الابتلاء باتجاهات الجمود والتخلف الفكري والجهل والتعصّب
أ.د. محمد علي آذرشب
استاذ جامعي - إيران
بسم الله الرحمن الرحيم
اتقدّم بالشكر للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية وللسيد أمينه العام على اختيار هذا الموضوع الهام عنوانا للمؤتمر.. فنحن أحوج ما نكون إلى دراسة ما يحيطنا من تحديات، وليست بقليلة، والى التفكير على صعيد العالم الإسلامي في سبل مواجهتها، فذلك الطريق الوحيد للمواجهة الصحيحة المدروسة، كما أنه السبيل الوحيد لتحقيق وحدة الامة الإسلامية. ذلك أن التفكير حينما يسمو نحو آفاق التحديات والمواجهة فإنه يتعالى على الصغائر ويخرج من الاطار الذاتي والاناني، وتصغر في عينيه العظائم.
من المحاور التي يعمل عليها روّاد تخلفنا في العالم الإسلامي، واسمحوا لي أن استعمل كلمة روّاد هنا إذ كما يوجد بين المسلمين روّادٌ للتقدّم والتحضّر يوجد بين ظهرانينا أيضا روّادٌ للتخلف يحاولون بشتّى السبل أن يكرسوا حالة التخلف في أمتنا، أقول من المحاور التي يعملون عليها نشر ثقافة الجمود والتخلف الفكري والتعصب وتجهيل الناس من هنا سأقف في ورقتي هذه عند هذا المحور.
إشكالية الثابت والمتطوّر
هذه الاشكالية ليست بجديدة، ولا وليدة عصر الحداثة الأخير بل هي قديمة في التاريخ الإسلامي ظهرت تارة على شكل صراع بين الأشاعرة والمعتزلة، وتارة بين الفقهاء والعرفاء المتصوّفة أو بين مايسمّى بأصحاب الشريعة وأصحاب الطريقة، وتارة أخرى بين الأصوليين والأخباريين، واليوم تظهر في داخل الدائرة الفقهيّة بين دعاة التجديد في الاجتهاد وبين من يطلق عليهم أشباه المقلّدة، وبين النصوصيين وأصحاب مدرسة تطوّر الاجتهاد بمراعاة عنصري الزمان والمكان، وفي خارج الدائرة الفقهية تظهر بين أنصار الأصالة وأنصار المعاصرة، وبين دعاة القراءات المختلفة للنصوص الدينية ودعاة القراءة الواحدة.. وفي اعتقادي أن مردّ كل هذه الاشكالية يَرجع إلى سبب واحد هو غياب الهدف الكبير الذي رسمه الإسلام لحياة الإنسان المسلم والمجتمع المسلم، وهو هدف «الاستخلاف».
والاستخلاف يستبطن حركة مستمرّة نحو تحقيق ما أراده الله للانسان في هذه الأرض. وجميع ما تحقق في إطار الحضارة الإسلامية إنّما يعود إلى هذه الطاقة المخزونة في مفهوم «خليفة الله في الأرض» وكل المظاهر السلبية التي نشهدها على مرّ التاريخ وحتى يومنا هذا إنّما تعود إلى غياب هذا المفهوم بدرجة وأخرى.
مفهوم الاستخلاف والتطوّر الحضاري
الاستخلاف يتضمن كل عناصر «الثقافة» المتحرّكة التي تؤدّي إلى التطوّر الحضاري. فهو يتضمّن:
1ـ العزّة التي لابدّ منها لكل تقدّم وتطوّر، عنصر العزّة يستشعره الإنسان المسلم باعتباره خليفة الله في الارض، وباعتباره قريباً من خالق السماوات والأرض، بل إن هذا الخالق أقرب إليه من حبل الوريد، وأنه على اتصال مستمر به في صلواته وأذكاره، بل وفي كل أعماله الدنيوية إذا كانت خالصة لله.. هذا العنصر يشكل طاقة محركة هائلة عظيمة نحو التطوير والابداع.
وهذه الحقيقة أدركها قدماء الفلاسفة أمثال أفلاطون، عندما أشار في كتاب «الجمهورية» إلى أن الكائن الإنساني يتكوّن من ثلاثة مركبات: جزء راغب، وجزء عاقل، وجزء يسميه تيموس (thymos) أو روح الحياة. وهذا الجزء الثالث هو الذي يدفع الإنسان إلى البحث عن الاعتراف بكرامته الذاتية أو بكرامة الشعب أو الاشياء والمبادئ التي يشحنها بالكرامة.. واعتبر هيغل هذا التيموس محركاً للسيرورة التاريخية بكاملها([1]).
وإذا أمعنّا النظر في المعاني التي ذكرت لهذا التيموس أو روح الحياة لوجدناه هو العزّة نفسها.
والتاريخ الإسلامي مشحون بصور اهتمام المسلمين أفراداً وجماعات بكرامتهم الذاتية وبكرامة المسلمين وكرامة مايؤمنون به من مقدسات . وهذا هو الذي جعلهم ينتفضون تجاه أي عدوان على هذه الكرامة ويستميتون من أجل الدفاع عنها، لا فقط في ساحات الوغى، بل أيضا في ساحات العلم، سعوا لأن يثبتوا تفوقهم في جميع العلوم، وأن يكونوا خير أمة أخرجت للناس في علومهم وخدماتهم وثقافتهم وقوتهم المادية والمعنوية.
2- المثل الأعلى الكبير، فالاستخلاف يضع أمام الإنسان مفهوم رضا المستخِلف وهو الله سبحانه، فتصبح رغبة الإنسان المسلم والمجتمع المسلم متجهة نحو مثل أعلى كبير، وهذا ينقذها من البقاء في داخل إطار ذاتيتها الضيقة.
أكبر عائق أمام مسيرة الحضارة الإنسانية هو أن تتحول ذات الإنسان ورغباته الفردية إلى مثل أعلى، فيبقى الإنسان في إطار هذه الذات يعيش همومه اليومية، وفي مثل هذه الحالة تتحول حركته مهما كانت دائبة إلى مراوحة في المكان، دون أن يقطع خطوة على طريق التقدم الإنساني.
