العلاقات الدولية للحكومة الإسلامية من وجهتي النظر الفقهية والسياسية
الأستاذ عباس الذهبي ـ قم
بسم الله الرحمن الرحيم
ينقسم الفقهاء فيما بينهم في تحديد الأصل الأولي لعلاقة المسلمين مع غيرهم، هل هو الحرب أم السِّلم، ولكل دليله الخاص به من الكتاب أو السّنة. وسوف نستعرض أدلة الفريقين:
أولا ـ يذهب جمهور الفقهاء إلى أن «الحرب» هي الأصل الأولي في علاقة المسلمين مع غيرهم، والسِّلم يحتاج إلى مبرّر شرعي. وأما بعض الآيات التي تدعو إلى العفو والصفح والمغفرة والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة فهي منسوخة بالآيات التي تدعو إلى القتال في سورة البراءة، التي نزلت آياتها في السنة التاسعة من الهجرة وأمرت بقتال المشركين أينما كانوا وكذلك أمرت بقتال الذين اُوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يّد وهم صاغرون. ثم تأتي بعض الأحاديث تصرح أو تلمح على أن السيف هو الأساس في كل خير:
أ ـ ضمن كتب السُّنّة: روى أحمد في مسنده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله تعالى وحده لا شريك لـه، وجعل رزقي تحت
ـ(378)ـ
ظل رمحي وجعل الذّل والصّغار على من خالف أمري»(1).
و روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا: لا إله إلاّ الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحقها حسابهم على الله»(2).
ب ـ ومن كتب الشيعة: روى الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: الخير كله في السيف، وتحت ظل السيف ولا يقيّم الناس إلاّ السيف، والسيوف مقاليد الجنّة والنّار(3).
و في حديث الإمام جعفر الصادق عليه السلام أيضاً ورد قولـه: «أن الله عزّ وجلّ بعث رسوله بالإسلام إلى الناس عشر سنين فأبوا أن يقبلوا حتى أمره بالقتال، فالخير في السيف تحت السيف والأمر يعود كما بدأ»(4).
و لكن أورد على هذا الاتجاه، ان إدعاء النسخ غير تام وذلك لان الآيات التي تدعو إلى السِّلم والعفو والصفح ـ وما إلى ذلك ـ من أساليب سلمية، ما زالت تفر من نفسها في كل موقف من مواقف الدعوة للإسلام. أما آيات القتال والسيف فلها مجال آخر يبتعد عن ذلك كثيراً لأنه يرتبط بقضية المحافظة على قوة الإسلام والمسلمين، وعلى حرية الدعوة إلى الله، بإزالة الحواجز البشرية وغيرها من طريق الدعوة، مما لم يمكن السيطرة عليه إلاّ بالقتال.. ولعل الخطأ الذي يقع فيه كثير من الباحثين والفقهاء والمفسرين أنهم ينظرون إلى كل آية بمفردها، ويعتمدون في صرف ظواهرها على أخبار غير موثقة، ويتحدثون عن نسخ بعضها ببعض فيما لا مجال فيه للنسخ، لاختلاف الموضوع والجهة، استناداً إلى أخبار
___________________________
1 ـ شرح العينين على صحيح البخاري، ج 14 ص 192.
2 ـ انظر فتح الباري ـ شرح صحيح البخاري ج 6 ص 85.
3 ـ وسائل الشيعة ج 11 ص 5.
4 ـ المصدر السابق ج 11 ص 9.
ـ(379)ـ
آحاد لا تفيد علماً ولا ظناً مما يجعل الإنسان يفقد الجو القرآني المتكامل في التشريع، فيما يقرأه من آيات لأنه يُضيع عن المعنى الأصيل، أمام هذا الركام الهائل من الوجوه أو الأحاديث(1).
ومن الجدير بالذكر ان الشهيد المطهري، قد أبطل دعوى نسخ الآيات الداعية إلى السِّلم والعفو والصفح بواسطة الآيات الداعية إلى الحرب عندما قال: «إنّ معنى الناسخ المنسوخ هو إلغاء الأوامر الأولى واستبدالها بأوامر أخرى. إذن يجب أن تكون الأوامر الثانية بصورة بحيث تكون مائة بالمائة عكس الأوامر الأولى، ليتم اعتبار الأوامر الثانية حصيلة إلغاء الأوامر الأولى. أما إذا كانت الأوامر الأولى والثانية تقبل الجمع مع بعضها، أي تكون كل واحدة منها موضحة للأخرى، فليس هناك إذن أي ناسخ ومنسوخ لنقول أن واحدة جاءت لإلغاء الأخرى. وفي موردنا لا يوجد نسخ بل يمكن الجمع بين الآيات التي تدعوا للسِّلم مع تلك التي تدعوا للحرب مع الكافرين، من خلال قاعدة لغوية أصولية: هي ان المطلق يحمل على المقيد وعليه فالآيات المطلقة بشأن الحرب مثل آية: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ﴾(سورة البقرة: 191)، محمولة على الآيات المبيحة للقتال بسبب العدوان أو الاعتداء مثل آية: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ﴾(سورة البقرة: 190).
و أمّا الآيات التي تنهى عن موالاة الكافرين، فليس معناها النهي عن مسالمتهم الإحسان إليهم، لان المراد من الموالاة اتخاذهم أخداناً يُستند بهم، ويُطمأن إليهم ويطّلعون على أسرار المسلمين. وبذلك تكون الآيات الداعية إلى السِّلم، وتكون آيات
___________________________
1 ـ انظر: الإسلام ومنطق القوة للسيد فضل الله ص 223.
