العولمة.. الجذور، المفهوم والأهداف
علاء الرضائي
بسم الله الرحمن الرحيم
الرأسمالية تطور نفسها
كان لأنتشار المسيحية في شرق وغرب أوروبا تأثيراً كبيراً في تنظيم الحياة العامة هناك، فقد استطاعت هذه الديانة احلال نوع من الاستقرار الاجتماعي والسياسي، فأصبحت الشعوب الاوروبية على نسق شعوري وذهني واحد من حيث المعتقد، اضافة إلى تسويغ علاقتها بالاباطرة الذين كانوا يحكمون آنذاك. فمنحتهم شرعية الحكم والفتح على أساس انهم يمثلون اليد الضاربة للدين المسيحي، وانهم المباركون من قبل الرب، وقد كان لهذا التزاوج الدنيوي ـ الاخروي تبعات كثيرة على جانبي المعادلة والتي كانت نتائجها قرون من القهر والاستبداد والخمود، وهو ماعرف بالعصر الوسيط.
وقد لعـب في فلسفة هذا الوضع مفكرون مسيحيون كبـار مثل القديس اغوسـطين (Saint Augustine) صاحب كتاب مدينة الله (The City of God) الذي يشرح فيه الحكومات الدنيوية على أساس انها تحكم مدينة الشيطان، التي منها تتشكل نواة " مدينة الله "، لذلك فالحكومة التي تتشـكل في مدينة الشيطان ومن أجل ان تقلل من سؤها لا بدّ ان تستلهم تشريعاتها من الكنيسة، لأن مدينة الله ليـس لها وجود في هذا العالم، ألم يقل المسيج: " سلطتي في العالم الآخر "([1]).
وبهذا الشكل نشاهد ان السلطة اصبح لها شقان متآلفان، هما السلطة الدنيوية والسلطة الدينية المتمثلة بالكنيسة. وعلى هذا الأمر المؤرخ المعروف ول دورانت، فيقول:
" استطاعت الكنيسة التي كانت خلال القرون الاولى مدعومة من قبل الاباطرة إلى استلام زمام السلطة من ايديهم ـ الاباطرة ـ، فازداد عدد الكنائس وحجم ثروتها ونفوذها. فحتى القرن الميلادي الثالث اصبحت ثلث اراضي اوروبا بيد الكنيسة، وامتلاءت صناديقها من اموال الصدقات التي كان الاغنياء والفقراء يدفعونها على حد سواء. وعلى مدى الف سنة اتحدت الشعوب الاوروبية بسبب الايمان الثابت الذي لقنته لهم الكنيسة. ولم يشهد التاريخ قبل ذلك ولا بعده مثل هذه المنظومة الواسعة والهادئة. لكن الكنيسة كانت تعلم ان مثل هذه الوحدة تستلزم ايماناً مشتركاً يستلهم من قوى ميتافيزيقية خارجة عن تغييرات الزمن ومرور الايام، لهذا طغت على الفكر الاوروبي الفتي في القرون الوسطى اصول ومبادئ ثابتة وحاسمة وصريحة. وتحت ستار هذا الغطاء كانت الفلسفة المدرسية تتراوح بين العقل والايمان، وتغرق في فروضات خاطئة غير قابلة للنقد وفي نتائج مقدمة على الاستدلال. وفي القرن الثالث عشر هزت الترجمات العربية وكتب ارسطو اوروبا بشدة، لكن الكنيسة استطاعت الاحتفاظ بأمنها وهدوءها في ظل القديس توماس اكونياس وآخرون "([2]).
فبعد اغوسطين القديس يأتي دور اللاهوتي المسيحي توماس اكونياس، المعروف بالقديس اكونياس (Saint Thomas Aquinas) الذي سعى من خلال سعة اطلاعه على التراث اليوناني الفلسفي ـ حسب اكونياس ـ ان العقل يعجز عن فهم الكثير من القضايا الايمانية، لكن ما يصل إليه العقل يصدقه الايمان، لأنه الحقيقة. ثم من خلال هذه الفلسفة يطرح نظريتين، الاولى في تقييد السلطة من خلال القانون وكسب رضا الناس، والأُخرى في تقييد الحكومة من خلال نوع من " العقد " بين الحاكم والشعب، وهنا نشاهد جذور نظرية العقد التي قال بها روسو (J.J. Rousseau) فيما بعد، وشيء من الديمقراطية المهنية([3]).
فبعد قرون من الزمن حيث كان الفكر والعقل حبيس المعتقدات الكنسية، بدأ من خلال اكونياس القديس ظهور دور العقل إلى جانب الايمان الديني.
وقد تزامن هـذا التفكير مع نهاية الحروب الصليبية التي قادتها الكنيسة ضد البلاد الاسلامية، ولو كانت اوروبا قد فشلت في حربها ولم تستطع بالنهاية احتلال بيت المقدس بسبب مقاومة المسلمين، إلا انها ربحت نتيجة الاطلاع على العلوم والثقافة العربية ـ الاسلامية، وهزة وجدانية وعقلية اخرجتها من سباتها وجعلتها تبدأ عصرها الجديد، إلى مايعرف بعصر النهضة([4]).
وكان للانفتاح على العالم وخوض البحار، نتائج أخرى على الوضع الاقتصادي والاجتماعي الاوروبي، إذ فقدت الارض قيمتها ولو بشكل غير كامل كمصدر للملكية، وظهرت حرف كثيرة لم تعد بحاجة إلى ارض للنقتات منها، كما ازدهرت التجارة مع المناطق الأُخرى، مما ادى إلى اتساع المدن وظهور طبقات جديدة مدنية. وهذه الطبقات الجديدة والتي استطاعت عن طريق التجارة والخدمات جمع مبالغ ضخمة اصبحت تسلل شيئاً فشيئاً إلى الحياة السياسية وتطالب بحصتها من السلطة التي كانت مقتسمة بين الامراء والملوك ورجال الكنيسة، يشاركهم فيها الملاك واصحاب الاراضي وبعض النبلاء([5]).
وإلى جانب ما تتميز به الشخصية الرأسمالية ـ التجارية مقابل الشخصية الارستقراطية، فقد شاع اتجاه الناس نحو نوع من الذاتية والفردية (Individeal) والعقلانية من خلال حسابات الربح والخسارة اليومية، والسعي الدائم إلى جمع اكبر كمية من المال. وعلى العكس من النشاط الزراعي الذي كان سائداً فيما قبل والذي يتصف بالسكون وقلة الاحتكاك بالموارد الاقتصادية الأُخرى (في سائر المناطق)، فأن العمل التجاري والخدمات والمهن الصغيرة تدخل في مجال التنافس مع سائر المناطق، لذلك ظهرت نزعة " المدنية " (City) بين الطبقة الجديدة ذات الاصول المتواضعة، على عكس النزعات الواسعة (العالمية ان صح التعبير) لدى الاسر الاستقراطية التي كانت ترتبط مع بعضها ضمن جغرافية تتجاوز حدود الدول الحالية([6]).
وهذه النزعة التقليدية لدى الطبقة الجديدة التي تحاول الحصول على مصالح اكبر مقابل ابناء صنفها في المناطق الأُخرى، كانت تصطدم مع النظرة الشمولية ـ العالمية التي تتبعها الكنيسة والتي مصدرها الارتباط بالمؤمنين في جميع المناطق أولاً، والمنافع المادية لهذا البسط الايماني ثانياً، ومن خلال ارتباطها بالاباطرة الذين يبسطون حكومتهم على مناطق واسعة.
وفيما عدى الشريحة الجديدة التي عرفت فيما بعد بالطبقة المتوسطة أو الطبقة التي تسكن المدن (Bourgiusy) حتّى الحكام وخاصة ذوي الدول الصغيرة نسبياً كانوا قد ملّوا تدخل الكنيسة في شؤونهم ومشاركتها لهم السلطة، اضافة إلى ان دخول الشريحة الوسطى إلى معادلة السياسة زاد من هذا الوعي وهذا الفهم لدى الحكام، وقد جاءت رصاصة الرحمة على هذا الوضع من داخل الكنيسة نفسها، من خلال ما عرف بعملية الاصلاح الديني التي قام بها رجال كنسيون ضاقوا هم انفسهم بازدواجية الكنيسة وتعسف تمكين عليها وفسادهم.
الثورة على الكنيسة:
رغم ان مصلح الثورة له دلالته الخاصّة في العلـوم السياسية، إلا ان حركة الاصـلاح الديني (Reformation) دفعت من الدماء والجهود اكثر مما دفعته اية ثورة وحركة ثورية، ولم يكن ذلك إلا لقوة وسلطة الكنيسة ذهنياً وموضوعياً.
ولعلّ اول ما يتبادر إلى ذهن الإنسان وهو يتكلم عن الاصلاح الديني في اوربا هو اسم مارتين لوثر (Martin Luther) الذي يعد قائد وطليعة هذه العملية. لكنه قد سبقت حركة لوثر اربع حركات اصلاحية للجهاز الكنيسي، كانت جميعها من خارج المنظومة البابوية، هـي:
أولاً: حركة الاعتراض (Cluny) في جنوب فرنسا في القرن العاشر الميلادي.
ثانياً: حركة " Cistcrcians " في فرنسا أيضاً في القرن الحادي عشر.
ثالثاً: حركة الدومنيكيون والتي اخذ اسمها من اسم مؤسسها وقائدها " دومنياك " الاسباني.
ورابعاً: حركة الفرانسيسيون في القرن الثالث عشر بزعامة " فرانسوان "
وكانت مطالبات هذه الحركات الاربع التي قمعت بشدة من قبل الجهاز الكنيسي ومحكمته المعروفة بـ " تفتيش العقائد " (Inguisition) كما يلـي:
أولاً: معارضة البذخ في الحياة الكنسية والعودة إلى الطهارة والنقاء الأول والسابق.
ثانياً: الاهتمام بالعمل اليدوي، أي انه لا بدّ للقساوسة من عمل يقتاتون به لكي لا يكونوا مستهلكين فقط من الضرائب التي تفرض على الآخرين.
ثالثاً: الاقتصاد في الصرف والاستهلاك ونوع من القناعة في الحياة.
وقد ورث لوثر الزعيم المصلح هذه الذهنية قبل البدء بدعوته إلى اصلاح الكنيسة. فقد ولد لوثر في المانيا عام 1483 في عائلة مسيحية بسيطة، درس بعدها الفلسفة في الجامعة ثم اصبح استاذاً للفلسفة، ورغم ارتداء الزي الروحاني المسيحي، إلا ان نزعته الإنسانية التي شاعت آنذاك وميله للحرية والبساطة كان واضحاً جداً. فبعد زيارة قام بها إلى روما شاهد البذخ والرفاه الذي يعيش فيه الاباء الروحانيين، فشكل جميع ذلك ارضية للاصلاح عنده([7]).
إلا ان الحادث الذي جعله يعلن عصيانه مبادئ اصلاحه للكنيسة، هو: كان يجري في السابق بيع صكوك الغفران من قبل البابا على المسيحيين، باعتبار ان هذه الصكوك لا تمحو العذاب الاخروي كعقوبة للذنب، بل تمحو العقاب الدنيوي فقط، لكنه في هذه المرة ونتيجة إلى حاجة البابا لمبالغ كبيرة من أجل بناء كنيسة القديس بطرس، امر " Tetzel " ببيع صكوك الغفران التي ادعىانها تمحو عقوبات الذنب حتّى في الآخرة ! بل كان بامكان المؤمنين شراء هذه الصكوك لموتاهم ايضاً !! وقد اجاد " Tetzel " بيع الصكوك، لأنه كان بدوره مديناً لكثير من البنوك بمبالغ طائلة !
وفي اعلان له حول هذه القضية، صرح لوثر:
1 ـ ان البابا ليس بامكانه محو الذنوب، وما يمكنه فقط هو عدم اجراء العقوبات التي حددتها الكنيسة لذلك.
2 ـ العفو عن الذنب امر خاص بالرب، وللانسان ان يحقق غفران ربه بشكل مباشر ودون الحاجة إلى وساطة الكنيسة.
3 ـ الإنسان حر من حيث الوجدان، ولا بدّ من العمل بحكم الوجدان وليست لأي شخص ان يصدر احكاماً في ذلك([8]).
فمن خلال الفقرتين الثانية والثالثة يصل لوثر إلى مواجهة مباشرة مع الجهاز الكنيسي، فهو قد حذف الكنيسة من كونها واسطة بين الـرب والانسان وكونها المسيطرة على تعاليم السماء أولاً، ومن ثم ترك الإنسان حراً في استلهام دينه، أي انه اخرج الدين من ألوهيته وجعله ديناً انسانياً لا يرتبط بمؤسسة أو تنظيم خاص، جعله قضية اجتماعية مثل سائر القضايا التي يتبناها الإنسان.
بهذا الشكل لم يبق للكنيسة أي شئ وكان لا بدّ ان تدافع عن سطوتها وجبروتها، لهذا لم يستطع لوثر عمل شيء ما في مركز السلطة البابوية بل كان تأثيره الغالب في المانيا التي دعمه فيها العديد من شرائح المجتمع وفئاته.
فقد دعمه الامراء الالمان الذين تشبعت عقولهم بالقومية والعنصرية، وهؤلاء ماكانوا راضين عن الكنيسة ومجبرين على دفع ضرائب كبيرة لها بين الحين والآخر. كذلك دعمه بعض الاشراف الارستقراط الذين لم تكن لهم صلاة جيدة مع الكنيسة والدين بشكل عام، اما جل دعمه فقد جاء من قبل فئتين واسعتين هما البرجوازية التجارية الالمانية، التي كانت تطالب بالاستقلال الوطني عن الكنيسة والضرائب التي تفرض عليها وهي بحاجة إلى تراكم رؤوس الأموال، وكذلك من قبل الفلاحين المعدمين الذين ورثوا ظلم الفيودالية المتحالفة مع الكنسية والذين كانوا يبحثون عن ما يحررهم من ظلم اصحاب الاراضي، فوجدوا في الثورة على الكنيسة اضعافاً لحيفتها وطريق للخلاص من ذلك الظلم.
ورغم ما حدث فيما بعد في تفسير الاعتراض اللوثري، ومادعى لوثر نفسه إلى اصلاح بعض دعاواه، بسبب الواقع الاجتماعي والسياسي([9])، إلا ان حركة الاعتراض التي انتهت فيما بعد بالمذهب الاعتراضي (Protestantism) ادت إلى نفي سلطة الكنيسة في الحياة الروحانية بذلك الشكل الذي كان سائداً، ومن ثم إلى فصل الدين عن الدنيا، أو الدين عن السياسة، وزيادة سلطة الدولة. اما قضية حرية الوجدان التي قال بها لوثر وهي مأخوذة من فكر القديس اغوسطين([10])، فانها تحولت فيما بعد إلى التحرر الخارجي وفي الممارسة الاجتماعية.
البعد الآخر للبروتستانتية يكمن في دورها البارز في تنشيط المجتمع الاوروبي نحو الرأسمالية، فخلافاً بكاثوليكية التي كانت ترى ان فعل الخير يعد من شروط الفلاح في الدنيا والآخرة، جاءت البروتستانتية بمقولة مفادها ان فعل الخير لايؤدي إلى الفلاح، بل هو دليل عليه([11]).
وهذا يعني اختصار الجهد الإنساني في عمران الآخرة والسعي الاكثر لتنظيم شؤون الإنسان الدنيوية ـ وفي هذا الصدد نشاهد أفكار بروتستانتية اكثر وضوحاً من الناحية الاقتصادية، جاء بها أحد ابرز وجوهها هو " جون كالفن " (Jean Calivn).
ولد كالفن عام 1510 في فرنسا التي اضطر إلى تركها بسبب سلطة الكاثوليك هناك إلى سويسرا، وهناك اصبح الاب الروحي للبروتستانت. وحيث كانت سويسرا (جنيف بالتحديد) اكثر تطوراً باتجاه الرأسمالية من المجتمع الالماني، استطاع كالفن الاجابة على جميع التساؤلات التي كانت تعترض نمو الرأسمالية([12]).
من جانب آخر كانت الرأسمالية آنذاك بحاجة إلى المزيد من تراكم رؤرس الأموال التي لا تأتي إلا بالعمل الدؤوب من جهة وتخفيض مستوى الاستهلاك، على عكس المجتمع الفيودالي الذي كان ينتج ليأكل فقط. وقد اعتبر كالفن بشيء من المبالغة ماركس البرجوازية نتيجة لما قام به هناك.
فقد كانت الحياة الاقتصادية عند الكاثوليك مرتبطة بالهدف العام والغائي للحياة كلها وانها وسيلة لفعل الخير، فكان النشاط الاقتصادي مشوباً بنوع من الروحانية، بينما يؤكد البروتستانت ـ الكالفيون ـ على ضرورة العمل الدؤوب والحياة البسيطة كقيمة بحد ذاتها، وهو الشيء الذي كانت الرأسمالية بحاجة إليه آنذاك، ومن خلال الشروط التي وضعها كالفن للعمل، وهـي:
أولاً ـ الحد الاعلى من المنفعة والنتيجة المادية.
ثانياً ـ الحد الاعلى للتراكم المالي.
ثالثاً ـ وجود نظام عمل قاسي في النشاط الاقتصادي.
رابعاً ـ وجود نظام فردي متسلط.
فلا أحد يأكل دون عمل، ولاصدقة تعطى للعاطلين الذين يتمرغون في الفقر بسبب بلاهتهم وجمودهم !! وبهذا الشكل اصبحت البروتستانتية المشروع الروحي للرأسمالية في تلك الفترة حتّى عدها بعض كبار المفكرين من امثال ماكس فيبر السبب الرئيسي لقيام الرأسمالية، وذلك في كتابة " الاخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية " والذي يقول فيـه: ([13]).
" إلى هذا الحد يمكن القول بشكل مختصران الرياضة الدنيوية التي قال بها البروتستانت بشدّة ضد اللذاّت العابرة الحاصلة من كسب الثروات ادى إلى تقليل حجم الاستهلاك، خاصّة البضائع التجملية.
ومن جانب آخر، كان لها تأثير نفسي في رفع الموانع والعوائق التقليدية التي كانت تقف في طريق الحصول على البضائع. وقد ادت هذه الرياضة، إلى كسر وتحطيم القيود الغريزية لجمع المال، ولم تعط جمع المال حالة قانونية فقط، بل اعتبرته مشيئة وتقدير الهي. كما يعتقد " البيورتين " وكذلك " باركي "... مكافحة الامال والشهوات النفسية والتعلق بالامور المادية وجمع المال مسألة غير عقلانية، بل هو كفاح ضد الاستخدام غير العقلاني للثروة.
لكن هذا الاستخدام غير العقلاني يجد مصداقيته في الشكل الظاهري لحب التجمل، ومع انه طبيعي من زاوية نظر الفيودالية، لكنه على أساس قانون " البيورتين " يعد بمنزلة الشرك وهو مدان. من جانب آخر، ايد البيورتين الاستخدامات العقلانية والمربحة للثروة والتي يحتاجها الفرد والمجتمع على أساس المشيئة الالهية. فهم لم يكونوا يريدون اجبار الاغنياء على الرياضة، بل ارادوا ان يجعلوا امكانات الاغنياء في الاستخدامات العملية والضرورية. ففكرة الرفاه تحد بشكل خاص حجم المصروفات المباحة من الناحية الاخلاقية. وطبعاً ليس من الصدفة ان شيوع وانتشار أسلوب في الحياة بما ينسجم وهذه الفكرة يمكن ان تؤدي بشكل واضح إلى نظرات عامة في المعيشة. هذه الفكرة ومقابل مظاهر العظمة الفيودالية المبنية على أساس اقتصاد غير دقيق، تفضل الدقة والبساطة الواعية. في نفس الوقت الذي كانت تدعو فيه لطهارة ورفاه أسر الطبقة المتوسطة وتعتبر ذلك هدفها الامثل.
والرياضة في مجال الحصول على الثروة الشخصية، تدين الرغبة في التحايل والجشع. فما كان مداناً عنوان الجشع وحب الدنيا والخ، هو كسب الثروة والمال من أجل الثروة نفسها، لأن الثروة بحد ذاتها تعتبر من وساوس النفس، لكن الرياضة هنا كانت قوة تبحث دائماً عن الحسن (الخير) دون ان تخلق الشر والقبح، فالشر كان الثروة ووساوسها. لأنه وعلى أساس " العهد القديم " وقياساً بالتقييم الاخلاقي للاعمال الحسنة، فالرياضة كانت تلوم كسب الثروة بأعتبارها هدفاً بحد ذاته، لكنه بأعتباره ثمرة لتكليف اعتبرته دلالة على البركة والخير الرباني. والاهم من ذلك، فالتقييم الديني للعمل المستمر والمنظم في وظيفة دنيوية يعد من اسمى وسائل الرياضة وفي الوقت نفسه افضل وآمن الطرق لأثبات الولادة الجديدة والايمان الحقيقي، إذ لا بدّ ان يكون اقوى وسيلة لنشر وتوسيع النظرة إلى الحياة، والذي اسميناه نحن بالروح الرأسمالية.
فعند ما يتم تركيب الحد من الاستهلاك مع جمع المال، ستكون النتيجة العملية والحتمية لذلك واضحة جداً: تراكم رأس المال عن طريق الرياضة الاجبارية. والحد من استهلاك وصرف الثروة سيؤدي بشكل طبيعي إلى زيادة الاستثمار في مجال الانتاج، لكنه وللاسف فأن تحديد حجم قوة هذا النفوذ لا يمكن اثباتها. وقد كانت علاقة هذين الامرين واضحة بشكل في " نيوانجلند " حيث لم تخف على مؤرخ مثل " دويل " (Doyle). وفي هولندا ايضاً التي حكمتها الكالفينية السطحية والمتشددة لفترة سبع سنوات، نجد بساطة الحياة بوضوح في المحافل الدينية، مما ادى إلى تراكم رأسمال وثروة كبيرة ".
عصر النهضة:
ان التحول الاقتصادي الذي حدث في السنوات الاخيرة من القرون الوسطى من حيث ظهور طبقة البرجوازية وتوسعة المصانع التي اصبحت تنتج بشكل متراكم صاحبة اتجاه عرفي ـ علمي في المجالات الأُخرى.
فبعد ثورات الاصلاح الديني، اتجه بعض العلماء إلى مراجعة متبينات المعارف الكنسية الأُخرى، ولعلّ علماء الطبيعة كانوا السباقين في هذا المجال، فما احدثـه " كوبر نيكوس " في مجال ابطال عقيدة الكنيسة الارسطية المنشـأ حول مركزية الارض نتج عنه اتجاه عقلاني في تناول الظواهر الطبيـعية والانسانية فيما بعـد، هذه الواقعية العلمية تسرّت على يد مفكرين امثال نيقولا ميكافيللي (N.Machiavelli) إلى واقعية اجتماعية وسياسية([14]).
فرغم سوء شهرت ميكافيللي الذي برر استخدام الوسيلة للوصول إلى الهدف، إلا ان الرجل قدم خدمة كبيرة للمجتمع الاوروبي من خلال دراسة الظواهر الاجتماعية والسياسية بالتحديد دراسة استقرائية واقعية، وبهذا الشكل جعل السياسة عرفية بعد ان كانت فيما مضى غيبية ميتافيزيقية.
ان كتاب الامير (The Prince) الذي اهداه ميكافيللي إلى امير فلورانس، يعبر عن الشق الأول واحد وجوه شخصية ميكافيللي الواقعية، إلا انه في كتاب " المقالات " يؤكد بشدة على الحرية الإنسانية ونشاهد فيه اتجاه تحرري غير معروف لدى الكثير عن ميكافيللي.
المسـألة المهمة التي طرحها ميكافيللي هي قضـيـة تعادل أو مـوازنة القـوى في المجتمـع (Balance of oppost forces)، أي ان المجتمع من خلال قواه الثلاثة: السلطة التنفيذية، اهل الحل والعقد (كبار القوم) والشعب في رقابة دائمة على بعضهم وهذا هو الأمر الوحيد الذي يضمن الحرية.
ورغم اننا نجد جذور هذه الأفكار عند القديس اكونياس، إلا ان ميكافيللي تناولها من جهة سياسية وعلمو اجتماعية بحتة، خلاف الاتجاه القانوني السابق، وقد تركت آراء ميكافيللي اثرها من هذه الناحية لدى المتأخرين في مجال فصل القوى (السلطات) ([15]).
اما المفكر الآخر الذي كان له دور كبير في عرفية السلطة ودعمها نظرياً مقابل ما كان سائداً آنذاك هو الفرنسي جان بودان (Jean Bodin ـ 1596)، وكان ضمن مجموعة السياسيين (Les politiqus) الذين ضاقوا بالحرب الدينية التي كانت تجري آنذاك، فطرحوا جملة عقائد ودعوا الناس اليها، وهي: التساهل الديني، تنوع العقائد الدينية وضرورة عرفية السلطة (أي فصل الدين عن السياسة) ([16]).