كل المجتمعات التي قطعت أشواطاً في مضمار الحضارة الإنسانية اتجهت إلى مثل أعلى خارج ذاتها، وقد يكون هذا المثل الاعلى محدوداً، فتتوقف الحركة بعد استنفاد طاقات هذا المثل الأعلى، لكن الحركة نحو المثل الاعلى المطلق وهو الله سبحانه لا تتوقف إلاّ إذا انكفأ الفرد أو الجماعة على الذات لأسباب تاريخية أو اجتماعية أو نفسية أو اتجهوا نحو مثل عليا سرابية تتعملق في طريقهم فتجعل منهم وهم العطشى إلى المثل الأعلى المطلق الحق يتجهون نحو السراب: (مثل الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده…)([2]).
3- التعارف ، الآية التي تتحدث عن تعارف المجموعات البشرية لها دلالات كبرى:
ــ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى، وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ، لِتَعَارَفُوا، اِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ.
الخطابُ للناس جميعًا يحمل دلالة عدم اختصاصه بجماعة دينية أو قومية معينة.
وخَلقُ البشر من ذكر وانثى.. للتعارف، له دلالة عدم تفوّق جنس على جنس، وضرورة أن يكون بين الجنسين تعارف بالمعنى الذي سنذكره. وهو تعارف بين مخلوقين يختلفان في كثير من الأمور،لكنه اختلاف يؤدي إلى الكمال حين يكون بينهما تعارف.
وجَعلُ البشر شعوبًا وقبائل إشارة أيضا إلى تعدّدية في الجنس البشري، واختلاف بينهم بسبب البيئة والمجتمع والتاريخ والعادات والتقاليد والأذواق.. لكنه اختلاف يؤدي أيضا إلى كمال إن كان بينهم تعارف.
ثم يأتي ذكر سبب هذا التنوع.. لتعارفوا. والتعارف ليس أن تعرف اسمى وأعرف اسمك.. إنه تبادل معرفي بين البشر.. وهذا التبادل المعرفي يؤدّي إلى إبداع ونماء وحركة كمال. ثم إنّ أكرم الناس عند الله أتقاه..
والتقوى كما يعرّفها المرحوم محمود شلتوت تلتقي مع هذا الفهم الحضاري للآية حيث يقول:
«أما تقوى اللّه تعالى، فهي ترفع في معناها العام إلى اتقاء الإنسان كل ما يضرّه في نفسه وفي جنسه، وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة والكمال الممكن في الدنيا والآخرة. والتقوى ليست خاصة بنوع من الطاعات، ولا بشيء من المظاهر، وإنما هي كما قلنا، اتقاء الإنسان كل ما يضرّه في نفسه وفي جنسه، وما يحول بينه وبين الكمال الممكن. ومن ثمرات التقوى حصول الفرقان: (ما يفرّق به المرء بين الخير والشرّ والضارّ والنافع في هذه الحياة) فالعلم الصحيح، والقوّة، والعمل النافع، والخُلُق الكريم، وما إلى ذلك هو من آثار التقوى، والتقوى هي الشجرة، والفرقان هو الثمرة» (شلتوت ــ تفسير القرآن الكريم/ 571) .
أعود إلى دور التعارف والإبداع فأقول: إن لنا في تاريخنا نماذج من تعارف أدّى إلى إبداع وازدهار. حدث ذلك منذ أن تشرفت إيران بالإسلام فانبثق عن ذلك في السنوات الأولى التي اعقبت الفتح تعارف بين الإيرانيين والعرب.. وانبثق على أثر ذلك إبداع علمي هائل في البصرة والكوفة، ثم ازدهر في بغداد، وانتشر هذا الازدهار في ربوع العالم الإسلامي من الأندلس غربًا حتى بلاد ماوراء النهر شرقًا.
وهنا أشير إلى مسائل ترتبط بثقافة التعارف. منها: ضرورة تعليم أبناء الأمة «أن يستمعوا». الاستماع أساس مهم للتعارف. وهل هو مفقود في عالمنا الإسلامي؟ نعم إلى حدّ كبير.
انظر إلى الحوارات التي تدور في الفضائيات، ليس فيها غالبًا استماع، بل كلا الطرفين يتكلمان!! يتكلّم الأول بلسانه، والثاني يتكلّم مع نفسه ليردّ على صاحبه.. الاثنان يتكلّمان.. ليس ثمة مستمع. وهذه الحالة سارية في تعاملنا على مستوى واسع. رغبتنا في الردّ والإفحام والإلجام والإسكات تفوق بكثير رغبتنا في الاستماع.
والسبب هو وجود طاغوت الذاتية في نفوسنا، لم نتجه إلى الله بل نتجه إلى طاغوت ذاتياتنا. الطاغوت يمنعنا من الاستماع، ويمنعنا بالتالي من انتخاب الطريق الصحيح. أمعن النظر في قوله تعالى:
ــ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا، وَأَنَابُوا إلى اللَّهِ ، لَهُمُ الْبُشْرَى ،
وماهي البشرى؟
ــ فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ.
والآية الكريمة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى تعليق في دلالتها على أهمية «الاستماع». والاستماع هو الشرط اللازم للتعارف.
وأشير أيضا في هذا المجال إلى ما تعانيه الأمة الإسلامية اليوم من حواجز وسدود تقف أمام هذا التعارف.
لقد كان عالمنا الإسلامي منذ أكثر من 12 قرنًا قرية صغيرة، يتم فيها التبادل المعرفي بين أرجائه رغم بدائية الاتصالات والمواصلات. واليوم ونحن في عصر مايسمى ثورة السرعة والاتصالات لا يعرف بعضنا بعضًا، بل ما يحمله بعضنا عن الآخر من معلومات مستند إلى ما يضخّه أعداء الأمة في أدمغتنا ونفوسنا. وهذا هو سبب تكريس الانفصال اليوم بين المذاهب والقوميات والشعوب والقبائل في عالمنا الإسلامي.