ـ(380)ـ
العفو والصفح محمولاً بها في غير حال الاعتداء، وبحسب ما تقتضيه السياسة الإسلامية(1).
و أمّا الأحاديث مثل: «بُعثت بين يدي الساعة بالسيف..» فيقصد بها بيان أهمية الجهاد للدفاع عن الدعوة، فلو لا الاعتداء ما جاهد المسلمون. وأما حديث: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله..» فالمراد به مشركوا العرب خاصة بإجماع العلماء.
و هذه الأحاديث: «جاءت لتدلّل على أن العنف حاجة حيوية للمبادئ التي تريد أن تتحدى وتجابه التحدي، لأن اللَّين إذا أفاد مرّة أو أكثر فإنه لا يحقق نتيجة حاسمة في أكثر الحالات.. أما موضوع علاقته بالدعوة كهدف يحكم حركته، لتكون الدعوة منطلقة من خلال العنف، أو مرتكزة على أساس العنف، فهذا ما لا نجد لـه أثراً في كل مداليلها أساليبها.. حتى في الحديث الأخير الذي كان يتحدث عن الفرق بين ما قبل الهجرة وبين ما بعدها فإنه كان يشير إلى قيمة القوة في ردّ العدوان بمثله أو بأقوى منه، كما في حالة ما بعد الهجرة حيث استطاع الإسلام أن يتقدم ويمارس حريته في الدعوة والإقناع بعيداً عن أيّ ضغط أو تهديد أو إكراه.. فليس في الحديث أيّ إشارة إلى أن نجاح الإسلام في دعوته بعد الهجرة، كان مستنداً إلى تشريعه القتال من أجل الدعوة إلى الله كأسلوب من أساليب إدخال الناس في الإسلام، بل كل ما هناك، أنه أوجد القوة الرادعة للعدوان ومضى يمارس الدعوة بأسلوبه الخاص المرتكز على الحكمة والموعظة الحسنة»(2).
ثانياً ـ رأي آخر يذهب إلى أن الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو السِّلم أمّا الحرب فتحتاج إلى مجوّز شرعي.
___________________________
1 ـ انظر كتاب: الجهاد وحالاته المشروعة في القرآن للشهيد المطهري ـ بتصرف ص 38 وما بعدها.
2 ـ الإسلام ومنطق القوة ـ مصدر سابق ـ ص 203 ـ 204.
ـ(381)ـ
و قد تمسك أصحاب هذا الاتجاه بالآيات الداعية إلى التزام السِّلم حتى يحصل اعتداء فتكون الحرب حينئذ شرّاً لابدَّ منه، دفاعاً عن النفس والنفيس أو تقوم الحرب الوقائية اتقاءاً لهجوم معاد وشيك الوقوع، وعندئذ تكون المبادرة الإسلامية للحرب نوعاً من أنواع الدفاع المشروع.
و قد استشهد أتباع هذا الاتجاه بعدد من الآيات التي تدعو إلى السِّلم والعفو القسط مع الآخرين منها:
أ ـ قولـه تعالى:﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(سورة الأنفال: 61).
ب ـ قولـه تعالى: ﴿... حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا...﴾(سورة محمد: 4).
ج ـ قولـه تعالى: ﴿ ِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً﴾(سورة النساء: 90).
د ـ وقولـه تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾(سورة الممتحنة: 8).
و على ضوء هذه الآيات الكريمة، يرى هؤلاء: إنّ الأصل هو السِّلم أما الحرب فهي أمر طارئ على البشرية وعلى المسلمين لدفع الشر والعدوان، وحماية الدعوة لا للغلب أو المخالفة في الدين. والدعوة إلى الإسلام تكون أولاً بالحجة والبرّهان، لا بالسيف والسِّنان، لأن الإسلام يجنح دائماً للسِّلم لا للحرب، وهذا هو الأمر المقرر لدى فقهاء القانون الدولي، حيث يقولون: الحالة الطبيعية بين الدول هي السّلام والحرب حالة وقتية عارضة مهما كان سببها، وقد جنح إلى هذا الرأي الثوري والاوزاعي وهو المفهوم من روح التشريع العامة(1).
أما الأحاديث النبوية التي تدعو إلى السِّلم فمنها قولـه صلّى الله عليه وآله وسلم: «يا أيها الناس لا تتمنوا
___________________________
1 ـ راجع كتاب: العلاقات الدولية في الإسلام، د. وهبة الزحيلي ص 44.
ـ(382)ـ
لقاء العدو وسلوا الله العافية»(1).
هذا من مصادر أهل السنّة وأما من مصادر الشيعة، ما روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعثني رسول الله إلى اليمن فقال: يا علي لا تقاتلن أحداً حتى تدعوه إلى الإسلام. وأيم الله لئن يهدي الله عزّ وجلّ على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس..»(2).
و نحن بدورنا نرجح الرأي الثاني على الأول ونقرر بان السلم هو أصل العلاقة بين المسلمين وغيرهم. ودليلنا يستند على السيرة النبوية التي تكشف عن أطلاقات القرآن فتقيدها وعن مجملاته فتوضحها، إذ «يجمع المسلمون كافة على السنّة الصادرة من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم قولاً وفعلاً وتقريراً حجة على كل مسلم ومسلمة لأنّها عدل القرآن في التشريع لقيامها بتفسير أحكامه وبيان تفصيلاتها وتفرعاتها، ولولاها لما عرفت أحكام القرآن لأنه تضمن أسس التشريع وأصوله دون تفصيلاته وتفريعاته»(3).
