلمة من شبه القارة الهندية ، والفرنسيون جاؤوا بالأيدي العاملة من أفريقية الشمالية ذات الأغلبية المسلمة ، والهولنديون جاؤوا بالعمال المهاجرين من المسلمين وغيرهم من أندونسية ، والألمان استعانوا بالعمال الأتراك ،أو احتلال أرض المسلمين وطرد سكانها منها كما يحدث في فلسطين وشرق أوربة والهند وتركستان الشرقية .
ثالثاً : هناك فرق بين الأقليات والجاليات ([14]) فمصطلح الأقليات عندما يطلق في الأغلب يقصد به المسلمون من سكان البلاد الأصليين وحافظوا على إقامتهم وجنسيتهم ، أما الجاليات فهي التي جاءت من غير تلك البلاد من جنسية أخرى ، فقد تنتسب إلى جنسيتين ، أو قد تحافظ على جنسيتها الأصلية ، وهي تحاول أن تجد تجمعاً لها يميزها عن غيرها ، وبعضهم يطلق على هذه الفئة اسم المغتربين ، وهم الذين دفعتهم ظروفهم للهجرة من البلاد الإسلامية إلى أوربة والأمريكتين واسترالية وشرق آسية...
ويلحق بهذا المصطلح الفئات وهي تعني عند بعضهم عدد محدود من المسلمين تتميز بعرقها عن غيرها أو بدينها .
المطلب الثاني : نظرة الإسلام في مجال ( الإقامة في البلدان غير الاسلامية )
تمهيد :إن الأساس العلاقة مع غير المسلمين يتمثل في هاتين الآيتين من كتاب الله : } لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{ [الممتحنة : 8-9] .
الآية الثانية تحدّد منطلق العلاقات مع غير المسلمين أولاً أثناء الحرب وهي منع الولاء والتناصر وثانياً الأسس التي تحكم العلاقات بين المسلمين وغيرهم أثناء السلام ، وقد لخصتها الآية الأولى بأمرين اثنين :البر والقسط وهما مطلوبان من المسلم للناس جميعاً ، ولو كانوا كفاراً بدينه ، ما لم يقفوا في وجهه ويحاربوا دعاته ، ويضطهدوا أهله، أما المسالمون منهم ، الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين ولم يخرجوهم من ديارهم ، ولم يظاهروا على إخراجهم ، فلم ينه الله عن برهم والإقساط إليهم ، بل هو يحب المقسطين كما يحب أهل البر ؛ والقسط هو العدل ، والبر هو الإحسان ، القسط : أن تعطي الحق لأهله ولا تبخسه ، والبر : أن تزيد له على ما يستحق فضلاً منك ، القسط : أن تأخذ حقك ولا تزيد عليه ، والبر : أن تتنازل عن بعض حقك ، ونلاحظ هنا أنّ القرآن استعمل كلمة (البر) مع المخالفين ، وهي كلمة تستعمل إسلامياً في أقدس الحقوق بعد حق الله تعالى ، وهو حق الوالدين ، فيقال : بر الوالدين.
و أهل الكتاب لهم منزلة خاصة في المعاملة والتشريع ، والمراد بأهل الكتاب : من قام دينهم في الأصل على كتاب سماوي ، كاليهود والنصارى الذين قام دينهم على التوراة والإنجيل ، فالقرآن ينهى عن مجادلتهم في دينهم إلا بالحسنى ، حتى لا يوغل المراء الصدور ، ويوقد الجدل و يولد نار العصبية والبغضاء في القلوب ، قال تعالى : } وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ { [العنكبوت : 46] ، ويبيح الإسلام مؤاكلة أهل الكتاب ، كما يبيح مصاهرتهم والتزوج من نسائهم المحصنات العفيفات، مع ما قرره القرآن من قيام الحياة الزوجية على المودة والرحمة قال تعالى : } وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ { [الروم :21] ، وهذا في الواقع تسامح كبير من الإسلام ؛ حيث أباح للمسلم أن تكون ربة بيته ، وشريكة حياته وأم أولاده غيره مسلمة ، وأن يكون أخوال أولاده وخالاتهم من غير المسلمين ، وكذلك أجدادهم وجداتهم ، قال تعالى } الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ { [المائدة :5]. وهذا الحكم في أهل الكتاب سواء كانوا في ديارهم أو دار الإسلام
فالمسلم الذي يعيش في بلاد غير إسلامية فإنه يبقى ملتزماً بالبر والقسط اللذان أمر الله تعالى بهما تجاه جميع الناس بشرط واحد ( أن لا يقاتل هؤلاء المسلمين لدينهم وأن لا يخرجوهم من ديارهم ) ونشير هنا إلى أنّ نصف المسلمين في هذا العصر تقريباً يعيشون اليوم أقليات في بلاد غير إسلامية ، يلتزمون بواجباتهم كمواطنين ، ويجب أن تحفظ لهم هذه الدول حقوقهم وحرياتهم الدينية ، بناءً على المواثيق الدولية التي جعلت جميع الدول تحرص على إرساء دعائم السلم العالمي ، مع المحافظة على حقوق الإنسان وحرياته ، وعلى حقوق الشعوب المختلفة ، وقد أصبحت هذه المبادئ سائدة في هذا العصر رغم محاولات الدول الكبرى في مجلس الأمن وفي مقدّمتها الولايات المتحدة الأمريكية المحافظة على دور المتسلّط على العالم بما يحفظ مصالحها وأطماعها .
إن مسألة هجرة المسلم إلى خارج دار الإسلام أو حصوله على جنسية هذه الدار ، تغيّرت ظروفها عما كان في العصور الخالية ، ورغم أن الأصل فيها الإباحة ، إلا أنها يمكن أن تنتقل في حقّ بعض المسلمين إلى التحريم أو إلى الوجوب بحسب ظروفهم ونياتهم ؛ لكننا هنا نتحدث عن واقع قائم ، فلا تكاد دولة في العالم اليوم تخلو من وجود مسلمين فيها ، وكثير منهم يكون من أهلها الأصليين ؛ إنه لا يصح أن نتحدث مع هؤلاء اليوم من خلال مسألة الهجرة أو التجنّس التي طرحها الفقهاء قديماً انطلاقاً من الظروف التاريخية التي تغيرت كلياً ، والتي لا يمكن أن تنسجم مع واقع المسلمين اليوم .
الأصل الشرعي بالنسبة للمسلم أنه يمكن أن يعيش في أي بقعة من الأرض ، ومع أي شعب من الشعوب ، وفي ظل أي نوع من أنواع الحكم ، طالما أنه يتاح له أن يمارس واجباته الدينية ، وطالما أنه يتمتع بحقوقه وحرياته كإنسان ومواطن ؛ يدلنا على ذلك أن الله تعالى خاطب الإنسان في المئات من الآيات ، فرداً وجماعة ، وأن كثيراً من الصحابة الكرام من أبناء القبائل البعيدة عندما كانوا يدخلون في الإسلام كان النبي r يأمرهم أن يعودوا إلى قبائلهم حتى إذا سمعوا بظهوره التحقوا به ، وأن المهاجرين إلى الحبشة لم يعودوا إلى المدينة رغم قيام دولة الإسلام فيها ، وبقوا هناك حتى غزوة خيبر في السنة السابعة للهجرة ، ولم يذكر في كتب السيرة أن الرسول r دعاهم إلى اللحاق به بحجّة عدم جواز العيش مع الكفار .
عندما يعيش المسلم في مجتمع غير إسلامي ، فيجب عليه أن يتعامل مع الناس بأخلاق الإسلام لا بأخلاق الحرب ، وأن يلتزم بعهد المواطنة أو عهد الإقامة الذي يجمعه مع هؤلاء الناس في بقعة معينة من الأرض ، وفي ظل نظام حكم توافقوا عليه ، وعليه أن يلتزم بواجباته الوطنية كما يطالب بحقوقه ، في حدود الأحكام الشرعية ، وأن يكون عنصراً إيجابياً في المجتمع يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويدعوا إلى الله ، ويشارك في كل عمل مباح ، ويتحاور مع الآخرين في كل قضية خلافية ، ويتعاون معهم في كل ما يرضي الله في نفس الوقت الذي يمتنع فيه عن مشاركتهم في كل ما هو معصية من وجهة نظره الإسلامية والسياسية ، بهدف إصلاح المجتمع الذي يعيش فيه ، وإشاعة أجواء العدالة والتسامح والحوار ، وتغليب القيم الإنسانية على المادية الحيوانية التي بدأت تنتشر في كثير من بلاد العالم ، والتي تشكّل الخطر الأكبر على رسالة الإنسان في الحياة ، ولعلّ حديث الرسول r عن القوم الذين : « استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء على من فوقهم ،فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ، ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً »([15]) لعل في هذا الحديث ما يؤكد وحدة المجتمع بجميع أبنائه ، وحتمية تعاونهم لدرء الخطر والضرر عن الجميع .
