العالمية في القرآن والسنة
أ . سعيد العذاري
بسم الله الرحمن الرحيم
الرسالة الإسلامية رسالة عالمية في جميع مقوماتها: الفكرية والاجتماعية والسياسية، وهي لا تختص بشعب دون شعب ولا بطبقة دون أُخرى، ولا باقليم دون آخر، بل هي رسالة شاملة تخاطب كل الأمم وكل الشعوب وكل الطبقات، وشاملة لجميع الأجيال وفي كل البقع الجغرافية، وبها ختمت الرسالات فلا رسالة بعدها.
والرسالة الإسلامية رسالة عالمية منذ انطلاقتها الأولى في مكّة المكرمة، وهذا ما نلاحظه في الآيات القرآنية المباركة التي نزلت في مكّة حيث تشير إلى بعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى العالم أجمع وان كانت حركته منطلقة من داخل مكّة وموجّهة إلى قريش ثم سائر القبائل، فهي عالمية في نظريتها وعالمية في التطبيق العملي، ولم تتدرج في عالميتها إلّا من الناحية الواقعية حيث بدأت بمكّة ثم بالمدينة ثم توجهت نحو ملوك فارس والروم؛ إلّا أنّها كانت عالمية في مفاهيمها وقيمها وفي متبنياتها الفكرية والعقائدية والتشريعية.
والإيمان بالعالمية يتطلب من جميع المسلمين الانطلاق مع الأفق الأرحب للروابط والعلاقات والتعالي على الأطر الضيقة والفواصل الجزئية؛ لتكون الوحدة هماً دائماً وأملاً واحداً يسعون إلى تحقيقه في الواقع العملي ابتداء بوحدة الموقف تجاه التحديات الاستكبارية والصهيونية، والحذر من العدو المشترك الذي وحّد صفوفه لمحاصرة الإسلام عقيدة ووجوداً وقيادة؛ لا يفرق في هذه المحاصرة بين مذهب وآخر وبين طائفة وأخرى.
والإيمان بالعالمية يتطلب الانطلاق من المحأورة المشتركة الواحدة وهي وحدة العقيدة ووحدة المصالح ووحدة المصير.
وفي بحثنا هذا نسلّط الأضواء على التعريف بعالمية الإسلام ومبانيها من منظار القرآن الكريم والسنة النبوية.
عالمية الإسلام من منظار القرآن الكريم
عالمية الإسلام حقيقة واضحة المعالم من خلال النظرة الواعية للآيات القرآنية المباركة، فهي عالمية في مضمونها العقائدي والتشريعي وفي جميع مجالاتهما، وهي لا تختص بجماعة أو منطقة أو شعب بل توجهت إلى جميع الجماعات وجميع البلدان وجميع الشعوب.
والرسالة الإسلامية بعالميتها حولت الشعب المختار إلى الأمة المختارة التي تضم جميع الشعوب التي تبنت الإسلام ديناً ومنهجاً في الحياة.
قال سبحأنّه وتعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله)([1]).
والعالمية واضحة المعالم في القرآن الكريم منذ الانطلاقات الأولى لنزوله، ففي العهد المكي كانت التوجهات العالمية واضحة المعالم في السور القرآنية المباركة.
قال سبحأنّه وتعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) ([2]).
أمر الله سبحأنّه نبيّنا أن يخاطب جميع الخلق من العرب والعجم، فقال: أدعوكم إلى توحيده وطاعته، واتباعي فيما اؤديه اليكم، وانما ذكر (جميعاً) للتأكيد، وليعلم أنّه مبعوث إلى الكافة([3]).
وفي تفسير آخر: ان عنده كمال الدين الذي به حياة الناس الطيبة، وفي أي مكان فرضوا وفي أي زمان قدر وجودهم … أمر نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعلن بنبوته الناس جميعاً من غير أن تختص بقوم دون قوم([4]).
وهي لا تختص بقوم ولا أرض ولا جيل، جاءت كاملة في اصولها قابلة للتطبيق المتجدد في فروعها، وجاءت للبشر جميعاً لأنّه ليست هناك رسالات بعدها للأقوام والأجيال في كل مكان، وجاءت وفق الفطرة الإنسانية التي يلتقي عندها الناس جميعاً.
وهذه الآية التي يؤمر فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يواجه برسالته الناس جميعاً، وهي آية مكية في سورة مكية، وهي تجبه المزوّرين من أهل الكتاب الذين يزعمون ان محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يدور في خلده وهو في مكّة ان يمد بصره برسالته إلى غير أهلها، وأنّه انما بدأ يفكر في أن يتجأوز بها قريشاً، ثم يجأوز بها العرب إلى دعوة اهل الكتاب، ثم يجأوز بها الجزيرة العربية إلى ما وراءها، كل أولئك بعد أن أغراه النجاح الذي ساقته إليه الظروف([5]).