عدم قدرتنا على التواصل بسبب غياب ثقافة الاستماع، وقيام الحواجز والسدود، يحول دون تحقق «التعارف»، وبالتالي يحول دون الإبداع.
ولذلك فإن المهتمين بتفجير طاقات الإبداع في أمتنا ينبغي أن يعملوا على إحلال التعارف بين شعوب منظومتنا الإسلامية، على مستوى الشعوب والعلماء والمثقفين والفنانين والجامعيين والإعلاميين، لمواجهة تحدّي ضمور روح الإبداع في الأمة.
ونختم هذا المقال بما جاء في خاتمة مشروع الاستراتيجية الثقافية للعالم الإسلامي الذي أعدته الإيسسكو حيث يقول:
«والواقع أن كل هذه التحديات الداخلية والخارجية وما تحمله من انعكاسات تفرض إعادة النظر في الوضع الثقافي الإسلامي كله، وإعطائه الحركية والحيوية اللازمتين، وجعله في مستوى المعطيات العالمية المتطورة. وإذا أخذنا كل هذا في الاعتبار، فسندرك أننا لن نتجاوز أزمتنا ( أي أزمة الثقافة في العالم الإسلامي) إلا بمشروع إسلامي نهضوي شامل ذي أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية وتعليمية وثقافية، لا يتجاهل الاختلاف الثقافي مع الآخر، بل يعدُّه حافزًا إلى الإبداع والتجديد، يسعى إلى ترسيخ خيار الشورى والديمقراطية، وإعلاء شأن الإنسان وكرامته، ويصون حقوقه، ويتعامل مع تيارات الحضارة العالمية بأفق رحب يتجاوز الانغلاق على الذات،ويستند أساساً إلى القدرة على نقد الذات، وإعادة إنتاج المعرفة من قلب التعامل مع حقائق العصر، والحد من الآثار السلبية للعولمة وحسن توظيف التقنيات الحديثة للمعلومات، والاستفادة من خدمة الأنترنيت، ودعم الحوار واحترام التنوع الثقافي».
من مظاهر الركود الحضاري
1_ المحافظة على الوضع القائم، وهذه حالة نفسية تصيب كلّ المجتمعات الساكنة، لأنها تفقد الرؤية المستقبلية، فتحاول أن تتشبث بالوضع القائم ظناً منها أنه يبلور كل عزّتها وكرامتها.. )إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون( ، والفكر الديني المصدوم بهذه الوقفة الحضارية يبّرر هذه الاوضاع القائمة، ويحوّلها إلى دين ويجعل منها خطوطاً حمراء لا يمكن تجاوزها، ومقدّسات لا يمكن التعرّض اليها ومناقشتها([3]).
2- قد تنبثق في هذا الجوّ المتخلّف حركة تريدُ إصلاح الواقع، لكنّ القليل من هذه الحركات تستطيع أن تشدّ نظرها إلى المستقبل، فتَركة هذه الحالة المتخلّفة تترك أثرها حتى على كثير من الإصلاحيين، فينهضون وأجفائهم - كما يقول مالك بن نبي - مثقلة بنوم عميق، فيبحثون عن مناهج الماضين في الإصلاح دون التفكير بالحاضر والمستقبل، وباسم الإصلاح والسلفية والعودة إلى نقاء عصر الرسالة الاول يكفّرون هذا وذاك، ويقدّمون وصفات للعلاج تزيد في الطين بلّة، وتعقّد ظاهرة التخلف، وتفوّت الفرصة على دعاة الإصلاح الحقيقيين.
3- في ظروف التخلّف الحضاري تضمر روح الحياة في المجتمع فتصبح أعضاؤه غير مترابطة عضوياً، لأن الترابط العضوي إنّما يكون في الجسد الحيّ الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى.
من هنا تسود حالة التمزّق في مجتمعات السكون الحضاري، ويسود الصراع العشائري، متخذاً صفة الطائفية تارة أو صفة الاقليمية أو القوميّة.. أو أي اسم آخر، المهم أن يكون هناك تمزّق يؤدي إلى حالة قهرية من الصراع والتراشق والقطيعة([4]).
4- ولعلّ أهم مايميّز المجتمعات الراكدة حضارياً - فيما يرتبط بموضوعنا - هو موقفها من التيارات الوافدة عليه من الخارج، وهو موقف يتراوح بين الإفراط والتفريط. إما أن يكون الموقف هو الرفض الكامل لكل هذه التيارات جملة باعتبارها تتعارض مع الأسس القائمة في المجتمع، وإما الانبهار بهذه لتيارات والشعور بالهزيمة تجاهها، والدعوة إلى الأخذ بها جملة باعتبارها الوسيلة الوحيدة للسير في ركب الحضارة!([5]).
من مظاهر المجتمعات المتحركة حضارياً
وفي مقابل المظاهر التي ذكرناها للمجتمعات الساكنة فإن الامر يتخذ في المجتمعات المتحضرة
شكلاً آخر.
1- المجتمعات الحيّة تفكّر بحاضرها ومستقبلها دائماً، ولا تنظر إلى الأمر بأنه ليس بالامكان أحسن مما كان، بل ترى أن الحركة التكاملية نحو الله لانهاية لها، وهذه الحركة ليست جغرافية مكانية، بل هي حركة في جوهر الإنسان نحو كل صفات الله من عزّة وكرامة وقوة وعلم وجمال ورحمة، وترفض السكون وتتحرك باستمرار أفقياً لاكتشاف المجاهيل على ظهر الأرض، وتتحرك عمودياً لتتعمق في ماوراء الظواهر الطبيعية والفكرية.