ولعلّ هذه الأفكار كانت رصاصة الرحمة التي اطلقها المفكرون على تدخل الدين في السياسة آنذاك، وبعد ذلك بدأت لديهم اهتمامات أخرى تركزت في كيفية الحد من السلطة المطلقة للحكومة غير الدينية، وقد لمعت في سماء الفكر السياسي اسماء مثل: مونتسكيو (Montesquieu) الذي قال بفصل السلطات لايجاد نوع من الموازنة في السلطة والحيلولة دون الاستبداد، وذلك في كتابه " روح القوانين " (Espirt des Lois) بعد دراسة لتجربة الحكم في بريطانيا، وكذلك روسو صاحب نظرية العقد الاجتماعي (Social Contract) وتوماس هوبز (Thomas Hobbes) الذي انتهت نظرية عقده إلى نوع من السلطة المطلقة في كتابة " اللوياتان " (Levithan) وجون لوك (J. Lock) واضع اصول الليبرالية السياسية([17]).
من جانب آخر رافق هذه التغييرات داخل المجتمع الاوروبي، انطلاق الامبراطوريات إلى خارج حدودها، مكتشفة بقاع أخرى من العالم وبدفع من التجار والمغامرين، من أجل زيادة نفوذهم وسطوتهم من جهة، ووضع اليد على ثروات الشعوب الأُخرى من أجل تنمية بلدانهم ومجتمعاتهم، ولدعم موقفهم من المعادلة السياسية والعسكرية الاوروبية.
والملفت للنظر ان القوى التي انشغلت بوضعها الداخلي وكانت تعيش سجالات فكرية دخلت متأخرة إلى ساحة الصراع الدولي الذي بدأته دول كانت تبحث عن الأموال والكنوز والقوة بدون اية جهود فكرية واجتماعية من داخلها، فتقاسم العالم المستعمر آنذاك الاسبان والبرتغاليون والهولنديون، الذين سرعان ماتركوا مواقعهم وخسروا سطوتهم لصالح قوى استطاعت ترتيب بيوتها من الداخل وتظهر بقوة اكبر على الساحة الدولية، ثم ان تلك القوى الاستعمارية القديمة ونتيجة لعدم تطور الفكر في الداخل لم تستطع الاستفادة من الأموال التي ثامت بنهبها من الشعوب الأُخرى([18]).
وبهذا الشكل الابتدائي من الاستعمار استطاع الاوروبيون نقل الكثير من الأموال التي ساعدتهم فيما بعد في ترتيب رأس المال اللازم للثورة الصناعية، التي كانت من الناحية الذهنية نتيجة لليبرالية ومن ناحية أخرى تركت اكبر الآثار على التطور الرأسمالي وظهور أفكار جديدة من داخل الفكرة الرأسمالية نتيجة لظهور شرائح اجتماعية جديدية وعلاقات جديدة بين فئات المجتمع.
الثورة الفرنسية:
خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر نشاهد على الساحة الاوروبية افكاراً غير متجانسة لحد ما، يطرحها مفكرون كبار امثال هوبز، لوك، مونتسكيو، روسو، فوليتر وآخرون، اضافة إلى آخرين يعرفون بأصحاب دائرة المعارف ومنهم:
ديدروت (Diderat) ودي هولبك (d'Hulback) ودي اليمبز (d'Alembez)، علماً ان مونتسكيو وفوليتر ينضمان اليهم لفترة قصيرة. وجميعهم يعبرون عن نوع من الليبرالية الغربية، أو في الحقيقة هم يعبرون عن نوع من المثالية البرجوازية المتنافسة.
وقد يختلف مع هؤلاء روسو بعض الشيء، لأن افكاره في الحقيقة لاتنتمي إلى ذلك العهد بل يمكن اعتبارها أفكار من القرن التاسع عشر، فالملكية الخاصّة مطروحة بلا أية قيود لديهم، والحرية عندهم تعني الحرية الاقتصادية والانتاجية والتجارية بشكل كامل.
لقد شكل هؤلاء المفكرون روح القرن الثامن عشر الذي انتهى إلى الثورة الفرنسية عام 1789، ولكن السؤال الاساسي هنا، ماهي تلك الروح التي تنسب للقرن الثامن عشر* والتي ادت إلى الثورة الفرنسية؟([19]).
لقد كانت الروح المسيطرة على أفكار القرن السابق (السابع عشر) هي الضبط ومبدأ قبول الطاعة (Aouthority) بأعتبارهما امران عقليان.
اما القرن الثامن عشر فنجده يرفض الطاعة بشدة، وكذلك الفرضيات المسبقة (Pre- Judice)، لأن كل ماليس قابل للبيان والتفسير العقلي هو من سنخ الغيبيات التي لايمكن الايمان بها، إذ ان للطبيعة قوانينها الخاصّة بها، ففساد الإنسان يأتي من خلال المحيط الذي يعيشه.
وعلى هذا ظهر اتجاهان من أجل الوصول إلى السعادة الإنسانية: الاتجاه الأول يرى ان السعادة تكون بشكلها الاجتماعي العام، وهم اصحاب الاشتراكية، امثال سان سيمون (Saint - Simon)، والآخر الذي اتجه نحو السعادة الفردية والتأكيد على فردية الإنسان وهم اصحاب الليبرالية البرجوازية. على اية حال، شكل العقل (Rational) والطبيعة (Natural) والسعادة (Hedonism) روح الفكر الاوروبي في القرن الثامن عشر، ومن أجل الوصول إلى ذلك لا بدّ من تسطيح المجتمع، أي هدم الانظمة السالفة وبناء أسس مجتمع صحيح([20])، بهذا النوع من الفكر بدأت شرارة الثورة الفرنسية التي ركزت نشاطها حول محورين:
الأول: فسخ العقد الموجود بين الملك والشعب والذي باركته الكنيسة، وعلى أساس فرض مسبق في هذا العقد فأن مصالح الملك والشعب والحكومة تكون مشتركة لذلك فأن نفي الفرضيات المسبقة قد يؤدي إلى تعارض بين مصلحة الشعب ومصلحة الملك، وهو ماكانت تؤكده الثورة الفرنسية.
ثانياً: ركزت الثورة على هدم التنظيم الطبقي للمجتمع الذي كان يتشكل من ثلاثية (الفيودالية، الكنيسة، والشعب)، فمن خلال هدم وتدمير الاركان الاجتماعية (القاعدية) للنظام الحاكم تسهل عملية اسقاطه واستبداله بآخر. وقد لعبت الازمات التي حدثت في ذلك الوقت، خاصّة الازمات الاقتصادية دوراً كبيراً في بلورة فكرة الثورة وتوجيه جيوش الجائعين نحو نفي سلطة الملك([21]).
يضاف إلى ذلك، فالبعض يرى ان الثورة الفرنسية ماهي إلا انتقام بريطاني من فرنسا للدور الذي لعبته في استقلال الولايات المتحدة عن العرش البريطاني خلال حروب الاستقلال (1775 ـ 1783) ([22])، ورغم حقيقة التنافس البريطاني ـ الفرنسي على الساحة الاوروبية والدولية، وسعي كل واحدة من الامبراطوريتين قطع ايدي منافستها عن بعض المستعمرات الحياتية، من أجل ارباك وضعها على الساحة الاوروبية التي كانت تمثل الساحة الاولى والاهم بالنسبة لهم، إلا ان هذه الفكرة مصدرها نظرية المؤامرة التي تحاول تفسير جميع الأشياء خارج مسارها الطبيعي وتمنحها اسباب ميتافيزيقية سياسية ! فقد يكون للبريطانيين دور في دعم بعض جوانب الثورة، إلا ان الفكر الثوري الذي انتهى للثورة يختلف تماماً عن المتبينات الفكرية التي عرفت بها بريطانيا المحافظة وعمليات الاصلاح الهادئة التي قامت فيها. في حين ان الثورة الفرنسية، ثورة دموية انقلابية تهدف إلى التغيير الشامل، لا الاصلاح الهادي([23]).
ولاعجب ان تتحول بريطانيا فيما بعد العدو الأول للثورة والافكار التي صدرت منها والتي حاول الفرنسيون تعميمها على اوروبا والعالم بأسره. فالمبادئ التي طرحتها الثورة كانت اقرب الأفكار إلى آراء روسو ان لم تكن هي نفسها التي قال بها. ولذلك يعتبر هذا المفكر هو مهندس الثورة الفرنسية من الناحية البنيوية.
لقد كان المجتمع الفرنسي قبل الثورة يتشكل من ثلاثة طبقات، هـي:
1 ـ طبقة رجال الدين وهؤلاء على قسمين، قسم رجال الدين ذوي الاصول الارستقراطية والمرتبطون بالحكم والنفوذ والمال، وقسم غالبية من الفقراء.
2 ـ طبقة الاشراف والنبلاء، وهؤلاء ايضاً على قسمين، من كان حاضراً في البلاد ومشاركاً في شؤون الحكم، والآخر الذي يقيم خارج مركز الحكم والذي يدعو إلى نوع من الاستقلالية على أساس مبدأ " الطرد المركزي ".
3 ـ الطبقة الثالثة أو البرجوازية، وهم مكونون من ثلاثة شرائح، البرجوازيون الكبار اصحاب الأموال والمصانع والسيولة النقدية. والبرجوازية الوسطى وهم الاطباء والمحامون واصحاب التخصصات الأُخرى، اما البرجوازية المتدنية فهي تشمل اصحاب الحرف والمهنيين والعمال وغيرهم من الفئات التي ظهرت في المدن والقرى([24]).
وقد استطاعت الثورة ان تكسب لصالح الطبقة الثالثة وجزء كبير من الطبقة الاولى (رجال الدين الفقراء) لان اغلبهم كان ناقماً على الوضع الذي يعيش فيه، وكان الشعار السلبي الذي رفعته الثورة، مقابل شعارها الايجابي الذي اشرنا إليه مسبقاً هو " لاملك، لا نبلاء، ولاقساوسة".
إلا ان الثورة عاشت بعد الاطاحة بالملك ازمة في الشرعية وجدل حول أساس البناء الاجتماعي، اضافة إلى الصراع على السلطة استمر حدود (80) سنة حدثت خلاله ثورتان وثلاث عمليات انقلابية وثلاثة تدخلات اجنبية([25]). اصطف فريقان احدهما (المحافظون، الارستقراط) يدعو إلى " مشروعية الحقوق الالهية " (Legitimacy of divine right) والآخر (البرجوازية وحلفاءها من الطبقات الأُخرى) يدعو إلى مشروعية السلطة الوطنية أو حقوق الشعب (Legitimacy of national sovereignty) إلا ان تدخل أو الاصح اتساع بعض الطبقات والشرائح الاجتماعية جعل الأُمور تتغير بالنهاية وتنهي إلى سلطة الشعب، هذه الطبقات، اهمها الطبقة العمالية الصناعية (Working Class) التي شكلت أساس ثورة عام 1848 فيما بعد([26]).
وفي هذا البحث لا نهدف إلى الخوض في القضايا التاريخية التي يمكن مراجعتها في أي مصدر، لأنه لايشكل الشيء المهم بالنسبة لنا، رغم اننا نأخذ من المادة التاريخية بالقدر الذي يستوجبه البحث، لذلك سنعرض عن الخوض في تفاصيل نظام الحكم بعد الثورة والتقلبات التي عاشها بين الجمهورية والملكية حتّى انتهى الأمر إلى الجمهورية، بدل ذلك نتناول التيارات الفكرية الأساسية بعد الثورة الفرنسية.
ولكن وقبل كل شيء نشير إلى ان الثورة الفرنسية من حيث النظرية مبنية على الأسس التالية:
1 ـ فلسفة التنوير (Enlightenment).
2 ـ روح القرن الثامن عشر التي اشرنا اليها.
3 ـ العقلانية (Rationality).
4 ـ السعادة الارضية (Hedonism).
5 ـ اصالة الطبيعة (Naturalism).
6 ـ نفي الفرضيات المسبقة.
7 ـ الهندسة الاجتماعية الجديدة (الوضعية).
8 ـ ايجاد اخلاق عرفية.
9 ـ وحدة الطبيعة الإنسانية.
10 ـ عقلانية السلطة والدولة.
اما بالنسبة للتيارات الفكرية بعد الثورة الفرنسية، فهـي:
أولاً ـ التيار المحافظ:
كأي انقلاب آخر يتبنى البعض ازاءه مواقف محافظة (Conservatism) وذلك بسبب التعلقات والطبقات الاجتماعية التي ينتمون اليها، أي انهم يخالفون الفكر الثوري على أساس الماضي كل الماضي في تقاليده وعاداته وانظمته، خاصّة في المجتمعات المستقرة والمنسجمة من حيث التاريخ والوضع الاجتماعي، المجتمعات التي اسـتطاعت تحويل الأفكار الحديثة وقولّبتها ضمن انظمتها الفكرية والاجتماعية، ولعلّ من ابرز مفكري هذا التيار، الانجليزي ادموند برك (Edmund Burke) الذي ينتقد بشدة التغييرات والشعارات التي يدعو اليها الثوار، بل ذهب آخرون إلى ابعد من النقد واعتبر الثورة الفرنسية هي العذاب الالهي والثأر الرباني الذي حل بالمجتمع الفرنسي الذي ابتعد عن الروح وعن الدين ! هذا الاتجاه المحافظ نادى به ايضاً كل من دي مايستر (de Maister) وبونالد (V.de Bonald) في فرنسا ايضاً. ويمكن اعتبار هذا التيار رد فعل طبيعي ازاء الثورة لأن الشعارات التي رفعتها وبعض الممارسات التي قامت بها، جعلت البعض يتأمل في حقيقتها ومستقبل المجتمع في ضوءها، ولذلك كان عنوان كتاب " برك " هو: " تأملات في باب الثورة الفرنسية "([27]).
اما اصول الفلسفة المحافظة، فهي:
1 ـ سوء الظن بالطبيعة الإنسانية، وهو اهم الأسس والاصول في الأفكار المحافظ اما الأفكار الحسنة الظن فأغلبها ديمقراطية، فلا يمكن الاعتماد كلياً على العقل الإنساني وفي ذلك نجد برك يقول: الفلاسفة الباريسيون الذين يتحدثون عن العقل كثيراً، لا يفهمون شيئاً لأن العقل اساساً ليس شيء. اما المجتمع فهو عطاء ليس بالإمكان صنعه " على عكس هوبز الذي يؤمن بالهندسة الاجتماعية في بناء المجتمع.
2 ـ رغم ان المجتمع عبارة عن مجموع الافراد، إلا انه كلّ، والانسان مثل الخلية أو العضو في هذا المجتمع، يجب ان يوضع في محله ليقوم بالوظيفة التي اوكلت إليه. ولا يمكن تقليل خصائص المجتمع إلى الفرد، لأن هوية الجمع (الكل) هي غير هوية الاجزاء التي تتشكل منه، لذلك يعتبرون المجتمع امر تاريخي واجتماع عضوي (Drganic). وما المجتمع سوى التقاليد التي ترسبت بشكل تاريخي، فهي اذن ليست آنية بل تكونت عبر سنوات طويلة.
3 ـ الاعتراف بالتغيير في الحياة الاجتماعية، لكن التغيير يجب ان يكون بشكل هادئ وبطيء، لكي لايقطع الارتباط التاريخي، فالمؤسسات الاجتماعية واستمراريتها مهم جداً، خاصّة المؤسسة الدينية التي تتولى تنظيم الكثير من قضايا التأهيل الاجتماعي للفرد في المجتمع. وتعمل على ان يقبل الفرد المؤسسات والتقاليد والعلاقات الموجودة في المجتمع.
4 ـ الإنسان كائن متدين، أي لا بدّ له من عقيدة، لأنه بدون هذه العقيدة لن يعتبر شيئاً، على العكس هذا الإنسان ليس كائن سياسي، وفي ذلك اشارة لحق السلطة على الإنسان من قبل من اختيروا أو وجدوا لتولي مهامها، اما الالتزام بالنظم الملكية من قبل المحافظين فيأتي على أساس التزامهم بالتقاليد والسنن السابقة للمجتمع.
5 ـ يعارضون تدخل الدولة في مختلف شؤون الفرد والمجتمع ويرون ان عملية الضبط الاجتماعي والاقتصادي... هي من مهام التقاليد الاجتماعية التي يتربى الفرد في كنفها.
6 ـ ان الفرد ملزم بكثير من الأُمور في المجتمع، لذلك لايحسن الحديث عن حقوقه، بل في وظائفه والتزاماته، لأن حقوقه في القانون الجيد، الحكومة الجيدة والسعادة وغير ذلك تكون في اهتداءه التقاليد والاعراف السابقة التي اثبتت التجربة فائدتها.
ثانياً ـ التيار الليبرالي:
تبدأ أفكار هذا التيار عند كل من هوبز ولوك خاصّة، كما ان هذا التيار قريب جداً من مبدء اصالة الفائدة (Utilitarianism) الذي وضع اسسه المفكر الانجليزي جرمي بنتام (Jeremy Bentham) علماً ان خيوط من فكرة اصالة الفائدة نجدها ايضاً عند كل من لوك " الحياة في المجتمع مفيدة "، وعند هوبز ايضاً، اما هيوم الذي ينفي مبدء العلّية فأن النفعية هي أحد أسس فلسفته، التي يؤكد فيها على ضرورة التجربة. وفيما يتعلق بالدولة فلا حاجة للاستدلال على ضرورتها إذ يكفي ان نقول: الدولة مفيدة، فالطاعة هنا تكون على أساس الفائدة وليس على أساس العقد الاجتماعي بين الافراد والحكام. أو لأنها من التقاليد وهنا نجد في فكر هيوم قبوله للتقليد.
اما بنتام الذي يأتي بعد هيوم، فأنه يطرح مبدأ الالم واللّذة (Paim & Pleasure)، وعلى هذا الأساس يقوم بتقسيم السلوك الإنساني وتحليله، فالانسان يسعى دائماً إلى الحصول على اللذّة والابتعاد عن الالم، ثم يمضى اكثر ويطرح مفهوم السعادة (Happiness) بدل مفهوم اللذّة، بدليل ان كل ما يوجب اللذة يوجب السعادة، وعلى العكس ايضاً، وبهذا الشكل نجد الإنسان في حساب دائم للوصول إلى اللذة والسعادة، وينتهي إلى ان مجموع سعادة الافراد يعني سعادة المجتمع، ومن خلال مقولته في سعادة اكبر عدد من الافراد (The greatest happiness of the greatest number) نراه يقترب من فكرة الديمقراطية([28]).
واستمراراً لهذه الفكرة يطرح المفكر جيمز مل (James Mill) الظروف التي تولد هذه السعادة عند اكبر عدد ممكن من الافراد فينتهي إلى القرارات التي تتخذها الاكثرية بطبيعة الحال، وبهذا الشكل ينتهي من خلال فكر بنتام ـ مل ـ إلى الديمقراطية الراديكالية (Radecal Democracy)، ثم يقول ان الحكومة الديمقراطية هي تلك التي يكون اساسها التمثيل.
ويؤكد مفكر آخر هو جون استوارت مل على ان حرية الإنسان مهددة من ناحيتين، الاولى السلطة، والأُخرى الدكتاتورية الجماعية وان بين الحرية والديمقراطية لايوجد انسجام كامل، لذلك ورغم انه لا يدافع عن تدخل الدولة، إلا انه يدعو إلى تدخلها فيما لو اصبح أحد افراد المجتمع مصدر اضرار على الآخرين. والا فليس للدولة ان تحدد سعادة الإنسان المادية والمعنوية، بل ان المسألة متروكة للفرد نفسه. وعلى هذا اعتبر استوارت مل ليبرالياً.
ونشاهد هنا ان الليبرالية الانجليزية تتحرك من الليبرالية البحتة نحو نوع من الديمقراطية على يد كل من بنتام وجيمز مل، إلا ان جون استوارت مل سعى مجدداً إلى ردها والاهتمام بحرمة الحرية الفردية في مقابل الدولة والاستبداد (الدكتاتورية) الجماعية التي يراها في الديمقراطية([29]).
وهذا الأمر نشاهده على الساحة الفرنسية من خلال أفكار " بنجامين كونستانت " (Benjamen Constant) الذي يرى ان الدولة لا تشكل المسألة المهمة في تقييد حرية الفرد بل ان الدكتاتورية الجماعية (الديمقراطية) هي التهديد المهم والاساسي لحرية الفرد.
وفي أمريكا هناك أفكار الكسي دو توكويل (Alexi de Tocqueville) الديمقراطي رغم جذوره الارستقراطية، لكن هذا المفكر يشير إلى عيوب كبيرة في الديمقراطية اهمها انها بالنتيجة ستحول السلطة نهائياً بيد الدولة وتفقد الإنسان انسانيته وعلاقاته من خلال عدم تسيسه واهمال النظام العائلي واستقلاله الفردي اكثر، لذلك يقترح جملة امور من أجل الحفاظ على حرية الإنسان وتجنيب النظم الديمقراطية تلك الامراض التي سوف تصاب بها، وهذه الأُمور أو الحلول، هـي:
1 ـ وجود سلطة قضائية مستقلة وقوية وذلك للدفاع عن الحرية الفردية في مقابل الدولة، لأن الحرية هي الهوية الحقيقية للانسان.
2 ـ وجود صحافة مستقلة يمكنها تأليب الرأي العام ضد الدولة في مقابل الفرد، ولذلك اعتبرت الصحافة الركن الرابع للديمقراطية.
3 ـ ايجاد مؤسسات اجتماعية ومحافل وسطية لتجمع طاقات الافراد التي تنزلت مقابل الدولة، وهذه المؤسـسات الاجتماعية من خلال بسط فكرة اللامركزية، يمكنها لعب دور كبير في التأثير على قرارات الدولة، اضافـة إلى انها تزيد من حجم العلاقات الاجتماعية، وعلى هذا الأساس يعطي الكنيسة دوراً كبيراً كمؤسسة اجتماعية واسعة النطاق تعتمد على الاخلاق التي تقوم بتزريقها للفرد. ومن هذا المنطلق يؤكد على فصل الدين عن السياسة، لأن فشل الدولة سينتهي إلى فشل الدين وعدم قبوله! ([30]).
ولليبرالية جوانب ومستويات متعددة، فالليبرالية الاقتصادية تقوم على أساس: حرية التنافس، الحد من تدخل الدولة، الملكية الخاصّة، التجارة الحرة والابداع الفردي في النشاطات الاقتصادية. اما الليبرالية السياسية فقوامها: الانتخابات الحرة والتمثيل البرلماني والحفاظ على حرية الفرد في مقابل سلطة الدولة. واخيراً الليبرالية الثقافية أو الفكرية واساسها التسامح والتساهل (Tolerance) وتحمل الرأي الآخر من خلال مفاهيم حرية الرأي وحرية التعبير و... الخ. علماً ان الليبرالية تختلف في وجوهها من بلد إلى آخر، فالليبرالية من الزاوية السياسية راديكالية في فرنسا على سبيل المثال لكنها من الناحية الاقتصادية محافظة جداً، لذلك كانت فرنسا آنذاك من الدول المهيأة لانتشار الفكر الاشتراكي وهو ما حصل، على العكس من بريطانيا المحافظة سياسياً والاصلاحية من الزاوية السياسية فقد استطاع البريطانيون مواكبة النهضة الصناعية التي اوجدوها وابتداع الكثير من المفاهيم من أجل المحافظة على نظامهم السياسي فكانت فكرة دولة الرفاه (Welfare state).
ثالثاً ـ التيار الاشتراكي:
سبق وان اشرنا إلى ان الفكر الاشتراكي والفكر الليبرالي ينشآن من مصدر واحد هو، التاكيد على حرية الفرد والتساوي في الطبيعة الإنسانية، لكن الطريق للوصول إلى ذلك اختلف عند المدرستين، فالذين نادوا بحرية الفرد كفرد وان حريته الاقتصادية والسياسية مقدمة لحريته الاجتماعية اتخذوا طريق الرأسمالية والليبرالية، بينما الذين رأوا ان المساواة الاجتماعية هي السبيل إلى حريته وان الملكية هي احدى القيود التي فرضها المجتمع عليه لذلك وجب الغاءها، اتخذوا المنهج الاشتراكي لحل مسألة الإنسان في النهاية.