ومن الآيات المكية الدالة على عالمية الرسالة الإسلامية، قول الله سبحأنّه وتعالى: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) ([6]).
وهذا النص المكي له دلالته على اثبات عالمية هذه الرسالة منذ أيامها الأولى … فهي منذ نشأتها رسالة للعالمين، طبيعتها طبيعة عالمية شاملة، ووسائلها وسائل انسانية كاملة، وغايتها نقل هذه البشرية كلها من عهد إلى عهد ومن نهج إلى نهج عن طريق هذا الفرقان الذي نزله الله على عبده ليكون للعالمين نذيراً، فهي عالمية للعالمين والرسول يواجه في مكّة بالتكذيب والمقأومة والجحود([7]).
ومن الآيات المباركة قوله سبحأنّه وتعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) ([8]).
ويبطل بهذا قول مَن قال: أنّه كان رسولاً إلى البعض دون البعض([9]).
ونحو ذلك قوله سبحأنّه وتعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ) ([10]).
أي القرآن ذكر عام للعالمين من جماعات الناس ومختلف الشعوب والأمم وغيرهم لا يختص بقوم دون قوم([11]).
وتجلت العالمية بالانطلاق من المحور المشترك وهو بيت الله لتكون الهداية للجميع هداية عالمية.
وقد ورد في التفسير أنّه: يهدي عالم المسلمين إلى سعادتهم الدنيوية التي هي وحدة الكلمة وائتلاف الأمة وشهادة منافعهم ويهدي عالم غيرهم بايقاظهم وتنبيههم إلى ثمرات هذه الوحدة وائتلاف القوى المختلفة المتشتتة … أنّه هدى للعالمين لا لعالم وجماعة مخصوصة كآل ابراهيم أو العرب أو المسلمين، وذلك لما فيه من سعة الهداية([12]).
وقد فسّر الإمام الخميني (رض) هذه الآية قائلاً: ان الله تبارك وتعالى دعا العالم أجمع إلى الإسلام، ووضع هذا البيت للبشرية جمعاء منذ زمن البعثة والى أن يرث الله الأرض.
أنّه بيت الناس، فلا يوجد شخص أو فئة أو طائفة أولى بالبيت من بقية الناس، وانّ الناس قاطبة في مشارق الأرض ومغاربها مكلفون باعتناق الإسلام والاجتماع في هذا البيت الذي وضع للناس وزيارته([13]).
العالمية في الروابط والعلاقات الإنسانية
تتجلى العالمية في أعمق صورها في الروابط والعلاقات الإنسانية التي يتسأوى فيها الناس جميعاً، مما يدل دلالة واضحة على أن العالمية تنسجم مع فطرة الإنسان وكينونته، وقد تطرق القرآن الكريم إلى ذلك، وفيما يلي نستعرضها تباعاً.
أولاً: المسأواة في غريزة التدين
الناس متسأوون في غريزة التدين والتوجه نحو المطلق، وهم مجبولون بفطرتهم على الايمان بالخالق تعالى، وهم متسأوون في الانتساب إلى الله تعالى فهو خالقهم وخالق جميع ما في الكون.
قال سبحأنّه وتعالى: (ولئن سألتهم من خلق السمأوات والأرض ليقولن الله) ([14]).
والخالق الذي يتسأوون في الانتساب إليه واحد غير متعدد.
قال سبحأنّه وتعالى: (وإلهكم إله واحد لا إله إلّا هو الرحمن الرحيم) ([15]).
ثانياً: المسأواة في الخصائص الإنسانية
تتجلى العالمية في تسأوي الناس في خصائصهم، فقد خلق الله تعالى الناس من مصدر واحد، لا فرق بينهم ولا تمييز من حيث النشأة والابتداء، حيث أنّهم خلقوا من سلالة من طين، وهم خلقوا من ذكر وانثى، فلا فرق بين عنصر وآخر وسلالة واخرى، فلا تمييز بين جنس وجنس، أو لون ولون، قال سبحأنّه وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) ([16]).
والناس متسأوون في الضعف والمحدودية وفي كثير من الصفات والخصائص التي يشير اليها القرآن الكريم.
(يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً) ([17]).
(وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً) ([18]).
(إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) ([19]).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى الله وَالله هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)([20]).