2- الإصلاح في مثل هذه المجتمعات يتجه نحو إزالة الموانع عن طريق حركة المجتمع سواء اتخذت هذه الموانع صفة السلطة السياسية أو السلطة الدينية، وبذلك ينفتح الطريق أمام استمرار مسيرة البشرية نحو تحقيق أهدافها المنشودة. وأهمّ قاسم مشترك بين الإصلاحيين الحقيقيين هو إعادة روح «العزّة» التي فقدها الافراد في ظروف معينة إلى المجتمع، ممهّدين بذلك لاستمرار المسيرة الحضارية([6]).
3- في المجتمعات الحيّة يسود الترابط العضوي بين الاعضاء وهذه ظاهرة كانت على أشدّها في أيام ازدهار مجموعتنا الحضارية الإسلامية، فالخراسانيون يهبّون لنصرة الحلبيين حين يداهمهم خطر، والمغاربة ينهضون لنصرة الاندلسيين، والعلماء الخراسانيون مرتبطون بمختلف تخصصاتهم بعلماء بغداد والشام والمغرب والاندلس. والشاعر ينشد قصائده في القاهرة فتصل في نفس الأيام إلى بلاد فارس، فتتداولها الألسنة، وتكتب الشروح والنقود. ومع عدم وجود حتى الحد الأدنى من وسائل الارتباط القائمة اليوم كان العالم الإسلامي يشكل بمجموعته الحضارية من أقصاه إلى أقصاه قرية كونية مترابطة فكرياً وعلمياً وعاطفياً وإنسانياً([7]).
وهذا لا يعني انعدام التعدديات المذهبية والفكرية والعلمية، لكنها كانت تعدديات متعاونة ومتعاضدة، يعترف كل منها بفضل الآخر، ويتتلمذ كل منها على الآخر، وتجلس جميعها في مجالس حوار علمي هادئ بنّاء رغم مابينها من اختلاف([8]).
4- أما الموقف من الآخر، فيقوم على قاعدة: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه). الموقف هنا فاعل لا منفعل، يأخذ من الوافد مايراه صحيحاً فيهضمه في وجوده ويتمثّله في منظومته فيزداد قوة، دون أن يؤثر ذلك على هويته وشخصيته المستقلة. لقد انفتح العالم الإسلامي في نهضته على اليونان والفرس والهنود فأخذ من خزائنهم مازاده قوة على قوته، وأخذ الاوربيون في نهضتهم من المسلمين مايعترف به كل الباحثين.
* * *
بعد أن أشرنا إلى أن مفهوم الاستخلاف يستبطن حركة حضارية، وهذه الحركة الحضارية تحل جميع الاشكاليات القائمة في المجتمعات الراكدة الساكنة بما في ذلك إشكالية مايظهر من تناقض بين المحافظة على الثوابت وبين الانفتاح على الآخر، أقول إنه من الواضح أننا نعيش ركوداً حضارياً، وهذا الركود الحضاري هو أساس هذه المواقف المختلفة في عالمنا الإسلامي من الآخر.
وأشير هنا أيضا إلى ثلاثة مواقف في هذا المجال، هي موقف من يسمون بالاصوليين، وموقف من يسمون بالحداثيين، وموقف التجديديين.
الاصوليون
مفهوم الاصولية - إذا كان يعني العودة إلى الاصول التي اعتمد عليها المسلمون في عصر الرسالة الأول في حياتهم الفردية والاجتماعية - فذلك مما لا يجوز أن يرفضه مسلم مؤمن بكتاب الله وسنّة رسوله. وهذه الأصول هي التي أحيتهم وحركتهم على جميع ساحات الهدم والبناء، وجعلت منهم روّاد العلم والمعرفة والتحرير وعزّة الإنسان وكرامته.
لكنّ الاصولية في عالمنا الإسلامي المعاصر قدّمت بعض أطيافها صورة متعصّبة غير صحيحة عن لاسلام ألخصها نقلا عن واحد من أشهر دعاة الإسلام المعاصرين وهو الشيخ محمد الغزالي:
1ـ النظرة التقديسية لنظام الخلافة، حتى ولو أدّى ذلك إلى تأييد الاستبداد السياسي في تاريخنا الإسلامي وهذا مارفضه الشيخ الغزالي إذ يقول:
«قلت لصديقي يحدثني عن التاريخ الإسلامي: إسمع يا أخي إن الامويين والعباسيين والعثمانيين لم يقدّموا لنا صورة صادقة للخلافة الإسلامية، وتتفاوت نسبة الدمامة في الصورة التي قدموها تفاوتاً يسيراً!..»([9]).
2- تضخيم الخلافات المذهبية، ونسيان مساحات الاتفاق، وهذا أدّى إلى ظهور انحرافات في سلوك بعض الجماعات والافراد أوشك أن يضيّع الهدف الذي جاء من أجله الإسلام يقول الشيخ الغزالي:
«إن المتفق عليه كثير جداً، وإن التشبث به وحده كاف للنجاة.. ولكن جماهير من الدهماء والاذكياء شغلتها للاسف الخلافات العارضة، ولم تحسن استثمار ما انعقد عليه الاجماع، وكادت تضيع الإسلام ذاته بهذا العوج الفكري..»([10]).
3- التشبث بالنصوص لإثبات العقيدة، وهذه مسألة جرّت الويلات على المسلمين، ولاتزال تؤدي دورها المخرّب، فحين انحسرت موجة الاعتزال العقلية عن العالم الإسلامي راح المنظّرون يقدّمون العقيدة للمسلمين عن طريق الأخبار الظنية، ومنها أخبار الآحاد، «وقد كان لذلك أثر رديء في مسالك الافراد والجماعات وخصوصا العوام وأشباههم»([11]).
ويرى الشيخ الغزالي: «إن هذه المرويّات (في مجال العقيدة) حبر على ورق عند رجال الإسلام مع ورودها في كتب السنن»([12]).