ولما كان النظام الاجتماعي الرأسمالي ـ الليبرالي يؤكد على حق اصحاب السلطة والمال أو ينتهي إلى نتيجة مفادها ذلك، كان من الطبيعي ان يقف من يستثمر من قبل تلك الطبقات في الجانب الايديولوجي المقابل، أو لأن الفكرة المقابلة تطرح من أجل الدفاع عن تلك الطبقات المستثمرة. ومع التطور الصناعي والاقتصادي الحاصل حتّى القرن التاسع عشر، ظهرت طبقة جديدة ممن كانوا يعملون في المصانع الجديدة والتي اتسعت مع اتساع تلك المصانع ووفرت الانتاج. هذه الطبقة التي بدأت تطالب بالمشاركة في عوائد الانتاج الاقتصادي في المجتمع ومكاناً في السلطة السياسية، تمكنت الرأسمالية والليبرالية من احتواءها في بريطانيا وفي أمريكا من بعد، لكنها في بلدان أخرى عجزت عن احتواءها فشكلت مادة للثورات والانتفاضات التي شهدتها المجتمعات الرأسمالية.
ورغم قدم الأفكار الاشتراكية في منظومة المعرفة الغربية والتي يمكن الإشارة اليها من خلال الفلاسفة اليونانيين القدماء، إلا ان سان سيمون (Saint Simon) يعتبر منظر الاشتراكية التخيلية (اليوتوبيـة) والتي لا تصدق العقل الإنساني([31]).
كما ان بعض الأفكار الاشـتراكية نجـدها ايضـاً عند جان جاك روسو، مهندس الثورة الفرنسية نظرياً، لذلك كان تيار من الثورة يدعو إلى ذلك بشكل راديكالي([32])، ولربما يكون بسبب فقر اغلبية ابناء الشعب الفرنسي آنذاك وملكية النبلاء ورجال الكنيسة الذين حاربهم الشعب من خلال الثورة واطاح بهم.
ثم تأتي المرحلة الثانية من الفكرة الاشتراكية والمعروفة بالاشتراكية العلمية على يد المفكر الالماني كارل ماركس (Karel Marx)، وقد استلهم ماركس افكاره أو انتزعها من ثلاثة مصادر اساسية، هي: الاقتصاد السياسي البريطاني، خاصّة نظريـات ريكاردو (Recardo) وآدم سميث (Adam Smith)، ومبادئ الاشتراكيـة التخيـليـة التي قـال بها سان سيمون وبرودن واوفر، يضاف اليها المثالية (Idealism) الالمانية وقوانين التطور التاريخي التي طرحها الفيلسوف الالماني فردريك هيجل([33]).
وفي بريطانيا التي هاجر اليها ماركس عام 1848، نشر اعلانه الشيوعي (Manfist Communist) وارسله إلى تلميذه انجلز (Friedrich Engels) حيث يقول فيه ان المرض الحالي الذي يعاني منه المجتمع هو الرأسمالية رغم كونها احدى ادوار التاريخ التي لا بدّ ان يمر بها المجتمع، وبما ان المجتمع يتكون من افراد يختلفون في المصلحة والاتجاهات والاعمال فأن كل مجموعة منهم تحاول ان تشكل جماعة (طبقة) تشترك في المصالح الاجتماعية لذلك سيحصل تضاد بين مصالح هذه الجماعات التي يتشكل منها المجتمع وهذا هو " التضاد الطبقي " الذي يقول به ماركس، وهذا التضاد ينتهي إلى الثورة وتغيير الوضع الاجتماعي الموجود. ويرى ان الثورة تستلزم شرطين: شرط موضوعي يأتي من اسباب السخط على النظام الاجتماعي القائم وشرط ذهني وهو وعي الطبقة العاملة لدورها واللامساواة التي تعاني منها. لذلك ونتيجة الجدل والديالكتيك التاريخي ينتهي صراع البرجوازي ـ العمالي إلى الشيوعية التي هي آخر مرحلة في مسيرة التكامل التاريخي التي تبدأ من المجتمع البدوي إلى المجتمع الاشتراكي، الذي لا دولة فيه تقيد حرية الإنسان ولا ملكية تكون سبب تضاد طبقي.
وقد خمّن ماركس حصول الثورة في البلدان الاكثر تقدماً من الناحية الصناعية باعتبارها ارقى اشكال الرأسمالية آنذاك، بينما لم يحصل ذلك، لأن الرأسمالية والليبرالية استطاعتا ان تطوراً نفسيهما بما يجنبهما الثورات والتغيرات الشديدة، وذلك بواسطة ابتداع مفاهيم جديدة من جهة وتصدير ازماتها بواسطة الاستعمار والامبريالية إلى مناطق أخرى من العالم.
الامبريالية:
لقد ادى تطور النظام الاجتماعي في الغرب إلى تطور الاخير مقابل الشعوب والاقوام الأُخرى في العالم، فالثورة الصناعية وزيادة حجم الانتاج وظهور طبقات اجتماعية جديدة وما تبع ذلك من ثورات ضد النظم السياسية السائدة، خلقت نوع من الازمة داخل المجتمع الغربي ـ الاوروبي.
وقد كانت هذه الازمة تتجلى في عدة صور، اهمها:
1 ـ تزايد حجم الانتاج والحاجة المتزايدة إلى استهلاك اكثر للبضائع المنتجة، لأن السوق الداخلية لم يعد باستطاعتها استيعاب ذلك الكمّ من الانتاج.
2 ـ حاجة الصناعات الجديدة إلى المواد الاولية التي لا يمكن تأمينها من داخل تلك البلدان، أو ان تأمينها يستوجب صرف مبالغ كبيرة نظراً لارتفاع مستوى المعيشة واجور العمال مقارنة بالمناطق الأُخرى.
3 ـ ظهور حركات سياسية عمالية تطالب بالمزيد من الامتيازات، على اعبتارها القوة المنتجة الحقيقية في العملية الاقتصادية.
4 ـ تشديد التنافس السياسي والعسكري والاستعماري بين الدول الاوروبية بسبب ازدياد قواها نتيجة للتطور الذي وصلت إليه سواءً على مستوى الانتاج العام وزيادة الدخل القومي، أو على مستوى تطور وسائل وادوات الصراع العسكرية.
5 ـ تصدع النظام الدولي المبني على أساس الحلف المقدس وتوازن القوى بين الامبروطوريات الاوروبية خاصّة في الفترة المتأخرة من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين([34]).
وعلى أساس هذه الازمات التي كانت موجودة والتي ادت إلى حروب كثيرة على المسرح الاوروبي والدولي على المستوى الخارجي وإلى ازمات داخلية كان طرفيها العمال ـ البرجوازيون، فقد استطاع الفكر البرجوازي الاوروبي (والغربي بشكل عام) تطوير نفسه من خلال بعض الآليات والقفز من فوق هذه الازمات، بل وتصديرها إلى خارج الحدود من أجل انقاذ نفسه منها([35]).
فكانت الامبريالية (Imperialism) في العلاقة مع الخارج، والدولة الرفاهية (Welfare State) على مستوى التنظيم الداخلي.
أولاً، الدولة الرفاهية: يمكـن اعتبار ظهور مفهوم الدولة الرفاهية نوع من التراجع ـ أو العقلنة ـ في النظم الرأسمالية وذلك لسببين:
احدهما ظهور الازمة الاقتصادية بعد الحرب العالمية الاولى وخلال فترة (1928 ـ 1931) فكانت أحد طرق الخروج من الازمة هو رفع مستوى الشراء لدى العمال الذين يشكلون فئة واسعة من المجتمعات الصناعية (خاصّة أمريكا) لدعم مسألة الاستهلالك وتحريك عجلة المصانع، والآخر قوة التيار العمالي والاشتراكي وظهوره كقوة اجتماعية واعية تطالب بحصتها من النظام الاجتماعي والسياسي.
وحول هذه الفكرة ـ الدولة الرفاهية ـ يقول الدكتور عبد الله خشيم:
يقترن مفهوم دولة الرفاهية بالنظم الرأسمالية، لاسيما تلك النظم التي حققت من ناحية تقدماً اقتصادياً ملموساً، واخذت من ناحية أخرى بالافكار أو المبادئ الاشتراكية. ولقد ساهمت الاحزاب العمالية والاشتراكية في اوروبا الغربية وأمريكا الشمالية بدرجات متفاوتة في إرساء دعائم واسس دولة الرفاهية في دول مثل: السويد، بريطانيا، والولايات المتحدة الامريكية. وبالرغم من أن النظام الحزبي في الدول الغربية يقوم في الأساس على التنافس بين حزبين أو اكثر، وهي في العادة احزاب تقدمية واخرى محافظة، إلا ان الاحزاب المحافظة عندما تصل إلى السلطة تستمر في العادة في برامج دولة الرفاهية بالرغم من تعارض مثل هذا النوع من البرامج مع مبادئها ومواقفها الحزبية.
ومن الخدمات التي تقدمها دولة الرفاهية (Welfare Services): برامج الرعاية الصحية بدون مقابل ومجانية التعليم وسياسة الضمان الاجتماعي وغيرها من السياسات والبرامج الأُخرى ذات العلاقة بمفهوم دولة الرفاهية. ان الخدمات الصحية التي تقدمها الدولة الرفاهية في الدول الراسمالية، الهدف منها مساعدة العمال أو الفئات المحدودة الدخل واسرهم في حالات التقاعد أو في حالات العجز عن القيام بالعمل المطلوب. وتهدف فلسفة دولة الرفاهية في مجال تقديم الخدمات الصحية إلى المحافظة على مستوى صحي جيد، حتّى يتسنى من ناحية عدم وجود أي فاقد أو تاخير في العملية الانتاجية كنتيجة مباشرة للمرض أو اصابات العمل، وحتّى يتسنى من ناحية أخرى قيام دولة الرفاهية بواجباتها تجاه الفئات المحتاجة إلى الرعايا الصحية. ولقد حذت شركات القطاع الخاص في الدول الرأسمالية ايضاً حذو حكوماتها في تقديم برامج رعاية صحية لموظفيها وعمالها بمقابل بسيط أو حتّى بالمجان، لكي تحافظ على مستوى صحي لائق يمكنها من تحقيق اهدافها المنشودة. فعدم قدرة الفئة العاملة على دفع مصاريف الرعاية الصحية المتزايدة بشكل ملحوظ في النظم الرأسمالية، سيعرقل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة العملية الانتاجية والخدمية في مثل هذه الدول([36]).
لقد كان هذا الاجراء الاحترازي سبيلاً لأدغام طبقة العمال من حيث المصلحة مع الطبقة الرأسمالية وقطع ارتباطها بالطبقة العمالية في المناطق الأُخرى من العالم، طبعاً العالم المستثمر، وذلك للحيولة دون خلق وعي طبقي لدى عمال العالم ـ حسب التعبير الماركسي ـ وبهذا الشكل وقف عمال الدول الرأسمالية إلى جانب الطبقة البرجوازية مقابل ابناء طبقتهم من عمال الاطراف، في الاستغلال والمصادرة. فتحول التناقض الذي بشرت به الماركسية في القرن التاسع عشر إلى وفاق داخل المجتمعات الرأسمالية، جنبها ارباك النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.
ثانياً، الامبريالية: لـقد عّرف المفكر الليبرالي الراديكالي ذو الميول الاشتراكية، جوزيف شومبيتر (Joseph Schumpeter) الامبريالية على انها، علاقة القوة بالضعف([37]).
وعلى أساس هذا التعريف يمكن تقييم أي نوع من العلاقة في مختلف المجالات. فأذا كانت العلاقة (الموازنة) تشير إلى قوة طرف مقابل ضعف آخر، فأن الظاهرة الامبريالية موجودة في علاقة هذين الطرفين لامحالة، لأن القوة تعمل بشكل ذاتي على السيطرة والفرض والسلطة بما يحد ارادة الآخرين([38]).
وكان ظهور الامبريالية بسبب قوة الدول الاوروبية مقابل ضعف الدول الأُخرى في افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، في علاقة غير متكافئة، بدأت بسيطرة عسكرية واحتلال لأراضي تلك الدول من أجل التوسع الارضي الذي كان يسيطر على عقليات اباطرة اوروبا([39])، وبهدف نهب مواردها لدعم عملية التصنيع التي كانت تعيشها تلك الدول، ومن ثم تحويل هذه الدول إلى اسواق لفائض منتوجاتها عن الحاجة المحلية. وبديهي لم يكن الهدف والامبريالية الابتدائية محصوراً في القضايا الاقتصادية فقط ـ عكس مانجده اليوم ـ فقد كان الهدف سياسياً وعسكرياً بالدرجة الاولى، وذلك ينشأ من طبيعة النظام أو الانظمة السياسية التي كانت تسيطر على اوروبا والعالم آنذاك، فالقوى الاوروبية ومن أجل خلخلة التوازن الموجود بينها لصالحها كانت تسعى لفرض سيطرتها على اكبر عدد من الاطراف والاراضي خارج اوروبا من أجل دعم سلطتها وقوتها على الساحة الاوروبية وهو مانتج عنه معارك وحروب بين القوى الاوروبية للسيطرة على مستعمرات بعضها أو قطع يد بعضها عن تلك المستعمرات.
هذه الحروب التي اعتبرها البعض من النتائج المنطقية للفكر الرأسمالي([40])، في حين ان الحقيقة هي ان الحروب لم تكن نتيجة للفكر الاقتصادي الرأسمالي، بل هي ناتج عن منطق السيطرة العسكرية والسياسية للقوى الاوروبية التي حملت في طياتها صبغة عسكرية اكثر من كونها اقتصادية، علماً ان الرأسماليين استطاعوا ركوب موجة الاستعمار والاستفادة القصوى منها في تحويل النظم السياسية الغربية من نظم عسكرية إلى نظم تأخذ بنظر الاعتبار المصالح الاقتصادية بالدرجة الاولة، فاصبحت العملية العسكرية والسياسية اداة ووسيلة للسيطرة الاقتصادية وذلك في اواخر الثلث الأول من القرن العشرين.
ولما اصبحت القضية الاقتصادية هي الاستراتيجية الأساسية في السيطرة، اتخذت الامبريالية باعتبارها علاقة ثنائية أحد اطرافها القوة والطرف الآخر الضعف، شكلاً اقتصادياً يتناسب والروح البرجوازية المعقدة([41])، متخلية ـ بشكل غير نهائي ـ عن الاسلوب العسكري الاستعماري السابق.
يقول الدكتور مصطفى عبد الله خشيم:
((والليبرالية مثلها في ذلك مثل بقية الايديولوجيات السياسية تتكيف باستمرار مع الظروف البيئية المحيطة، وبالتالي يلاحظ ان الايديولوجيات الليبرالية المعاصرة تختلف بطبيعة الحال عن الليبرالية الكلاسيكية (Liberalism (Classical.
ويختلف الليبراليون الكلاسيكيون عن الليبراليين المعاصرين في الأسس الاقتصادية والسياسية التي تقوم عليها الايديولوجية الليبرالية، لاسيما فيما يتعلق بنشاطات الافراد والنظام السياسي في المجالين الاقتصادي والسياسي. إن محور التركيز بالنسبة لليبراليين ينصب على المجال الاقتصادي، عليه فانه ينظر إلى السياسة ـ على الأقل نظرياً ـ كمجال ثانوي على اعتبار أن للافراد اهدافاً وحاجيات اقتصادية يسعون إلى تحقيقها أولاً وقبل كل شيء...
اما على الصعيد الدولي، فتسعى النظم الليبرالية وفقاً لأسس الايديولوجية الليبرالية للمحافظة على السلم، الاستقرار، حرية التجارة، وحرية الاستثمار.
ويلاحظ في هذا السياق وجود فجوة بين النظرية والتطبيق، حيث إن النظم الليبرالية ادعت وتدعي دائماً بأنها تسعى إلى تطبيق مبادئ واسس نظرية مجردة تتمثل في السلم والاستقرار وحرية التجارة، ولكنها ارتكبت في واقع الأمر ابشع الجرائم الإنسانية لا سيما إبان فترة الاستعمار التقليدي باسم الحرية والمحافظة على السلم([42]).
فتم تقسيم العمل الدولي ووضع أسس التجارة العالمية، إلى جانب السيطرة السياسية والعسكرية التي نتجت عن تطاحن القوى العالمية خلال حربين عالميتين مدمرتين وبعض المعارك الاقليمية، كل ذلك من أجل تكريس التفوق الغربي أو مايسمى بالشمال اقتصادياً مقابل دول العالم الأُخرى التي اسقط عليها اسم الدول النامية، أو الجنوب.
وبهذا الشكل استطاعت الرأسمالية من خلال عدة عوامل، هـي:
1 ـ تعديل المفاهيم الاقتصادية ـ الاجتماعية بواسطة فكرة دولة الرفاهية.
2 ـ المضي قدماً في مجال التطور الصناعي والتنمية الاقتصادية.
3 ـ فرض قوانين تنبع من متبنياتها الفكرية على العالم بما يضمن مصالح مجتمعاتها.
4 ـ السيطرة السياسية والعسكرية على العالم وتصدير ازماتها إلى خارج الحدود.
5 ـ فرض نماذجها الثقافية من خلال الأدوات الثقافية التي تمتلكها.
استطاعت من خلال ذلك كله تطوير نفسها والخلاص من كثير من الازمات التي تعترض طريقها، فأحتفظت لنفسها بمسافات شاسعة مع النظم والمجتمعات الأُخرى، اعطاها الصدارة في الحضارة الحديثة.
فكرة المركز ـ الاطراف:
استطاعت الرأسمالية من خلال الخروج من الاطار المحلي ـ القومي تدويل نفسها في الفترة التي بدأت منذ آواخر القرن التاسع عشر وحتّى اليوم، وقد اتخذت اشكالاً عديدة بالنسبة للدول الأُخرى، غير التي كانت مهد انطلاقها.
ورغم ان الفكرة اقتصادية بالدرجة الاولى، إلا ان صياغة منظومة (System) كاملة اقحمها في مجالات مكملة أخرى سياسية وثقافية. فأرتبطت بالنظام الديمقراطي سياسياً وبالحرية (الليبرالية) ثقافياً، لذلك اصبحت مترادفة ـ الرأسمالية ـ لمقولتي الديمقراطية والليبرالية. وقد مكنها هذا التلازم وتلك الالحاقيات من فتح قلاع لم تكن في يوم من الايام تحلم بالتعرض لها، فضلاً عن فتحها.
تبدأ فكرة المركز ـ الاطراف ببساطة ان المركز يقوم بعمليات التحويل في العملية الانتاجية من خلال امتلاكه للثقافة اللازمة والعمالة الماهرة على خلاف الاطراف التي لا تمتلك سوى مواد اولية واسواق استهلاكية.
فالمادة الاولية تأتي من الاطراف (الاقمار) إلى المركز حيث يقوم المركز بتحويلها إلى بضائع استهلاكية وصناعية ومن ثم يرسل مايزيد عن حاجته الاستهلاكية إلى الاطراف ثانية، وبهذا الشكل من العلاقة يتراكم رأس المال في المركز وتبقى الاطراف على الهامش، ومع توسيع هذه الفكرة عالمياً تتحول الكثير من المراكز في دول العالم إلى طرف بدورها ترتبط من خلال هذا النمط من العلاقة الاقتصادية بالمركز الأساس.
فالفائض ينتقل من اصغر الاطراف إلى المركز الذي يليه، وهو بدوره يشكل أحد طرف المركز الذي يليه و... حتّى ينتهي إلى المركز النهائي. بهذا الشكل تصبح البرجوزية مرتبطة مع بعضها عالمياً ممايهدد سياسة الدول الاضعف لصالح الدول الاقوى (العلاقة الامبريالية)، لأن البرجوازية القومية ستجد مصالحها غير مرتبطة بمصالح دولتها القومية بما يهدد سيادة تلك الدول ويجعلها غير مستقلة في قراراتها وسياساتها.
وبتعميم هذا النموذج على المجالات الأُخرى واخراجه من شكله الاقتصادي فقط، يظهر عمق وخطورة الخطوة الرأسمالية على المجتمعات الأُخرى ـ الاقمار ـ، فهي تفرض البضاعة المنتجة من قبلها (سواءً كانت بضاعة اقتصادية أو ثقافية أو سياسية... الخ) وتجني ارباحها من خلال ارتباط البرجوازية القومية بها. وفي هذا الصدد يقول المفكر العربي الدكتور سمير امين:
" لقد تجلت ظاهرة الاستقطاب الحديث (الرأسمالي) في صورة متتالية لازمت تطور نمط الانتاج الرأسمالي نفسه، وهي الآتية:
1 ـ الشكل المركنتيلي (من 1500 إلى 1800 ميلادية)، السابق على الثورة الصناعية، والذي اتسم بهيمنة رأس المال التجاري للمراكز الاطلنطية المسيطرة فكيّف اطراف تلك العصور ـ أي القارة الامريكية ـ بحيث انها خضعت لمقتضيات إعادة تراكم رأس المال التجاري.
2 ـ الشكل الذي نسميه الشكل (الكلاسيكي) الذي تبلور في اعقاب الثورة الصناعية، وهي تلك النقلة الكيفية التي اتاحت تكوين المراكز في صورتها المتكاملة النهائية. هذا بينما ظلت القارات المتخلفة الثلاث ريفية وغير مصنعة، الأمر الذي ادى إلى اندماجها في تقسيم العمل العالمي بصفتها مصدرة لمنتجات اولية زراعية ومعدنية.
أضف إلى ذلك سمة ثانية لا تقل اهمية في طابع الاستقطاب المعنى هنا، إلا وهي تبلور النظم الانتاجية الصناعية المركزية كنظم وطنية متمركزة على الذات، وهي ظاهرة رافقت بناء دولة البرجوازية الوطنية. من هنا نستطيع ان ندرك الابعاد الايديولوجية في استراتيجيتها حركة التحرر الوطني التي نشأت وانتشرت في العالم الثالث في مواجهة تحدي الاستقطاب، فهي وضعت لنفسها هدفين مرتبطين بعضهما ببعض:
أولاً ـ التصنيع كمرادف للتقدم والتحرر ووسيلة " اللحاق " بمستويات اعلى من النمو.
ثانياً ـ بناء الدولة الوطنية على نمط ما قد سبق انجازه في الدول المركزية. هكذا تبلورت ايديولوجياً " التحديث " التي أضفت هذا المضمون المحدد لمفهوم " المعاصرة ". وقد ساد هذا الشكل الكلاسيكي للاستقطاب منذ فجر الثورة الصناعية (اوائل القرن التاسع عشر) إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية.
3 ـ مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (1945 ـ 1990) وهي مرحلة تآكل تدريجي للسمتين الموصوفتين هنا. فهي مرحلة تصنيع الاطراف وان كانت درجة إنجاز هذا التصنيع متفاوتة من منطقة لأخرى.
فصار هذا التطور متحكماً اقتصادياً واجتماعياً في آسيا وأمريكا اللاتينية على الأقل. وكان هذا التقدم من اهم نتائج انتصار حركات التحرير الوطنية التي سبق أن حققت فعلاً الشرط الاولي الاساسي من أجل إنجاز التحديث المطلوب إلا وهو الاستقلال السياسي. والمرحلة هي ايضاً مرحلة تفكك تدريجي لنظم الانتاج الوطنية المتمركزة على الذات واعادة دمج العناصر المكونة لها في منظومة انتاجية عالمية الطابع.
أقول إن هذا التآكل على الصعيدين المذكورين هو التجلي الجديد للعولمة وتعمقها([43]).
لذلك ففكرة العولمة الجديدة هي في الحقيقة صياغة جديدة لسياسات الرأسمالية في السيطرة على العالم والتي كانت في الفترات السابقة تأخذ طابعاً بدائياً، لكنها اصبحت اكثر تعقيداً مع ثورة المعلومات التي شهدها الثلث الاخير من القرن العشرين والانهيارات التي تعرض لها النظام الدولي. يقول الدكتور سمير امين:
أدى تراكم هذه التحولات إلى انهيار موازين نظام مابعد الحرب العالمية الثانية. وعلى أن هذا الانهيار لم يؤد تلقائياً إلى تكوين نظام عالمي جديد يتسم بسمات جديدة ويحل محل السابق، بل ادى إلى فوضى هي بدورها ناتج فشل في المجالات الثلاثة الآتية:
ـ في مجال النظام السياسي والاجتماعي، حيث أن المنظومة العالمية لم تتكيف بعد مع احتياجات تجاوز الممارسات الوطنية في ادارة السياسة لكي تلائم هذه الاخيرة مقتضيات عولمة الاقتصاد.
ـ في مجال تنسيق العلاقات الاقتصادية والسياسية بين المراكز القديمة والبلدان الحديثة التصنيع في آسيا وأمريكا اللاتينية، بحيث تتاح للاخيرة فرصة اختراق الاسواق العالمية، وأن يستمر نموها مدعماً على هذا الأساس.