ولكن المشكلة التي تواجهنا أن «أخبار الغزوات والحروب والدعوات إلى الإسلام في صدر الإسلام لم تصلنا بسند تام يمكن الاعتماد عليه، اذن فطريقة الاستفادة منها هي دراسة كل الوقائع المنقولة والتمسك بجامع مشترك بينها تجتمع عليه القرائن وبقدر ما تكثر القرائن عليه يزداد الاطمئنان به»(4).
وقد استقرانا سيرة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) ووجدنا إمكانية الاستدلال على المذهب المختار من أن السِّلم هو الأصل الأولي في تعامل الحكومة الإسلامية على الصعيد الدولي من خلال المعطيات التالية:
___________________________
1 ـ كنز العمال 4: 323.
2 ـ وسائل الشيعة ج 11 ص 30.
3 ـ مبادئ أصول الفقه، للشيخ عبد الهادي الفضلي ص 24.
4 ـ راجع كتاب: الكفاح المسلح في الإسلام ـ السيد كاظم الحائري ص 14.
ـ(383)ـ
1 ـ مكاتيب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم إلى الرؤساء والملوك لغرض الدعوة إلى الإسلام، فليس في لحن هذه الرسائل ما يدل على الحرب والملاحظ أن أغلب هذه الرسائل تبتدأ بعبارة: «أدعوك بدعاية الإسلام» ولكونه صلّى الله عليه وآله وسلم لم يكن بصدد الدعوة إلى الحرب، لم يرتب على فرض عدم الاستجابة إلاّ ثبوت الإثم.
نجد ذلك واضحاً في رسالته لقيصر الرّوم: «فإن توليت فعليك إثم الاريسيين».
و أيضاً نجد ذات العبارة في رسالته لكسرى: «فإن أبيت فعليك إثم المجوس».
و أيضاً في رسالته إلى ملك مصر: «فإن أبيت فعليك إثم القبط».
أمّا بخصوص عبارة «أسلم تسلم» التي ضمنها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بعض مكاتيبه، فليس فيها ما يدعو إلى الحرب حتى ان البعض حمل هذه العبارة على السلامة من عذاب الآخرة خاصة. وان كانت العبارة ـ في الظاهر ـ لا تخلو من تهديد مبطّن باستعمال القوة، ويمكننا حمل هذه العبارة على «مبدأ الردع» بصفته أحد مبادئ السياسة الخارجية في الإسلام. علماً ان هذا المبدأ ذاع صيته واشتهر في العلاقات الدولية في أعقاب ما يطلق عليه بالحرب الباردة بين الدولتين الاستكباريتين: الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي قبل انحلاله، عندما غدا من المتعذر على أحدهما استعمال أسلحته التدميرية ضد الطرف المقابل خوفاً من المقابلة بالمثل وهو معناه التدمير المتبادل وحينئذ يرتدع الطرفان عن استخدام الفعلي لأسلحتهما خوفاً من العواقب المحتملة في حرب لا تبق ولا تذر.
يقول هنري كيسنجر، أحد مهندسي السياسة الأميركية في أعقاب الحرب الباردة: «تستند سياسة الرّدع على مقاييس سيكولوجية إذ تستهدف منع العدوان من خلال إقناع المعتدي بالمخاطر التي يحتمل أن تصيبه»(1).
و عندما بحثنا في مصادرنا المعرّفية، وجدنا ان لمفهوم الرّدع هذا جذوراً تاريخية
___________________________
1 ـ انظر كتاب: مفهوم السياسة الخارجية الأمريكية ـ لكيسنجر ص 23.
ـ(384)ـ
منذ صدر الإسلام. وان القرآن الكريم قد أشار إليه وان لم يطلق عليه ما اصطلح عليه اليوم بـ «الرّدع» بل أطلق عليه مفهوم «الرّهبة».
و من يتدبر عميقاً في قولـه تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾(سورة الأنفال: 60).
يجد أن إعداد القوة في الإسلام من أجل إرهاب وردع الآخرين عن التعرض للمسلمين وليس إعداد القوة هدفاً بحد ذاته. فالآية الآنفة الذكر تقول: «ترهبون» ولم تقل «تحاربون» أو «تدمرون» وما شابه ذلك من ألفاظ، وفي ذلك إشعار واضح على المدعى.
و في هذا الصدد يقول صاحب التفسير الكاشف ما يلي:
«و نقف قليلاً عند قولـه تعالى: «تُرهبون به عدوّ الله وعدوكم» لأنه ينطوي على مبدأ يحفظ المجتمع الإنساني من الفوضى، ويرّدع الطغاة الأقوياء من التلاعب بحياة الناس واستغلالهم وهذا المبدأ هو وجود قوة في قبضة أهل الحق والعدل يردعون بها أهل الظلم والباطل، ويخضعونهم لحكم الله وشريعته، التي تدعو الناس جميعاً أن يعيشوا طبقاً لقانون الحياة وسننها ولا ينحرف عنها أحد، فإذا راودته نفسه بالميل والانحراف أرغمته القوة على الرّجوع إلى تلك السنن والقوانين»(1).
تجدر هنا الملاحظة إلى أن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم قد استهدف في كل غزواته تحطيم معنويات أعدائه أكثر مما يستهدف تحطيم قواهم المادية، لأنه كان يطمح ـ دائما في عودة أعداءه إلى طريق الحق السَّوي، كان يحرص على حياتهم من أجل هدايتهم وكثيراً ما كان يردد عندما يشتد أذى قريش لـه «اللّهم اهدِ قومي فانهم لا يعلمون».