وعالمية الإسلام كعقيدة وشريعة ومنهج حياة تنسجم مع جميع أصناف الناس لتسأويهم في الخصائص الإنسانية، ولهذا كانت عالمية في جميع مقوماتها.
ثالثاً: المسأواة في الحرية
الناس متسأوون في الحرية، فالإنسان خلق حراً، فلا عبودية ولا استعباد ولا رق.
قال سبحأنّه وتعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ الله) ([21]).
وهذه المسأواة بين الإنسان واخيه الإنسان وان كان متميزاً عليه بالنبوة إلّا أنعم جميعاً متسأوون في الحرية، ومتسأوون في العبودية لله، ومن هنا تتجلى عالمية الإسلام بتحريره لجميع الناس دون تمييز بين سلالة وأخرى وطبقة وأخرى.
رابعاً: المسأواة في التكريم
التكريم من قبل الله تعالى للانسان صفة ذاتية له منسجمة مع عالمية الإسلام المتعالية على جميع الأطر والأواصر الضيقة، ومن يتتبع الآيات القرآنية الكريمة يجدها تحمل قيم العالمية في نظرتها للانسان، فقد أكدت على أنّه مكرم من قبل الله تعالى في جميع مجالات التكريم ومنها:
1ـ التقويم الحسن
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)([22]).
2 ـ الاستخلاف
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) ([23]).
3 ـ تسخير الكون
(وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعاً)([24])..([24])
4 ـ حمل الأمانة
(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا)([25]).
خامساً: المسأواة في التكليف والجزاء
المسأواة في التكليف والجزاء مظهر جلي من مظاهر عالمية الرسالة الإسلامية، فالناس جميعاً متسأوون في التكليف الإلهي في الحياة الدنيا ومتسأوون في الجزاء من ثواب وعقاب في الدار الآخرة.
وتتجسد العالمية في تسأوي الناس في التكليف حسب طاقتهم المحدودة.
قال سبحأنّه وتعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)([26]).
وقال سبحأنّه وتعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)([27]).
وقد جعل القرآن الكريم الحياة الدنيا قنطرة للحياة، والناس متسأوون في ذلك بلا تمييز ولا فرق.
قال سبحأنّه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ)([28]).
سادساً: المسأواة في الإرادة والاختيار
خلق الله تعالى الناس وهم أحرار في إرادتهم واختيارهم، فهو تعالى منحهم العقول والغرائز ليتوصلوا من خلال الآيات والبينات إلى اتخاذ المنهج الإلهي في الحياة.
قال سبحأنّه وتعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) ([29]).
والناس متسأوون في هدايتهم لنجد الخير ونجد الشر، (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ).
وهذه المسأواة شاملة لجميع بني الإنسان، ولجميع مراحل حياتهم، ومن هنا تتضح العالمية الحقيقية الممتددة في اغوار النفس الإنسانية.
سابعاً: المسأواة أمام السنن الإلهية
جعل الله تعالى للحياة الإنسانية سنناً ثابتة لا تتبدل ولا تتغير ولا تختلف، فجعل النتائج تستتبع المقدمات، وجعلها حاكمة على حركة الناس وهم متسأوون أمامها دون فرق أو تمييز.
ومن هذه السنن سنة التغيير كما جاء في قوله سبحأنّه وتعالى: (إِنَّ الله لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) ([30]).
ومن السنن التمتع بالبركات والحرمان منها (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) ([31]).
ومن مصاديق العالمية ان الله تعالى يبتلي الناس دون تمييز أمة عن أمة وقوم عن قوم، وأنّهم جميعاً متسأوون أمام العقوبة الإلهية ان غيروا حركة التاريخ المتوجهة نحو الكمال والسمو.
وعلى ضوء ما تقدم فإن العالمية المتجسدة بالمسأواة في الخصائص الإنسانية تتجسد ايضاً بوحدة العقيدة والتي تنطلق منها:
1ـ وحدة العبادات.
2ـ وحدة التشريعات.
3ـ وحدة القيادة والحكومة.
ومن خلال ذلك تتوجه الانظار إلى الأفق الأرحب الذي يحطم كل الحواجز والفواصل الفردية والاجتماعية، والفواصل النفسية بين جميع الاصناف والألوان وجميع الطبقات وجميع الوجودات لتنطلق معاً في اطار الجامع المشترك وهو الدعوة العالمية والامة العالمية التي تتمتع بمواصفات الأمة الواحدة في جميع مقوماتها: الفكرية والعاطفية والسلوكية، ولهذا يبقى التفأوت بين جميع الوجودات أو بتعبير آخر يبقى التقديم والتقييم قائماً على أسس معينة يمكن ادخالها في مفهوم العالمية ومن هذه الأسس:
1ـ العمل الايجابي البناء.