المطلب الثالث: نظرة الإسلام لحقوق الأقليات في البلاد الإسلامية وواجباتها :
إذا كان غير المسلمين يعيشون مع المسلمين في دار الإسلام ، وهم من أهل البلاد ومن أبناء الوطن ، فإنهم في حالة عهد دائم يسمّى ( عقد الذمّة ) و (الذمة ) كلمة معناها العهد والضمان والأمان ، وإنما سموا بذلك ؛ لأن لهن عهد الله وعهد الرسول ، وعهد جماعة المسلمين: أن يعيشوا في حماية الإسلام ،وفي كنف المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنين ، فهم في أمان المسلمين وضمانهم ، بناء على (عقد الذمة ) بينهم وبين أهل الإسلام ، هذه الذمة تعطي أهلها ( من غير المسلمين ) ما يشبه في عصرنا ( الجنسية السياسية ) التي تعطيها الدولة لرعاياها ، فيكتسبون بذلك حقوق المواطنين ويلتزمون بواجباتهم .
فالذمي على هذا الأساس من ( أهل دار الإسلام ) كما يعبر الفقهاء في المذاهب المختلفة وكلمة ( أهل الدار ) في المصطلح الفقهي يمكن التعبير عنها بكلمة ( المواطنة ) في المصطلح السياسي اليوم .
وخاصة أنّ كلمة ( الذمة ) لم تعد مقبولة لدى أكثر الناس اليوم لجهالة معناها الحقيقي ، ولالتباسها ببعض الممارسات التاريخية الخاطئة ، حتى أصبح البعض يعتبر أهلها مواطنين من الدرجة الثانية ، ولهذا لا نرى مانعاً من استبدالها بالمواطنة التي تعارف عليها الناس في هذا العصر .
إننا نعتقد أن مبدأ المواطنة المعمول به اليوم في جميع بلاد العالم ، ومنها بلاد المسلمين ، هو تطوير لعقد الذمّة الذي ابتدعه المسلمون ، فهم أول من أعطى جميع المقيمين في دار الإسلام حقوقهم واعتبروا من يعيش معهم مّمن ليس على دينهم في ذمّتهم وضمانهم ، بل إنّ من يدقّق في تفاصيل أحكام عقد الذمّة يجد أنها تتطابق في أكثرها مع مبدأ المواطنة .
فعقد الذمة عقد مؤبد يتوارثه الأبناء بالولادة دون حاجة إلى تجديد ، وهكذا المواطنة .
ولا يجوز للمسلمين ولا لإمامهم نقضه ، بل هو عقد لازم بحقّهم، بينما يجوز للذمي نقضه ، وهكذا المواطنة تكسب صاحبها الجنسية ، ولا يجوز نزع هذه الجنسية من قبل الدولة ، بل يجوز لصاحبها أن يتخلى عنها إذا أراد .
وإذا نقض الرجل عقد الذمة فإن النقض لا يسري على زوجته وأولاده وإن كانوا قاصرين بل هم يتمتعون بجنسية ( دار الإسلام ) ومثل هذا الأمر لا يوجد في أي عقد آخر ، ويجعل الذمة كالمواطنة اليوم .
وعقد الذمة ليس بالضرورة ناتجاً عن قتال وإخضاع ، بل هو قد ينشأ عن مجرد الإقامة في بلاد المسلمين مدة سنة على الأقل عند جمهور الفقهاء ، فإذا أراد المستأمن – غير المسلم – أن يستمرّ في إقامته في دار الإسلام أكثر من سنة ، فإنه يخيّر بين اكتساب جنسية دار الإسلام فيصبح ذمياً ، أو العودة إلى بلاده وهذا يشبه اكتساب الجنسية وحقّ المواطنة في القوانين المعاصرة عند الإقامة في البلاد عدداً معيناً من السنوات .
وعقد الذمّة يعقده نيابة عن المسلمين الإمام أو نائبه ، فهو كالجنسية التي تمنحها الدولة .
ويجوز لجميع الناس لدخول في ذمة المسلمين ، أيا كان دينهم ، بل حتى لو كانوا على غير دين ، هذا هو رأي الأحناف وهو رواية عند المالكية ورواية عن أحمد ، طالما أنّ هذا الذمي رضي بالعيش مع المسلمين والخضوع لقوانينهم العامّة، وهذا يشبه منح الجنسية اليوم لأي إنسان بغضّ النظر عن دينه ومعتقداته .
وحقوق أهل الذمة من حيث الأساس كحقوق المواطنة ، والقاعدة المعروفة عندنا : ( لهم ما لنا ، وعليهم ما علينا ) فهم يتمتعون بكامل الحقوق في عقيدتهم وعبادتهم ، وأحوالهم الشخصية ، ويستفيدون من حماية الدولة لأموالهم ودمائهم وأعراضهم ، ولهم حقهم في كفالة الدولة لهم أسوة بالمسلمين ، كما يخضعون للقوانين العامّة ولولاية القضاء العامة ، كما يتمتعون بحق اللجوء إلى القضاء لحمايتهم من كل أنواع الظلم .
إننا نرى أنّ ( المواطنة ) في هذا العصر تتفق في عناصرها الأساسية مع ( عقد الذمة ) ويمكن أن تكون ملتزمة بالضوابط الشرعية الأخرى ، علماً أن كثيراً من الشروط التي ذكرها الفقهاء كانت تصرفات اقتضتها مصلحة المسلمين ووافق عليها الأئمة في عصورهم وليست بالضرورة أحكاماً ملزمة إلى يوم القيامة .
المطلب الرابع : موقف القوانين الدولية في موضوع الأقليات
1- إن الغرب يستغل موضوع الأقليات ليحول ميزة التعدد والتميز التي أقامها الإسلام لنشر الخير ومصلحة الإنسانية } يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ { [الحجرات : 13] حول الغرب وهذه الخاصية إلى نقمة وخاصة عندما صرحت الولايات المتحدة بكل حقد وطغينة في قوانينها التي صدرت في آذار عام 1988م من الكونغرس الأميركي التي تتمحور حول ما يلي :
1- حماية الأقليات الدينية .
2- حماية الأقليات العرقية .
3- منع الاضطهاد الديني وإطلاق حرية التبشير لكل ذي معتقد .
4- نشر الديمقراطية .
وقد شكلت السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية مكاتب في وزارة الخارجية للمراقبة واقتراح العقوبات بناء على هذه القوانين .
علماً أن الأمريكي أستاذ الإرهاب العالمي والأكثر عنصرية بدءاً من إبادة الهنود الحمر في أمريكية وصولاً إلى ما يشهده العالم من جرائم في فلسطين والعراق وأفغانستان لبنان وسواها ....
وقوانين الأقليات سلاح جديد استعملته الإدارة الأمريكية ضد الإسلام ، وبلاد العرب والمسلمين لتتدخل في شؤونهم بدعوى حماية الأقليات في المجتمعات العربية والإسلامية لتعمل لصالح الغرب .
2- إنّ وضع المرأة المسلمة في الغرب يعاني من صعوبات كثيرة فكل ادعاتهم حول الحرية كاذبة ، والمرأة تعاني من تهميش اجتماعي ، وكوَّن إعلامهم فكرة سلبية عن المرأة المسلمة فلم تسمح الكثير من تلك الدول للمرأة أن تلبس حجابها فمنعوهن من ارتداء الحجاب في المدارس والجامعات وأماكن العمل ، وغالباً ما تتعرض المرأة المسلمة لمشاكل في التميز العنصري .
3- إنّ أقليات مسلمة في كثير من بلدان العالم هي أكثرية حقيقية ساحقة ، ولكن الزيف وحرب الإحصاءات يتعمدان دائماً تقليل عدد المسلمين وإظهارهم على أنهم أقلية لخدمة سياسة معروفة ، فإذا تم العدوان عليهم واجتياح حقوقهم فإنهم يصورون إعلامياً وسياسياً على أنهم أقلية متمردة يجب تأديبها فتمّر قضية اضطهادهم دون ضجيج على أنها شأن خاص أو مسألة داخلية لا يجوز التدخل فيها أو الاعتراف عليها.