و هكذا نجد أن الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم كان يلوح باستعمال القوة من أجل ردع أعدائه حتى
___________________________
1 ـ التفسير الكاشف ـ الشيخ مغنيّة ـ ج 3 ص 500 ـ 501.
ـ(385)ـ
يُعيدوا حساباتهم، ويسعى قدر الإمكان إلى تجنب الحرب وويلاتها. وكتب السيرة تروي لنا بأن المسلمين عندما وصلوا إلى تبوك، وعلموا أن الرّوم قد انسحبوا منها إلى داخل بلادهم. حينئذ آثر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم الانسحاب وكان بإمكانه تعقيب ومطاردة قوات الرّوم المنسحبة، وإيقاع الخسائر الفادحة في صفوفها، وما أيسر القتال مع عدو منسحب.
ضمن هذا السياق، الذي استخدم فيه الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم مبدأ الرّدع أو التلويح باستخدام القوة، نجد أنه صلّى الله عليه وآله وسلم: «يقتصر في حروبه على أقل قدر ممكن ترتفع به الضرورة، ويلتزم بضبط النفس الكامل والواعي حتى في أحلك اللحظات وآخرها. ولهذا لم يستطع الباحثون إيصال القتلى في حروب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم طيلة عشر سنين، والتي تُعد بعشرات الحروب والسرايا، لم يستطيعوا إيصالها إلى الألف قتيل. رغم أن هذه الحروب كانت تتجه نحو تهيئة الجو لبسط النفوذ الإسلامي على مختلف أرجاء الجزيرة العربية ويتعداها إلى غيرها مما حولها»(1).
و عودة إلى أصل المطلب، لقد أراد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بمكاتيبه إلى الملوك والأباطرة أن لا يقفوا حجر عثرة في سبيل الدعوة وان لا يقوموا بأي عدوان مستقبلي على الدولة الإسلامية الفتية التي شكلها في المدينة.
و لقد ركز على حكام الدول وقادة القبائل لان الناس تبع لزعمائهم في معظم أمورهم.
و من يتمعن في رسالة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى حاكم آيلة «يوحنا»، يلاحظ حرصه صلّى الله عليه وآله وسلم على استتاب الأمن الدولي وأهمية حماية الملاحة البحرية. ففي هذه الرسالة أعطى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم العهد من جانب الله ورسوله إلى يوحنا ابن روبه» وأهالي آيلة أنهم وسفنهم قوافلهم البحرية والبريّة في أمان الله ورسوله والذين يمرون من تلك المنطقة قادمين من الشام
___________________________
1 ـ انظر: المنهج الحركي للسيرة النبوية ـ منير الغضبان ـ القسم الأول ص 133.
ـ(386)ـ
واليمن هم بدورهم سيكونون آمنين، ومن أراد التفاصيل فليراجع: مجموعة الوثائق السياسية ـ لمحمد حميد الله ـ ص 116 وسوف يجد أن الرسالة النبوية تقدم السِّلم كخيار أولي أمّا القوة والقتال فتحتل المرتبة المتأخرة.. جاء في مطلعها: «سلم أنتم، فأني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو، فأني لم أكن لا قاتلكم حتى أكتب إليكم، فأسلم أو أعط الجزية..».
2 ـ إن ملاحظة التسلسل الزمني لنزول آيات الجهاد وشروطها تثبت بما لا يدع مجالاً للشك، بان خيار السِّلم كان الأصل أما الحرب فكانت أمراً طارئاً لضرورة قاهرة. فمن المؤكد: «ان المسلمين كانوا يطلبون ـ كراراً ـ من النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن يسمح لهم بالدفاع عن أنفسهم. ولكن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لم يسمح لهم بذلك طيلة بقاءه في مكة الذي استغرق ثلاثة عشر عاماً»(1).
و ان إجازة الدفاع عن النفس لم تعط إلاّ في العام الثاني من الهجرة عن مكة. وان جميع المفسرين يتفقون على أن أول ما نزل في القرآن حول الجهاد قولـه تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(سورة الحج: 38 ـ 40).
و كانت سيرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم قبل نزول سورة «براءة» أن لا يقاتل إلاّ من قاتله ولا يحارب إلا من حاربه وأراده. أما آيات البراءة من سورة التوبة(من الآية 1 ـ 8) فهي آخر ما نزل في القرآن حول القتال، لا دلالة فيها على أن الحرب هي الأصل بل هي مخصوصة بالمشركين القاطنين في الجزيرة العربية، وعليه فلا تشمل من كان في خارجها هذا أولاً ثانيا: ليس في منطوقها ولا في مفهومها ما يدل على شمول القتال لأهل الكتاب زد على
___________________________
1 ـ انظر كتاب: الجهاد وحالاته المشروعة للشهيد المطهري ص 15.
ـ(387)ـ
ذلك، ان الذين شملهم حكم القتال فيها، كانوا ـ بتعبير معاصر يشكلون طابوراً خامساً في المجتمع الإسلامي، يتجسسون لحساب الأعداء، ويسعون إلى الفساد والإفساد، فوضعهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم أمام خيارين: إما إظهار الإسلام أو القتال، وكان بإمكانهم وقتذاك أن يهاجروا من الجزيرة العربية قبل انتهاء المدة المحددة أي بعد انسلاخ الأشهر الحرم.