ـ " في مجـال إقامـة علاقات جديدة مع الاطراف التي لم تدخل بعد في مرحلة التصنيع أو التي لم تفلح في اختراق اسواق المنتجات الصناعية، والتي تعاني بالتالي من تهميش في المنظومة العالمية الجديدة " ([44]).
مفهوم العولمة
اشرنا في السابق، ان الرأسمالية استطاعت من خلال نهجين تكامليين احدهما على مستوى سياسات الداخل والآخر يتعلق بالسياسة الخارجية من تجاوز ازمتها التي ظهرت في بداية القرن العشرين، وبموازات تطور النهج الداخلي وصياغته على المستويات الاقتصادية والسياسية والثقافية، صياغات جديدة تؤطر علاقة الفرد بالسلطة والمجتمع ومواقع رؤوس الأموال والقوة ضمن شبكة معقدة من المفاهيم التي اخرجتها عن الصياغة الديمقراطية الليبرالية التقليدية والبسيطة، كان هناك تطور اكبر على مستوى السياسة الخارجية للرأسمالية، منطلقة من فكرة الهيمنة الاقتصادية على المجتمعات الأُخرى بما يوفر لها الديمومة في الداخل، أو لألحاق المجتمعات الأُخرى بعملية النمو والتقدم الرأسمالي الذي خاضته هي ـ حسب رأي المدافعين عنهاـ.
ومن خلال اقامة نظام تجارة عالمي، كانت هي المشرّع والمهندس لهيكليته بفضل ماتمتلكه من تقنية وقدرة اقتصادية وسياسية وعسكرية، استطاعت السيطرة على شتى مجالات الاقتصاد، واستعاضت هيمنتها العسكرية والسياسية السابقة له، بل جعلته وسيلة لنوع آخر من الهيمنة حقق لها من المكاسب اضعاف ما كانت تكسبه بالسيطرة المباشرة أو مايدعى بالاستعمار القديم، الذي كان إلى جانب فوائده ـ بالنسبة لها ـ، يفقدها الكثير من وجاهتها التحررية الليبرالية وقد تدفع معه اثمان باهضة نتيجة لحركات التحرر الوطنية التي لا تطيق التواجد العسكري على ارض وطنها والتبعية المباشرة للحكام.
وحول هذا الموضوع يقول السيد احمد صدقي الدجاني معقباً على ورقة السيد يسين إلى ندوة العرب والعولمة التي اقامها مركز دراسات الوحدة العربية عام 1997 في بيروت:
نؤسس على هذه الفرضية قولنا: إن الصلة عضوية بين العولمة والامبريالية، وهي صلة تقوم على علاقتيـن: علاقة امتداد واستمرار، وعلاقة قطيعة وانفصال، وجه الاستمرارية في العلاقة ثابت من خلال رسوخ ظاهرتين في نشاط النظام الرأسمالي ـ في صيغته الامبريالية والعولمية ـ هما: الاحتكار، والمنزع التوسعي المستمر. والعولمة في هذا ترث جدتها الامبريالية فتذهب بالاحتكار إلى اعلى الحدود الممكنة، إن على صعيد منظومة الدول السبع الكبار، التي تحتكر اكثر من ثلاثة ارباع الثروة العالمية، أو على صعيد منظومة الشركات الكونية الكبرى فوق القومية التي تتحكم اليوم في نسيج الانتاج والتبادل، مثلما تذهب بالتوسع إلى حد اعجاز أي سوق في العالم عن حفظ الحد الادنى الرمزي من سيادتها.
غير أن وجه القطيعة في العلاقة متمركز في ميدان الادوات والآليات الوظيفية التي تتوسل بها الامبريالية لتحقيق هدف العولمة، إلا وهو الزحف المعمم للقيم المادية والرمزية للميتروبول الغربي. احتاجت الرأسمالية الصناعية ـ رأسمالية المنافسة الحرة ـ إلى الاستعمار، أي استعمال القوة العسكرية لاحتلال بلدان الجنوب، والسيطرة على مواردها، واحتاجت الامبريالية إلى ادوات اقتصادية متطورة لاخضاع البلدان التي انسحب منها الاستعمار عسكرياً، فكان منها برامج التعاون، والقروض، والاستثمار، وربط اقتصادات هذه البلدان بالميتروبول. اما العولمة، فتتجه إلى تسليط منظومة جديدة من التشريعات الاقتصادية التي تقر فتح الحدود، وحرية التجارة، واهدار نظم الحماية الجمركية وكل ما يمكن ان يسمح لدولة ببسط سيادتها. غير ان الامم في عمل العولمة هو استثمار ثورة المعلومات والتقانة في الميدان الاقتصادي إلى حد اهدار قدرة اية دولة ـ من خارج الميتروبول الجديد ـ على حماية اقتصادها وسيادتها، واستثمار الثورة اياها على صعيد الاتصال لتسهيل عملية الاخضاع الاقتصادي بمواكبة ثقافية وقيمية تنجز عملية التطويع الاجتماعي والنفسي المطلوبة لانقاذ فعل العولمة في المجتمعات التي يقع عليها ذلك الفعل)) ([45]).
هذه الحالة التي عرفت بالاستعمار الجديد ركزت في مرحلتها الاولى على النشاط الاقتصـادي كأهـم حربة تستخدمها مقابـل الدول المستقلة حديثاً من الاستعمار المباشر. فكانت الدول الاستعمارية التي خرجت لتوها من الباب بالآلاف بل ملايين الضحايا تدخل مرة أخرى من الشباك. ونتيجة لذلك يشعر اصحاب الاطراف: أولاً، ان ما قدموه من تضحيات لها لا فائدة منه، لذلك لا بدّ من الاستسلام لدول المركز التي تحسن استخدام سلطتها الاقتصادية، ثانياً، الحكم على التجارب الوطنية بالفشل مسبقاً، لأن الاستقلال السياسي الذي يحصل بعد جلاء المستعمر يتحول مرة أخرى إلى تبعية عن طريق العامل الاقتصادي، بدل ان ينتهي الاستقلال السياسي إلى استقلال في القرار وفي الموازنة الاقتصادية عالمياً.
يقول الدكتور سمير امين: ان الرواج الذي تلى الحرب العالمية الثانية، كان مع تكيف استراتيجيات رأس المال لمقتضيات العلاقات الاجتماعية التي فرضتها القوى الديمقراطية والشعبية. وهذا الوضع هو تماماً عكس " التكيف " الذي يدعو إليه اصحاب النظام حالياً، إلا ان تلك التوازنات التي قام النظام على اسسها قد اخذت في التآكل التدريجي خلال مرحلة مابعد الحرب.
فهي مرحلة دخول الاطراف (الاطراف) في عملية التصنيع من جانب، كما هي مرحلة تفكك تدريجي للمنظومات الانتاجية الوطنية المتقدمة المتمحورة حول الذات، واعادة تشكيلها بصفتها عناصر مكونة لمنظومة انتاجية معولمة (مكوكبة) من الجانب الآخر. وهذا التآكل المزدوج هو تمظهر لتعمق ظاهرة العولمة التي فرضت فاعلية ادارة التحديث في الاطار القطري. يضاف إلى ذلك ان ثمة ابعداً جديدة للمشكلة ذات طابع معولم من الاصل قد تبلورت خلال المرحلة فانجر مفعولها حديثاً. اقصد هنا ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ تحدي البيئة على صعيد الكوكب، وتحدي وسائل الاعلام والاتصال التي ادى تقدمها المتعجل إلى عولمة ممارسات جديدية لها تأثير عميق في الحياة السياسية والثقافية لشعوب الكوكب جميعاً ([46]).
في مقابل هذا الضعف لدى الاطراف والشعارات الجوفاء التي كانت آخر مابقي من سيل الدماء المراقة في سبيل الاستقلال، استمر الغرب في تطوير ما يمكن تسميته بتكنولوجيا الاستعمار، وذلك باكمال سلسلة المجالات الأُخرى الموازية للهيمنة الاقتصادية، فكانت الصرعة الاخيرة هي الصرعة الثقافية والمعلوماتية، اثر تطور وسائل الاتصال ونفوذ المنتجات الاقتصادية والثقافية الغربية إلى مساحات واسعة من المجتمعات الأُخرى. في هذه المرحلة من الهيمنة تحـول الغرب إلى نموذج ومثال لدى عامة المجتمعات الأُخرى، بعد ان كان هذا النموذج مقتصراً على اذهان بعض النخب الثقافية والفكرية التي تأثرت بالفكر الغربي نتيجة لمؤثرات متفاوتة.
ولما كان التاثر في السابق يحصل عن طريق وسيط ثالث أو فضاء حائل بين المؤثر والمتأثر، كان بالإمكان تعديل بعض المؤثرات القادمة بواسطة تطبيعها واقلمتها مع ذلك الفضاء في عملية ظريفة تتيح للمفكر والمثقف والعالم الداخلي شيئاً من الابداع والتوفيق حتّى لو كان على مستوى يسير. أو حتّى بالنسبة للدولة فأنها كانت تمثل حلقة الوصل بين السياسات العالمية والسياسات المحلية المطبقة داخل مجتمعاتها حتّى لو كان ذلك التطبيق مشوهاً في اغلب الاحيان، اما بعد النقلة التي حصلت في وسائل الاتصال تمكنت الرأسمالية مخاطبة الفرد بشكل مستقل دون وجود واسطة مؤثرة لتعديل ذلك الخطاب، فنفت المراكز الرأسمالية بهذا الشكل دور المثقف والسلطة المحلية، وجعلت دوره يتركز ضمن حالتين لا ثالث لهما، وهو اما ان يكون موافقاً مسهلاً للآخرين عملية الارتباط القصوى مع المراكز الام، أو ان يكون معارضاً مفلساً تستحقه القوة التي تمتلكها المراكز ـ حسب تعبير فوكوياما ـ.
والملاحظ في هذه الصياغة الجديدة، انتهاء دور (المراكز ـ الاطراف) الوسطية بين الطرف الأول والمركز النهائي (الام)، بمعنى انتهاء قدرة البرجوازية الوطنية نفسها والتحكم الكامل بالافراد متجاوزة بذلك حلفاءها التقليديين في ما يسمى بالاطراف سابقاً.
هذه الصياغة الجديدة التي اتت على الحواجز الاقتصادية ـ ابتداءاً ـ والثقافية ـ ثانية ـ والسياسية فيما بعد، هو مايعرف بالعولمة، اذن العولمة وقبل كل شيء صياغة جديدة لعلاقة المراكز العالمية الرأسمالية بالمجتمعات الأُخرى غير الرأسمالية أو شبه الرأسمالية، اساسها الخطاب المباشر وتكريس الارتباط وتوثيقه مع الفرد، بما يجعلها تتجاوز الحدود كل الحدود الاقتصادية والسياسية والثقافية. وهو في الحقيقة فرض قوي ومباشر لسلطة الرأسمالية دون قبول أي منازع لها حتّى لو كان على مستوى واسـطة بينها وبين الفرد في المجتمعات الأُخرى. ((يدعى الخطاب السائد ان للعولمة طابع الجبر، طابع القانون الموضوعي الذي لا مفر من الخضوع لمقتضياته عن اضطرار أو اختيار، ويفهم من هذا الادعاء ان شكل العولمة السارية هو الشكل الوحيد الممكن لها، وان تصور مسيرة مختلفة لها لايعدو أن يكون طوباوياً ([47]).
وقد يكون هذا الرأي، فيما يخص العولمة، ينطلق من معارضة لمفهوم السلطة الرأسمالية الغربية، والقـول بضرورة الاستقلال والسيادة الوطنية والقومية، لكنه لا ينفي بالضرورة الملكيـة الفردية، واصالة الفرد مقابل الدولة والمجتمع، بل هو في رأيي تأصيل للفرد من خلال اخراجه من عملية العقل الجمعي وافراده بالتفكير لما يحقق مصالحه، فبأعتقادي ان الرأسمالية المعاصرة، تحولت إلى نوع من الاشتراكية الامبريالية، وان الحقيقة الرأسمالية لا تتعدى (10%) من المجتمعات الرأسمالية الام نفسها، والذي يشاهد في علاقات الكبار الاقتصاديين.
في الولايات المتحدة، ترتبط الحركات الاجتماعية الجديدة، والاقليمية، والجماعات الإتنية ذات التأثير في السياسة الداخلية والخارجية، على نحو وثيق بعملية العولمة، و(السلطة الهادئة) ـ التي يمكن تحديدها في مخزون المعلومات، والخبرة، والثقافة ـ هي المصدر الذي تملكه الولايات المتحدة بشكل اكبر بما لا يقاس مما تملكه امة أخرى. لكن هذه السلطة الهادئة المنتشرة في المجتمع، ملك لعالم الاعمال والصناعة، لا للسلطة السياسية، ومن هنا، فان اجهزة الدولـة لا تبدي قدرة على استعمال هذه القوة من أجل النفع الاجتماعي. وفي أمريكا اكثر من أي مكان آخر في العالم فان المصالح المحلية والاقليمية التي تعمل على ان تجعل العالم لحسابها، تسوق إلى تبني مفاهيم عابرة للقومية.
على أية حال العولمة كفكرة، لها من يدافع عنها ويؤسس لها وبين من يرد عليها ويعترضها، كما ان هناك فريق ثالث، يحاول جهد الامكان التوفيق بين القبول والرد، فيعمل بطريقة الاختيار، منتخباً بعض الاوجه ونابذاً أخرى.
" العولمة ".. " الكوكبية ".. " الكونية ".. كلها مسميات مختلفة لظاهرة واحدة باتت اليوم الشغل الشاغل للمفكرين والباحثين في سائر انحاء العالم. وفي عالمنا العربي، يدور جدل واسع حول العولمة بين مختلف تيارات الفكر العربي. وتتباين مواقف هؤلاء من قضايا العولمة، ويرفض الكثيرون منهم مفهوم العولمة ـ وكأنها فكرة وليست وقعاً على الارض ـ بصيغته المطروحة حالياً، أو بتعبير ادق بالصيغة التي يفهمونها هم. إذ يعتبرون العولمة محاولة لسحق الهوية الوطنية، والمصالح الوطنية، والثقافة الوطنية، والشخصية الوطنية ـ اجمالاً كل ما هو وطني ـ لصـالح مسعى شرير لـ " الاختراق الثقافي " و " الغزو الحضاري " و " تهميش الشعوب واذلالها " و " تنميط العالم " و " امركته " إن جاز لنا التعبير.
ويعكس جانب غير قليل من وجهات نظر رافضي العولمة في عالمنا العربي جموداً فكرياً، ورفضاً ـ لا شعورياً في احيان عديدة ـ للتخلي عن المسلمات والقوالب الايديولوجية الجاهزة التي انتجتها حقبة الحرب الباردة وصعود حركة التحرر الوطني، والتي ترى في كل ما يأتينا من الخارج محاولة للقضاء على ثقافتنا الوطنية، ودولتنا القومية، وهويتنا الحضارية تمهيداً للسيطرة على اسواقنا وامتصاص دماء شعوبنا، ويردد جانب آخر منها تيمات جاهزة ـ وقديمة جداً ـ تتحدث عن ضرورة الدفاع عن " هويتنا " بالانغلاق على الذات واحياء الموروث الثقافي القديم " الذي يتآمر عليه الجميع ".
والطريف في الأمر اننا إذا كنا نجد الاصوات الرافضة للعولمة عندنا تنطلق من مواقع مختلفة داخل كل تيارات الفكر العربي المعاصر، فإن التيارات الرافضة للعولمة في الغرب وفي الولايات المتحدة ـ التي ترى فيها خطراً على استقرار المجتعات والبيئة ـ تتضمن خليطاً عجيباً من: "؟... مصالح تمتد من المتحدين بلسان الحركة العمالية إلى المدافعين عن البيئة، بما في ذلك الثلاثي، غير المتوقع تجمعه، روس بيرو، وجورج سوروس، وسير جيمس جولد سميث.. " (راجع المقالة " المعقول وغير المعقول في الجدل الدائر حول العولمة "). وبل ويجب التأكيد، هنا على أن الكثير من الاصوات الرافضة للعولمة في اوروبا تنطلق من مواقع اليمين، وليس اليسار كما يتصور البعض، وهو ما تبدئ في النفوذ المتزايد " لبات بوكانن " في أمريكا، و" جان ماري لوبان " في فرنسا، و" فلاديمير جيرنوفسكي " في روسيا)) ([48]).
وعلى هذا الأساس تكون العولمة على عدة مستويات، بدأت بالعولمة الاقتصادية ومن ثم الثقافية وبعدها العولمة المعلوماتية والعولمة السياسية التي تحاول الدول الكبرى صياغتها بشكل نهائي حالياً ومن ثم فرض العولمة العسكرية وهي اخطر مستويات الفكرة لو قدر لها التطبيق الكامل. ويتحدث السيد يسين حول مراحل نشوء العولمة من وجهة نظره، فيقـول:
يمكن القون إن للعولمة تاريخاً قديماً، وبالتالي فهي ليست نتاج العقود الماضية التي ازدهر فيها مفهوم العولمة وذاع وانتشر، واصبح أحد المفاهيم الرئيسية لتحليل الظواهر المتعددة التي تنطوي عليها العولمة، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة ولعلّ ما جعل العولمة تبرز آثارها في هذه المرحلة التاريخية التي يمر بها العالم، هو تعمق آثار الثورة العلمية والتقانية من جانب، والتطورات الكبرى التي حصلت في عالم الاتصال، والتي يمكن القول انها احدثت ثورة في العالم من خلال تطور الحواسيب الالكترونية والاقمار الصناعية وظهور شبكة الانترنيت، بكل ما تقدمه للاتصال الإنساني بمختلف انواعه من فرص ووعود.
وإذا حاولنا ان نتبع النشأة التاريخية للعولمة، يمكننا أن نعتمد على النموذج الذي صاغه رولاند روبرتسون في دراسته المهمة " تخطيط الوضع الكوني: العولمة باعتبارها المفهوم الرئيسي "، والذي حاول فيه أن يرصد المراحل المتتابعة لتطور العولمة وامتدادها عبر المكان والزمان. ونقطة البداية عند روبرتسون هي ظهور " الدولة القومية الموحدة "، على أساس أن هذه النشأة تسجل نقطة تاريخية فاصلة في تاريخ المجتمعات المعاصرة، ذلك أن ظهور المجتمع القومي منذ حوالي منتصف القرن الثامن عشر يمثل بنية تاريخية فريدة، وأن الدول القومية المتجانسة، والتجانس هنا بمعنى التجانس الثقافي والمواطنين الذين يخضعون لادارتها، تمثل تشكيلاً لنمط محدد من الحياة، ويمكن القول في الحقيقة إن شيوع المجتمعات القومية في القرن العشرين هو فعل من افعال العولمة، بمعنى أن اذاعة ونشر الفكرة الخاصّة بالمجتمع القومي كصورة من صور الاجتماع المؤسسة، كان جوهرياً بالنسبة إلى تعجيل العولمة التي ظهرت منذ قرن من الزمان.
وهنـاك مكونـان آخران للعولمة وهما ـ بالإضافة إلى المجتمعات القومية ـ مفاهيم " الافراد " و " الإنسانية ".
وبناءً على هذه الاعتبارات صاغ روبرتسون نموذجه من خلال تعقب البعد الزمني التاريخي الذي اوصلنا إلى الوضع الراهن، والذي يتسم بدرجة عالية من الكثافة الكونية والتعقيد، وينقسم النموذج إلى خمس مراحل كما يلي:
1 ـ المرحلة الجنينية:
استمرت في اوروبا منذ بواكير القرن الخامس عشر حتّى منتصف القرن الثامن عشر. هذه المرحلة شهدت نمو المجتمعات القومية، واضعافاً للقيود التي كانت سائدة في القرون الوسطى. كما تعمقت الأفكار الخاصّة بالفرد وبالانسانية. وسادت نظرية عن العالم وبدأت الجغرفيا الحديثة وذاع التقويم الغريغوري.
2 ـ مرحلة النشوء:
استمرت في اوروبا اساساً من منتصف القرن الثامن عشر حتّى عام 1870 وما بعده. فقد حدث تحول حاد في فكرة الدولة المتجانسة الموحدة، واخذت تتبلور المفاهيم الخاصّة بالعلاقات الدولية، وبالافراد باعتبارهم مواطنين لهم اوضاع مقننة في الدول، ونشأ مفهوم اكثر تحديداً للإنسانية. وزادت إلى حد كبير الاتفاقات الدولية، ونشأت قبول المجتمعات غير الاوروبية في " المجتمع الدولي ". وبدأ الاهتمام بموضوع القومية والعالمية.
3 ـ مرحلة الانطلاق:
استمرت من عام 1870 وما بعده حتّى العشرينيات من القرن العشرين. وظهرت مفاهيم كونية مثل " خط التطور الصحيح " والمجتمع القومي " المقبول "، وظهرت مفاهيم تتعلق بالهويات القومية والفردية، وتم ادماج عدد من المجتمعات غير الاوروبية في "المجتمع الدولي"، وبدأت عملية الصياغة الدولية للافكار الخاصّة بالانسانية ومحاولة تطبيقها. وحدث تطور هائل في عدد وسرعة الاشكال الكونية للاتصال. وتمت المنافسة الكونية مثل الالعاب الاولمبية وجوائز نوبل. وتم تطبيق فكرة الزمن العالمي، والتبنؤ شبه الكوني للتقويم الغريغوري. وقعت في هذه المرحلة الحرب العالمية الاولى ونشأت عصبة الامم.
4 ـ الصراع من أجل الهيمنة:
استمرت هذه المرحلة من العشرينيات حتّى منتصف الستينيات. وبدأت الخلافات والحروب الفكرية حول المصطلحات الناشئة الخاصّة بعملية العولمة والتي بدأت في مرحلة الانطلاق. ونشأت صراعات كونية حول صور الحياة واشكالها المختلفة. وقد تم التركيز على الموضوعات الإنسانية بحكم حوادث الهولوكوست والقاء القنبلة الذرية على اليابان، وبروز دور الامم المتحدة.
5 ـ مرحلة عدم اليقين:
بدأت منذ الستينيات وادت إلى اتجاهات وازمات في التسعينيات. وقد تم ادماج العالم الثالث في المجتمع العالمي، وتصاعد الوعي الكوني في السبعينيات. وحدث هبوط على القمر، وتعمقت القيم ما بعد المادية، وشهدت المرحلة نهاية الحرب البادرة، وشيوع الاسلحة الذرية. وزادت إلى حد كبير المؤسسات الكونية والحركات العالمية. وتواجه المجتمعات الإنسانية اليوم مشكلة تعدد الثقافات وتعدد السلالات داخل المجتمع نفسه. واصبحت المفاهيم الخاصّة بالافراد اكثر تعقيداً من خلال الاعتبارات الخاصّة بالجنس والسلالة. وظهرت حركة الحقوق المدنية، واصبح النظام الدولي اكثر سيولة، وانتهى النظام الثنائي القومية، وزاد الاهتمام في هذه المرحلة بالمجتمع المدني العالمي، والمواطنية العالمية، وتم تدعيم نظام الاعلام الكوني([49]).
والعولمة عند صادق العظم هي: " وصول نمط الانتاج الرأسمالي عند منتصف هذا القرن تقريباً، إلى نقطة الانتقال من عالمية دائرة التبادل والتوزيع والسوق والتجارة والتداول، إلى عالمية دائرة الانتاج واعادة الانتاج ذاتها، أي أن ظاهرة العولمة التي نشهدها هي بداية عولمة الانتاج والرأسمال الانتاجي وقوى الانتاج الرأسمالية، وبالتالي علاقات الانتاج الرأسمالية ايضاً. ونشرها في كل مكان مناسب وملائم خارج مجتمات المركز الاصلي ودوله. العولمة هي رسملة العالم على مستوى العمق بعد أن كانت رسملته على مستوى سطح النمط ومظاهره.
وينتهي العظم إلى صياغة تعريف عام للعولمة بكونها " هي حقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانية جمعاء في ظل هيمنة دول المركز وبقيادتها وتحت سيطرتها، وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ([50]). ونستطيـع في مجال تعريف العولمة بطريقة تحليلية أن نتأمل محاولة نظرية لافتة قام بها " جيمس روزناو " أحد ابرز علماء السياسة الامريكية. ويقرر " روزناو " منذ البداية على ضرورة وضع تعريف واضح للعولمة يحدد محتواها بدقة. ويقرر: " وإن كان يبدو مبكراً وضع تعريف كامل وجاهز يلائم التنوع الضخم بهذه الظواهر المتعددة، فعلى سبيل المثال، يقيم مفهوم العولمة علاقة بين مستويات متعددة للتحليل: الاقتصاد، السياسة، الثقافة، الايديولوجيا، وتشمل اعادة تنظيم الانتاج، تداخل الصناعات عبر الحدود، انتشار اسواق التمويل، تماثل السلع المستهلكة لمختلف الدول، نتائج الصراع بين المجموعات المهاجرة والمجموعات المقيمة ". ويعقب قائلاً: في ظل ذلك كله، فإن مهمة ايجاد صيغة مفردة تصف كل هذه الانشطة تبدو عملية صعبة، وحتّى لو تم تطوير هذا المفهوم، فمن المشكوك فيه، أن يتم قبوله واستعماله بشكل واسع ".