4- عدم الانفتاح على الآخر، وهو ناتج عن تعصّب يرى صاحبه أنه وحده على حق والآخر على باطل. ويرى الشيخ الغزالي أن هذه الحالة لم تكن قائمة بين الفقهاء المجتهدين على مرّ العصور فهم، وإن اختلفت آراؤهم، يحترم بعضهم بعضاً، ويحترم حريته في مخالفته، وقد رأينا مالك بن أنس يرفض حمل الناس على مذهبه في كتاب الموطّأ، ويقول: إن أصحاب رسول الله(ص) تفرّقوا في الامصار وقد يكون لديهم مافاته..»([13]).
5- الانشغال عن عظائم الامور، وهذه حالة واضحة في طيف المتعصبين. يقول عنها الغزالي: «ولم أر أناساً حبستهم الجزئيات وغلبتهم على رشدهم مثل صرعى التعصّب المذهبي عندنا…».
ثم يورد الشيخ الغزالي أمثلة من أولئك الذين نسوا مسؤولياتهم في الحياة وانشغلوا بالصغائر منها قوله: «سألني صيدلي عن حكم من أدرك الامام راكعاً ولم يقرأ الفاتحة، أتسقط الركعة عنه أم يعيدها؟
قلت: الجمهور على سقوط الركعة عنه، وهناك من يرى قضاءها، فاختر لنفسك مايحلو.
قال: أعرف ذلك، ولكن أريد مناقشة من يرى عدم قضاء الركعة!
قلت له: ماجدوى ذلك عليك، ولماذا تتكلف ما لا تحسن وتترك ما تحسن؟ قال: ما معنى ماتقول: قلت: إنك صيدلي، وجميع الأدوية في دكانك من صنع الصهيونيين أو الصليبيين أو الشيوعيين، فاذا تركت أنت وزملاؤك هذا الميدان، ميدان صناعة الدواء، واشتغلت باللغو، أفتحسب ذلك يرفعك عندالله وعندالناس؟ إنك للأسف تسهم في سقوط الامة وتجعلها غير جديرة بالحياة.
قال: إنني أبحث في حكم شرعي ولا أشتغل باللهو.
قلت: الحكم الشرعي كما قرره أهل الذكر بين أمرين، خذ منهما ماشئت، ولا يجوز أن تحوّل الموضوع إلى لُبان يمضغه الفارغون. إن كل مايصرفك عن ميدان الدواء هوفي حقيقته عبث أو عيب أو ذنب تؤاخذ به.
أما أن تؤلف رابطة عنوانها: «جماعة من يقضون الركعة إذا لم تقرأ الفاتحة» فهذا سخف. ما قيمة هذا الرأي أو ذاك حتى يُحشّى به عقول الناس»؟([14]).
الحداثيون:
الحداثة أيضا إذا كانت تعني ماقاله «كانت» في كتابه «ما الانوار»: هي تحرير العقل من الوصاية التاريخية التي فرضت عليه من الخارج، وأن شرط الحداثة هو الحريّة، وأهمّها حريّة العقل وحرية التفكير، كي يستطيع الإنسان أن يبني نهضته نحو الحضارة والحرية والمدنية والحداثة، فهي من صميم ماجاء به الإسلام. لأن جوهر دعوة الإسلام يقوم على نظرية الاستخلاف التي تستبطن كما قلنا عزّة الإنسان وكرامته، ولاعزّة ولا كرامة بدون حرية العقل وحرية التفكير.. وهي ظاهرة كانت مشهودة تماما في عصر ازدهارنا الحضاري([15]).
أما الحداثيون في عالمنا الإسلامي اليوم فيتخذون مظاهر عديدة يجمعها الإصرار على القطيعة مع الدين ذلك لأن الغرب لم يدخل عصر التنوير إلاّ بهذه القطيعة. يقول أحدهم: «إنه بعدما كان المسيحي حريصاً على طاعة الله وكتابه، لم يعد الإنسان يخضع إلاّ لعقله.. فأيديولوجية التنوير قد أقامت القطيعة الابستمولوجية (المعرفية) الكبرى، التي تفصل بين عصرين من الروح البشرية: عصر الخلاصة اللاهوتية للقديس توما الاكويني (1225 - 1274) وعصر الموسوعة لفلاسفة التنوير .. فمنذ الآن فصاعداً راح الأمل بمملكة الله ينزاح لكي يخلي المكان لتقدم عصر العقل وهيمنته..» .
وعلى طريق هذه القطيعة تعرّض كل مقدّس ديني لدى الحداثيين للتشكيك: ([16]).
1_ الذات الإلهية أصبحت عندهم هي «الأرض والخبز والحرية والعدل والعتاد والعدة وصرخات الألم وصيحات الفرح… والتوحيد ليس توحيد الذات الالهية كما هو الحال في علم الكلام الموروث، وإنما هو وحدة البشرية، ووحدة التاريخ، ووحدة الحقيقة، ووحدة الإنسان، ووحدة الجماعة، ووحدة الاسرة…».
2- الانبياء هم ظواهر إنسانية وثمرة لقوة «المخيلة» الإنسانية، وليس فيها إعجاز ولا مفارقة للواقع وقوانينه. فالأنبياء مثل الشعراء والمتصوفة مع فارق في درجة المخيلة.
3- القرآن خطاب تاريخي لا يتضمن معنى مفارقاً جوهرياً ثابتاً، وليس ثمة عناصر جوهرية ثابتة في النصوص. فالقرآن تحول من لحظة نزوله من كونه (نصاً إلهياً) وصار فهماً (نصا إنسانياً) لانه تحول من التنزيل إلى التأويل.
4- واللغة العربية هي لغة ميتة ودخيلة في رأي الحداثيين العرب وغير العرب.
5- والتاريخ يجب أن تكون المحورية فيه لتاريخ أوربا وأبطال أوربا، ولابدّ من تزيين الساحات العربية بتماثيل الاسكندر الاكبر (356 - 324 ق.م).
وأمثال هذه الأقاويل التي يجمعها عنوان الهزيمة النفسية أمام الغرب الغالب.
وقفة عند المتعصبين والحداثيين
ذكرنا أن المشكلة الاساسية في عالمنا الإسلامي هي غياب مفهوم «الاستخلاف» ويستبطن ذلك غياب مفهوم العزّة والمثل الأعلى الكبير، ويستبطن كذلك استفحال الذاتيات.