يقول مؤلف التفسير الكاشف في معرض تفسيره لسورة براءة: «ان هذه السورة نزلت في العام التالي للفتح، حيث عظم أمر الإسلام، وانتشر في الجزيرة العربية كلها،كانت لـه الكلمة العليا، ومع ذلك بقي للشرك جيوب في بعض قبائل العرب، وكيلا تكون هذه الجيوب طابوراً خامساً في المجتمع الإسلامي أمر الله نبيه ـ في هذه السورة ـ أن يعلن البراءة من المشركين، وبالأصح أن ينذر بالحرب كل مشرك يقيم في الجزيرة العربية، حتى يقول: لا إله إلاّ الله، ويدخل فيما دخل فيه الناس.. وقد وصفهم عظمت صفاته أولاً باللؤم الشراسة، لأنهم لو قدروا على المسلمين لفعلوا بهم الأفاعيل في غير مراعاة لعهد ولا لإنسانية،وصفهم ثانية بالنفاق وانهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وثالثاً وصفهم بالفسق،كل صفة من هذه الثلاث تقضي عليهم بأشد العقوبات، وبإسقاطهم من جميع حقوق الإنسانية، لا من جهة الوفاء لهم بالعهد فقط فكيف إذا اتصفوا بالرذائل الثلاث مجتمعة !»(1).
لقد تضمنت سورة «التوبة» أحكاماً نهائية في العلاقات بين المسلمين والمشركين، كشفت بما لا يدع مجالاً للشك ان مصلحة المجتمع الإسلامي قد تستدعي في ظروف معينة أن لا يكون فيه مشركون، لأنهم يسعون في الأرض فساداً وهو أمر لا ينسجم مع المجتمع الإسلامي الذي يشيد قواعده على الحق والعدل والفضيلة. وكان هذا الحكم خاصاً بمشركي الجزيرة آنذاك، وليس فيه دلالة على أن الأصل الذي يحكم علائق المسلمين مع
___________________________
1 ـ التفسير الكاشف: الشيخ مغنية ـ المجلد الرابع ص 9 ـ 13.
ـ(388)ـ
غيرهم ينحصر في الحرب والقتال.
3 ـ إن غزوات وسرايا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم مع مشركي قريش تعتبر «دفاعية» في الميزان العسكري.. وأما حروبه مع الرّوم فكانت «وقائية»، يقول السيد كاظم الحائري حول حروب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم مع الرّوم ما نصه:
«.. لا نجد في شيء من هذه الحروب حرباً ابتدائية بتمام معنى الكلمة، ولكنها تختلف أيضاً عن كثير من حروبه صلّى الله عليه وآله وسلم التي كانت دفاعية محضة»(1).
و يذهب إلى ذلك أيضاً الدكتور وهبة الزحيلي، فهو يعتبر أن «هذه الحروب وقائية لدفع الأخطار عن البلاد أو الدين. وإذا كانت الدول الحديثة تشن حرباً ضروساً من أجل الحفاظ على مصالحها الاقتصادية، وهى مجرد مصالح مادية خالصة، فإن هذه الحرب لصالح الناس أنفسهم ـ وينقل عن ابن تيمية قولـه ـ كانت سيرته صلّى الله عليه وآله وسلم أن كل من هادنه من الكفار لم يقاتله أي سواء أكان من مشركي العرب أم من غيرهم، وهذه كتب السيرة الحديث والتفسير والفقه والمغازي تنطق بهذا، وهذا متوافر من سنّته، فهو لم يبدأ أحداً من الكفار بقتال، ولو كان الله أمره أن يقتل كل كافر لكان يبدئهم بالقتل والقتال»(2).
و في هذا الباب يقول محمود شيت خطاب: «ان الحرب في الإسلام حرب دفاعية بكل ما في الكلمة من معنى، لا يبدأ المسلمون فيها بالاعتداء على أحد، ولا يريدون من ورائها إلاّ حماية نشر الدعوة، وتوطيد أركان السلام في العالم»(3).
على ضوء ما تقدم، نخلص إلى القول: أن الحرب في الإسلام وسيلة لا غاية في حد ذاتها، ولا يلجأ إليها إلاّ بعد أن تفشل جميع الوسائل السلمية. ولا يمكن أن تكون الوسيلة
___________________________
1 ـ انظر كتاب: الكفاح المسلم في الإسلام ـ مصدر سابق ص 22.
2 ـ كتاب العلاقات الدولية في الإسلام ـ مصدر سابق ـ ص 32 ـ 33.
3 ـ كتاب: الرسول القائد ـ محمود شيت خطاب ـ ص 13.
ـ(389)ـ
هي الغاية. وعليه فالأصل هو السِّلم أما الحرب فوسيلة طارئة يلجأ إليها عند الضرورة القصوى من أجل الدفاع عن النفس والنفيس المتمثل بصيانة الدعوة الإسلامية.
أضف إلى ذلك أن اعتراف الجميع بأنّ حروب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم كانت دفاعية أو في أشد الحالات «وقائية»، يُرسخ قناعاتنا «بأصالة» السَّلام وتقدمه وتأخر القتال، وبتعبير آخر ان للسَّلام في الإسلام تقدم رتبي على الحرب والقتال.
4 ـ في السُّنّة القولية للرسول صلّى الله عليه وآله وسلم فيها دلالة صريحة وضمنية على كون السلام هو الأصل الأولي الحاكم على علاقة المسلمين مع غيرهم، منها: «قولـه صلّى الله عليه وآله وسلم: لا تتمنوا لقاء العدو، فأنكم لا تدرون لعلكم تبتلون بهم، ولكن قولوا: اللهم أكفناهم وأكفف بأسهم عنا» ولو كان القتال هدفاً من أهداف الإسلام لما كان ذلك الموقف الإنساني العظيم من رسول الله(1).