4- إن الدستور البريطاني لا يقوم على دين معين بل يقوم على العلمانية وكذلك في فرنسة والعديد من الدول الغربية ، ولكن لا يزالون بالنسبة للمسلمين وخاصة المرأة المسلمة ينظر إليها نظرة خاصة .
5- إن القانون الدولي الذي يكفل الحريات العامة وحرية المعتقد هو معطل في كثير من الدول الغربية ، وإن كثير من هذه الدول تكيل بمكيالين وتشهر كذبها وخداعها على مرأى من الجميع .
6- إن الحكومة الإيطالية العلمانية وقعت اتفاقيات مع الكثير من الجماعات الدينية مثل الكنيسة النصرانية ، والجالية اليهودية ، والجالية البوذية ، ولكنها لم توقع بعد مع الجالية المسلمة ، وهي أكثر من غيرها بكثير وذات نفوذ واسع .
7- في منتصف القرن التاسع عشر كان هناك حديث عن الخطر الأصفر ( الصين ) وبعد ذلك بدأ الحديث عن الخطر الأحمر ( الدول الشيوعية ) ومع اختفاء الخطرين ، بدأ الحديث عن الخطر الأخضر (الإسلام ) وأعلنت الدوائر الغربية محاربتها للإسلام وكثير منهم اعتبر الإسلام إرهاباً يجب القضاء عليه وصرح بذلك بوش ...
انعكس هذا الأمر على هذه الأقليات الإسلامية في الغرب التي اعتبرها أنها مصدر خوف دائم وتوتر .
8- لا يقبل الاستعمار الغربي قيام تكتلات عربية أو أسلامية تتصدى لمشاريعه ولمحاولته نهب ثروات الشعوب ، ولهذا يصرُّ على تفتيتها وتجزئتها وعلى سحق أية قوى مقاومة ، ومن هنا كانت حربه على الأقليات المسلمة .
9- أين القوانين الدولية فيما يحدث في فلسطين المحتلة ، فالإسرائيليون ينكرون وجود الفلسطينيين ، بل يبيدونهم كل يوم ، فانقلب الشعب الفلسطيني المسلم صاحب الأرض إلى أقلية معرضة للإفناء والفناء ...
أين القوانين الدولية في أفغانستان والعراق وفي السجون التي انتشرت هنا وهناك ومحاربة لظواهر الدين والمؤسسات ...
أين القوانين الدولية فيما يجري في لبنان ، حتى أن المسلمين في لبنان هم أكثرية السكان ولكن مكن الاستعمار الفرنسي طائفة محدودة العدد من رئاسة الجمهورية (الموارنة ) ...
المطلب الخامس : نظرة احصائية جامعة للمسلمين في الأقطار غير الإسلامية
أولاً : إن ما نسميه بالأقليات المسلمة يقارب عددهم نصف المسلمين جميعاً ، وسدس سكان العالم .
وتذكر الإحصاءات الواردة إن الأقليات الإسلامية في العالم تشكل 6.1 في المئة من سكان العالم، حيث يبلغ عددهم نحو 500 مليون نسمة، يتوزعون على 32 دولة، ويتمركز أغلبهم في آسيا 300 مليون نسمة، وفي أفريقيا 86 مليون وأوروبا حوالي 50 مليون نسمة.
في أورباً : يوجد في أوربا الشرقية والبلقان مسلمون أصليون منذ أكثر من خمسة قرون خلت ، ويبلغ إجمالي عدد المسلمين هناك 34،618،000 مليون مسلم ، منهم 484،000ألف عربي هاجروا من العراق واليمن والسودان والجزائر وسورية ولبنان ومصر وغيرها ،وبعض هؤلاء المهاجرين عمال أو طلاب مستقرون هناك ، وهناك دولة ألبانيا التي يشكل المسلمون فيها أغلبية ، ويضاف إليها البوسنة ,ويعيش في الدول التي كانت ضمن الاتحاد اليوغسلافي ، أكثر من ستة ملايين مسلم .
في أوربا الغربية : وبالنسبة لإحصاء المسلمين في أوربا الغربية فإنه لا يوجد إحصاء دقيق للمسلمين فيها لأن الإحصاءات الأوربية لا يوضع فيها هوية الشخص الدينية ، ولهذا فلا يوجد إحصاءات دقيقة ولمنها تقريبية ، وتختلف الإحصاءات بين المؤسسات اختلافاً واضحاً ، وما بين عام 1945-1960م ظهر المسلمون بشكل جلي في مجتمعات البلدان الأوربية التالية : بريطانيا وفرنسا وألمانيا ، ولم تتوقف الهجرة الاقتصادية إلا في السبعينات عندما بدأ الاقتصاد الأوربي يتراجع ، وما بين عام 1950-1970م تضاعف عدد المسلمين في البلدان الأوربية حيث بلغ مئات الآلاف ، وبدأ يطرأ تغيير جذري على تفكير المسلمين في أوربا خلال السبعينات والثمانينات ، تمثل هذا التغيير في التفكير بالإقامة الدائمة في أوربا وتنظيم المؤسسات وبناء المساجد للحفاظ على الهوية بدلاً من الشعور المؤقت بالهجرة ،ويزيد عدد المسلمين في أوربا الغربية على 15 مليون مسلم ومن بينهم أوربيون أصليون والأجيال التي ولدت في أوربا والذين هم اليوم مواطنون أوربيون وهم يتوزعون كالتالي على ( فرنسا :5،500،000، ألمانيا :3،200،000 ، بريطانيا: 2،200،000 ، إيطاليا :1،000،000، هولند :900،000 ،بلجيكا : 600،000 ،السويد :400،000 ، سويسرا :400،000 ، إسبانيا :380،000 ، النمسا : 400،000 ، اليونان : 300،000 ، الدانمارك : 120،000 ، فليندا : 40،000) فيكون المجموع في كل أوربا هو : 50،000،000 مليون مسلم ([16]) .
ويمكن أن نلاحظ خمسة أمور مهمة بالنسبة لوجود المسلمين في أوربا :
1- يوجد حركة إحياء لروح الإسلام من المسلمين المستقرين في أوربا ، وكذلك لديهم ازدياد شعور بالانتماء للإسلام .
2- ازدياد عدد المسلمين المواطنين في أوربا ، إما بسبب إسلام الأوربيين أو بواسطة ولادة الأجيال الجديدة المسلمة .
3- بناءً على الإحصاءات فقد تضاعفت أعداد المساجد في أوربا .
4- يزداد يوميا عدد المؤسسات والجمعيات الإسلامية في أوربا الغربية ما لا يقل عن سبعة آلاف مؤسسة إسلامية ( مسجد أو مركز أو غيرها )
5- إن 80٪ من المسلمين في أوربا لا يمارسون الإسلام بانتظام ولا يحافظون على الصلاة ، إلا أن 40٪ منهم يحضرون صلاة الجمعة و 70٪ منهم يصومون رمضان .
في أمريكة اللاتينة :تضم قارة أميركا اللاتينية والتي يعرفها سكانها بأميركا الجنوبية حوالي ثلاثين دولة مختلفة ناطقة باللغة الإسبانية بالإضافة إلى البرازيل الناطقة باللغة البرتغالية ما بين 3,8 إلى 4 ملايين مسلم.
تشير آخر الإحصائيات إلى أن نسبة الأقليات الإسلامية في أميركا اللاتينية هي 5٪ بين السكان الأصليين الذين قرروا الدخول في الإسلام، و5٪ من أصول مختلفة.
تعتبر المجتمعات الإسلامية المنتشرة في أميركا اللاتينية أقلية لا يستهان بها في كل بلد من بلدانها، وهي المكسيك، وغواتيمالا ، والهوندوراس ، والسلفادور ، ونيكاراغوا ، وكوستا ريكا في أميركا الوسطى ، وفنزويلا ، وكولومبيا ، والإكوادور ، التي سميت بحسب خط الإستواء المار فيها، وأيضاُ ، البيرو ، التشيلي ، الأوراغوي ، البراغوي ، البرازيل ، وأخيراً الأرجنتين في الجنوب.
وفي أمريكا الشمالية أكثر من أربعة ملايين من المسلمين .
ويسكن قارة أوقيانوسيا: استراليا وغيرها أكثر ثلاث مئة ألف مسلم من المسلمين أقليات
في أسيا : فإن أعداد الأقليات الإسلامية أكثر من ثلاث مئة مليون مسلم يشكلون نسبة 37٪ من أعداد المسلمين في آسيا فمسلمو الصين مئتي مليون كما قال لنا مندوب الصين في الهيئة العمومية للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين عندما انعقد في استانبول , ومسلمو الهند أكثر من مئة مليون , ومسلمو روسيا سبعون مليون , ومسلمو الفليبين ستة ملايين، وتايلاند ستة ملايين، وبورما ثلاثة ملايين مسلم؛ وسيلان مليون ، ودول أخرى ثلاثة ملايين .