هذه الذاتيات تتخذ مظاهر عديدة. فهي في المجال السياسي تظهر عندنا في التهافت على الكراسي والمناصب مهما كلّف الثمن. وتظهر في المجال الفكري بالتشبث بالفكر الصدامي المتعارض مع سنن الحياة والفطرة سواء المتعصب منها المتنكر لسنة التطور، أو الحداثي الرافض لثوابت الكون والإنسان.
الشيخ الغزالي عند حديثه عن المتعصبين لا يفوته أن يشير إلى الحالة المرضية النفسية لهذا التعصب، وأنه ناتج عن الذاتية والانانية يقول:
«والاغترار بالنفس أو الدوران حول الذات لايبدو في طلب الرئاسة بالاساليب القذرة وحسب، كلا، إنه يبدو في تنقّص رجل معروف، أو اعتناق رأي شاذ، أو المكابرة في حوار، أو ماشابه ذلك من مواقف لأناس يعملون في الميدان الديني أو الميدان المدني على السواء…»([17]).
هذه إشارة هامة إلى دور الذاتية في المواقف المتطرفة، سواء كانت رافضة للواقع والمستقبل باسم الاصولية أو رافضة للماضي باسم الحداثة.
التجديديون
التجديد كان قائماً على مرّ التاريخ الإسلامي، خاصة في عصر الحركة الحضارية، نرى ذلك التجديد في الفقه والاصول والتفسير والحياة الادبية والسياسية والاجتماعية. الاجتهاد، وشيوع حديث ظهور المجددين على رأس كل قرن، من مظاهر هذا التجديد المستمر.
وكان من المفروض في عصر الركود الحضاري أن لا تظهر في العالم الإسلامي مشاريع تجديدية، غير أنّ الإسلام بما فيه من طاقات ذاتية يأبى على أتباعه الخضوع للوضع القائم، ويثير فيهم الهمة للإصلاح والتجديد، من هنا نرى قائمة المجددين في عصرنا غنية بالأسماء والمشاريع النظرية والعملية.
لقد كان على رأس المجددين في عصرنا السيد جمال الدين الاسد آبادي المعروف بالافغاني، وقد قدّم هو وتلميذه، محمد عبده مشروعاً للتجديد، خير من درسه الاستاذ محمدعماره ألخّصه فيما يلي: ([18]).
1_ نقد ورفض الجمود والتقليد: سواء أكان هذا التقليد للسلف وجموداً على تراثهم، أم تقليد الغرب والجمود على الثقافة الحداثية للتغريب.
2- التجديد الذي يؤدي إلى تحرير الفكر من القيود ، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارف الدين إلى ينابيعها الأولى، واعتبار الدين من ضمن موازين العقل البشري، وإصلاح أساليب اللغة العربية، والتمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب، وما للشعب من حق العدالة على الحكومة.
3- الإصلاح بالإسلام، لا بالمشاريع الغربية على البيئة الإسلامية.
4- الوسطية الإسلامية التي برئت من الغلو والاغراق في المادية، أو في الروحانية.
5- العقلانية المؤمنة التي تجمع بين العقل والنقل.
6- الوعي بسنن الله الكونية التي تحكم عوالم المخلوقات، وجعل هذه السنن علماً من العلوم المدونة.
7- الدولة في الإسلام مدنية - اسلامية، لا كهنوتية ولا علمانية .
8- الشورى، أي مشاركة الأمة في صنع القرارات.
9- العدالة الاجتماعية التي تحقق التكافل الاجتماعي بين الأمة كلها.
10- إنصاف المرأة لتشارك الرجل في القيام بفرائض وتكاليف العمل العام.
ثم من مشاريع التجديد الحديثة مشروع حسن البنا قدمه تحت عنوان: «أصول للمّ الشمل بين المسلمين» قدّمه في عشرين أصلاً وأضاف اليه الشيخ محمد الغزالي عشرة أصول.
أصول الامام حسن البنّا
للمّ شمل المسلمين
الأصل الأول: الإسلام نظام شامل يتناول مظاهر الحياة جميعاً، فهو دولة ووطن، أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة ورحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة، أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة سواء بسواء..!!
الأصل الثاني: القرآن الكريم والسنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرّف أحكام الإسلام، ويفهم القرآن طبقاً لقواعد اللغة العربية من غير تكلّف ولا تعسّف، ويرجع في فهم السنة إلى رجال الحديث الثقاة.
الأصل الثالث: للايمان الصادق، والعبادة الصحيحة والمجاهدة، نور وحلاوة يقذفها الله في قلب من يشاء من عباده، ولكن الالهام والخواطر والكشف والرؤى، ليست من أدلة الأحكام الشرعية.. ولا تعتبر الا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه.
الأصل الرابع: التمائم والرقى والودع والرمل والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب - المستقبل - وكل ما كان من هذا الباب منكر تجب محاربته .. الاّ ما كان آية من قرآن أو رقية مأثورة.
الأصل الخامس: رأي الإمام ونائبه فيما لا نصّ فيه، وفيما يحتمل وجوهاً عدة، وفي المصالح المرسلة، معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعُرف والعادات، والأصل في العبادات التعبّد دون الالتفات إلى المعاني، وفي المعاملات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد.
الأصل السادس: كل أحد يؤخذ من كلامه ويُترك إلاّ المعصوم - صلّى الله عليه وسلّم - وكل ما جاء عن السلف رضوان الله عليهم موافقاً للكتاب والسنّة قبلناه ، وإلاّ فكتاب الله وسنّة رسوله أولى بالاتباع. ولكننا لا نعرض للاشخاص فيما اختلفوا فيه بطعن أو تجريح، ونكلهم إلى نياتهم، وقد أفضوا إلى ماقدموا».