ومن مصادرنا المعرّفية يمكن الاستشهاد بالوصية الذهبية التي أسداها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم إلى الإمام علي عليه السلام عندما أرسله إلى اليمن وجاء في مقدمتها: «يا علي لا تقاتلن أحداً حتى تدعوه إلى الإسلام..»(2).
وهناك أحاديث أخرى لا يتسع المجال لذكرها وقد استند الفقهاء المسلمين على تلك الأحاديث، وأفتوا بوجوب الدعوة لمن لم يبلغهم الإسلام..
«قال الحنفية والشافعية والحنابلة والإمامية والأباضية: تجب الدعوة لمن لم يبلغهم الإسلام، فإن انتشر الإسلام وظهر كل الظهور، وعرّف الناس لماذا يُدعون، وعلى ماذا يُقاتلون، فالدعوة مستحبة تأكيداً للإسلام والإنذار، وأدلتهم الجمع والتوفيق بين الأحاديث
___________________________
1 ـ كتاب: العقيدة والقوة معاً ـ لمحمد عبدالله السّمان ص 105.
2 ـ وسائل الشيعة: ج 11 ص 30.
ـ(390)ـ
من الأمر بإبلاغ الدعوة»(1).
إذن فالسيف لم يكن ـ في أية معركة إسلامية ـ هدفاً، وأبرز شاهد على ذلك، ان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حين ودع أسامة بن زيد قائد الجيش إلى مؤتة، كان أول ما أوصاهم به: «أوصيكم بتقوى الله.. وبمن معكم من المسلمين خيراً.. وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى إحدى ثلاث فأيهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكفف عنهم..».
من هذا التوجه ندرك أن القتال خيار أخير لابد منه عند استنفاذ جميع الوسائل السلمية. وان الإسلام لم ينتشر إلا في أجواء السلام على العكس مما يروج لـه الغربيون بأن الإسلام انتشر بالسيف وعليه فهو دين العنف.
فقد أثبت التاريخ وجود علاقة تلازمية بين السلام وانتشار الإسلام.. «يقول المؤرخون أن أهم فترة أنتشر فيها الإسلام هي فترة السِّلم الذي تلا صلح الحديبية بين قريش وبين المسلمين، وكانت فترة السِّلم سنتين. ويقول المؤرخون أن من دخل الإسلام في هاتين السنتين أكثر مما دخلوه في المدة التي تقرب من عشرين عاماً منذ بدء الإسلام حتى ذلك الصلح»(2).
و لابد من الإشارة إلى الثمار والمعطيات المترتبة على كون السِّلم هو الأصل الأولي في السياسة الخارجية للحكومة الإسلامية:
أ ـ لا مانع لدى القائلين بان السِّلم هو أصل العلاقات الدولية من عقد صلح دائم على أساس آخر غير عقد الذّمة أي لصيانة السِّلم والأمن دون التزام دفع عوض مالي للمسلمين، بدليل أن أول عمل سياسي عمله النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة، أن عاهد القبائل التي
___________________________
1 ـ انظر العلاقات الدولية في الإسلام ـ مصدر سابق ـ ص 39.
2 ـ الإسلام ومنطق القوة ـ مصدر سابق ـ ص 211.
ـ(391)ـ
سكنت ما بين المدينة وساحل البحر، مثل جهينة وبني صنمار وغفار(1).
ب ـ ان الحكومة الإسلامية تستطيع متى ما اقتضت مصالح الإسلام والمسلمين، أن تتعاون مع الكفار والمشركين وأهل الكتاب وكذلك تتعاون معهم في المجالات التي تعود بالفائدة على الطرفين، مثل عقد اتفاقيات التبادل العلمي أو الزراعي أو الصناعي أو التجاري أو الاقتصادي أو الدفاعي، أو معاهدة عدم تعرض الواحد للآخر، أو معاهدات أخرى من هذا القبيل. ومع ذلك يشترط في عقد مثل هذه المعاهدات والاتفاقيات عدم تسلط الكفار على المسلمين والتدخل في شؤونهم الداخلية(2).
القواعد الفقهية التي تحكم السياسة الخارجية
أولاً ـ قاعدة نفي السبيل:
روى عن الإمام علي عليه السلام وابن عباس، والسدي تفسير السبيل في الآية:﴿... وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾ (سورة النساء:141).
بان المراد به: الحجة يوم القيامة. ولعل ذلك من جهة قولـه تعالى في الآية ﴿... فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ وهذا لا ينافي أنّ الله لن يجعل للكافرين حجة في دار الدنيا أيضاً. ويحتمل أن يكون المراد منها أن الله تعالى لن يجعل للكافرين حجة على المؤمنين في مقام البرّهان والاستدلال على صحة وحقيقة الإسلام وبطلان الكفر، فليس للكافرين
___________________________
1 ـ العلاقات الدولية في الإسلام ـ مصدر سابق ـ ص 158(عن سيرة ابن هشام 1: 591).
2 ـ انظر مقالات المؤتمر الفكري الثالث في طهران ـ من مقالة للشيخ إبراهيم الأميني بعنوان: العلاقات الدولية والسياسة الخارجية ص 250.