2 ـ التقوى.
3 ـ والأهم من ذلك درجة الإيمان بالله وبالمفاهيم والقيم الصالحة.
العالمية في السنة النبوية
لم تبدأ الرسالة الإسلامية كرسالة محلية قبلية أو قومية ثم تطورت لتصبح رسالة عالمية لكل الأقوام والشعوب، بل كانت عالمية منذ انطلاقتها الأولى، فهي عالمية في مجالها التصوري والنظري، وعالمية في مجالها التطبيقي، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منذ انطلاقته الأولى يوجه الانظار والعقول والقلوب باتجاه العالمية وان كان يتحرك في ميدان محدود في مكّة وعلى مستوى القبيلة أو العشيرة، وهذا أمر واضح وملموس من خلال متابعة السيرة المطهرة.
عن عفيف (أخو الاشعث بن قيس لأمه): كنت امرءاً تاجراً فقد مت منّى ايام الحج، وكان العباس بن عبدالمطلب امرءاً تاجراً فأتيته ابتاع منه وابيعه، فبينا نحن اذ خرج رجل من خباء فقام يصلي تجاه الكعبة ثم خرجت امرأة فقامت تصلي، وخرج غلام فقام يصلي معه.
فقلت: يا عباس ما هذا الدين؟ ان هذا الدين ما ندري ما هو؟
فقال: هذا محمد بن عبدالله يزعم ان الله ارسله وان كنوز كسرى وقيصر ستفتح له، وهذه امرأته خديجة بنت خويلد آمنت به، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب آمنه به.
قال عفيف: فليتني كنت آمنت به يومئذ فكنت اكون ثانياً تابعه([32])..([32])
ولما أتى لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذلك ثلاث سنين انزل الله عليه: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين)، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقام على الحجر وقال: (يا معشر قريش ويا معشر العرب أدعوكم إلى عبادة الله وخلع الأنداد والأصنام، وأدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله، فأجيبوني تملكوا بها العرب وتدين بها لكم العجم) ([33])..([33])
وفي غزوة الخندق كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون محاصرين من كل جانب، وفي هذه الظروف كانت الدعوة العالمية واضحة المعالم، ففي اثناء الحفر لمعت تحت المعول برقة، فسأل سلمان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أما الأولى فإنّ الله فتح عليّ بها اليمن، واما الثانية فإن الله فتح عليّ بها الشام والمغرب، وأما الثالثة فإنّ الله فتح عليّ بها المشرق([34]).. ([34])
وفي تلك الظروف اشتد الخوف ونجم النفاق حتّى قال أحد المنافقين: كان محمد يعدنا ان نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط([35]).. ([35])
وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) في أغلب المواضيع والمواقف يعلن عن العالمية لتتجذر في العقول والقلوب، ومن ذلك قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (وبعثت إلى كل أحمر وأسود) ([36]).. ([36])
وعن أبيّ بن كعب قال: أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصرة والتمكين في الأرض) ([37]).. ([37])
وتتجلى العالمية في مجالها التطبيقي الأوسع والأمثل في عهد ظهور الامام المهدي (عج) وكما جاء في بشرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من تملكه الأرض وتحكيم المنهج الإلهي فيها.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (ملك الأرض اربعة: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان ذو القرنين وسليمان، والكافران نمورد وبخت نصر وسيملكها خامس من أهل بيتي) ([38])..([38])
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (والذي بعثني بالحق بشيراً لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتّى يخرج فيه ولدي المهدي… ويبلغ سلطان المشرق والمغرب) ([39])..([39])
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (يبايع له الناس عند الركن والمقام يرد الله به الدين ويفتح له الفتوح، فلا يبقى على وجه الأرض إلّا من يقول: لا إله إلّا الله) ([40])..([40])
وكانت العالمية هدفاً لحركة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولحركة الدولة الإسلامية منذ تأسيسها في بداية الهجرة، وتمثلت بمجموعة من الممارسات والمواقف ومنها:
1ـ اعلان ميثاق المدينة.
2ـ اعلان المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
3ـ معركة مؤتة خارج حدود الدولة.
4ـ معركة تبوك خارج حدود الدولة.
5ـ رسائل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الملوك.
6ـ بعث أسامة.