ويمكن القول إن منهج " روزناو " في وضع تعريف للعولمة يتمثل في ضرورة تحديد المشكلات المرتبطة بهذا المفهوم منذ البداية، وهكذا يطرح سؤالاً رئيسياً مبناه: ما هي العوالم التي ادت إلى بروز ظاهرة العولمة في الوقت الراهن؟ وهل هذا يرجع إلى انهيار نظام الدولة ذات الحدود المستقلة؟ وهل العولمة تتضمن زيادة التجانس ام تعميق الفوارق والاختلافات؟ وهل الهدف هو توحيد العالم ام فصل النظم المجتمعية عن طريق الحدود المصنوعة؟ وهل العولمة تنطلق من مصادر رئيسية واحدة، ام تنطلق من مصادر متنوعة ومتداخلة؟ وهل تنطلق من عوامل اقتصادية وابداع تقاني ام من خلال الازمة الايكولوجية؟ وهل هي عبارة عن اتحاد لكل هذه العوامل ام انه لاتزال هناك ابعاد أخرى؟ وهل العولمة تتميز بوجود ثقافات عامة ام مجموعة من الثقافات المحلية المتنوعة؟ وهل العولمة غامضة، ام انها تحول بارز على المدى الطويل بين العام والخاص، وبين المحلي والخارجي، وبين المغلق والمفتوح؟ وهل هي استمرار لنمو الفجوة بين الفقراء والاغنياء على جميع المستويات؟ وهل العولمة تتطلب وجود حكومة عالمية؟.. في ضوء ذلك كله يمكن اثارة سؤال رئيسي: كيف تحدث العولمة؟ وبعبارة أخرى، بأي الطرق أو من خلال أي قنوات يتم انتشار السلع والخدمات والافراد والافكار والمعلومات والنقود والرموز والاتجاهات واشكال السلوك عبر الحدود؟
في رأي " روزناو"، تتم عملية الانتشار من خلال اربـع طرق مختلفة ومترابطـة:
1 ـ من خلال التفاعل الحواري الثنائي الاتجاه عن طريق تقانة الاتصال.
2 ـ الاتصال المونولوجي أحادي الاتجاه من خلال الطبقة المتوسطة.
3 ـ من خلال المنافسة والمحاكاة.
4 ـ من خلال تماثل المؤسسات([51]).
* العولمة الاقتصادية:
على هذا المستوى من العولمة، بدأت العقول الغربية بالعمل منذ امد بعيد وذلك من خلال ربط اقتصاديات العالـم بالمراكز الرأسمالية، وقد كانت الخطوة الاولى في ذلك بواسطة ربط اقتصاديات المجتمعات الرأسمالية نفسها مع بعضها مع هيمنة واحدة منها على الأُخرى، وقد يمكن اعتبار مشروع مارشال الذي قامت به الولايات المتحدة الامريكية لتنشيط اقتصاديات الدول الاوروبية عقب الحرب العالمية الثانية والنهوض بها بعد الاضرار الجسيمة التي منيت بها اثر الحرب مع المانيا الهتلرية ودول المحور، هو المشروع الأول في العولمة والسيطرة على اقتصاديات العالم المتطور والذي يسهل بدوره السيطرة على اقتصاديات الدول الأُخرى الضعيفة والاضعف. فكان سيل الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة الفاتح الأول للحرب مع النازية المنفذ للسيطرة على الاقتصاد الاوروبي وصياغة سياساته وفق الرؤية الامريكية للنظام الاقتصادي العالمي، وذلك عن طريق ربط المؤسسات الاقتصادية الاوروبية بالمال والتكنولوجيا الامريكية التي لم تتضرر شيئاً خلال فترة الحرب عكس ماحصل للدول الاوروبية. رغم ان الهدف المعلن كان تقوية اوروبا الغربية الرأسمالية امام التوسع الشيوعي الذي قاده الاتحاد السوفيتي، لكن الحقيقة هو ان الاتحاد السوفيتي (السابق) ورغم قوته العسكرية التي حصل عليها اثناء الحرب والمد الايديولوجي الذي ركبه كان اضعف من ان يشكل تهديداً حقيقياً لقوة أمريكا واوروبا الغربية مجتمعاً، لأنه كان يعاني من اقتصاديات ضعيفة وبدائية مقارنة بالجانب الامريكي، ومشاكل اجتماعية وقومية متعددة، ان فكرة مشروع مارشال عام 1947، اخرج رأس المال الامريكي إلى خارج نطاقه القومي، أي عولمته بأتجاه دول اوروبا الغربية، ومن ثم الدول الأُخرى التي صورت على انها قلاع بوجه اتساع النفوذ الشيوعي، فجاء بعد ذلك دور اليابان وكوريا و....
ويحدد / سمير أمين الحالة الجديدة بانها بداية مرحلة تاريخية انطلقت خلال الاعوام (1989 ـ 1991) من خلال الاخفاق التام المزدوج لطموحات انظمة وبلدان الشرق المسماة بـ " الاشتراكية " وانظمة وبلدان الجنوب المسماة بـ " الاستقلالية الوطنية " مختتمة عهد الحياد الايجابي الذي عـاش ثلاثين عاماً (أي جيلاً كاملاً) للفترة (1955 ـ 1985). ويتوالد اليوم عهـد جديد هـو " عهد السـوق " (Market) الذي سـيغدو محاولة جديدة لتوحيد العالم (أي العولمة). معنى ذلك: ولادة مفاهيم ومضامين وافكار وانساق جديدة على حساب انتهاء وانتفاء ظواهر وحالات ومضامين ومصطلحات ومفاهيم عدة، مثل: " شرق ـ غرب "، " شمال ـ جنوب "، " العالم الثالث "، الشيوعية، " البلدان الاشتراكية "، " الحياد الايجابي "، " عدم الانحياز "، " التأميم... الخ، وسيمضي زمن ليس بطويل تعيش فيه مفاهيم القرن العشرين في حالة اغتراب حقيقي، أو سيقضي عليها نهائياً، لتصبح تاريخاً ايديولوجياً عفا عليه الزمن، إذ ستنبثق مفاهيم ومصطلحات ومضامين جديدة تتخذ لها صوراً واشكالاً مختلفة، كونها ستعبر عن واقع سياسي / أو ايديولوجي مختلف، وربما لا تحكم الاطراف ـ كالعادة ـ التعبير عنه، بل ستعتمد باعتبارها مكونات اطراف لمركز استقطاب النظام الدولي (أي العولمة الجديدة) ([52]).
ـ عولمة رأس المال:
بعد تحول الغرب إلى نموذج امثل للتقدم والتنمية الاقتصادية لدى المجتمعات الأُخرى، بدأ المفكرون والساسة الغربيون بطرح نظريات عديدة حول امكانية النهوض بالمجتمعات الأُخرى إلى مصاف الدول المتقدمة أو وضعها على الطريق والمسيرة التاريخية التي قامت في الغرب. ولما كانت ثلاثية رأس المال والخبرة والمواد الاولية غير متوفرة بشكل تام في جميع البلدان، بدأ الغرب من خلال مؤسسات اقتصادية ضخمة بتأمين ما تحتاجه المجتمعات الأُخرى.
وكان المال هو العنصر الأول الذي سلك العولمة من خلال طريقين: الأول، القروض التي يقدمها صندوق النقد الدولي والبنـك الدولي الذي تسيطر عليه الدول الغربية والولايات
المتحدة الامريكية بالتحديد، واللذان يفرضان شروطاً تنسجم مع السياسات العالمية للرأسمالية من خلال الخصخصة وفتح الاسواق وماشبه ذلك، والآخر القروض التي تقدمها الدول المتقدمة إلى دول ماعرف آنذاك بالعالم الثالث أو الدول النامية. والتي كانت تشترط فيها على الدول النامية نوع المشروعات التي تستثمر فيها الأموال.
وفي الحقيقة فأن الغرب من خلال هذه العملية، يؤمن لنفسه امرين:
الأول، تدويل الثروة وتصدير رأس المال كبضاعة مربحة ونقل العائدات المالية إلى مؤسساته ومواقعه الاقتصادية، والثاني، صياغة اقتصاديات الدول الأُخرى ضمن منظومة عالمية موحدة هو العقل المدبر والمهندس لها، بما يوفر له السلطة على العالم وتهديد الدول الأُخرى بانتهاج سياساته إذا ماحاولت اتخاذ مواقف مغايرة لذلك، اضافة إلى ذلك فأن بقاء رؤوس الأموال مجمدة داخل اقتصاديات الدول الغربية سوف يحولها إلى مشكلة داخل تلك المجتمعات كأية بضاعة أخرى، لذلك كان لا بدّ من جريانها إلى خارج الحدود لكي تضمن بقاء قيمتها من جهة والاستفادة من عائداتها الوفيرة من جهة أخرى. وبهذا الشكل بدأ الغرب يضخ كميات هائلة من الأموال إلى الدول الأُخرى من طرف، وتحويل اضعافها إلى مراكزه المالية من طرف آخر لتوظف في اماكن أخرى.
حول هذا الموضوع يقول الباحث الاماراتي السيد / نايف علي عبيد:
" فأذا اخذنا، على سبيل المثال الزيادة المطرودة لعدد الشركات المتعددة الجنسية التي صعدت من (11,000) شركة تتحكم بـ (82) الف شركة فرعية يصل حجم مبيعاتها إلى (25%) من حجم التجارة العالمية عام 1975، لتصل إلى (37,500) شركة تتحكم بـ (207,000) شركة فرعية تبلغ قيمة مبيعات فروعها الاجنبية وحدها مايساوي حجم التجارة العالمية عام 1990. كما ينعكس ذلك في تطور قيمة الاستثمارات الاجنبية للدول الصناعية الكبرى، فقد ارتفعت استثمارات اليابان الخارجية، على سبيل المثال، من (17) مليار دولار عام 1980 إلى (217) مليار دولار عام 1990، أي (12) ضعفاً في مدة عشر سنوات.
اما الولايات المتحدة فقد زادت استثماراتها الخارجية من (110) مليار دولار عام 1980 إلى (206) مليار دولار عام 1991. وزاد حجم التداول اليومي في البورصات العالمية من حوالي (300) مليار دولار عام 1980 إلى (1200) مليار دولار عام 1995. كما ان (90%) من الاستثمار الاجنبي يذهب مباشرة إلى مايزيد على (12 بلداً، أي تحتكره مجموعة من الدول لايصل عددها إلى نسبة (8%) من مجموع دول العالم.
إذا، الدول الصناعية الكبرى هي التي تتحكم في رؤوس الأموال واستثماراتها وهي التي تعود لها، في الواقع، ملكية الشركات المتعددة الجنسيات ايضاً (وإن كانت هناك بعض الأموال المساهمة من خارج هذه الدول، ولكن من يريدها فعلاً هي الدول القوية). وعلاوة على ذلك، إذا علمنا ان الولايات المتحدة وحدها تتحكم في (65%) من المادة الاعلامية في العالم، لادركنا الواقع الذي يشير إلى هيمنة الثقافة والقيم الامريكية على معظم مناطق العالم، وهذا ما اشار إليه بريجينسكي، مستشار الرئيس جيمي كارتر السابق للامن القومي الامريكي بقوله: " إن على الولايات المتحدة الامريكية وهي تمتلك هذه النسبة الكبيرة من السيطرة على الاعلام الدولي، أن تقدم للعالم اجمع نموذجاً كونياً للحداثة، بمعنى نشر القيم والمبادئ الامريكية ". وقبله دعا الرئيس السابق ريتشارد نيكسون في كتابه (1999: Victory without War) إلى نشر القيم الامريكية إذا ما اردات أمريكا ان تكون زعيمة العالم. وهذا ما حدا يوسف الحسن على طرح مصطلح " السنأنة " نسبة إلى محطة (سي.إن.إن) (CNN) الامريكية لما لها من تأثير اعلامي عالمي، مقابل مصطلح " العولمة". إذا، لمصلحة من تعمل هذه العولمة؟ الجواب، بلا شك لمصلحة الاقوياء الذين يتحكمون بادوات القوة ووسائلها للحصول على اقصى مايستطيعون من الفوائد والامتيازات التي تحقق مصالحهم. وبما أن الولايات المتحدة تتمتع اليوم بادوات ووسائل " القوة " بمعناها الشامل، فانها تحاول أن تسخر " العولمة " لصالحها.
ويجسد " فيليب غوميت " عامل المصلحة الامريكية هذه برؤيته للسياسة الخارجية الامريكية المغلفة بشعار الليبرالية بينما هي على ارض الواقع سياسـة تميزية انتقائية بقوله: " إن سيطرة الواقعية الجديدة على السياسة الخارجية الليبرالية الجديدة في الولايات المتحدة تسمح لنا برؤية اكثر وضوحاً للتحول من الليبرالية المتأصلة (Embedded Liberalism) إلى مايدعوها " هيغوت " (Higgott) الليبرالية الضارية أو المفترسة (Predatory Liberalism) أو الليبرالية التخريبية أو التدميرية (Subversive Liberalism) الضارية: بمعنى أن اللاعبين الرئيسيين، وبخاصة الولايات المتحدة، يحصلون على نتيجة مميزة من هذه العملية، ويتدخلون في الاسواق لضمان نتائج وفوائد مرغوب فيها، عندما يستطيعون القيام بذلك، وتخريبية، بسبب سلوكهم الذي يختبئ وراء الخطب الليبرالية، حيث يصبح سلوكهم بالممارسة سلوكاً تميزياً (Discriminatory) اوضح ".
لم يقتصر السلوك الامريكي التمييزي في تعامله مع الدول خارج نطاق الشركاء الاصليين للولايات المتحدة، بل تعدى الأمر إلى الدول التي ترتبط معها في النظام الرأسمالي وحرية السوق والتي وقعت معها اتفاقية (الغات)، وخير مثال على ذلك خلافها مع اليابان بخصوص واردات السيارات والالكترونيات واستخدامها لانظمة الحماية الجمركية([53]).
ـ عولمة التصنيع (الشركات متعددة الجنسية):
لما كانت واحدة من الثلاثية الاقتصادية التي قلنا بها (رأس المال، الخبرة والمواد الاولية) متوفرة في الاطراف، وكانت الشركات الاجنبية تقوم بعملية نقل تلك المواد ومن ثم توظيف اموال كبيرة لتصنيعها وتحويلها إلى بضائع استهلاكية داخل المراكز وبعدها تسويقها إلى الاطراف ثانية، ظهر خلال محاسبة بسيطة ان نقل جزء من الخبرة ورأس المال إلى الاطراف نفسها يكفي تلك الشركات العديد من المشاكل والمصروفات، فقامت بعض الشركات الغربية بتأسيس مواقع لها في الاطراف مباشرة، مستهدفة بذلـك:
أ ـ تقليل حجم رأس المال المستثمر في التصنيع عن طريـق:
1 ـ لم تعد هناك حاجة لنقل المواد الخام (الاولية) من دول الاطراف إلى المراكز لأن العمل سيكون في الاطراف نفسها. وبذلك تنتفي المصروفات المخصصة لذلك.
2 ـ ان اجـور العمل في الـدول الغربية ـ المراكز ـ باهضة جداً بما يتناسب ودخل الفرد هناك، في حين ان انخفاض مستوى دخل الفرد في دول الاطراف يجعل من اجور العمل زهيدة للغاية. رغم ان مايقدم للعامل في الاطراف يعتبر بالنسبة له مرتفع قياساً بما يعطي في المصانع والشركات المحلية.
3 ـ بما ان الحجم الاكبر من المواد المصنعة ترسل في النهاية لدول الاطراف واسواقها فبهذا العمل تقل كثيراً أجور شحن المواد من المراكز إلى الاسواق ثانية.
4 ـ بالإمكان ايجاد صناعات تكميلية في كثير من دولة متقاربة جغرفياً وهذا الأمر يسهل عملية التصنيع واستخدام المواد الاولية الموجودة في كل دولة من تلك المنطقة.
ب ـ إلى جانب التقليل من مصروفات الانتاج، فأن الشركات المتعددة الجنسية والرأسمالية العالمية، تهدف إلى امور اوسع واكبر من ذلك، منـها:
1 ـ السيطرة على اسواق اكبر عـدد من الدول بواسـطة الاقتراب اكثر منها، والدعاية على انها صناعات محلية.
2 ـ تدمير البنية الاقتصادية للبلد والتنافس مع الشركات المحلية التي ستضطر في النهاية إلى الفشل نتيجة الخبرة والمال وسعر التكلفة المتدنية التي تمتلكها الشركات المتعددة الجنسية.
3 ـ التأثير على القرار السياسي للبلد، لأن اقتصاده مرتبط بشكل كامل بسياسات تحدد من خارجه، لذلك فأن أي توقف أو اخراج لرؤوس الأموال المستثمرة من قبل الشركات المتعددة الجنسية سيؤدي إلى ازمة اجتماعية واقتصادية وفي النهاية سياسة قد تؤدي إلى سقوط النظام السياسي الحاكم. وهو ماحدث في العديد من دول أمريكا اللاتينية خلال فترة السبعينيات، أو مثل ماحدث في الازمة المالية الاخيرة التي واجهتها دول جنوب شرق آسيا (1997 ـ 1999).
4 ـ ايجاد كارتلات اقتصادية كبرى عالمية تسيطر على سوق الصناعة العالمي، من خلال تخصص كل مجموعة معينة من الشركات بانتاج مواد معينة، يكمل بعضها بعضاً مدغمة احياناً لاكثر من شركة في نشاط انتاجي واحد، وبما يؤدي إلى حذف الشركات الاضعف عالمياً.
5 ـ اضعاف دور الدول في الاختبار نتيجة لامكانية التفاضل السريعة بين الشركات نفسها وتقلل فرص المنافسة التي تسعى اليها الدول النامية، بسبب قلة عددها وارتباط بعضها ببعض من حيث الانتاج. كما انه بهذه الطريقة يمكن ربط مؤسسات البحث في الدول النامية والعقول العلمية بالخارج وتوجيهها لما يخدم الرأسماليـة العالمية بالنهايـة. اضافة إلى ان هذه الشركات تحتفظ بالتكنولوجيا المتطورة التي تمتلكها داخل دولها ـ المراكز الام ـ وتحول دون حصول الدول النامية عليها.
ان حجم المبادلات المالية التي تقوم بها هذه الشركات، يجعلها سيد الموقف في أية عملية تفاوضية مع الدول بما يهدد سيادة تلك الدول ويضعف من امكاناتها على المناورة في اتخاذ أي موقف ترى فيه مصلحتها الوطنية. وقد اصبحت هذه الشركات العظيمة هي الوسيلة الاولى للرأسمالية في نقل فوائض الدول النامية إلى المراكز واستثمارها في مشاريع ابحاث على عدة مستويات لتعميق وتكريس الهيمنة عليها.
يقول الباحث السيد / اسماعيل صبري عبد الله في دراسة له حول العولمـة:
إذا راجعنا قائمة " فورشن (500 شركة) وجدنا أن (418 شركة) تتخذ مقرها الرسمي في واحدة من (18) دولة عضواً في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) من بين اعضائها البالغ عددهم حالياً (26) دولة. ومعروف أن هذه المنظمة تمثل اساساً الدول الرأسمالية الاكثر اهمية على مستوى العالم، وإن ادت اعتبارات سياسية إلى ضم عدد من الدول بصفة خاصّة اعضاء في حلف شمال الاطلسي. فهي إذن الوجه الاقتصادي لتحالف عسكري يضم (16) دولة منها تركيا لاهميتها الجغرافية في اطار الحرب البادرة، ورغم انها ليست دولة صناعية متقدمة. وتبرز في قمة اقطار منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية سبع دول كبرى لرؤسائها اجتماع دوري لمحاولة تنسيق سياساتها الاقتصادية الكلية والسعي للحد من سلبيات التغييرات الحادة في اسعار صرف عملاتها. ويحلو لعدد من الكتاب أن يطلقوا على هذه المجموعة (G7) اسم مجلس ادارة اقتصاد العالم. فمجموع ناتجها المحلي الاجمالي يمثل (68%) من اجمالي دول العالم كما هي ورادة في بيانات البنك الدولي، وفي هذا شيء من المبالغة لأن هذه الحكومات لا تملك سلطات كبيرة على الشركات متعدية الجنسية.
ومن ناحية أخرى، تضم الدول السبع هذه المقار الرسمية لشركات متعدية الجنسية بلغ عددها (428) شركة من اجمالي الخمسمائة الواردة في قائمة " فورشن ". واخيراً يبرز بعض الكتاب أن الاغلبية الساحقة للمقار الرسمية للشركات متعدية الجنسية موزعة ـ على التساوي تقريباً ـ بين ثالوث (Triad) جغرافي: الولايات المتحدة (153) شركة، والاتحاد الاوروبي (15) دولة حتّى الآن (155) شركة، واليابان (141) شركة، وغني عن الذكر أن كل هذه الدول صناعية متقدمة، رأسمالية ناضجة، والحكم فيها برلماني. كما انها جمعيها في الشمال. والحديث هنا عن الشركات متعدية الجنسية بالتحديد السابق، وليس مجرد وجود فرعين أو اكثر لشركة مقرهـا القانوني ونشاطها الاساسي في دولة واحدة، وفروعها في دولتين اخريين. ولا يعني تدفق استثمار مباشر في بلد أن مصدره بالضرورة شركة متعدية الجنسية. فالشركات المشتركة التي تنشأ بين دول العالم الثالث ليست متعددية الجنسية وقد تكون متعددة الجنسية إذا تمتع نشاطها في اسواق كل الدول المساهمة فيها بالمعاملة الوطنية. والحالة الوحيدة التي تستدعي البحث هي الشركات المستقرة في كوريا الجنوبية والتي امتد نشاطها إلى عشرات الدول، كما تنوع من حيث المنتجات تنوعاً شديداً. وموضوع البحث هنا هو العلاقات بين الشركات الكورية والشركات اليابانية، وهي وثيقة في مجال الالكترونيات. وإذا كانت قائمة الخمسمائة تضم (12) شركة مقارها في كوريا، فإن بعضها يدخل بلا شك في تعريف الشركة متعدية الجنسية مثل (L.G) الدولية وشقيقتها (L.G) للالكترونيات، وكذلك كبرى الشركات الكورية (DAEWOO) (سيارات، الكترونيات، اعمال مصرفية..) التي جاء ترتيبها بحسب حجم الايرادادات الـ (34)، وبين شركتين يابانيتين. واخيراً، قد يكون اختيار المقر القانوني في أحد بلدان الجنوب ذات النظم السياسية المستقرة لاعتبارات خاصّة بالتسويق مثل (Jardine Matheson) ومقرها هونغ كونغ.ولا بدّ من ان نتذكر دائماً ان اوضاع الشركات متعدية الجنسية غير مستقرة، وترتيبها يختلف من عام إلى عام. وكما تحقق ارباحاً طائلة، تتكبد في احيان أخرى خسائر فادحة. وعلى سبيل المثال، رصدت مجلة " فورشن " عام 1995 خمسين شركة تكبدت خسائر تتراوح بين (18,6) مليون في شركة (Nittestsu Shoji) و (5,2) مليار في شركة الكاتل اليستوم المرتبة الـ (80) في قائمة الخمسمائة([54]).