ـ(392)ـ
سبيل «حجة» تثبت صدق ما هم عليه من الاعتقاد في مقابل الإسلام. فيكون المراد من السبيل «الغلبة بالدليل والبرهان» في مجال الاعتقاد. كما يمكن أن يكون المراد أنه لا حجة لهم تثبت صحة وسلامة سلوكهم في موقفهم من الإسلام والمسلمين،يبررون بها موقفهم وسلوكهم، ولعل هذا المعنى أوفق بالآية بملاحظة السِّياق، الذي وردت فيه.
ويحتمل أن يكون المراد منها: إن هؤلاء المنافقين يتوهمون أنهم بسلوكهم المذبذب بين الكفار والمسلمين، يجدون سبيلاً (حجة: ذريعة) على المسلمين لخداعهم، والنيل منهم. ولكن الله تعالى بما كشف لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلم من سلوكهم ونواياهم(في الآيات السابقة) ويكشف عنها دائماً، لن يجعل لهم هذه الحجة والذريعة، بل سيفضح خططهم ليكون المؤمنون دائماً على بينة منها. ويؤيد هذا الاحتمال قولـه تعالى في الآية التالية: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾(سورة النساء: 142).
ويحتمل أن يراد من (السبيل): الطريق، بمعنى مجازي وهو التمكين والقدرة، بأن تمكنهم وسائلهم في الكيد والتآمر من السيطرة على المسلمين والتحكم بهم سياسياً، ويكون المراد من الآية: ان الله لن يمكّن الكفار من المسلمين، لأنّ أحكام الإسلام السياسية والاجتماعية وغيرها، تجعل الكفار عاجزين عن التمكن من المسلمين، وفاقدي القدرة على غلبتهم، إذا التزم المسلمون بأحكام الإسلام. وهذا لا ينافيه حصول خلاف ذلك في الواقع، لان تمكن الكفار من المسلمين وسيطرتهم عليهم، ليس ناشئاً من قصور التشريع الإسلامي، وإنما هو ناشيء من عدم التزام المسلمين بأحكام الإسلام في شؤون المجتمع والدولة.
و الآية في مقام تقرير حقيقة موضوعية هي: أن تمكين الكافرين من المؤمنين لن يأتي من طريق(سبيل) قصور الإسلام ـ عقيدة وشريعة ـ عن ضمان السيادة والنصر. وإذا غُلب المسلمون على أمرهم وتمكن الكفار منهم، فإن ذلك يكون من طريق آخر، هو تقصير المسلمين وعدم التزامهم بالإسلام.. ونلاحظ أنّ الآية نصّت على أن الله لن يجعل سبيلاً على «المؤمنين» وليس على المسلمين.
ـ(293)ـ
و من المعلوم ان المؤمنين هم المسلمون، المتقون، الواعون، الملتزمون بالإسلام عقيدة وشريعة، وهم أعلى درجة في الالتزام من سائر المسلمين. وهؤلاء هم الواجدون لأسباب القوة، والمناعة ضد الكفار، الذين لن يكون لهم سبيلاً وتمكن من السيطرة(1).
و نحن نستشف من آية السبيل فيما يتعلق ببحثنا، ان الدولة الإسلامية، يجب أن تكون صاحبة السيادة الفعلية على إقليمها ورعاياها المسلمين. وعلى الحكومة الإسلامية أن تستقل في قرارها السياسي ولا تجعل للكافرين سبيلاً على المسلمين ومصالحهم. والآية المذكورة لا تأبى هذا الحمل خصوصاً إذا ما فسرنا(السبيل) بالتمكين والقدرة وهو التفسير الأرجح. وعلى هذا الأساس: «استدل الفقهاء بهذه الآية على أن الله سبحانه لم يشرع حكماً يستدعي أية سلطة وولاية لغير المسلم على المسلم، وفرعوا على ذلك كثيراً من الأحكام، منها: ان حكم الحاكم غير المسلم لا ينفذ بحق المسلم وان كان حقاً»(2).
و لا نبالغ إذا ما قلنا بان قاعدة السبيل هذه من أروع قواعد السياسة الخارجية في الإسلام، لكونها تعبر عن علو الإسلام على غيره من الأنظمة السياسية، وتحافظ على كرامة المسلمين، التي يجب أن لا تُمس مطلقاً. زد على ذلك ان لهذه القاعدة تطبيقات في مختلف أنواع العلائق السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية التي تبرم مع غير المسلمين أفراداً كانوا أم دولاً.. «و بموجب هذه القاعدة، فإنّ أي تصرف أو معاهدة أو عقد يؤدي إلى تفوق الكافرين على المسلمين، يُعد ملغياً من أساسه... فإن هذه القاعدة شأنها شأن قاعدة: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» وقاعدة: «نفي الحرج والعسر» تُعد من القواعد الثانوية التي
___________________________
1 ـ راجع كتاب: نظام الحكم والإدارة في الإسلام ـ الشيخ محمد مهدي شمس الدين ص 498 ـ 499.
2 ـ انظر: التفسير الكاشف: للشيخ مغنية ـ المجلد الثاني ص 446.
ـ(394)ـ
تستطيع أن تحكم على الأحكام الأولية بمجموعها، اللهم إلاّ تلك التي تتضمن بنفسها تحمل الضرر في سبيل تحقيق غاية أسمى كالجهاد.
و صفوة القول: إنها قاعدة تعاملية مهمة، لها تطبيقاتها في مختلف المجالات ومنها المجالات السياسية. وليس هنا بأروع من تطبيقها اليوم ـ من قبل الجمهورية الإسلامية في إيران ـ في تعاملها مع القوى المستكبرة وعلى رأسها أمريكا، التي تسعى للسيطرة على الشعوب ونهب خيراتها وانتهاك كرامتها ومقدساتها.