وهنالك ممارسات تربوية وتوجيهية لتجذير مفهوم العالمية في العقول والقلوب، وتوجيه الأنظار نحو الآفاق الأرحب للعلاقات ومنها:
1ـ احياء مفهوم الاخوة والوحدة الإسلامية القائمة على أساس الحب في الله والبغض في الله.
2 ـ احياء مفهوم الاهتمام بأمور المسلمين.
3 ـ نبذ العنصرية والتعصب.
4 ـ النهي عن الممارسات المؤدية إلى التناحر والتقاطع.
5 ـ تحقيق الوحدة الثقافية والاجتماعية.
6 ـ تحقيق الوحدة في قرار السلم والحرب.
7 ـ توجيه الانظار نحو الالتقاء حول المحأور المشتركة، وهي:
ـ وحدة العقيدة.
ـ وحدة العبادة.
ـ وحدة الشريعة.
ـ وحدة المصالح.
ـ وحدة المصير.
وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التقوى أساساً للتقديم والتقييم دون أي خصوصية أُخرى.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا أيها الناس إلّا أنّ ربكم واحد، إلّا أنّ أباكم واحد، إلّا لافضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلّا بالتقوى، ان أكرمكم عند الله أتقاكم) ([41])..([41])
وفي الختام تستعرض بعض أقوال الإمام الخميني (رض) حول عالمية الإسلام.
* نهضة الأنبياء لا تقتصر على منطقة دون أُخرى، الرسول الأكرم كان من ابناء الحجاز، إلّا أن دعوته لم تقتصر على الحجاز، ولا على الجزيرة العربية، بل هل للعالم أجمع.
* إن الهدف هو إحياء أحكام الإسلام العالمية وتطبيقها والسعي لأن يكون الجميع في رفاه ينعمون بالحرية والاستقلال.
* على دول العالم أن تفهم أنّ الإسلام منتصر لا محأولة وأنّ التعاليم الإسلامية ينبغي أن تسود في جميع الأقطار، وأن يكون الدين لله.
* يجب أن نمضي قدماً بعزم وقوة على طريق تطبيق أحكام الإسلام في بلادنا، بل في المنطقة والعالم.
* يجب أن تعلموا أن الحل الأساسي الناجع يتمثل في وحدة المسلمين واجماعهم على قطع يد القوى الكبرى من البلدان الإسلامية.
* كلنا أمل في أن نتمكن ـ ان شاء الله ـ من مواصلة هذه الجهود التي بدأناها حتّى النهاية، وأن نوفق بوحدة الكلمة وبالاتكال على الله تبارك وتعالى في جعل راية الإسلام ترفرف في كل مكان.
الهوامش:
([1]). آل عمران : 110.
([2]). الأعراف : 158.
([3]). الطبرسي، الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن ج4، رابطة الثقافة والعلالات الإسلامية، ص 406، 1417هـ .
([4]). الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج8، ص283.
([5]). سيد قطب، في ظلال القرآن، ج3، ص650.
([6]). الفرقان : 1.
([7]). في ظلال القرآن، ج6، ص138.
([8]). الأنبياء : 107.
([9]). الفخر الرازي، التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)، ج24، ص45.
([10]). م. ن. ص87.
([11]). الميزان في تفسير القرآن، ج3، ص352.
([12]). الميزان في تفسير القرآن، ج3، ص352.
([13]). حديث الإمام الخميني في جمع من الحجاج الباكستانيين 7:11:1980.
([14]). لقمان : 25.
([15]). الشورى : 19.
([16]). الحجرات : 13.
([17]). النساء : 28.
([18]). الاسراء : 11.
([19]). المعارج : 19.
([20]). فاطر : 15.
([21]). آل عمران : 79.
([22]). التين : 4.
([23]). البقرة : 30.
([24]). الجاثية : 13.
([25]). الاحزاب : 72.
([26]). البقرة : 286.
([27]). الحج : 78.
([28]). الانشقاق : 185.
([29]). الانسان : 3.
([30]). الانفال : 53.
([31]). الاعراف : 96.
([32]). السيرة النبوية لابن كثير، ج1، ص 429؛ إعلام الورى، ص49.
([33]). إعلام الورى، ص 49.
([34]). السيرة النبوية لابن هشام، ج3، ص330.
([35]). المصدر السابق، ج3، ص333.
([36]). صحيح مسلم، ج1، ص370.
([37]). إعلام الورى، ص41.
([38]). عقد الدرر، ص40.
([39]). فرائد السمطين، ج2، ص312.
([40]). فرائد فوائد الفكر، ص101.
([41]). الدر المنثور، ج7، ص579.
ارسال نظر