وفي إفريقيا : فإن عدد المسلمين فيها يتجاوز مائتان وخمس وتسعون مليونا ، منهم أكثر من مائتان وخمس وعشرون مليون يعيشون في أقطار إسلامية بنسبة 76٪ وأكثر من تسعون مليون مسلم يعيشون في بلاد غير إسلامية بنسبة 24٪ ، ويعتبر الحصول على تقديرات دقيقة لأعداد المسلمين في أفريقياً أمراً في غاية الصعوبة لعدم وجود احصائيات عامة في هذه الدول ناهيك عن احصائيات خاصة بالمسلمين ، وهناك دول مثل ساحل العاج ، والكاميرون ، سيراليون ، وتوغو وأثيوبيا يعدها البعض دولاً ذات أغلبية إسلامية وعدها البعض الآخر غير إسلامية ، وأثيوبيا قدر بعضهم نسبة المسلمين 65٪ والبعض الأخر قدر نسبتهم 48٪ ، ويلاحظ أن نسبة المسلمين تزيد بصفة خاصة في شرق أفريقيا ، وأعداد المسلمين في بعض الدول ( أثيوبيا :17 مليون ، تنزانيا : 12 مليون ، أوعندة : 5 ، كينيا : 4 مليون ، غانا : 3،9 مليون ، مدغشقر : 2 مليون ، موزامبيق : 2 مليون ، زامبيا : 1،2 مليون ) ودول أخرى أكثر من خمس ملايين .
وفي بعض دول آسيا ودول إفريقيا مفارقات شاذة: أكثريات إسلامية تحكمها أقليات غير مسلمة، منها كمثال والمثال لا يخصص، الحبشة ومسلموها خمس وستون بالمائة ،وتشاد ومسلموها خمس وثمانون في المائة، والسنغال والمسلمون فيها خمس وتسعون في المائة، وتانزانيا ومسلموها ثمانية وستون في المائة . ([17])
ويتزايد عدد الأقليات المسلمة في العالم لأسباب عديدة منها :
أ- تزايد معدل الولادات حيث يصل في بعض الأقليات إلى 42٪ طفل في الألف مقابل 013٪ في العالم الصناعي أو الغربي .
ب- تحرر الجمهوريات الإسلامية في آسية الوسطى من الاتحاد السوفيتي وظهور معالم الإسلام في هذه الدول .
ج- تنامي الصحوة الإسلامية في بقاع كثيرة من العالم ودخول الآلاف في جميع أنحاء العالم .
د- دخول أعداد كبيرة في الإسلام ،فقد أصبح الإسلام في فرنسة الدين الثاني ، وتجاوز عدد المسلمين فيها أربعة ملايين ويزيد عددهم في الولايات المتحدة على عشرة ملايين .
هـ- هجرة كثير من المسلمين إلى أوربة والأمريكتين واسترالية ،والعمل على نشر الإسلام .
و- انهيار النظام الشيوعي وإفلاس النظام الرأسمالي ، فلم تجد الفطرة السليمة ، والعقول الواعية إلا الإسلام خلاصاً لها كروجيه غارودي الفرنسي ، وهوفمان الألماني سفير ألمانية في المغرب وروبرت كراين مستشار الرئيس نيكسون لشؤون الأمن القومي وغيرهم الكثير ... ودخول الآلاف من الصينين في الإسلام حديثاً حتى وصل عددهم إلى مئتي مليون مسلم .
ز- دور الإعلام في جعل العالم كقرية واحدة ، ساعد على نشر الإسلام والتعريف به ومعرفة الأقليات ومشاكلها .
ح- كثرة المؤسسات الإسلامية والجمعيات والمدارس ، وكثرة المنشورات والمطبوعات الإسلامية في هذه البلاد بلغاتها ، وترجمة القرآن الكريم لكل لغات العالم .
ط- ساعد هذه الأقليات وازدياد عدد المسلمين فيها ، اهتمام مؤسسات إسلامية ، حكومية أو خاصة بدعم هذه الأقليات ، وإقامة دراسات عنها ، وعن وجودها وهمومها والتفاعل معها ، ومشاركتها في لقاءاتها ومؤتمراتها ، أو دعمها مادياً لبناء مراكزها ومساجدها ومؤسساتها التعليمية والتربوية والاجتماعية ، أو بتخصيص أماكن للطلبة من هذه الأقليات للدراسة فيها ، أو إقامة دورات تعليمية وتربوية لعدة أشهر لهم .
ي- ظهور العشرات من الكتب في الغرب تدافع عن الإسلام ، وتبين مزاياه ، وتدعو إليه كتاب غربيين أسلموا ، وتبنوا الدعوة إليه في الغرب .
ولابد أن نذكر أن هناك أكثرية من المسلمين انقلبت إلى أقلية ، بسبب الاستعمار أو مخطط الدول الحاكمة المعادية للإسلام والمسلمين ، وبممارسة أعمال همجية لا إنسانية ، كالإفناء والتقتيل والإبادة والتهجير ، كمسلمي الأرض المحتلة في فلسطين ومسلمي دول البلقان والفلبين وغيرهم ...
وهناك أكثرية من المسلمين ولكنها بلا نفوذ ويتعدى على أبسط حقوقها الإنسانية ، وتحكم من أعداء الإسلام ،كما يحصل في تركية العلمانية ... وعدد من الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفياتي كالشيشان وألبانية والحبشة وأرتيرية .
إن الباحث يجد صعوبة في دراسة عدد الأقليات الإسلامية ، وخاصة في الصين وروسية ودول البلقان وبعض دول أفريقية ، كتنزانية ... والدول التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي ، حيث أن المسلمين في بعض الدول يخفون أنفسهم نتيجة الضغط وممارسة القمع ... وكلنا يعلم ما يحصل في ألبانية وتترستان وبشكيريا – وشمال القوقاز التي تشمل تشاشان وأنجوشيه وكباردينيا وبلكاريا ، وكرتشاي الشركسية ، والأديجا وأوستينا الشمالية ... كما لا ننسى مايلاقيه مسلمو الفلبيين وخاصة إقليم مورو الإسلامي من إبادة وإفناء ، وفي الماضي انحسر الإسلام عن الأندلس وصقلية والبلقان والهند بفعل الهمجية والإفناء من أعداء الإسلام ؛ ومع ذلك ينتشر الإسلام في العالم في أفريقية وجنوبها والقارة الأمريكية واسترالية ، وإن إفريقية هي قارة الإسلام في المستقبل ، وإن الإسلام هو دين المستقبل .
إن وجود إحصائيات دقيقة عن أعداد الأقليات الإسلامية في العالم أمر نادر، لعدم اهتمام الدول المعنية بأحوال المسلمين ، ولكون بعض هذه الدول علمانية لا تهتم بأعداد معتنقي الأديان لديها ، أو لقصد التقليل من أعداد المسلمين لأسباب سياسية مختلفة .
المطلب السادس : موضوع الهجرة (الفرص والتحديات )
أسباب وعوامل الهجرة :إن عوامل وأسباب هجرة المسلمين إلى الغرب في أيامنا الحالية تبدو عديدة إذا ما حاولنا حصرها أو إحصاءها بجانب حياتي أو أكثر حيث أن (السياسة) وفشل السياسات الحكومية بكل جوانبها السياسية الاقتصادية والاجتماعية هي المحرك الأول والأخير لهذه الظاهرة التي باتت تشغل بال المجتمعات والحكومات ، فالفشل في السياسة هو الذي أسفر عن بروز ظاهرة هجرة أبناء المسلمين إلى بلاد الغرب وتناميها وكذلك فقر المسلمين الناتج عن فشل السياسة الاقتصادية لدول العالم الإسلامي ، فالمسلم أصبح يجد صعوبة في الحصول على مستوى مقبول من العيش ، حيث تردي معدلات التنمية مما دفعه إلى ترك وطنه وعائلته وخصوصاًَ أن أغلب المهاجرين هم من حصلوا على مستوى علمي في التعليم الأكاديمي الذي لم يستفيدوا منه داخل بلداهم لذلك فإن الغرب الذي يستقبل هؤلاء يستفيد في تسخير خبراتهم الأكاديمية الجاهزة في عمليات التقدم العلمي والتكنولوجي والإنساني في الغرب .