ويضيـف:
وتلخص مجلة " فورشن " /ناصر/ (" يوليو " 1996) اجمالي بيانات الشركات الخمسمائة في عامي (1994 ـ 1995). واليكم الصورة الناطقة التي تكونت:
1994 1995 نسبة الزيادة %
الاصول 30,9 32,2 تريليون دلار 4,2
اجمالي قيمة الاسهم 3,2 3,4 تريليون دلار 6,2
الايرادات 10,3 11,4 تريليون دلار 10,7
اجمالي الارباح 281,8 323,4 تريليون دلار 14,8
العمالة 34,6 35,3 تريليون دلار 1,7
وأهم مايظهره هذا الجدول هو قلة عدد العمال منسوباً إلى الاصول أو حتّى إلى قيمة الاسهم. فاذا قسمنا هذه الاخيرة على عدد العمال نجد انه في مقابل كل عامل مليارات من الدولارات. وكما اشرنا سابقاً " قانون التركز الرأسمالي " واشتداد وقعه في ظل الرأسمالية الكوكبية، نرى صحة قانون آخر مما صاغه ماركس وهو قانون التزايد المطرد في رأس المال العضوي، أي في حلول الآلات محل الإنسان. وبالتالي نرى التناقض المتزايد بين زيادة الانتاج بنسبة عالية نتيجة للتطور التقاني المتسارع وانكماش السوق الداخلية المترتب على تسريح اعداد كبيرة من العاملين وانخفاض الاجور الحقيقية، وحتّى تتصور الارقام الواردة بالتريليون يمكن ان نجري بعض المقارنات مع كميات اقتصادية معروفة ومتداولة. وهكذا نرى مثلاً ان ايرادات الشركات الخمسمائة (11,4 تريليون في عام 1995) تساوي (45%) من الناتج المحلي الاجمالي لمجموع الدول المذكورة في تقرير التنمية في العالم لعام 1996 (25,3 تريليون) وإذا استبعدنا من المقارنة الدول ذات الدخل المرتفع (24 دولة) نجد أن مجموع ايرادات الشركات المذكورة يعادل (159,8%) من مجموع اجمالي الناتج الملحي لمائة وتسع دول تقطنها الغالبية العظمى من البشر. ويكفي أن نعـرف أنه في عام 1994 كان اجمالي سكان سـبع دول يتجاوز عدد سكان كل منها مائة مليون نسمة (وهي الصين والهند وبنغلادش وباكستان واندونيسيا ونيجيريا والبرازيل) (2804) ملايين أي نصف البشرية التي قدر عددها للسنة نفسها بـ (5,6) مليار.
وهذا وضع خمسمائة شركة فقط، في حين أن عدد الشركات متعدية الجنسية يقدر احياناً باكثر من (32 ألف شركة) (تقرير الاستثمار في العالم 1992، الامم المتحدة). وربما كان هذا الرقم مبالغاً فيه بعض الشيء اساساً بسبب الخلط بين الاستثمار الاجنبي المباشر كمفهوم وحركة متنوعة المسارات وبين الشركات متعدية الجنسية بالمعنى المحدد في هذه الدراسة. ولكنه لن يكون أقل من عدة آلاف على أية حال. واذ اخذنا هذا في الاعتبار تيسر تقرير مدى هيمنة الرأسمالية الكوكبية على اقتصاد العالم انتاجاً وتجارة وكيف تشكل انماط السلوك والقيم وتنمطها رغم اختلاف الثقافات. فالصورة الفجة التي نراها ـ ولاسيما عند الشباب ـ كون ثمنها متواضعاً وان كان شأنها عالياً على أساس انها رمز للحياة الامريكية التي تمثل بدورها الحضارة الكوكبية هي: جينز وتي شيرت منقوشة بصور وشعارات ليس من المهم البحث عن دلالتها، في الكساء. الكوكاكولا وماكدونالد في الغذاء، الروك ومشتقاته في الموسيقى والغناء والرقص.. الخ. ووراء هذه المظاهر التافهة هناك هيمنة فعلية في التقانة والمنتجات الحديثة. ويجب أن نسلم بعدم التكافؤ الجذري بين وزير في دولة من العالم الثالث ومقابله الذي يمثل شركة كبرى متعدية الجنسية. ويزيد من خطر التكافؤ تخلل الفساد، مثل هذه العقود. فالغرب يستنكر بعنف فساد الفئات الحاكمة في العالم الثالث، ونحن ندين الفساد بلا تردد، ولكن من الواجب عند التصدي للحد منه أن نعرف أن اكبـر الراشين على مستوى العالم هم قادة الشركـات المتعدية الجنسية. وهذا ثابت في احكام القضاء الامريكي في حق شركات مثل لوكهيد وبوينغ ووستنغهاوس([55]).
وتقف الدول الغربية التي هي في الحقيقة ممثل لمصالح تلك الشركات موقف الداعم لكل سياسات تلك الشركات وخطواتها في استثمار الدول الأُخرى، وبشتى الطرق السياسية والعسكرية احياناً، ولعلّ مشكلة " قناة بنما " التي ظهرت قبل سنوات والانزال الامريكي هناك واعتقال الرئيس البنمي (نوريغا) ومن ثم نقله إلى سجون الولايات المتحدة الامريكية، خير دليل على ذلك. وفي هذا الصـدد احتفظت الولايات المتحدة الامريكية بمواقع خاصّة بها في العالم لا تجيز لدول وشركات أخرى تجاوزها، ولذلك من خلال اتفاقيات تجارية واقتصادية يجعلها المستثمر الوحيد في تلك الدول، وقد تعدى الأمر إلى حد اسقاط الدول التي تحاول الاستقلال بقراراتها في التعاون مع الشركات الأُخرى مثل ما حصل تشيلي ونيكاراغوا والارجنتين والبرازيل و... غيرها من البلدان.
ـ وعي الشعوب وتغيير سياسات الشمال تجاه الجنوب:
كان للاستثمارات الاجنبية في الدول النامية تبعات ايجابية ايضاً على مستوى الوعي العام، فقد خلق في تلك الدول طبقة عمالية، نتيجة لتعدد مراكز الانتاج والمصانع الاستهلاكية بعد ان كانت الطبقة العمالية في تلك الدول ضعيفة للغاية بسبب اقتصادياتها الزراعية البدائية في الغالب، هذه الطبقة العمالية وبسبب الرفاه النسبي الذي حظيت به صار لها اهتمامات أخرى غير المسألة الاستهلاكية وبدأت تطالب بدخول المعترك الاجتماعي والسياسي كطبقة لها تطلعاتها وكقوة اجتماعية ـ اقتصادية وسياسية لها مواقفها من اصحاب العمل والسلطة المتعاضدة معهم. كما اننا نشاهد مع ظاهرة الشركات المتعددة الجنسية، ظاهرتين جديرتين بالاهتمام، الاولى: اتساع حجم التعليم والتعليم العالي بوجه خاص، وهو ما خلق مشاكل عديدة للدول النامية، حيث ان نوع التعليم ومستوى الوعي الموجود لايتناسب بأي شكل من الاشكال مع الواقع الاقتصادي والثقافي والسياسي، خاصّة الذي تعيشه تلك البلدان، لذلك شكلت مطالبات الطلاب والتي تتركز حول الحريات الفردية والسياسية اكبر مشكلة وتحدي يواجه الانظمة السياسية، والذين كانت حلولهم في الغالب ـ إذا ماتجاوزنا القمع والارهاب ـ هو ديمقراطيات شكلية أو ما افضل التعبير عنه بـ (شبه الديمقراطية).
اما حول اسباب انتشار التعليم والتعليم العالي، فأن ذلك يعود إلى تغيير نمط الانتاج القائم في تلك المجتمعات، فبعد أن كان الانتاج الزراعي والرعي وماشابه يحتاج إلى وفرة الايدي العاملة فيها، اصبح دخل رب وربة العائلة كافيان لسد مستلزمات الاسرة بما يؤمن الأطفال امكانية الالتحاق بفرص التعليم، اضف إلى ذلك، ان الحياة في المصانع أو مراكز الخدمات التي تنشط في اغلب اقتصاديات هذه الدول يجعل الفرد يستشعر ضرورة التعليم لما يراه من افضلية العمالة الماهرة أو التخصصات الخدمية، لذلك ارتبطت فكرة التعليم بالرفاه في العالم الثالث، واصبح الفرد في الدول النامية يتصور ان الطريق الوحيد للسعادة والرفاه في الحياة هو الالتحاق بالمدراس والمعاهد والجامعات التي اخذت تنتشر بشكل ملحوظ لتخرج سيل من العاطلين أو الموظفين الذين سيكونون بالنهاية عالة على الدولة واحد اسباب انتشار البيروقراطية الادارية فيها.
اما الظاهرة الثانية: ففي هذه الفترة لاتزال هناك برجوازية وطنية وان بدأت بالتناقص تحاول الاحتفاظ بشيء من المصلحة الوطنية لما تراه من النهب المفجع للثروات على ايدي تلك الشركات الاجنبية التي حلّت بدل مثيلاتها الاحتكارية قبل مرحلة الاستقلال، خاصّة وان هذه البرجوازية لاتزال قريبة عهد بمسيرة الاستقلال التي شاركت فيها إلى جانب الشرائح الاجتماعية الأُخرى بفاعلية وتشعر بشيء من الذاتية في داخلها.
هذا الثلاثي الذي يشكل ظاهرة متميزة في دول العالم الثالث، ادى إلى الضغط على الحكومات من أجل السعي لتغيير شكل العلاقات الموجودة في التجارة العالمية وتقسيم العمل اليومي. ولذلك نشاهد مطالبات عديدة للدول النامية من أجل اقرار مشروع يقضي بفرص اكبر لها في مجال التجارة الدولية ووصولها إلى اسواق أخرى تسيطر عليها الدول المتقدمة. هذه التحولات الداخلية في العالم الثالث، ادت إلى التفكير في شكل الهيمنة الرأسمالية مع الاحتفاظ بالكثير من الصيغ السابقة والسعي إلى تطويرها، فبعد ان كان التصنيع والتكنولوجيا هي الصفة الاولى للهيمنة، اصبح الحديث عن السيطرة المعلوماتية، محاولة الدول الرأسمالية منح الدول النامية بعض الذي تطالب به في مجال الاسواق، مقابل الهيمنة التامة عليها، بل وتسخيرها في مجالات المعلومات والتكنولوجيا المتطورة التي تشكل العصب الرئيسي في الصناعة.
رغم ان المماطلة الرأسمالية الموجودة في مجال التجارة العالمية وتقسيم العمل الدولي يأتي لتثبيت الاشكال الأُخرى من العولمة، لأن ذلك سيفقد ماحصلت عليه الدول النامية أو دول الجنوب قيمته في ضوء الواقع الجديد الذي سيحصل.
ويتحدث الباحث الدكتور عبد الله هدية، حول مسألة حوار الشمال مع الجنوب وكونها وهم أم حقيقة فيقـول:
ان الوضع الاقتصادي الراهن لمجموعة الدول الرأسمالية وعلاقتها بمجموعة الدول المتخلفة يسير في اتجاه استفادة الدول الاولى على حساب الثانية أي تنمية التخلف في الاخيرة وتغذية التقدم في الاولى... لقد استجابت الدول الرأسمالية المسيطرة لدعوة الحوار مع دول الجنوب وظهرت عشرات الكتب والبحوث في هذا الصدد ولكن النتيجة كانت هزيلة والحصاد كان هشيماً، لم يأخذ الضعيف من القوي شيئاً وهذا منطق الأُمور([56]).
ان علاقات التبعية تشد دول الجنوب إلى دول الشمال، حتّى بعد ان نالت دول الجنوب استقلالها السياسي في عقد الخمسينيات والستينيات، إلا ان تقسيم العمل الدولي بين البلاد الرأسمالية المتقدمة والمتخلفة ظل كما هو... ظلت الاولى تتخصص في انتاج وتصدير المواد المصنعة بينما ظلت الثانية تتخصص في انتاج وتصدير المواد الخام وظلت الاقتصاديات المتخلفة تمثل جزءاً تابعاً وملحقاً بمراكز السيطرة الرأسمالية المتقدمة.. ومن خلال روابط التبعية النقدية والتجارية والتقنية والعسكرية استطاعت الدول الرأسمالية ان تسيطر على قطاع انتاج المواد الخام في البلاد المتخلفة ايضاً، بدءاً بمرحلة الانتاج ومروراً بمرحلة التحويل والتسويق.
ولايفوتنا ان نؤكد على ان الرأسمالية استطاعت من خلال هذا النهب لموارد البلاد المتخلفة في اشكاله الجديدة التي طورتها في الخمسينيات والستينيات، ان تحقق تناقضات الرأسمالية داخل بلادها خاصّة التناقض بين العمل ورأس المال وبين الانتاج والتصريف، والتناقض بين تزايد التراكم واتجاه معدل الربح نحو الانخفاض... ويقدر بعض الاقتصاديين الموراد المنهوبة خلال الفترة الفائتة (السبعينيات والثمانينيات) بمبلغ (200) بليون دولار سنوياً([57]).
وازاء هذا الوضع المضطرب استجابت الدول الرأسمالية للدول المتخلفة في التفاوض حول وجود نظام اقتصادي عالمي جديد... ولكن يبدو من قبيل السذاجة المغرضة ان تتصور الدول المتخلفة ان استجابة الدول الرأسمالية للحوار يعني انها قبلت نظاماً جديداً يطاح فيه بأمتيازاتها ومراكزها في نهب العالم الثالث وذلك من خلال حوارها عن تصنيع العالم المتخلف ونقل التقنية وتسوية ديونه شروط افضل للتبادل التجاري.
وعلى هذا الأساس ان الدول الرأسمالية إذا كانت قد استجابت للحوار فأن هذا يعني فسحة من الوقت حتّى تستوعب الظروف الجديدة وترتب الاقتصاد العالمي لصالحها. وإذا بدى للبعض ان الدول الرأسمالية استجابت لبعض الدول المتخلفة في مجال التصنيع، فأن الأمر لا يخرج عن ان مصلحة البلاد الرأسمالية تقتضي احياناً بأن تكون شريكاً في المشروعات الصناعية الناجحة التي اقيمت من خلال القطاع العام أو التي تزمع الدولة اقامتها أو المشاركة مع القطاع الخاص من خلال بيع المعلومات التجارية أو تمرير التقنية المحدودة إلى هذه الدول.. كما لا تمانع الدول الرأسمالية اليوم عن ان تتخلى عن بعض الصناعات الملوثة للبيئة والتي بحاجة إلى قوى عاملة غير ماهرة أو نصف ماهرة لكي تقيمها في البلاد المتخلفة، بل هي على استعداد اليوم لأن تصدر بعض مراحل العمليات التصنيعية ذات الفن التقني المتقدم إلى بلدان أخرى للاستفادة من عنصر العمل المتدني بشرط ان توفر البـلاد المتخلفة المزايا والضمانات الخاصّة بنشاط رؤوس الأموال الاجنبية وتحسين المناخ الاستثمـاري امام القطاع الخاص واضعاف دور الدولة وتحجيم دورها في النشاطات الاقتصادية.
بعد كل هذا فاننا نرى انه من قبيل المبالغة وعدم الدقة ان نطلق على هذا التفاوض بين الراسمالية العالمية في المراكز والاطراف المتخلفة " حواراً " لأن الحوار انما يكون بين قطبين متعادلين، وليس بين الذئب والحمل، الذئب الرأسمالي والحمل الاطرافي. فالصيغ الجديدة للنظام الاقتصادي العالمي لم تغير من ماهية وطبيعة العلاقة القائمة بين المالك والفاقد للملكية، بين من يسيطر على مواقع القوة في العالم، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً واعلامياً...، وبين من لايملك شيئاً من ذلك.
* العولمة الاتصالاتية: الموجة الثالثة من الهيمنة:
لوكانت العولمة الاقتصادية تستهدف جيوب الشعوب وثرواتها المادية، فأن العولمة الاتصالاتية والسيطرة المعلوماتية (Information Hegemony) تستهدف بالدرجة الاولى عقول الشعوب ووعيها. ولربما يكون البحث في مسألة المعلومات والاتصالات يستتبع الحاقه بالمسألة الثقافية، إلا ان اهمية الموضوع كظاهرة خطرة تؤكد عليها الرأسمالية العالمية استدعى افراد عنوان له مجزء، رغم ان البحث في هذه المسألة يمكن ان يشكل محوراً لعشرات الدراسات والبحوث المستقلة.
ان المعلومة في عالم اليوم تشكل قيمة بحد ذاتها، لذلك كانت السيطرة عليها وتكريرها ونقلها للآخرين يمثل سلطة على أحد الموارد المهمة في المجتمع البشري. ان المعلومة تشكل اللبنة الأساسية لصياغة القرار سواءً على المستوى الفردي أو الاجتماعي. فعلى ضوء ما نملك من معلومات نقوم بتحديد موقفنا ازاء الأشياء التي نعيشها، من اعقد المسائل الفلسفية وحتّى ادق الأشياء في حياتنا اليومية.
ومثل ما عملت الرأسمالية مع الثروات المادية، اخذت تعمل مع حقل المعلومات دعماً لسياساتها التي تشكل المادة والثروة اساسها.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى ان نسق النشاط الاعلامي الدولي الراهن، قد مهد لمعنى معرفي وادوات وآليات فعالة اسهمت في تكوين واستحداث صيغة قابلة للنفاذ بين مختلف المفاهيم لمعنى النظام الكوني على جميع الاصعدة، وبالقدر الذي اسهم فيه الاعلام والتدفق الحر والسريع للمعلومات والمعارف في تقريب الثقافات، ولقد عمل الاعلام في الوقت ذاته على تخريب العلاقات بين الانظمة والدول وتسويغ استخدام العنف والقوة تحت مختلف الذرائع، ومع الاكتشاف الذي توصل إليه علماء الاتصال للقرية الكونية. وهنا جاءت فكرة العولمة مرادفة لمعنى تكثيف الاحساس بالتواصل والاقتراب الذي تحمله عملياً آلية التطور المتسارع لثورة الاتصال وتبادل المعلومات، وفي تجاوز مستمر للفوارق الفعلية بين الشمال والجنوب، بين الدول الغنية والأُخرى الفقيرة([58]).
وقد جاءت التطورات التقنية في مجالات الاتصال خاصّة في عقدين السبعينات والثمانينات بما يؤكد لها دور المعلومة في السيطرة على الشعوب الأُخرى. ان العالم تحول بفضل هذه الوسائل والاجهزة المتطورة قريباً جداً من بعضه، ولهذا يصحّ جداً ان نطلق عليه لقب قرية كونية، فهذه مسألة واقع يجب التعامل معها، لكنه حتّى في نظام القرية لا بدّ من تنظيم الأُمور بحيث لا نواجه حالة الاقطاع الغابرة في التعامل الاجتماعي والسياسي.
وكل ذلك كان يسير في وتائر متسارعة ومسيطرة عليها، بينما تقف وراء كل ذلك احتكارات اعلامية كبيرة، فالشبكات الاخبارية ووكالات الاخبار التلفزيونية الفضائية، تملك استثمارات مالية هائلة، وتسعى للبحث عن اسواق اعلانية مستقرة، وتتبنى اتجاهات سياسية معروفة، فهي التي روجت لمفهوم العولمة بشكل مستمر، وهي لا تتوقف عن تجاوز الخصوصيات الوطنية، وتنتهك الثوابت القومية، وتخترق الحدود السيادية وتبسط نفوذها عبر الامكانات التقنية الكبيرة وتكريس امكانيات البث عبر الفضاء([59]).
ان الرأسمالية اضفت حالة المركز ـ الاطراف على الحالة المعلوماتية فبدأت بنقل المعلومات من شتى الاطراف إلى مراكزها المهمة، وهناك قامت بتحويلها وتكريرها، لانتهاجها على شكل بضاعة مسوغة تستغفل الاطراف ثانية بقبولها. حتّى غدت المراكز الرأسمالية من خلال الوكالات العالمية المعروفة الممول والمنتج الوحيد للمعلومات في العالم. وهذا يستدعي جريان المعلومات بأتجاه واحد دون مشاركة جماعية في صياغة المعلومة.
وبهذا الشكل نشاهد المجتمع الذي يريد الاستقلال في قراره من المؤثرات الخارجية يستمد معلومات القرار من المؤثر نفسه، لذلك تراه يتخبط في القرار وتقل لديه القدرة على المناورة في صناعته واتخاذه.
ان العولمة تحاول من خلال ما تمتلكه من وسائل اتصال وتقنية معلوماتية كبيرة تحويل العالم بأجمعه إلى مجرد مستهلك في الجانب المعلوماتي للبضاعة الرأسمالية بجميع انواعها، الخبرية، التقنية، الفنية، و.... الخ. لذلك اعتبر البعض ان الموجة الثالثة والحالية للرأسمالية والتطور البشري هي الموجة أو الثورة المعلوماتية.
وحول هذا الموضوع يقـول الكـاتب دافيد روثكوبف
البعض، تدرك أوجه الثقافة التي لا تهدد الوحدة أو الاستقرار أو الرخاء الاقتصادي (مثل الغذاء والعطلات، والشعائر، والموسيقى) وتسمح لها بالازدهار. غير أنها تجابه أو تستأصل عناصر الثقافة الاكثر تخريباً (الاوجه الاقتصادية Exclusionary للمعتقدات، واللغة، والقناعات السياسية / الايديولوجية). ويظهر التاريخ أن نجاح أي بلد في رأب الصدوع الثقافية والتحول إلى وطن لأناس متنوعين يتطلب هياكل اجتماعية معينة، وقوانين، ومؤسسات تعلي من شأن الثقافة. يزعم نقاد العولمة أن هذه العملية ستقود إلى تجريد البشر من هويتهم، وإلى عالم أورويلي عليل ووحيد النسق. غير أن هذا الأمر يستحيل بالطبع على كوكب يعيش عليه ستة بلايين انسان. والاهم من هذا أن أفول التمايزات الثقافية قد يكون مقياساً لتقدم الحضارة، علامة ملموسة على تعزيز التواصل والتفهم. فالمجتمعات الناجحة المتعددة الثقافات، سواء كانت قومية أو فيدرالية أو تكتلات لدول تعتمد على نحو وثيق على بعضها Multiculturalism، مثل تجارب الاتحاد الاوروبي، والهند، وجنوب افريقيا، والولايات المتحدة، يفترض وجود نماذج للتكامل قابلة للتطبيق، إن لم تكن مثالية، وقد بنيت كلها على فكرة أن التسامح عامل حاسم بالنسبة للرفاهية الاجتماعية، وكانت كلها في لحظة ما مهددة بعدم التسامح والتأكيد المفرد على التمايزات الثقافية، وكلما كانت مسوغات الصالح العام في إزالة السمات الثقافية التي تشجع الصراع أو التحول دون تحقيق الانسجام اقوى حضوراً، حتّى ولو نجم عنها قدر قليل من الانقسام، كلما تزايد الاحتفاء بالتمايزات الثقافية الملموسة على المستوى الشخصي والحفاظ عليها.
والواقع أنه يستحيل تحقق تلك النماذج التكاملية على المستوى الكوني على المدى القريب. فهو امر يحتاج إلى قرون. كما أنها لن تتحقق فقط من خلال قرارات رشيدة تمهد السبيل لتطبيق سياسات وبرامج مدروسة بعناية. وعلى النقيض من ذلك فإن الاتجاهات الراهنة التي تدخل ضمن التعريف الواسع لـ " العولمة " تسرع من إيقاع عملية عرفت على مدار التاريخ حيث تصبح الجماعات المنفصلة اكثـر تآلفاً مع بعضها بعضاً، وتتحـالف وتتمازج ـ وتصبح في نهاية المطـاف اكثر تشابهاً. وقد كان من المحتم أن تقود الولايات المتحدة هذا التحول فهي " الامة الأساسية " في إدارة الشؤون الكونية والمنتج الرئيسي لمنتجات وخدمات المعلوماتية في السنوات الاولى لعصر المعلومات. ويقوم موجهو عملية العولمة المتسارعة اليوم بتحسين وسائل وانظمة النقل الدولية، ويبتكرون تكنولوجيات وخدمات ثورية جديدة في مجال المعلومات، ويهيمنون على السوق الدولي للافكار والخدمات، وهو مايؤثر في أسلوب الحياة، والمعتقدات، واللغة، وكل مكونات الثقافة الأُخرى.
وقد كتب الكثير حول دور تكنولوجيات وخدمات المعلومات في هذه العملية. واليوم تعرض خمسة عشرة شركة امريكية كبيرة في مجال الاتصالات، بما في ذلك شركات عملاقة مثل (موتورولا Motorola) و (لورال سبيس آند كوميونيكيشنز Loral Space & Cmmunications) و (تيليسيك Teledesic) (وهي مشروع مشترك بين شركتي ميكروسوفت Microsoft) المملوكة لبيل جيتس وجريج مكاو رائد الهواتف المحمولة)، مشاريع تنافسية ستؤدي إلى تطويق الارض بكوكبة من الاقمار الصناعية وإلى تمكين أي فرد في أي مكان من الاتصال الفوري بأي شخص اينما كان دون الحاجة إلى إنشاء أية بنية اساسية للاتصالات على الارض بالقرب من المرسل أو المستقبل([60]).
ولعلّ الاخطر في مجال الاتصال هو استهداف الفرد من خلال القنوات الفضائية وشبكات الاتصال الكمبيوترية. مما يجعلـه مرتبطاً مباشرة بالمنظومة المعلوماتية الغربية، التي يمكن ان تتغاير في كثير من الاحيان مع قيم وواقع مجتمعه، فيعيش ويقرر على أساس معلوماته الخاصّة، حياة وقـرارات مغايرة وحالة المجتمع، وهو مايظهر في الحياة الاجتماعية على شكل اللاقيمية عند الكثير ممن يمتلكون امكانية الارتباط مع الخارج اكثر من غيرهم، اضافة ان هذه القضية ستجعله غريباً في مجتمعـه. فهو يتحدث بلغة مغايرة لهم ويرتدي ماهو لايمت اليهم بصلة ويتصرف على ضوء ما تكـون لديه من وعي بث إليه عبر وسائل الاتصال الاجنبية، اضافة إلى كونه هو ايضاً يجد نفسه غير محتاجاً للمعلومات المحلية، لقدمها وقدم وسائل بثها وتزريقها.