ثانياً ـ قاعدة الإسلام يعلو ولا يعلى عليه:
تبلورت هذه القاعدة على ضوء الحديث الذي ورد في كتاب: من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 243 الوارد في باب ميراث أهل الملل. وقد جاء فيه أن: «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، والكفار بمنزلة الموتى، لا يحجبون ولا يورثون». والعلو ـ هنا ـ يمكن أن يتصور منه أحد معنيين:
أ ـ إما علو عقائد الإسلام، ومبادئه وشريعته، من حيث أنها حق وغيرها باطل.عليه فهي عالية علو الحق على الباطل.
ب ـ وإما علو المسلمين بالإسلام، فلا يجوز أن تهدر كرامتهم أو تصادر حقوقهم حرياتهم أو يكونوا في موقع الدّونية والمهانة بالنسبة إلى غيرهم.
وعلى كلا المعنيين يمكن أن يستنبط مبدأ الاستقلال بحكومة الإسلام ومن خلاله لا يمكن السماح لأي سلطة خارجية غير إسلامية أن تتدخل في شؤون الإسلام والمسلمين وتحاول أن تصادر حقوقهم وتعبث بمقدراتهم أو تنتهك مقدساتهم أو تفرض عليهم ما لا يتناسب مع كرامتهم ومصالحهم أو تفرض شروطاً مذلة عليهم وهذه القاعدة تنسجم مع قولـه تعالى:
ـ(395)ـ
﴿... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ...﴾(سورة المنافقون: 8).
لقد.. «دلت جميع الآيات، والسُّنّة القطعية، على أن الله تعالى قد جعل العزّة للمؤمنين والمسلمين. ويُستفاد منها أن الله تعالى لم يجعل في الشريعة حكماً يخالف ذلك، ويلزم منه ذلة المسلمين وهوانهم، وكل ما يستلزم ذلك فهو محرّم ممنوع عنه شرعاً. وهذا من ضرورات الإسلام»(1).
هذه هي أبرز القواعد الفقهية الحاكمة على الحكومة الإسلامية في تعاملها مع غير المسلمين، ويجب على هذه الحكومة أن تضعها نصب عينيها في سلوكها السياسي الخارجي حتى تتحقق مصالح المسلمين وتعلو راية الإسلام. ومن يبتعد عن الهوى التعصب ويتجرّد للحقيقة، سوف يجد الفرق الشاسع بين العلاقات الدولية قبل الإسلام وما بعده فقد كان نظام العلاقات السياسية القديم يقوم على قواعد الظلم والقوة الغاشمة وفقدان المعايير الأخلاقية في التعامل السياسي. ولكن بعد انبثاق فجر الإسلام برزت مبادئ الاخوة الإنسانية والمساواة والعدالة.. «ونقل الإسلام البشرية في تكوين الإطار السياسي من الدولة القبلية والمجتمع القبلي والدولة القومية والمجتمع القومي إلى الدولة الإنسانية العقائدية المجتمع العقائدي الإنساني»(2).
و كيف يغض الطرف عن قواعد التعامل الخارجي التي صاغها الإسلام وطبّقها بحذافيرها في علاقته مع غير المسلمين وهي مبادئ لم تكون موجودة أصلاً منها: مبدأ احترام العهود والمواثيق، ومبدأ عدم الاعتداء، وقواعد العدل والإحسان، ومبدأ المساواة إلغاء التمايز العنصري بين الأمم والشعوب ومبدأ المقابلة بالمثل، ومبدأ الإعلام قبل الأقدام، ومبدأ الحياد الإيجابي وغير ذلك من المبادئ والقواعد التي تحتاج لبحث مستقل.
___________________________
1 ـ انظر: كتاب الحكم والإدارة في الإسلام ـ مصدر سابق ـ ص 499 وما بعدها.
2 ـ راجع كتاب: نظام الإسلام(الحكم والدولة) لمحمد المبارك ص 110.
ـ(396)ـ
و بناءً على ما تقدم، لا يمكن لأحد إنكار ما للإسلام من دور بالغ في التأثير على العلاقات الدولية بدءاً من القرن السابع الميلادي الذي بزغ فيه فجر الإسلام انتشر بعدئذ بالمراسلات والمكاتبات التي كتبها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لأمراء وملوك العالم وأقطابه يدعوهم فيها إلى الإسلام. «فأثر كل ذلك في أوروبا في عصر الظلام وتأثر القانون الدولي في مراحله الأولى بحضارة الإسلام وكان هذا الأثر ظاهراً جلياً في أنظمة الحروب، التي تمت صياغة قوانينها بعد ذلك بقرون في نطاق مبادئ الفروسية، وفي أحكام معاملة الأسرى والجرحى، وقواعد دفن الموتى ومنع التمثيل بهم، وفي القواعد الخاصة بمعاملة المدنيين في الحروب، وفي حظر استعمال بعض الأسلحة»(1).
خاتـمـة:
وفي نهاية المطاف نخلص إلى القول بأن الأصل الأولي في سياسة الحكومة الإسلامية هو السِّلم ولكن السِّلم القائم على قواعد الحق والعدالة والذي يحقق التعايش السِّلمي بين الشعوب والأمم مع الحفاظ على استقلالية وكرامة المسلمين والحيلولة دون تسلط الكافرين على رقابهم ومقدراتهم.
________________________
1 ـ انظر: العلاقات الدولية في الإسلام للدكتور الزحيلي ص 126.
ارسال نظر