وإنَّ من أهم الأمور حالة تضييق السلطات على الحريات العامة والتي تدفع شرائح مهمة من كل المجتمعات الإسلامية بالهجرة للتفكير بالهجرة إلى بلدان الغرب التي يرى فيها البعض أنها توفر فرصاً أكبر للتعبير عن الرأي وممارسة النشاطات السياسية المختلفة
ويضاف إلى ذلك فقدان نعمة الأمان ، فهذه النعمة مهمة في الحياة سواء للأفراد والمجتمعات ، لكن مما يلفت النظر أن معظم المهاجرين إلى دول أوروبة تحت حجة فقدانهم لممارسة الحريات في بلدانهم الأصلية يجمدون أنفسهم في تلك البلاد الغربية النائية إذ هم يفتقرون إلى ممارسة الحرية السياسية في تلك البلاد التي تساوي بينهم وبين مواطنيها من حيث التمتع بالحريات الاجتماعية ولكن على قدر، ولعل في هذا ما يزيد معاناة (صوت العقل) عند كل منهم فيزداد صب جام غضبهم على سلطات بلدانهم التي تسببت في أصل تواجدهم في بلدان اعتقدوا أنها ستقدم لهم كل شيء على طبق من ذهب.. ويزداد مثل هذا الإحساس عند المهاجرين عندما يجد أن كل شيء في الغرب يتحرك ولكن بلا روح ، والعنصرية اللا معلنة هناك، هما مبدأ يحسه المهاجرون حتى إذا لم يعلن لهم عنه، إذ تسود نظرة الدونية عليهم باعتبارهم مواطنين من الدرجة اللامقبولة ، ويسود اعتقاد اجتماعي لدى مواطني تلك البلاد بأنه لابد من التفكير بإعادة هؤلاء المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية ، ويضاف إلى ذلك أن الحكومات الغربية تحاول جني فائدة إضافية من المهاجرين حيث أن الهجرة تتيح لها تعويض النقص في المواليد الحادثة في بعض المجتمعات الغربية وخصوصاً الأوربية منها ، وتنقلب الصورة في بعض المجتمعات الأخرى فهناك بلدان غربية شرعت بتعديل قوانين الهجرة لديها لإتاحة المجال للتخلص الفوري من الأجانب غير المرغوب فيهم (والمسلمون يأتون طبعاً على رأس القائمة) ولا أحد يدري أي أجانب في نظرهم المرغوب فيهم؛ حيث تمنع عنهم حقوقاً أساسية عديدة مثل: حق التجمع أو الإضراب، أو الانضمام لنقابات مهنية، ويحدث مثل ذلك في إسبانيا ؛ وفي بريطانيا ، أقرت حكومة طوني بلير قوانين لجوء مشددة أصبحت في متناول الجمهور عليها منذ شهر إبريل - نيسان 2000 لإثارة نفور بعض طالبي اللجوء وتشمل التعديلات الجديدة إجراءات لتوزيع طالبي اللجوء على مناطق مختلفة من البلاد دون أن يكون لهم مجال لاختيار مكان إقامتهم، كما يحصلون على الإعانات الاجتماعية على شكل قسائم لشراء الطعام واللباس من محلات محددة، رغم أن تلك الإجراءات تتحدى روح لائحة حقوق الإنسان التي لا تجيز التعامل على سلب الجانب المعنوي من اللاجئين بعد قبولهم رسمياً بصفتهم حاصلين على قرارات لجوء ، فيما تعتبر السويد حالياً الدولة الأكثر استقبالاً للمهاجرين من بين جميع دول الاتحاد الأوروبي فينطلي سبب ذلك على الكثير من اللاجئين وهو الحاجة المتزايدة للسويد إلى أناس حيث البرد القارص نتيجة لوقوع أراض شاسعة من السويد في منطقة القطب المتجمد الشمالي أي أن قبول كثرة اللاجئين في السويد ليس لسواد عيونهم وبهذا الصدد تشير إحدى الإحصائيات السويدية: إن السويد استقبلت خلال الستة شهور الأولى من سنة 2002 أكثر من (55٪) من مجموع المهاجرين الذين وصلوا إلى أوروبا
إن الحديث عن الهجرة من قبل المواطنين المسلمين بالذات إلى الغرب لا تزال تعبر بشكل شبه واقعي عن فشل السياسات الحكومية الإسلامية التي تتشاطر في تضييق باب الحريات على مجتمعاتها (أفراداً وتجمعات) مما يجعل الناس يفكرون بالهجرة إلى بلدان أخرى دون أسباب معقولة أحياناً .
التحديات التي تواجه المسلمين المهاجرين إلى بلاد الاغتراب :
- عدم القدرة على التكيف : إن المسلمين المهاجرين إلى البلاد الغربية يعانون من تحديات كبيرة تتعلق بقدرتهم على التكيف مع المجتمعات الجديدة والبيئة الجديدة والغريبة عن بيئتهم الأصلية
والتكيف اصطلاح يعني : أن الإنسان يحاول وبشكل مستمر أن يوائم بين نفسه والعالم الطبيعي الذي يعيش فيه من أجل البقاء، فإذا كان الإنسان قادراً على التلاؤم مع البيئة الطبيعية فإنه قادر أيضا على التلاؤم - أي التكيف - مع المتغيرات والظروف الاجتماعية والنفسية التي تحيط به وهذه حقيقة تحتم قيامه بأنشطة مستمرة تهدف إلى التفاعل بينه وبينها (الظروف والمتغيرات) بهدف الحصول على قدر من الرضا والاتزان تعتمد مستوياته بوجه عام على التداخل والتفاعل الحاصل بين جانبين هما ظروف البيئة، ومتطلبات الحياة المحيطة بالإنسان التي تحتم نوعا من التكيف يقتضيه الاستمرار في البقاء ، مقدرة الإنسان على التكيف، من خلال ما يتمتع به من قدرات عقلية كفوءة لهذه المهمة النفسية ، وهي تعني أيضا قدرة الشخص على أن يغير سلوكه ليحدث علاقة أكثر توافقاً بينه وبين بيئته المحيطة به .
والبيئة تحمل عدة وهي :
الجوانب الطبيعية : وهي كل ما يحتاجه الإنسان من مواد وأدوات وآلات تساعده على الاستمرار في الحياة، أو ما يحيط به من أمور مادية وحالات الطبيعة التي يعيش خلالها؛ فالطقس على سبيل المثال عامل من عوامل البيئة يؤثر مباشرة على اتزان الفرد وأدائه، ففي حالة ارتفاع درجات الحرارة يكون النشاط الإنساني مختلفا عنه فيما إذا انخفضت، وحاجة العامل في البيئة الغربية القريبة من القطب مثلا إلى التجهيزات والمعدات ووسائل التدفئة لغرض تجاوز آثار انخفاض درجات الحرارة، ستكون هي الأخرى مختلفة والخلل فيها سيكون مؤثرا على عملية تكيفه نفسيا، فسيؤدي به ذلك إلى الانفعال، ومن ثم عدم الرضا، وربما التقصير في عمله الذي يسبب لـه مشاكل من نوع آخر، ومصاعب في التكيف من نوع جديد وهكذا يصبح الطقس وعوامل الطبيعة مؤثرا في عملية التكيف ، خصوصاً وأن المهاجرين المسلمين في أغلبهم يأتون من بلاد حارة .
الجوانب الاجتماعية : يعيش الإنسان في المجتمع أي مجتمع، شرقياً كان أم غربياً، متحضراً كان أو متخلفاً، بطريقة يكون على أساسها محكوما بالعديد من الضوابط والالتزامات والتقاليد والأعراف والقوانين التي تنظم وجوده في ذلك المجتمع وتحدد علاقاته الاجتماعية مع أقرانه وأصدقائه، ومديريه في العمل، والدور الذي يؤديه في المنظومة الإدارية والاجتماعية والسياسية، والمالية لذلك المجتمع، لأنه فرد بين جماعة يؤثر فيها ويتأثر بها وفق حدود مسموح بها، وأخرى غير مسموح بتجاوزها، وسلوكه في إطارها محكوم أيضا بمعطيات القيم والتقاليد السائدة في عموم البيئة المحيطة، وحريته الفردية التي كثر الحديث عنها مقيدة بالهامش الواسع للحرية الجماعية، وتلك معطيات ربما يؤدي الخلل في بعض جوانبها، إلى اضطراب في بعض جوانب عملية التكيف، والعكس صحيح أيضاً؛ إذ إن استيعابها وقبولها بمرونة معقولة يسهل عملية التكيف ويوفر قدرا من الرضا عن الحياة التي يعيشها وفي أية بقعة من بقاع العالم ، والمهاجر المسلم يأتي إلى المجتمع الغربي ليجد منظومة اجتماعية وقيمية تختلف كل الاختلاف عن مجتمعه من حيث التركيب الاجتماعي فالمجتمع المسلم يقوم على أن الأسرة هي اللبنة الأولى للمجتمع في حين أن المجتمع الغربي يقوم على مبدأ الفرد أو المجتمع الفردي وما يترتب على ذلك من اختلاف العادات والتقاليد والأخلاق وطريقة الحياة ، وهدف الحياة .....