الأصل السابع: لكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماماً من أئمة الدين ، ويحسن به مع هذا الاتـّباع أن يجتهد ما استطاع في تعرّف أدلة إمامه، وأن يتقبل كلّ إرشاد مصحوب بالدليل متى صحّ عنده صدق من أرشده وكفايته، وأن يستكمل نقصه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر.
الأصل الثامن: الخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سبباً في التفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة أو بغضاء، ولكل مجتهد أجره، ولا مانع من التحقيق النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحبّ في الله، والتعاون على الوصول إلى الحقيقة، من غير أن يجرّ ذلك إلى المراء المذموم أو التعصّب.
الأصل التاسع: كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه شرعاً، ومن ذلك كثرة التفريعات للأحكام التي لم تقع، والخوض في المعاني القرآنية التي لم يصل اليها العلم بعد، والكلام في المفاضلة بين الاصحاب رضوان الله عليهم، وما جرى بينهم من خلاف، ولكلّ منهم فضل صحبته، وجزاء نيته، وفي التأويل مندوحة.
الأصل العاشر: معرفة الله تبارك وتعالى وتوحيده. وتنزيهه أسمى عقائد الإسلام. وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة، وما يلحق بذلك من المتشابه، نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل، ولا نتعرض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء، ويسعنا ما وسع رسول الله وأصحابه (والراسخون في العلم يقولون آمنـّا به كلّ من عند ربّنا).
الأصل الحادي عشر: كل بدعة في دين الله لا أصل لها: استحسنها الناس بأهوائهم - سواء بالزيادة فيه أو النقص منه - ضلالة تجب محاربتها والقضاء عليها بأفضل الوسائل التي لا تؤدي إلى ما هو شرّ منها.
الأصل الثاني عشر: البدعة الاضافية والتركية والالتزام بهما في العبادات المطلقة، خلاف فقهي لكل فيه رأيه، ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان.
الأصل الثالث عشر: محبةُ الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عرف من طيب عملهم قربـةٌ إلى الله تبارك وتعالى. والاولياء هم المذكورون في قوله سبحانه (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (يونس:63) والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية مع اعتقاد أنهم رضوان الله عليهم لا يملكون لانفسهم نفعاً ولا ضراً، في حياتهم أو بعد مماتهم، فضلاً عن أن يهبوا شيئاً من ذلك لغيرهم.
الأصل الرابع عشر: زيارة القبور أياً كانت سنّة، وهي مشروعة بالكيفية المأثورة. ولكن الاستعانة بالمقبورين - أياً كانوا - ونداءهم لذلك، وطلب قضاء الحاجات منهم عن قرب أو بعد، والنذر لهم، وتشييد القبور، وسترها، وإضاءتها، والتمسح بها، والحلف بغير الله، وما يلحق ذلك من المبتدعات كبائر تجب محاربتها، ولا نتأول لهذه الأعمال سداً للذريعة.
الأصل الخامس عشر: الدعاء إذا قُرن بالتوسل إلى الله بأحد خلقه موضع خلاف فرعي في كيفية الدعاء، وليس من مسائل العقيدة.
الأصل السادس عشر: العرف الخاطئ لا يغيّر حقائق الألفاظ الشرعية، بل يجب التأكد من حدود المعاني المقصود بها اللفظ والوقوف عندها، كما يجب الاحتراز من الخداع اللفظي في كل نواحي الدنيا والدين، فالعبرة بالمسميات لا بالاسماء.
الأصل السابع عشر: العقيدة أساس العمل، وعمل القلب أهم من عمل الجارحة، وتحصيل الكمال في كليهما مطلوب شرعاً، وإن اختلفت مرتبتا الطلبه.
الأصل الثامن عشر: الإسلام يحرر العقل، ويحثّ على النظر في الكون، ويرفع قدر العلم والعلماء، ويرحّب بالصالح والنافع من كل شيء «والحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحقّ الناس بها».
الأصل التاسع عشر: قد يتناول كل من النظر الشرعي والنظر العقلي ما يدخل في دائرة الآخر، ولكنهما لن يختلفا في القطعي، فلن تصطدم حقيقة صحيحة بقاعدة شرعية ثابتة، ويؤول الظني منهما ليتفق مع القطعي، فان كانا ظنيين فالنظر الشرعي أولى بالاتباع حتى يثبت العقلي أو ينهار.
الأصل العشرون: لا نكفّر مسلماً أقرّ بالشهادتين. وعمل بمقتضاهما ، وأدّى الفرائض برأي أو بمعصية إلا إن أقرّ بكلمة الكفر، أو أنكر معلوماً بالضرورة، أو كذب صريح القرآن، أو فسّره على وجه لا تحتمل تأويله الاّ الكفر.
الاصول العشرة الاضافية المقترحة من قِبل الشيخ محمد الغزالي([19]).
1ـ النساء شقائق الرجال، وطلب العلم فريضة على الجنسين كليهما، وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وللنساء في حدود الآداب الإسلاميّة - حق المشاركة في بناء المجتمع وحمايته.
2- الاسرة أساس الكيان الخلقي والاجتماعي للأمة، والمحضن الطبيعي للأجيال الناشئة، وعلى الآباء والامهات واجبات مشتركة لتهيئة الجوّ الصالح بينهما. والرجل هو ربّ الأسرة ومسؤوليته محدودة بما شرّع الله لأفرادها جميعا.
3- للانسان حقوق مادية وأدبية تناسب تكريم الله له، ومنزلته الرفيعة على ظهر الأرض، وقد شرح الإسلام هذه الحقوق ودعا إلى احترامها.
4- الحكام - ملوكاً كانوا أم رؤساء - أجراء لدى شعوبهم، يرعون مصالحها الدينية والدنيوية، ووجودهم مستمد من هذه الرعاية المفروضة ، ومن رضا السواد الأعظم بها، وليس لأحد أن يفرض نفسه على الأمة كرها، أو يسوس أمورها استبداداً.
5- الشورى أساس الحكم، ولكل شعب أن يختار أسلوب تحقيقها، وأشرف الأساليب ما تمحّض لله، وابتعد عن الرياء والمكاثرة والغشّ وحبّ الدنيا.