ان المجتمع من خلال الثورة الاتصالاتية صغر بحيث اضحت عملية الارتباط محدودة جداً، لذلك يرى الفرد من خلال طبعه الاجتماعي وحبه للاطلاع ضرورة الارتباط بالمجتمعات الأُخرى، بأعتبار وجود قليل من الفاصلة والمسافة الموجودة بينه وبين تلك المجتمعات، وهذا الأمر عمقّ ارتباطه بالآخر من حيث لا يشعر، بينما ادى بالمقابل إلى اضعاف ارتباطه مع ذاته الاجتماعية.
ان فكرة العولمة على هذا المستوى، تجعل انظار جميع من يسكنون الكرة الارضية، ومسامعهم مشدودة نحو السماء بأتجاه الاقمار الصناعية التي تطلق من مراكز الرأسمالية والتي تقوم (كالمرآة) بعكس ماتنتجه تلك المراكز من اخبار ومعلومات.
وفيما يتعلق بالهيمنة الامريكية على سوق الانتاج الثقافي وتسويقه (مؤسسات واجهزة الاتصال العالمية)، يقول الباحث دافيد روئكويف:
وتهيمن الولايات المتحدة على حركة المرور الكونية هذه في مجال المعلومات والافكار فالموسيقى الامريكية، والافلام الامريكية، والبرامج التلفزيونية الامريكية، وبرامج الكمبيوتر الامريكية اصبحت شديدة الهيمنة، ورائجة جداً ومشاهدة جداً حتّى انها تتواجد اليوم في كل مكان على الارض بالمعنى الحرفي للكلمة. وهي تؤثر فعلياً في اذواق وحياة وتطلعات كل الامم. بينما ينظر اليها في بعضها بأعتبارها مؤثرات مفسدة.
وقد اصدرت كل من فرنسا وكندا قوانين تحظر نشر ونقل مواد اجنبية ـ أي امريكية بالطبع ـ مأخـوذة من الاقمار الصناعيـة عبر حدودها أو إلى بيـوت مواطنيهـا. وليس من المستغـرب أن تقوم الحكومات المركزية في العديد من البلدان الأُخرى ـ ايران الاصولية، والصيـن الشيوعية، وسنغافورة ذات تجربة التخطيط الناجحة ـ بالسعي بقوة لتقييد وصول برامج الكمبيوتر إلى مواطنيها، وهدفها الصريـح هو إبعاد ما يبثه الامريكيون والغرباء من وجهـات نظر سياسية، وعادات، و " تلوث إخباري " كما يقال في انحاء عدة من الشرق الاوسط([61]).
* العولمة السياسية:
شهد القرن العشرين منذ بداياته تطويراً ملحوظاً لمفاهيم الدولة القومية (Nation State) ومؤسساتها الوطنية، وكان اوج ذلك فترة الستينات من القرن حيث شهد العالم نجاح العديد من الثورات التي قامت بها الشعوب لنيل الاستقلال وتأسيس الدولة الحديثة، وتعمقت على أساس ذلك مفاهيم مثل السيادة (Soveraginty) والمواطنة (Nationality). لكن تطور الاوضاع في الثمانينات وبوادر نهاية القطب الشرقي من على المسرح الدولي، جعل الغرب والولايات المتحدة بالتحديد، تسعى لطرح مفاهيم جديدة بأعتبارها من افرازات التفرد الامريكي بالهيمنة على العالم. فالولايات المتحدة الامريكية تسعى جاهدت لعولمة نظامها السياسي (الديمقراطية ـ الليبرالية) من جهة وإلى استبداع مفاهيم أخرى تسهل لها عملية اختراق سيادة الدول وتجاوز الحدود التي ظهرت مع الدولة الحديثة.
ستمر، وهي لا تتوقف عن تجاوز الخصوصيات الوطنية، وتنتهك الثوابت القومية،
* العولمة السياسية:
شهد القرن العشرين منذ بداياته تطويراً ملحوظاً لمفاهيم الدولة القومية (Nation State) ومؤسساتها الوطنية، وكان اوج ذلك فترة الستينات من القرن حيث شهد العالم نجاح العديد من الثورات التي قامت بها الشعوب لنيل الاستقلال وتأسيس الدولة الحديثة، وتعمقت على أساس ذلك مفاهيم مثل السيادة (Soveraginty) والمواطنة (Nationality). لكن تطور الاوضاع في الثمانينات وبوادر نهاية القطب الشرقي من على المسرح الدولي، جعل الغرب والولايات المتحدة بالتحديد، تسعى لطرح مفاهيم جديدة بأعتبارها من افرازات التفرد الامريكي بالهيمنة على العالم. فالولايات المتحدة الامريكية تسعى جاهدت لعولمة نظامها السياسي (الديمقراطية ـ الليبرالية) من جهة وإلى استبداع مفاهيم أخرى تسهل لها عملية اختراق سيادة الدول وتجاوز الحدود التي ظهرت مع الدولة الحديثة.
وفي هذا الجزء من الدراسة، سنركز البحث حول مقولتيـن:
الاولى، مقولة نهاية التاريخ التي طرحها المفكر الامريكي الياباني الاصل فرانسيس فوكوياما، والثانية، مفهوم الدولة القومية والسيادة الوطنية والمواطنة.
أولاً ـ نهاية التاريخ:
يسعى فوكوياما جاهداً في مشروعـه نهاية التاريخ والذي ظهر على شكل كتاب بعنوان (The end of history and the Last Man) إلى اثبات مسألة مفادها ان البشرية وصلت إلى نهاية وذروة ابداعها الإنساني في مجال الفكر السياسي بالديمقراطية الليبرالية، التي تهيمن على النظم السياسية في سائر دول العالم، وان تحقق هذه المقولة يعني النهاية العملية لجميع الأفكار والايديولوجيات الأُخرى التي اثبت التاريخ فشلها من خلال عدم امكانية تطورير نفسها وصمودها وما جاءت بها للانسان. ان العالم قد بلغ نهايته بالديمقراطية التي اصبحت حقيقة حتمية لا مفر منها، اما النظم الاخرة الموجودة والتي تقاوم المد الديمقراطي الليبرالي، ماهي إلا جيوب مقاومة ضعيفة سريعاً ما ستنهار امام الحقيقة والذروة الديمقراطية الليبرالية.
وقد تكون الاشتراكية السوفيتية قد انهارت بسبب انحرافها عن حقائق وسلمات تجاهلتها، لكن هذا لايعني عدم وجود جوانب ايجابية فيها لا تزال الديمقراطية الليبرالية عاجزة عن الوصول اليها، هذا من جانب، ومن جانب آخر، هناك أفكار وايديولوجيات لاتزال لم تجد فرصة لها لتطبق على ارض الواقع، لاسباب عديدة منها قمع الايديولوجيات الأُخرى لها، أو من يمثلونها.
ان الديمقراطية الليبرالية كنظام سياسي انما جاءت على أساس أسس فلسفية وقيم اجتماعية تنسجم والبيئة التي ظهرت فيها، ولو كان من الممكن نقل النموذج السياسي بهذه السرعة، فأنه لايمكن نقل وتقليد القيم الاجتماعية والبيئة بتمامها من مكان إلى آخر. لأنه لكل مجتمع خصائصه التي تميزه عن غيره من المجتمعات. فهذه الخصائص انما جاءت عن طريق تراكم تاريخي ممتد لا يمكن الوصول إليه بفترة قصيرة.
ان الطرح الذي قام به فوكوياما يمكن اتهامه لسببين على انه سياسي اكثر من كونه فكري وانه ابداع مفكر تأمل ثم وصل إلى نتيجة علمية، ان فوكوياما مروج فكرة لا اكثر ولا أقل وليس له أي باع في اختراعها وايجادها، فأما السبب الأول، هو الأفكار المختلفة التي استعارها ثم وظفها لفكرته. والسبب الآخر، تزامن الطرح مع فترة احتضار الاتحاد السوفيتي (السابق) وتفرد أمريكا بالساحة الدوليـة.
وعلى أفكار فوكوياما، يعلق البروفيسور ف. يرلوف، فيقـول:
" لقد كان رد الفعل على الوضع الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أن قام العديد من الباحثين السياسيين بطرح الأفكار حول أنه في الظروف الحالية للبشرية لا يوجد خيار آخر سوى التحرك على طريق الديمقراطية الليبرالية، ذلك الطريق الذي رسمته الحضارة الغربية لعملية استهلاك المجتمع الرأسمالي. يوجد أنصار لوجهة النظر هذه في روسيا وفي الدول الأُخرى، واحد هؤلاء الذين دافعوا بشكل اشد قوة عنها هو العالم الامريكي فرنسيس فوكوياما الذي وصل إلى قناعة بأنه " خلال السنوات القليلة الاخيرة ظهر اتفاق (Consensus) بالنسبة لقانونية (Legitimacy) الديمقراطية الليبرالية نظراً لأنها حققت انتصارات على الايدولوجيات المنافسة مثل الملكية الوراثية والفاشية والشيوعية المعاصرة ".
يفترض فوكوياما ان الديمقراطية الليبرالية يمكن ان تكون " النقطة النهائية لتطور الايديولوجيا البشرية "، " الشكل النهائي لحكم البشرية، وبالتالي فهي بشكلها هذا تعتبر نهاية التاريخ ". وفي رأيه ان اشكال الحكم السابقة عانت من نقائص وعيوب خطيرة، ومن جمود وتناقض الأمر الذي ادى إلى سقوطها. وفي الوقت نفسه، فالديمقراطية الليبرالية، من وجهة نظره، خالية من تلك التناقضات الجذرية الداخلية. وهذا لا يعني أن هذه الديمقراطيات الراسخة كما في الولايات المتحدة الامكريكية وفرنسا أو سويسرا ليست فيها مشاكل حادة، ولا يعني أنه في هذه الدول لا يوجد مكان لغياب العدالة، ولكن هذه المشاكل قد نتجت بسبب " عدم التجسيد الكامل لمبادئ الحرية والمساواة في الواقع، والتي اقيمت على اساسها الديمقراطية المعاصرة، وليست ناجمة عن نقائص في المبادئ نفسها ". وعلى الرغم من أن بعض الدول لديها امكانية للوصول إلى ديمقراطية ليبرالية مستقرة، بينما الدول الأُخرى بإمكانها التراجع إلى الوراء نحو اشكال حكم اكثر بدائية مثل الحكم الديمقراطي أو الديكتاتوري، فليست هناك امكانية لايصال المثل الاعلى لنموذج الديمقراطية الليبرالية إلى صورة الكمال.
ورداً على الانتقادات بأن التاريخ كاتجاه أو تيار للاحداث لا يمكن أن ينتهي، يؤكد فوكوياما على حلول نهاية التاريخ باعتباره عملية واحدة للتطور المنطقي، والتي تأخذ بعين الاعتبار خبرة جميع الشعوب في جميع الازمنة. وهذا يعني، كما يكتب المؤلف، أنه لن يوجد بعد ذلك تقدم في تطوير المبادئ الأساسية للمؤسسات على اعتبار " انه بالفعل قد تم حل جميع المشاكل الضخمة ". هذه الأفكار التي وردت سابقاً في مقالة " نهاية التاريخ؟ " (1989) يؤكدها فوكوياما في مقالته التالية، للمقالة السابقة، بعنوان " نهاية التاريخ والانسان الاخير " (1992). وينطلق من أن الديمقراطية الليبرالية تعتبر " المطمح السياسي المنطقي الوحيد " الذي سيشمل مختلف المناطق والثقافات في العالم([62]).
ثانياً ـ الدولة القومية
طبيعي جداً ان تكون لكل صياغة معالمها المحددة، طبيعي جداً ان يكون لكل نظام مؤسساته الخاصّة به، ففي ظل الانظمة الدولية السابقة بعد تأسيس الدولة الحديثة ظهرت مفاهيم مثل السيادة الوطنية والمواطنة وغير ذلك كمفاهيم محورية ضمن مشروع الدولة ـ القومية الحديثة لكن سعي العولمة لتجاوز الدولة ـ القومية ومخاطبة مباشرة مباشرة للفرد (أو المجتمع) عرض في واقع الأمر حدود الدولة القومية إلى الخطر وجعلها سهلة الاختراق، ومن ثم فأن سيادة الدولة بالمفهوم السابق لامعنى له، لأن الدولة اصبحت فاقدة للتأثير عبر مؤسساتها القديمة على مواطنيها داخل البلاد. وإذا ماادخلنا على ذلك الأمر مسائل أخرى تتعلق بالرغبة الغربية في " تدويل " كل الأُمور حتّى التي لها طابع داخلي، والمداخلات المتكررة في الشؤون الداخلية من أجل التأكيد على تجاوز سيادة الدولة والتعامل المباشر مع الفرد، لعلمنا شكل الصياغة الجديدة.
في هذا الصدد، وضمن نقده لكتاب: كينيشي أوماي (1995) بعنوان: " نهاية الدولة القومية: صعود الاقتصادات الاقليمية " يقول الباحث دانييل دريزنر "
((ويقوم تنبؤ أوماي باضمحلال الدولة القومية على اعتبارات واسباب مشابهة لكنها تختلف قليلاً من حيث النتيجة المترتبة. فهو يرى أن انتشار السوق والايقاع السريع للتغيير التكنولوجي يضعفان العقد الاجتماعي بين الافراد والامم.
ويؤدي عولمة رأس المال إلى " مجانسة " الثقافات، ومن ثم ازالة الفوارق بين القوميات أو الحضارات. ويشير أوماي إلى هذه الظاهرة على انها " إضفاء الطابع الكاليفورني " Californiaization لتفضيلات الفرد، أي ذلك " التوليف " للذوق الذي يطمس الفوراق بين الدول ويمحو العداوات التاريخية، جاعلاً الحروب بين الدول امراً أقل احتمالاً ملغياً بذلك احدى وظائف الدولة القومية الأساسية. ويؤدي انتشار رأس المال العالمي في الوقت ذاته إلى فرض تقييدات اقتصادية جديدة على دور الدولة في الشؤون الاقتصادية: " إن الوخزات الانعكاسية للسيادة تجعل النجاح الاقتصادي المأمول بعيداً عن التحقيق، وذلك لأن الاقتصاد العالمي يعاقب البلدان الواخذة بتحويل الاستثمارات والمعلومات إلى اماكن أخرى ".
ويتمثل الاسهام أو الإضافة الجديدة لأوماي في تنبؤه بأن " الوحدة المنظمة " الطبيعية في المستقبل ستكون عبارة عن " دول مناطق "، والتي يمكن أن يقع مركزها داخل بلد واحد. كما هي الحال في منطقة تركز للصناعات الالكترونية، أو عبر الحدود كما في جنوب شرق آسيا. إن اوجه التفاوت في النمو الاقتصادي داخل الدولة القومية تنجم عنها صراعات سياسية واقتصادية. وتبدأ المناطق الاكثر ديناميكية في التساؤل عن الحكمة في الدعم المالي للمناطق الأقل ديناميكية في الوقت الذي تضمحل فيه التوترات العرقية فيما بين المناطق: " نظراً لأن توجه دول المناطق هو نحو الاقتصاد العالمي، لانحو بلدانها المضيفة، فانها تساعد في واقع الأمر على تسييد نزعة تعاون دولي تخفف من حدة العديد من الالوان التقليدية من التوترات الاجتماعية ". ويتنبأ أوماي، مقتفياً خطى ماركس، أن بلوغ السوق لمرحلة " الكونية " سوف يحجـم تأثير الدولـة القومية ويستحدث ظهور كوزموبوليتانية (مواطنة عالمية) تفقدها أي مبرر للوجود([63]).
ان الغرب والولايات المتحدة الامريكية بالتحديد، تسعى من وراء تحديد سيادة الدولة رفع اهم عقبة في طريق اجتياحها للمجتمعات الأُخرى وفرض الهيمنة المباشرة على المجتمعات والافراد، لأن الدولة مهما كانت تعبر عن ارادة الجمع وقرار المجتمع بأسره، فلو انتهت هذه الارادة سيكون التعامل والتأثير الخارجي على الفرد ايسر بكثير، خاصّة وان هذا الفرد لايملك أي من عناصر القوة بيده.
ان التغيير في فكرة السيادة والدولة بشكل عام، يستتبعه تغييرات أخرى بالضرورة، منها على سبيل المثال التغيير في مفهوم المواطنة، فلا معنى لأن تجتمع امة من الناس في منطقة معينة لكي تؤلف وطناً، بل يمكن لأي انسان ان يكون مواطناً دون حاجة إلى ارض يشعر بالانتساب اليها، لاننا نعيش جميعاً في قرية كونية متقاربة ! بمعنى آخر ستكون المواطنة قضية اعتبارية للغاية وليست حقيقية.
فقد يشكل اللبنانيون أو الايطاليون مدينة (أو مجتمعاً) في جنوب افريقيا أو البرازيل، فالمكان ليس مهماً في مشروع العولمة، إذا اصبح المفهوم اكثر تحركاً وانسيابية مما كان عليه. وبطبيعة الحال، فأن مثل هذه الأفكار، لازالت تواجه بقوة من قبل الدول التي تحاول المحافظة على سيادتها واستقلالية مواطنيها من التأثيرات الخارجية. فحتى في الغرب نفسه نشاهد ذلك التخوف من الاندماج في المشاريع العامة والكلية، فهذه بريطانيا لاتزال أحد اهم العقبات امام الوحدة الاوروبية ولاتزال تنفرد بكثير من القضايا وترفض الدخول مع اوروبا فيها، وفي مقابل الجهود الاوروبية تلعب بورقة الضغط الامريكي والتحالف الاطلنطي. فالى أي اتجاه تسير المفاهيم السياسية السابقة، هو ما سيتضح خلال القرن القادم.
* العولمة العسكرية:
يسبق كل حرب على المسرح الدولي، خلل في النظام السائد بين الاطراف الدولية يعطي الفرصة للدول ان تخرج من حالة التنافس الايجابي إلى محاولة ضرب وتدمير واضعاف الآخرين بالوسائل غير السلمية، والحقيقة ان الحرب هي نهاية الطرق المسدودة. وبعد الحرب ايضاً تحاول الاطراف خاصّة المنتقدة ايجاد صياغة مشتركة يضمن لها عدم الوقوع فيما وقعت فيه تلك التي خسرت المعركة من جانب، ومن جانب آخر يحقق لها تفوقها على اعتباران الصياغة الجديدة تأخذ بنظر الاعتبار طموحات وآمال الطرف المنتصر.
وبعد ظهور بوادر سقوط الاتحاد السوفيتي (السابق) والذي كان يشكل ركناً اساسياً في عالم القطبين الايديولوجي والعسكري والسياسي، وجدت الولايات المتحدة الامريكية نفسها بحاجة إلى حرب عالمية غير حقيقية (وهمية) لكي تعلن من خلالها ولادة النظام الدولي الجديد وطبيعة تعاملها اللاحق مع القضـايا الدولية، دون ان تتعرض لخسائر حقيقية كما هو الحال في الحروب الواقعيـة. وعلى هذا الأساس جاءت وقائع حرب الخليج الثانية أو مايسميه الغرب " عاصفة الصحراء "([64]).
فمن خلال هذه المعركة المسرحية تحدثت الولايات المتحدة مع الدول الأُخرى وقالـت:
1 ـ في فترة نهاية القطب الاشتراكي، فأنها ـ أي أمريكا ـ هي السلطة الوحيدة في العالم ولاينازعها في ذلك شيء.
2 ـ ان أمريكا تتزعم العالم الغربي ـ الذي احتشد خلفها ـ والكثير من الدول المرتبطة به عربية وغير عربية.
3 ـ ان المصالح الامريكية والغربية فوق سيادة الدول، فلو تعرضت مصالح الولايات المتحدة للخطر في أي مكان، فأن سيادة الجزء لن تمنع التدخل الامريكي المباشر.
4 ـ ان العالم ملكنا ـ حسب المنظور الامريكي ـ اين ماشئنا ننزل ونستقر حتّى لو كان ذلك بالقوة.
5 ـ السيادة الدولية والشرعية الدولية امور تملك الولايات المتحدة زمامها، فهي التي تفرض على منظمة الامم المتحدة ما تريد اصداره وتوقف ما لا يتوافق مع مصالحها، وما الامم المتحدة إلا مؤسسة غربية بطابع دولي عام تشرعن لامريكا سلوكياتها على المسرح الدولي.
وبهذا الاعلان بدأ العالم يشعر بالسيطرة العسكرية الامريكية في شتى بقاعه فمن التدخل في الصومال حتّى الضربة الاخيرة التي وجهت ليوغسلافيا([65])، جميعها يأتي ضمن تأكيد طبيعة النظام الامريكي ـ العالمي الجديد.
قد قامت الولايات المتحدة بعولمة سياساتها العسكرية من خلال بعض المشاريـع، منها:
أولاً: تجريد الدول الأُخرى من قدراتها العسكرية، النووية خاصّة، لذلك سعت ببالغ جهدها الوقوف امام المشاريع النووية والكيمياوية في العديد من الدول بحجة تهديد السلام العالمي الذي ترعاه هي لوحدها وحسب معايرها الخاصّة، فبدءت بمعاقبة بعض دول العالم الثالث (سابقاً) حتّى التي حاولت الحصول على الطاقة النووية لأجل الاغراض السلمية. في حين انها
تركت حلفاءها يتابعون نشاطاتهم في ذلك المجال، بل واعانتهم في ذلك مثل المشاريع النووية والكيمياوية والجرثومية الاسرائيلية، التي تقف الولايات المتحدة الامريكية سنداً لها سياسياً ومالياً وتكنولوجياً.
ثانياً: الامتداد بمنظمة حلف شمال الاطلسي (NATO) شرقاً نحو الدول الخارجة حديثاً عن المنظومة الشرقية، كخطوة اولى لأتساعه اكثر فقد يشمل في المستقبل العديد من دول آسيا وافريقيا أيضاً([66]).
ان مشروع استبدال القوات الدولية والمهمات التي كانت تلقى عليها سابقاً، بقوات الناتو التي توجهها مباشرة الولايات المتحدة وحليفاتها الغربية، هي اشارة واضحة للسيطرة الرأسمالية على مقدرات العالم واستخدام الوسائل في فرضها. والغريب في الأمر ان عمليات الناتو أو الغرب بشكل عام لاتستهدف بالدرجة الاولى المؤسسات العسكرية في الدول المهاجمة، بل تتناول البنى الاقتصادية في ذلك البلد ابتداءً من أجل تركيع تلك الدول، ومن ثم المشاركة في اعمارها بما يوفر مجالات عمل جديدة للشركات والاستثمارات الغربية. ومع جميع هذه المحاولات نشاهد علناً ما اشرنا إليه سلفاً من تجاهل لسيادة الدول القومية والتدخل المباشر في شؤونها تحت ذرائع متعددة أو حتّى بدون ذريعة ملموسة.
ثالثاً: محاصرة الدول التي لاتزال تعارض الهيمنة الغربية ـ الامريكية أو التي قد تشكل مستقبلاً تهديداً لفكرة العولمة والسيطرة الامريكية، مثل: الصين، روسيا، ايران، كوريا الشمالية وبعض الدول العربية و...، وفي هذا المجال انتهجت سياسات متعددة، مثل: المعاهدات الدفاعية مع الدول المنافسة لتلك الدول الخارجة عن الارادة الامريكية، تقليم اضافرها بواسطة ضرب ومحاصرة الدول المساندة أو الحليفة لها أو التي تعتبر امتداداً لسياساتها، ايجاد مشاكل داخلية ومحاولة التدخل المباشر بغطاء الشرعية الدولية، وهو ماحدث اخيراً في مسألة تيمور الشرقية مع اندونيسيا.
* العولمة الثقافية:
في الانظمة العالمية السابقة نشاهد بوضوح استخدام المجالات الثقافية والاقتصادية والعسكرية من أجل فرض السيطرة السياسية على الشعوب والدول، لكن تطور الرأسمالية جعلها تنظر إلى جميع الأشياء بالمنظار الاقتصادي، فقد اصبح الاقتصاد هو الوسيلة الاولى لفرض الهيمنة وهو في نفس الوقت الهدف الأساس من الهيمنة نفسها، أي ان الاقتصاد تحول إلى هدف اساسي بعد ان كان أحد الوسائل التي تسخدمها الانظمة لفرض سياساتها.