الجوانب الذاتية :لكل فرد خصائصه النفسية وإمكانياته الذاتية في السيطرة على مشاعره وانفعالاته وضبط علاقاته مع الآخرين،فالتناقض موجد بين رؤية المهاجرين وتمنياتهم لما سيحققون مستقبلاً، ففي الوقت الذي نجد فيه أن شاباً وصل ألمانيا مهاجراً، أو لاجئا على سبيل المثال، وقد وضع لنفسه تصورا أن يكون مهندساً ناجحاً، أو طبيبا مشهوراً، أو حتى صاحب ثروة وفيرة، ففي حالته هذه نراه يقاوم كل ضغوط البيئة ومتغيراتها بهدف تجاوزها، وفي كفاحه هذا لم يعد تعلم اللغة مشكلة بالنسبة إليه بعد أن قرر حشد جل وقته لدراستها، ولم يعد غسل الصحون كعمل ميسور مهانة لكرامته بعد أن قرر استثماره مؤقتا لتصريف أموره، وهو على هذه التوجهات والجهود سيكون الأسرع من بين أقرانه على التكيف والنجاح في حين أن البعض يصلون البلد الجديد دون وضوح في أهدافهم، وأن الصورة المستقبلية لوضعهم مشوشة تماما، وعلى أساسها بات همهم إشباع البطون، وإكساء الأجساد، وحساب الأيام للحصول على الدعم الاجتماعي لتسيير سبل العيش الرتيبة، وعلى أساسها باتوا يَعدّونَ اللغة الجديدة صعبة لا يمكن استيعابها، والعمل آخر الليل جناية بحقهم لا يمكن ارتكابها، والدراسة تبذير بالوقت لا فائدة منه، عندها سيجدون أنفسهم مقيدين بدوائر مغلقة تضيق من حولهم تدريجيا لتؤدي ليس فقط إلى عدم تكيفهم مع البيئة الجديدة، بل وربما إلى التمرد عليها بأنواع من السلوك غير السوي ، وللأسف فإن كثيراً من المسلمين المهاجرين إلى بلاد الغرب ينتمون إلى هذه الفئة ، إن المهاجرين من البلدان الإسلامية الذين يقصدون المجتمعات الجديدة، بحاجة ماسّة إلى فهم طبيعة تلك المجتمعات وإلى معرفة أنفسهم وقدراتهم (معلومات) لتسهيل عملية تكيفهم واستيعاب مفردات العيش في مجالها من باب الهجرة، أياً كانت أسبابها وأنواعها، يشكلان في بعض جوانبهما تقاطعات سريعة وحادة مع البيئة التي اعتاد الفرد المهاجر أو العائلة المهاجرة العيش خلالها لسنوات أو عقود من العمر، وأهم تلك التقاطعات النفسية ذات الصلة بعملية التكيف تأتي من زاويتين رئيسيتين هما: الزاوية القيمية: تكونت في المجتمعات الإسلامية التي تركها المهاجر، قيم، وأعراف، وتقاليد عبر مئات السنين، فالمهاجر المسلم يكون مشبعا بقيم محددة، وأصبح سلوكه في مواقف الحياة ذات الصلة بها موسوما باستجابات معينة، وعلى الأسس نفسها أضحى الإنسان الغربي مشبعاً بقيم أخرى محددة، وباستجابات يمكن أن تكون مختلفة، وكما مبين في القيم التي نذكرها على سبيل التوضيح منه ، مثل عدم اهتمام المسلم وللأسف بقيمة العمل التي تعتبر في الغرب قيمة إنتاجية عليا في حين أن المسلم يفرط في هذه القيمة على عكس ما يدعوا له الإسلام ويضاف إلى ذلك قيمة الوقت التي تعتبر هامة جداً في الغرب وأصبحت عند المسلمين قيمة مهملة ولا يعمل بها ، وفي حين أن المسلمين يمتازون عن الغرب بقيمهم الروحية وتكافلهم الاجتماعي ، وعلاقاتهم الأسرية ، ودور المرأة المختلف عن دور المرأة في المجتمعات الغربية ، وهناك بطبيعة الحال الكثير من العادات والتقاليد والقيم التي تختلف بين البيئتين منها ما يتعلق بالشرف، والتعامل مع المرأة، والعلاقة بين الجنسين، وغيرها الكثير مما لا يسمح المجال بتفصيله، وهي أمور تؤثر على مستويات الرضا والاتزان ومن ثم على التكيف مع المجتمع الجديد .
إن الأقليات الإسلامية الموجودة في الغرب والتي يمثل المهاجرون الثقل الأكبر فيها نستطيع أن نقول أنها تنتمي إلى جيلين الجيل المؤسس لها والذي جاء إلى الغرب منذ أكثر من مئة عام وأقام واستوطن وهذا الجيل عانى كثيراً في عملية التكيف والتأقلم مع المجتمعات الغربية ، وأما الجيل الثاني فهو جيل الأبناء والذي هو أقدر على العيش والانخراط في هذا المجتمع الذي أصبح يشكل جزء منه وهو المعول عليه في نصرة قضايا المسلمين وفي أن يكون خامة جيدة للتأثير على المجتمع الغربي لصالح العالم الإسلامي وقضاياه الأساسية ، وهناك فئة هي القادمون الجدد الذين يعانون من المشاكل نفسها التي يعاني منها المهاجرون الرواد ، وأحياناً يصبحون عبا ومعيقاً لأوضاع من سبقوهم بسبب التشدد الغربي الواضح تجاههم وسوء أوضاعهم وعدم قدرتهم على التكيف وعدم وضوح الرؤيا والهدف لديهم ، فهدفهم الخروج والهروب من أوطانهم دون وجود خطة وطريقة واضحة لديهم .
إن ظاهرة الهجرة قد تكون إيجابية حين تكون ذات مغزى مثل الدعوة إلى الله تعالى والعمل على تكوين مجتمعات إسلامية جديدة ناهضة لخدمة الإسلام والمسلمين ،وتكوين قوة ضغط عاملة لصالح الإسلام وقضاياه وتصبح بالتالي هذه المجتمعات تمثل الخط الأول في الدفاع عن الإسلام والمسلمين ، أو من أجل الحصول على العلوم والتكنولوجية لتطوير العالم الإسلامي ورفده بالخبرات والكوادر ذات الكفاءة العالية .