6- الملكية الخاصة مصونة بشروطها وحقوقها التي قررها الإسلام، والأمة جسد واحد لا يُهمل منه عضو، ولا تـُزدرى فيه طائفة، والأخوّة العامة هي القانون الذي ينتظم الجماعة كلّها فرداً فرداً، وتخضع له شؤونها المادية والأدبية.
7- أسرة الدول الإسلاميّة مسؤولة عن الدعوة الإسلامية، وذود المفتريات عنها، ودفع الأذى عن أتباعها حيث كانوا، وعليها أن تبذل الجهود لإحياء الخلافة في الشكل اللائق بمكانتها الدينية.
8- اختلاف الدين ليس مصدر خصومة واستعداء، وإنـّما تنشب الحروب إذا وقع عدوان أو حدثت فتنة أو ظلمت فئات من الناس.
9- علاقة المسلمين بالأسرة الدولية تحكمها مواثيق الإخاء الإنساني المجرد، والمسلمون دعاة لدينهم بالحجة والإقناع فحسب، ولا يضمرون شراً لعباد الله.
10- يسهم المسلمون مع الامم الاخرى - على اختلاف مذاهبها - في كل ما يرقى مادياً ومعنوياً بالجنس البشري، وذلك من منطلق الفطرة الإنسانية والقيم التي توارثوها عن كبير الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام.
وفي اعتقادي أن المشروع الإحيائي الذي ظهر مع التحوّل الإسلامي في ايران يعتبر من المشاريع النظرية والعملية التي غابت عن دراسة الدارسين بسبب الظروف السياسية الدولية والاقليمية الضاغطة ويستحق دراسة موضوعية بكل ايجابياته وسلبياته.
ومع كل هذه المشاريع التجديدية تبقى مظاهر الابتلاء باتجاهات الجمود والتخلف الفكري والجهل والتعصب حتى تحين الفرصة للمسلمين كي يستعيدوا دورهم الحضاري على الساحة التاريخية، عندئذ تأخذ الثوابت مكانها المناسب ويتجه الجانب المتطوّر نحو تكامل الامة في جميع مجالاتها الحياتية.
الهوامش:
([1]). فوكوياما، فرانسيس، نهاية التاريخ والإنسان الاخير، الترجمة العربية، ص 28، مركز الانماء القومي، بيروت 1993.
([2]). انظر نظرية «المثل الاعلى» ودوره في حركة التاريخ، كتاب محاضرات في التفسير الموضوعي، محمد باقر الصدر.
([3]). يرى الشهيد مطهّري أن المجتمعات الراكدة حضاريا تميل إلى احترام الساكن، ويمثّل لذلك بالقطار الذي يجتمع حوله الاطفال في محطة القطار، فينظرون اليه باحترام وهو ساكن، حتى إذا تحرّك رشقوه بالحجارة (انظر: مرتضى مطهّري، إحياء الفكر في الإسلام ، ترجمة آذرشب). ولعل تقدس عامة الناس للعلماء الجامدين يحكي هذه الحالة أيضا.
([4]). انظر العلاقة بين الركود الحضاري، وحالة التوقف عن الابداع والفرقة النفسية والتحزب الطائفي، مقال الدكتور حسن حنفي، المشروع الحضاري الجديد، مجلة الوحدة، الرباط، العدد 105، ص 10، مارس 1994.
([5]). انظر: يوسف القرضاوي، الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط، القاهر، دار التوزيع والنشر، صفحات 73 و74 و46.
([6]). لغة الإصلاحيين الحقيقيين تختلف لكنها تجتمع عند حقيقة واحدة هي استعادة العزّة للانسان، حين تتظافر الظروف السياسية او الاجتماعية أو الاقتصادية لإذلاله. واستعادة العزّة يعني استعادة الحياة واستعادة الحركة الحضارية.
([7]). كان المتبني ينشد أشعاره في القاهرة والشام وبغداد فتصل في زمانه إلى فارس، فيكتب عليها الصاحب بن عباد نقداً، وتدور حولها ضجّة أدبية (المتنبي في ايران، فصل من كتاب: العلاقات الثقافية الايرانية العربية، الدكتور محمد علي آذرشب، دمشق، 2001 ، ص 109 ومابعدها).
([8]). انظر على سبيل المثال مجالس البرامكة، ومنهم يحيى بن خالد الذي كان يجتمع في مجلسه الإمامي والخارجي والمعتزلي و.. فيتباحثون في مختلف المسائل الكلامية (مروج الذهب، المسعودي، ج 3، ص 370 ومابعدها، ط 2، قم، دار الهجرة 1984م).
([9]). دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، دار الشروق ، القاهرة، ط 1، 1997م. ص 10 - 11.
([10]). دستور الوحدة الثقافية، ص 43 - 47.
([11]). دستور الوحدة الثقافية، ص 53.
([12]). دستور الوحدة الثقافية، ص 58.
([13]). دستور الوحدة الثقبافية، ص 67 - 72.
([14]). دستور الوحدة الثقافية، ص 77 - 79.
([15]). انظر عبدالحميد أبو سليمان، أزمة العقل المسلم، الدار العالمية للكتاب الإسلامي، الرياض ط 1990، ص 15.
([16]). انظر إميل بولا: الحرية، العلمة، منشورات سيرف ، باريس، 1987؛ ونصر حامد ابوزيد: مفهوم النص، ط القاهرة 1990م؛ وعبدالمعطي حجازي في الاحرام بتاريخ 11/10/200، وأخبار الكتاب، العدد 37 سبتمبر 2000، نقلاً عن الدكتور محمد عمارة، مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية، مجلة ثقافتنا، العدد 5، 2005م .
([17]). دستور الوحدة الثقافية، ص 141 .
([18]). ملخص من مقال الدكتور عمارة، مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية (مقال مذكور) ص 47 - 54.
([19]). دستور الوحدة الثقافية ، ص 185-186.
ارسال نظر