وقد تصبح ظاهرة سلبية عندما تؤدي إلى استنزاف العالم الإسلامي وهذه المشكلة تقف عقبة كأداء أمام الدفع بجوانب التنمية المختلفة ؛ حيث أن هؤلاء هم الذين يفتحون الآفاق الرحبة ويؤمنون البدائل، ويساهمون في حل المشكلات التنموية المختلفة ، وفي هذا يقول (سان سيمون) : «إذا أضاعت فرنسة الخمسين الأوائل من علمائها، ومثل ذلك من أهل فنها وصناعتها قطعت رأس الأمة، وأصبحت جسداً بلا روح، ولكنها إذا فقدت جميع موظفيها الرسميين فإن تلك الحادثة تُحزن الفرنسيين لطيب نفوسهم، ولكنه لا ينجم في البلد عن ذلك من الضرر إلا اليسير» ([18])، إن الهجرة المكثفة للعلماء والمبدعين وذوي الخبرات جاءت نتيجة للاضطراب السياسي السائد في كثير من الدول الإسلامية، كما أنها جاءت نتيجة الشعور بالهزيمة والضعف والنقص وضعف إمكانيات تطوير البحث العلمي لدينا مع ما يصاحبه من الجاذبية العامة للدول المتقدمة، بما تؤمنه من رفاهية ومختبرات ومحفزات للباحثين، يقول البروفيسور (جورج سيلتز) أمام لجان الكونجرس الأمريكي التي شكلت لدراسة ظاهرة هجرة الكفاءات النادرة إلى أمريكا: «إن الدول النامية تعيش حالة خطيرة من استنزاف قواها البشرية، تلك القوى المطلوبة لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في بلادها، إن هذه الخسارة لا تتضمن فقط خسارة الخبرة الفنية (التكتيكية)، ولكنها تشتمل على خسارة القيادات الفكرية التي لا يمكن الاستغناء عنها في مجالات الابتكار وعمليات التحديث الاقتصادي، وتخسر الدول الإسلامية الأموال الطائلة التي أنفقتها على تهيئة هذه العقول وتحصل بالمقابل الدول الغربية على استثمار كبير حيث حصلت على عقول عاملة وبدون كلفة، وتكون بذلك قد رفدت معاملها وجامعاتها بهذه الخبرات، فتخسر الجامعات الإسلامية معلمين ذوي خبرات عالية هي بأمس الحاجة إليها، إن الصورة تسير من سيء إلى أسوأ وبشكل مستمر حيث إن انتقال القوى العاملة ذات المستوى الرفيع من الدول الأقل نمواً إلى الدول المتقدمة يزداد كثافة، ويعظم حجماً»([19]) ، ففي استقراء لاتجاهات الطلاب الذين يدرسون في أمريكا نحو العودة إلى بلادهم تبين أن الدراسة في الخارج من الأسباب الرئيسية التي تؤدي إلى توطن أبناء الأمة من الباحثين في الخارج، فقد تبين أن نحو 40٪ من المصريين و22٪ من الأتراك و18٪ من اللبنانيين الذي جرى أخذ آرائهم أجابوا بالعزم على البقاء في الخارج، وتشير الاستبانة نفسها إلى فارق آخر، هو أن نسب العازمين على البقاء من دول كالهند وتايلاند والفلبين أقل بكثير من أبناء الدول الإسلامية، حيث تبين أن نسبهم هي على التوالي: (9٪)، (صفر٪)، (3٪)، ويفيد تقرير علمي صادر عن حكومة باكستان أن (90٪) من أطباء بلدهم الذين تخرجوا حديثاً (1390) قد تقدموا بطلبات لأداء الامتحانات في السفارة الأمريكية والسفارة البريطانية، والتي يؤدي النجاح فيها إلى الموافقة على أن يعمل الناجحون فيها أطباء في أمريكا وبريطانيا. ب- هاجر خلال المدة من 30/6/1967 حتى 30/6/1968م نحو من 15973من العلماء والمهندسين والأطباء العرب، وخلال المدة نفسها من العام التالي هاجر 31981، أما العام الثالث فكان نصيبه هو: 16492 مهاجراً، وهذا إلى أمريكا وحدها، ومن المنطقة العربية من العالم الإسلامي وحدها، والتي لا تشكل سوى السدس من العالم الإسلامي!. إن العالم الإسلامي لم يخسر تلك الأعداد الضخمة من صفوة أبنائه فحسب، بل خسر أيضاً كل ما أنفقه على تعليمهم في المراحل المختلفة، ويقدر تقرير لإحدى منظمات الأمم المتحدة أن أمريكا وكندا وبريطانيا هي أكثر الدول استفادة من هجرة العقول، وأنه هاجر من بلدان العالم النامي إلى هذه الدول عامي 1390-1391هـ أعداد ضخمة سبب خسائر للدول النامية تقدر بنحو 42 مليار من الدولارات كما أنها تمثل وفراً للولايات المتحدة من الإنفاق على التعليم يقدر بنحو (1.8) مليار دولار،ولذلك ينبغي على العالم الإسلامي المسارعة إلى دراسة هذه الظاهرة وإيجاد الحلول المناسبة لها .
وفي الخلاصة : إن ظاهرة الهجرة بحاجة إلى دراسة عميقة وتحتاج من علماء المسلمين أن يدرسوا هذه الظاهرة وعلى مراكز الأبحاث الإسلامية إن وجدت أن تقوم بواجبها في هذا المجال وذلك من أجل وضع الحلول المناسبة لها .
النتائج والتوصيات :
إن وضع الأقليات الإسلامية له خصوصياته واحتياجاته ، لذا فإن عليهم أن ينظموا أنفسهم ويقوموا بمشاريع فعالة من أجل الحفاظ على هويتهم الإسلامية والأجيال المسلمة الفتية ، من أجل تثبيت وجودهم والدفاع عن أنفسهم ضد الحملات المغرضة ، ويجب القيام بمشاريع تربوية وإعلامية ودينية واجتماعية وسياسية ، بما يتناسب مع مجتمعاتهم التي يقيمون فيها للتعويض عما فات من تقصير
- دعوة الحكومات والمنظمات الإسلامية واستنفار العالم الإسلامي لدعم هذه الأقليات والاستفادة منها .
- دعم وإقامة الندوات والملتقيات الفكرية المكثفة في الأقطار التي يعيشون فيها لإعطاء صورة حقيقية عن رحمة الإسلام وحقيقته وتصحيح الصورة المغلوطة عن الإسلام .
- إقامة المعارض ، وتشجيع الزيارات المتبادلة بين الأدباء والمفكرين الإسلاميين وأبناء هذه الأقليات ، وتشجيع النشاط الإعلامي الإسلامي في الغرب .
- الاهتمام بتنشئة الجيل المسلم الثاني في الغرب تنشئة إسلامية وتشجيعه على تعلم اللغة العربية والوقوف على الحضارة الإسلامية .
- يجب تمتين الروابط والصلاة بين الأقطار الإسلامية وهذه الأقليات لأنها الخط الأول الذي يدافع عن الإسلام وخاصة بعد أحداث (11 ايلول ) وإنها رصيد استراتيجي ضخم يمكن أن يؤثر في الأحداث إيجابياً لخدمة قضايا الأمة ، والاستفادة منها لتكوين قوة ضغط هائلة على صانع القرار الغربي بالذات ، إذا ما أحسنا تنظيمها والاستفادة منها ولتكون جسراً في الحوار بين الإسلام والحضارات الأخرى ، وصورة ناطقة عن جمالية أخلاق الإسلام ومزاياه ، والتقريب بين الغرب وبين الإسلام ، والتصدي للشر وأهله ، ومحاربة الظلم والفساد كالتصدي للدعايات الصهيونية وغيرها ...
- من حق الأقليات إقامة ( الحرام والحلال الديني في الدولة الموجودة فيها ولكن ليس من حقها أن تكون فيتو ضد هوية المجتمع .
- المسلمون في البلاد غير الإسلامية يعانون من مشاكل اقتصادية وسياسية واجتماعية ، وبروز النعرات القومية والشعوبية ، كالنازية الجديدة في ألمانيا و اليمين المتطرف في فرنسا....
وذوبان بعض أبناء المسلمين في المجتمعات التي يعيشون فيها مما يهدد بالقضاء على هويتهم.
تهميشهم سياسياً واقتصادياً ، فعلى المسلمين تقديم كل ما يحتاجه إخوانهم من دعم وفي كافة المجالات ، وعدم الوقوف على الحياد .
- التأكيد على أن القارة الأوربية ليست قارة نصرانية وأن الدين المسيحي ليس أصيل فيها والدين المسيحي انطلق من بلاد العرب والقارة الأوربية مكان مشترك ، فهي قارة مسلمة ويهودية ونصرانية .
- العمل على إيجاد البديل الإسلامي للإعلام المناهض للمسلمين في هذه البلاد من أجل الحفاظ على المسلمين من الضياع والذوبان ، ويجب العمل على أن يكون للمسلمين إعلامهم الخاص بهم من ( صحف – كتب – إذاعات – قنوات تلفزيونية – الإعلام الكتروني )وأن تكون بلغات أهل هذه البلاد حتى توضح لهم الإسلام الصحيح وتقوم بخدمة المسلمين وتوفر لهم الثقافة والعلوم والتسلية من وجهة النظر الإسلامية وتدعم قضايا المسلمين ، فكثير من أحوال المسلمين في العالم تنقلها وكالات الأنباء التي تهيمن عليها الصهاينة .
- ضرورة الاهتمام بفتح المدارس الإسلامية ، والتي يتلقون فيها تعليمهم الإسلامي ، وتعينهم على التفقه بأمور دينهم وعقيدتهم ويمارسون فيها نموذجاً لحياة إسلامية ، وعلى العالم الإسلامي حكومات وهيئات وأفراد تقديم كل الدعم المادي والعلمي والفني ، وتشكيل لجان للمتابعة والاهتمام بهذه المدارس وتأمين احتياجاتها والسهر على حمايتها والحفاظ عليها .
- العناية بتحفيظ القرآن الكريم وفتح فصول لتعليمه في المراكز والمساجد ، وتعليم اللغة العربية لغة القرآن الكريم لربط أبناء المسلمين بكتاب الله وسنة رسوله r مباشرة ، والتركيز على الجيل المسلم الثاني من المسلمين .
- التعاون بين المسلمين وغير المسلمين وبين المنظمات الإسلامية ، كما يتعين على الجاليات المسلمة في البلدان غير المسلمة أن تقوم بدور إيجابي جنباً إلى جنب مع المواطنين غير المسلمين في تحقيق برامج الإصلاح والتعاون لتحقيق مجتمعات تتميز بالحرص والتكافل والانسجام والحوار بين الأديان والحضارات ، وتوضيح أن تعاليم الإسلام مرنة قابلة للتطبيق في كل المجتمعات كل حسب وضعه .
- ضرورة الاهتمام بالأسرة المسلمة وتشكيل لجان وجمعيات للعمل تأمين احتياجات الشباب المسلم من أبناء هذه الأقليات وتسهيل زواج المسلمين بالمسلمات والعمل على الحد من ظاهرة زواج المسلمات من غير المسلمين ، ومضاعفة الجهود لتربية المرأة المسلمة والشباب المسلم وفق المنهج الإسلامي الصحيح ، والعمل على تحسين أوضاع هذه الأسر مادياً من إقامة الدوارت العلمية والمنح الجامعية وإقامة مراكز لرفع المستوى العلمي لأبناء المسلمين ، وعلى الدول الإسلامية والجمعيات والهيئات الاقتصادية الإسلامية أن تقيم شراكة اقتصادية مع المسلمين في هذه البلاد من حيث العمل والتوظيف والتجارة ، وأن تقدم لهم المعونات والتسهيلات ، مثلما تفعل الدول الأوربية مع النصارى في بلاد المسلمين .
- يجب القيام بعمل دعوي منظم وأن يكون لأبناء المسلمين الدور الأساسي في القيام بهذه الدعوة وعلى المسلمين مساعدة إخوانهم في هذه البلاد في هذا المجال ، والتركيز على دور المسجد في الدعوة ودوره في ربط المسلمين بدينهم ، وتهيئة الإمام والخطيب المناسب لهذه المجتمعات والقادر على القيام بدور ، وإرسال العلماء والمفكرين والصحفيين والشعراء والأدباء والوفود دون انقطاع ليقوم كل منهم بدوره في تقديم الدعم لإخوانهم من أبناء هذه الأقليات .
- أقامة مراكز أبحاث متخصصة تعنى بالأقليات الإسلامية في العالم وتقدم عنهم الدراسات والأبحاث والإحصاءات بشكل دوري ومنظم وتعمل على صياغة المقترحات والحلول للمشاكل التي تعاني منها الأقليات الإسلامية في العالم الإسلامي والاهتمام بالمسلمين الجدد بشكل خاص وتقديم كل الإحصاءات والبيانات عنهم .
- توحيد جهود الأقليات الإسلامية المبعثرة وإقامة الاتحادات فيما بينها لتحسين وضع المسلمين في كافة الجوانب ومن أجل دفع دولها للإعتراف بها وبحقوقها السياسية والاجتماعية والاعتراف بدورها الحضاري والإنساني .
- على الدول ألإسلامية أن تراعي مصالح الأقليات الإسلامية ، وأن يكون لديها وزارة أو هيئة خاصة تراعي هذا الأمر ،وأن تبني سياستها على هذا الأمر فالدول التي تسيء للأقليات الإسلامية ينبغي على الدول الإسلامية أن تقف لها وتحدد علاقتها معها من خلال تعاملها مع هذه الأقليات ، وهذا ما تفعله كثير من الدول الأوربية في تعاملها مع الدول الإسلامية ومثال ذلك فرنسة ودعهما للموارنة في لبنان ..
- إقامة علاقة عضوية مترابطة بين العالم الإسلامي والدول الإسلامية على كافة المستويات مع أبناء الأقليات الإسلامية ،والقضاء على ثقافة الحياد وعدم الاكتراث ، فما يصيب أبناء هذه الأقليات يجب أن يكون له صداها في كافة أنحاء العالم الإسلامي ، وعلى المسلمين أن يهبوا لرفع الظلم عن إخوانهم وتقديم كل المساعدة اللازمة لهم ، وهذا ما تقتضية إخوة الدين .
- يجب على المؤتمرات الإسلامية الدولية أن تنتخب من بين الأقليات المسلمة من يمثلها لديها ، ويجب أن يكونوا من مسلميهم الواعين الصادقين والدعاة بينهم ، وأن تكون عضويتهم في هذه المؤتمرات عضوية كاملة رأياً ومشورة وصوتاً .
- يجب عدم السماح بنقل أمراض المجتمع الإسلامي ( التعصب الطائفي والمذهبي ، الحزبية ، القومية ...) إلى أبناء هذه الأقليات مما يؤدي إلى بعثرة جهودها وإضعاف موقفها في وقت هي في أمس الحاجة إلى الاتحاد والتعاون .
[1] - الدعوة إلى الإسلام : محمد أبو زهرة ص 34 .د.ن،د.م ،د.ت .
[2] - على طريق العودة إلى الإسلام : محمد سعيد رمضان البوطي ، ص 18 ، مؤسسة الرسالة ، دمشق ،ط6 ،1992 .
[3] - للتوسعة ، راجع كتابنا الدعوة والدعاة : ص 14 ، دار الإيمان ، دمشق ط1 ،2000م .
[4] - رواه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب قوله r : لا تزال طائفة من .. " رقم 6881،6882،7022 ومسلم في كتاب الإمارة باب قوله r لا تزال طائفة ... رقم 170،1920، 1037، ترقيم علمي ورفيقه ، دار الكتاب العربي .
[5] - حديث صحيح : صححه ابو الفضل العراقي كما في فيض القدير ، 2/282 ، ورواه السيوطي في الجامع الصغير رقم 1845 ، وقال السيوطي في مرقاة الصعود : اتفق الحفاظ على تصحيحه منهم الحاكم في المستدرك والبيهقي في المدخل ، وصححه ابن حجر ، ,أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الملاحم برقم 4291 ، وفي كنز العمال برقم 24623 ، والخطيب البغدادي في تاريخه 2/61 ، وكلهم عن أبي هريرة .
[6] - جزء من حديث أصله :" يا أيها الناس ، ألا إن ربكم واحد وأباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا أحمر على أسود ، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى " . مسند الإمام أحمد 5/411 – المكتب الإسلامي بيروت .
[7] - رواه البخاري برقم 27 ، ومسلم 286 ، وأحمد 17907 ،17913 .
[8] - البخاري صلاة 88 ،مظالم 5 ، مسلم بر65 ، الترمذي بر18 ، النسائي زكاة 67 .
[9] - رواه مسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، برقم 521 .
[10] - البخاري في كتاب المناقب باب خاتم النبيين 3342 عن أبي هريرة ، ومسلم باب ذكر كونه r خاتم النبيين بلفظ قريب 2286 .
[11] - حوار حول مشكلات حضارية : د. محمد سعيد رمضان البوطي ص 189 ، نشر الشركة المتحدة للتوزيع ، دمشق ، ط2 ،1986 م
[12] - طائفة الأوموتو من الحركات التجديدية الحديثة في ديانة الشنتو ، نشأت في نهاية القرن التاسع عشر ، وبلغت فروعها في اليابان حوالي (700) فرع ويزيد أتباعها الآن عن الثلاثمائة ألف شخص .
[13] - عظماء ومفكرون يعتنقون الإسلام : محمد الطماشي . ص 25 وما بعدها . دار المحبة ، دمشق ، 1993 م .
[14] - الأقليات الإسلامية : د. محمد علي ضناوي ، ص 3 . مؤسسة الريان بيروت ، 1992 م .
[15] - صحيح البخاري رقم ( 2361) عن النعمان بن بشير ، وسنن الترمذي رقم (2173) وقال حديث حسن صحيح ، ومسند أحمد رقم ( 18378) وقال شعيب الأرنؤوط إسناده صحيح على شرط الشيخين .
[16]– الجاليات الإسلامية في أوربا الغربية ، عدد من المختصين ، دار النفائس ، ط1 ، بيروت ، 2003م ، ص 23-24-25 .
[17] – الأقلية المسلمة في مواجهة التحديات ، أحمد عبد العزيز الحصين ، دار عالم الكتب ، الرياض ، 2002م، ص 95-96 .
[18] - سر تطور الأمم ، 41 .
[19] - هجرة العلماء من العالم الإسلامي ، 98-99 .
ارسال نظر