ولما كانت البضاعة الاقتصادية تواجه حدوداً وتقيدات في المجتمعات الأُخرى بسبب الوعي والتمايز الثقافي فأن العولمة استهدفت الثقافة الذاتية للشعوب والمجتمعات من أجل فرض نفسها والوصول إلى اهدافها في السيطرة.
ان الثقافة تشكل العامل والمعلم الاساسي للتمايز بين الشعوب، هذه الثقافة التي تكونت عبر التاريخ ولتصوغ سلوكيات الفرد وقيمه وطريقة تفكيره. اصبحت اليوم معرضاً للغزو الثقافي الذي يأتي عبر قنوات الاتصال والارتباط التي تمتلكها الرأسمالية والمتقنة بأطور التكنولوجيات.
يذهب استاذ العلاقات الدولية في جامعة كلولومبيا " دافيد روثكوبف " بقوله: " صحيح أن العولمة لها جذور اقتصادية، وعواقب سياسية، إلا أنها سلّطت الضوء على قوة الثقافة في هذه البيئة الكونية. القوة التي تجمع وتفرق في وقت اصبحت فيه التوترات بين التكامل والانفصال تتأجج في كل قضية ترتبط بالعلاقات الدولية. والواقع أن اثر العولمة في الثقافة، واثر الثقافة في العولمة يستحقان المناقشة ". فتحت العولمة قضايا الهوية على نطاق عالمي واسع، واخذ الحديث يقترن بصورة متلازمة تقريباً بين العولمة والهوية، والاصطدام والتعارض بينهما([67]).
وبما ان سيطرة على عقول الآخرين يمثل السبيل الوحيد والاساسي في قبولهم لأية فكرة أو انتاج آخر، فقد سعت الدوائر الرأسمالية من خلال امتلاك مصادر الانتاج والبث الثقافي إلى تدمير الثقافات المحلية أو تهشيمها على أقل تصور من أجل ربطها بشكل تام مع الثقافة العامة التي تبلغ لها.
فقبل توسع الاهتمام حول العولمة، كان الحديث عن قضايا الهوية يقابل بالشك، وعدم الاصغاء والاكتراث، ويصور بطريقة من الفهم ترتد على صاحبها بالنقد. بعكس ما يجري اليوم من اهتمام يتصف بجدية كبيرة يختلط بالقلق، على خلفية ان العولمة تختزل فرض الاتجاه الواحد، وتعميم النسق الواحد للثقافة، من خلال السيطرة على ادوات العولمة وآلياتها التي تنقل إلى العالم الصور والمعاني والرموز والقيم والانماط، بواسطة الاقمار الصناعية والبث التلفزيوني وبرامج الكمبيوتر وشبكة المعلومات الدولية، " ويقوم موجهو عملية العولمة المتسارعة اليوم بتحسين وسائل وانظمة النقل الدولي ويبتكرون تكنولوجيات وخدمات ثورية جديدة في مجال المعلومات، ويهيمنون على السوق الدولي للافكار والخدمات. وهو ما يؤثر في أسلوب الحياة والمعتقدات، اللغة، وكلّ مكونات الثقافة الأُخرى. وقد كتب الكثير حول دور تكنولوجيات وخدمات المعلومات في هذه العملية. واليوم تعرض خمس عشرة شركة امريكية كبيرة في مجال الاتصالات، بما في ذلك شركات عملاقة مثل (موتورولا Motorola) و (لورال سبيس آند كوميونيكيشنز Loral Space & Cmmunications) و (تيليديسيك Teledesic)، مشاريع تناقسية ستؤدي إلى تمكين أي فرد في أي مكان من الاتصال الفوري بأي شخص اينما كان دون الحاجة إلى انشاء اية بنية اساسية للاتصالات على الارض بالقرب من المرسل أو المستقبل، (قدرت شركة لورال تلكفة تلك المكالمة بثلاثة دولارات للدقيقة الواحدة).
إن التكنولوجيا لا تحدث فقط تحولاً في العالم، بل إنها تخلق عالمها المجازي ايضاً([68]).
وإذا كنا شاهدنا فيما مضى ظهور شرائح من المجتمعات المحلية تحاول الارتباط بالغرب كثقافة محلية خاصّة بمنطقة محددة من العالم على أساس تصورات معينة، اساسها: انما تقدمت وتطورت تلك المجتمعات لتبينها ذلك النمط من الثقافة، وهو ماكنا ندعوه في بلادنا بالاستغراب الثقافي، فأننا نشاهد اليوم " استلاباً " من قبل العديد من المثقفين ازاء الآخر، فقد كان المثقف المغترب يستبطن في ذاته نوع من الانا من خلال محاولة تطبيق النموذج المستعار والمقلد مع الواقع الاجتماعي، في حين ان المستلب مثقفاً كان أو غير مثقف يدعو إلى نبذ كل ماهو محلي وذاتي والارتباط المطلق بالحضارة الغربية التي هي بالنسبة لنا ـ وسائر الشعوب غير الغربية ـ حضارة اجنبية مغايرة لاتنسجم مع المنطلق والموقع التاريخي والقيمي الذي عشناه وتدرجنا عليه، وبالنهاية فأن القيمة التي يراها الغرب قد نعتبرها نحن لاقيمة بالنسبة لنا. ان الاستغراب جاء نتيجة للهجمة الاستعمارية الغربية على الشعوب الأُخرى فنشأ عندنا مجموعة من حملة الفكر المتواطئ مع المستعمر فكرياً دون ان يكون عميلاً له وناكراً لذاته، بينما الاستلاب يعني افتقاد كل الموروث الثقافي الذي قد يلتزم به المثقف المتسعمر (المغترب) على مستوى الذهن والخلفية الذهنية على الأقل.
ثم ان مسألة العولمة الثقافية والاتجاه نحو نسق واحد من الثقافة ومحاولة ايجاد هوية واحدة للبشرية حسب النمط الغربي قد اجج مسألة الهوية اكثر واكثر. فحتى الثقافات المدروسة اصبح لها من يدعو إلى احياءها والتزامها من أجل اثبات شيء مفقود في هذا العالم الواحد، لأن التمايز هو من طبيعة الإنسان وسنة الله التي بثها في داخله، فهو يحاول ان يجد له مايمايزه عن الاخرين حتّى لو كان ذلك يتعلق بقضايا يراها الآخرون غريبة وشاذة، وفي هذا الصدد يقول المؤلف زكي الميلاد: " وقد انتقد صامويل هنتينغتون من يدعون حسب كلامه إلى ثقافة عالمية واحدة مرجعيتها الغرب، بقوله: كثيرون في الغرب يعتقدون ان العالم يسير نحو ثقافة عالمية موحدة واحدة هي ثقافة غربية اساسياً. ومثل هذا الاعتقاد متغطرس، زائف، وخطر. فأنتشار السلع الاستهلاكية الغربية لايعني انتشار الثقافة الغربية.
هذا الوضوح في كلام " هنتينغتون " وان كان نقدياً، إلا أنه يؤكد صحة مااظهرته الامم والحضارات من مخاوف تجاه هوياتها وثقافاتها ونماذجها الحضارية. وسوف يكتشف الغرب لاحقاً انه كان سبباً في انبعاث الهويات والثقافات في العالم، حتّى تلك الهويات والثقافات التي كاد يلفها النسيان، أو طمسها التاريخ، أو التي كانت في طريقها للاندثار، نتيجة استفزاز الغرب وانحلالية ثقافته ودوافعه في الهيمنة والسيطرة. فاصطدام الغرب بهذه الهويات هو الذي استنهضها وبعث فيها الدينامية والتحدي، حتّى تلك الهويات والثقافات التي اطاح بها الغرب لفترة من الزمن كبعض الثقافات القديمة والاصلية التي كانت في أمريكا واستراليا، حيث بدأت تستعيد انبعاثاتها وقواها، فالتاريخ يعاد قراءته من جديد في أمريكا الشمالية وملفات رحلات " كريستوفر كولومبس " الذي صوره الاوروبيون كمكتشف ارض الاحلام السعيدة، يتعرض اليوم لمحاكمات تصفه بالقرصنة والتدمير، وأنه لم يكن مكتشفاً بل كان غازياً، مارس القتل والنهب والسلب وان التاريخ في هذا البلد لا يبدأ من رحلته سنة 1492 ميلادية كما تحدث كتب التاريخ الحديث في اوروبا.
والحقيقة التي ينبغي أن يدركها الغرب، انه لم يعد في نظر الامم والحضارات غير الغربية، وحتّى عند بعض الثقافات داخل الغرب نفسه، ذلك الحلو واسطورة التقدم والنموذج الامثل الذي يقتدى به، لهذا فإن على الغرب ان يحدّ من اندفاعه في العالم، ويكف عن مغامرته، ويعيد النظر في انماطه السلوكية التي البت عليه الامم والحضارات.
لقد ظهر واضحاً ان الهويات لها طبيعة تجعلها من غير الممكن اقتلاعها بسهولة، أو بضربة قاضية، وبصورة نهائية، قد يتوقف عقرب الزمن عند بعض الثقافات لكنه قد يعود في أي وقت، وقد يخرج بعضها عن مجرى التاريخ لفترة وتعود إليه في فترات أخرى. فالتاريخ له دوراته وله تعاقبه، وهو اعرف بقوانين حركته من أي أحد من البشر "([69]).
هكذا تصور لنا العولمة، ومن ثم فقد اقترن الحديث عنها بكثرة الحديث عن اشياء براقة تخلب اللب: من حقوق الإنسان والديمقراطية، إلى الاشادة بالعقلانية والعلم، وبقدرة التقانة الحديثة على التغلب على كل ما يعترض الإنسان من عوائق ومشكلات، والهجوم على التعصب بكل اشكاله: الديني أو القومي أو العرقي، والزعم بأننا في كل هذه الأُمور مقبلون على عصر جديد مجيد تنتصر فيه كل هذه القيم الرفيعة: احترام حقوق الإنسان (وبخاصة حقوق النساء) والديمقراطية والعقلانية والموضوعية، والتقدم التقاني. وكل هذا يصور على أنه جزء لا يتجزأ من ظاهرة العولمة، كما يصور كل من يقف في وجه العولمة على أنه يقف في الحقيقة ضد التحرر من كل هذه الصور الاستعباد: استعباد الدولة، استعباد الجهل والفقر، واستعباد التعصب.
كم يكون العالم جميلاً لو كان هذا كله صحيحاً. ولكن الحقيقة للاسف غير ذلك، بل لعها عكس هذا بالضبط. وانما يساعد على تصديق كل هذه الأشياء، وتدعيم هذا الخطأ الفادح أن لفظ العولمة، لفظ يصف ما يجري على السطح من دون أن يفصح عن محتواه الحقيقي، إذ إن الكلام يجري عن العولمة من دون أن يثار السؤال عما تجري عولمته.
نعم، العالم ينفتح بعض على بعض. نعم، في عصر العولمة تزداد سرعة النقل والمواصلات، وتتسع السوق، وتزول الحواجز امام انتقال السلع والخدمات والاشخاص والمعلومات والافكار. ولكن لا أحد يعني كثيراً بالتساؤل عن طبيعة هذه السلع والخدمات التي اصبحت تنتقل بهذه السرعة، وعن نوع المعلومات والافكار التي يعمم بثها بهذه السهولة والكفاءة. نعم، التقدم التقاني يخلب اللب ويخطف الابصار. ولكن التقانة لا تعني في نهاية الأمر إلا " طريقة الانتاج " فكيف نتحمس للتقدم في التقانة، أي لطريقة الانتاج، قبل أن نسأل عن طبيعة هذا الذي يجري انتاجه؟
كيف يكون موقفنا لو ادركنا واقتنعنا بأن هذا الذي تجري عولمته ليس إلا سلعاً وخدمات بعينها، ذات طبيعة وخصائص معينة، افرزتها ثقافة بعينها، وأنه ليس هناك أي التزام قانوني أو ديني أو خلقي أو فني يجبرنا على قبول هذه السلع والخدمات والثقافة بالذات؟
لنفرض أنني استطعت أن اقنعكم بأن الهامبرغر والكوكاكولا والتلفزيون والدش، وهذا النوع من البرامج والافلام والمأكولات والملبوسات والمواصلات ووسائل الترفيه، وهذا النوع من العلاقات الاسرية والاجتماعية والجنسية ومن التنظيم السياسي... الخ، هذا النوع من الأشياء التي تجري الآن عولمتها، ليس مقرراً مفروضاً علينا وأن من الممكن أن يتفتق ذهن الإنسان (بل تعتق ذهن الإنسان بالفعل من قبل في حضارات سابقة) عن سلع وخدمات وعلاقات وتنظيمات من نوع مختلف تماماً، وأنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الحكي بأي هذه الانواع من المنتجات والعلاقات والتنظيمات افضل وايها اسوأ من غيرها، فكيف يكون إذن حكمنا على العولمة؟ هل نقبلها بهذه السهولة التي يجري بها الترويج لها؟ ام أن الأمر يستحق منا مزيداً من التروي؟
العولمة هي في الحقيقة عولمة نمط معين من الحياة، لا اشعر بأي التزام بتبنيه واتباعه. وإنما شاع الاعتقاد بضرورة تبنيه واتباعه لمجرد أنه يندر أن تثار مسألة خصوصيته، وارتباطه بثقافة معينة ونظرة معينة إلى الحياة والكون (أي بايديولوجيا معينة في الحقيقة). ومسألة الخصوصية هذه نادراً ما تثار بسبب طول عهدنا باكتساح هذا النمط لحياتنا (فالظاهرة تعود بدايتها إلى خمسة قرون خلت)، وبسبب اشتداد هذا الاكتساح وسرعته في العقود الاخيرة، وبسبب وجود مصلحة اكيدة لاصحاب الثقافة والمنتجات التي تجري عولمتها في عدم افتضاح خصوصيتها، واستخدامها مختلف وسائل القهر المادي والسياسي والنفسي والعقلي لتصدير ما هو خاص على أنه انساني وعام.
متى تبينا واقتنعنا بأن العولمة هي عولمة نمط معين من الحياة، اداتها الأساسية الآن هي الشركات العملاقة متعدية الجنسيات، التي تمارس هذه العولمة بكفاءة منقطعة النظير، متى اقتنعنا بذلك ادركنا أن كل هذا الكلام الذي يصور العولمة على أنها عملية " تحرر " من مختلف صور الاستعباد، هو محض خرافة.
فأي حرية بالضبط تلك التي نوعد بها لو تحررنا من ربقة الدولة؟ أليست هذه " الحرية " هي بالضبط التي يصفها جورج اورويل في رواية 1984؟ إنني ماكنت لأذرف الكثير من الدموع حزناً على انحسار سلطة الدولة لولا أن الذي يحل محل الدولة هو الشركات العملاقة متعدية الجنسيات. فأي مؤشر هناك يدلني على ان الحرية التي اتمتع بها في ظل سطوة هذه الشركات اكبر واوسع مما كنت اتمتع به في ظل سطوة الدولة؟ هل انا بحاجة إلى ان اذكركم بما نفعله وسائل الاعلام الحديثة بحرية الرأي والتفكير؟ أو بما تفعله سطوة هذه الشركات بحرية المرأة ومكانتها؟ أو بمدى تحملها للاختلاف الحقيقي في الرأي؟([70]).
ويشير تقرير لجنة اليونسكو الدولية لدراسة مشاكل الاتصال، إلى " ان دولاً معينة ومتقدمة تقانياً تستغل مزاياها لممارسة شكل من اشكال السيطرة الثقافية والايديولوحية تعرض الذاتية القومية لبلاد أخرى للحظر ". ويزيد هيربرت شيللر، استاذ الاعلام الامريكية ونائب رئيس المنظمة العالمية للابحاص الاعلامية، ان الاستعمار الثقافي ينمو في النظام الاعلامالحالي حيث نرى شروط النتاج الثقافي وشخصيته يتقرران في مركز سوق عالمية واحدة تفرض نتاجها على العالم، وحيث يكون هناك خطر في قبول مبدأ حرية انسياب المعلوما في عالم لا تتساوى فيه الامكانيات التقنية والمادية، وبالتالي في عالم تكون فيه الدول الصغيرة والفقيرة معتمدة بصورة كبيرة على الدول الكبيرة في تقنية انسياب معلوماتها([71]).
ان الثورة الاعلامية في النظام العالمي الجديد تتصف بالتفاوت في الامكانيات المادية والبشرية بين دول العالم، وقد ادى هذا التفاوت إلى تفاوت المجالات السياسية والقانونية والتقنية، وبالتالي إلى سيطرة الدول المتقدمة على الدول الساعية للنمو عن طريق سيطرتها على وسائل الاعلام. ادت الثورة الاعلامية إلى تحويل الدول الساعية للنمو إلى مجرد مستهلك للاعلام الذي تقدمه الدول المتقدمة، لا دور لها في عملية تبادل المعلومات حتّى تلك التي تتعلق بها. فحوالي (80) بالمئة من الاخبار والمعلومات المتداولة عالمياً تصدر عن وكالات اخبار في الدول المتقدمة، حتّى الموجات الاذاعية واقنية الاقمار الصناعية تملك غالبيتها العظمى الدول المتقدمة، والانظمة المتبعة حالياً في اتحاد الاذاعيين الدولي، فمثلاً، تكرس الحقوق المكتسبة في التوزيع، فتحرم الدول الساعية للنمو وبخاصة المستقلة حديثاً من وسائل الدفاع عن نفسها اعلامياً واسماع صوتها.
من أهم خصائص النظام العالمي للاعلام، إذا، ان تدفق المعلومات هو في اتجاه واحد: من الشمال إلى الجنوب ومن الدول المتقدمة تقنياً إلى الدول الساعية للنمو، وانه يخضع لاحتكارات تمارسها قلة من الدول والمؤسسات.
تشير احصاءات منظمة اليونسكو عن الوطن العربي إلى ان شبكات التلفزيون العربية تستورد مابين ثلث اجمالي البث (كما في سوريا ومصر) ونصف هذا الاجمالي (كما تونس والجزائر). اما في لبنان فان البرامج الاجنبية تزيد على نصف اجمالي المواد المبثة، إذ تبلغ (58,2%). وتبلغ البرامج الاجنبية في لبنان (69%) من مجموع البرامج الثقافية([72]). حتّى البرامج المحلية نرى الكثير منها يقلد البرامج المستوردة ويتبنى قيمها، وكذلك نرى الاعلام العربي فقيراً في الامكانيات البشرية والتقنية.
ولا تكتفي وسائل الاعلام الغربية بهذا التدفق الاعلام والثقافي الاجنبي، بل تقدم في الغالب البرامج الاجنبية بلا ترجمة إلى اللغة العربية. ففي للبنان، مثلاً، نرى ان الكثير من نصف البرامج الاجنبية لا تعرض ترجمة عربية مع البرامج. والخطير في الأمر هنا ان ثلثي برامج الأطفال تبث بلغة اجنبية، والاخطر من ذلك ان غالبية البرامج الاجنبية للاطفال لاتقدم ترجمة عربية لمشاهديها من الأطفال([73]).
ان استعمال اللغة العربية في قنواتنا الاعلامية مهم جداً للتربية الوطنية الجيدة لأطفالنا وللمحافظة على تراثنا، إذ ان اللغة تتضمن، بالاضافة إلى مفرداتها، وجهات نظر واحكاماً مسبقة ضد وجهات نظر أخرى، ويشير الكثيرون من علماء اللغة إلى ان استعمال اللغة الام يؤدي، وبطريقة غير واعية، إلى اكتساب أسلوب نوعي متميز للتفكير وإلى اكتساب ميتافيزيقيا باطنية خافية([74]).
ان الاتصال هو أحد العناصر المكونة للثقافة لأنه مصدر تكوينها وعامل من عوامل اكتسابها واثرائها، وهو يساعد على التعبير عنها ونشرها. ووسائل الاتصال وتقنياتها هي اشكال ثقافية في حد ذاته، وقدرتها على انماء الثقافة التقليدية وصونها تضاهي قدرتها على تفتيتها بأقحام ثقافات دولية والترغيب فيها. ان عمليات الاتصال تعد عاملاً حاسماً في تأكيد الذاتية الثقافية وصونها... وإذا أحسن استخدام وسائل الاتصال، فأن من الممكن أن تكون اداة فعالة تساعد كل أمة على تعزيز وعيها بذاتيتها الثقافية([75]).
خطاب العولمة
لعلّ العولمة هي المشروع الوحيد الذي يتضمن رؤية شاملة لجميع المنظموعة البشرية بشكل مترابط ومتصل على خلاف المشروعات الغربية السابقة التي كانت تتناول جانب واحداً من جوانب الحياة لترفعه شعاراً مرحلياً من أجل ربط دول التخوم بالمركز الرأسمالي ـ الامبريالي الام ـ وفي هذا الصدد يمكن دراسة خطاب العولمة الجديدة الشاملة على ثلاثة مستويات مترابطة ومتكاملة، هي:
مستوى الفرد، مستوى المؤسسات المدنية ومستوى الدولي، اضافة إلى مستوى راجع حصيلة نهائية للمستويات الثلاثة المذكورة وهو المستوى العالمي الذي تطمح إليه العولمة كمشروع ينظر اليها بالتالي:
ورغم ان الخطاب لا بدّ ان يدرس من جانب واحد ومن جهة واحدة وهي الجهة المصدرة للمفهوم والاطروحة المذكورة لكنه من الضروري دراسة القراءة الثامنة والأُخرى للخطاب، أي مايفهمه الطرف المخاطب من الخطاب الصادر عن الطرف الأول، لذلك فالمستويات الثلاثة أو الاربعة التي ذكرناها ستكون لها قرائتين، الاولى قراءة عن المركز المنتج والمبدع للمفهوم وهوي لب القضية، والثاني مايفهمه المخاطب في الطرف الآخر عن محتوى هذا الخطاب الموجه على المستويات المذكورة آنفاً.
ومن زواية نظر آخر لا بدّ من تحليل آخر لخطاب العولمة من خلال الشعارات التي يرفعها ويركز عليها، فالعولمة تركز من حيث المضمون والمحتوى على نقاط وموارد ليست جديدة في الحقيقة بل هي معّدلة بشكل وبآخر عن خطابات قديمة رفعتها الليبرالية الديمقراطية والغرب والاستعمار حتّى، مقولات تعامل الغرب معها بأزدواجية خلال فترة سيطرته على الشعوب الأُخرى، فالحرية بالنسبة له على سبيل المثال تعني بسط ايدي الشركات الرأسمالية في شتى المجالات للتلاعب بمقدرات الشعوب الغربية ايضاً فضلاً عن الشعوب الأُخرى، والحرية بالنسبة له تعني دعم الدكتاتوريات المعروفة في قمعها لشعوبها، طبقاً تحققت من خلال الشعارات ايضاً بعض المكاسب على المستويين الغربي وغير الغربي بسبب تأثيرات الرأي العام. يضاف إلى ذلك ان مشروع العولمة الذي هو آخر صرعات واحدث نتاجات الفكر الغربي متناسق ومتضامن ومتكامل في النقاط التي يرفعها والشعارات التي يركز عليها.
على سبيل المثال فالحرية والديمقراطية والخصخصة جميعها مفاهيم مترابطة تنشأ عن عقيدة واحدة واساس معين هو الليبرالية، رغم اننا قد نجد في بعض المفاهيم المطروحة جانباً من الدقة قد يكون مورد اشكالية في الدول والمجتمعات المخاطبة في حين انه لم يخلق مثل هذا الأمر وهذه الاشكالية لدى الدول المنتجة للفكرة والمصدرة للخطاب، مثل مسألة التنوع العرقي ووحدة الثقافة العالمية. فقد تكون هذه القضية من اكبر المشاكل التي تواجهها دول التخوم وتشكل هاجسها الاكبرـ في حين ان دول المركز تجاوزت ذلك من خلال آليات معينة واكبر دليل على ذلك الوحدة الاوروبية الحالية رغم تنوع الثقافات والديانات والاعراق، بل وحتّى في أمريكا التي تجمع على الأقل اربعة انواع من الاعراق (البيض، السود، الحمر، والمهاجرين) فضلاً عن الديانات والثقافات و.... الخ.
وبهذه المقدمة ستقوم بدراسة مستويات خطاب العولمة ابتداءً ومن الوجهتين التي اشرنا لهما (الدول المصدرة والمنتجة للخطاب ـ والدول المتلقية والمستوردة للخطاب) ومن ثم ندرس مضمون خطاب العولمة في عدة نقاط مهمة.
مستويات خطاب العولمة:
1 ـ مستوى الفرد: رغم ان فلسفة الفردانية (Individialism) ليست حديثة في الفكر الغربي إذ تمتد جذورها إلى بدايات عصر النهضة ونظر لها فيما بعد فلاسفة كبار امثال لوك وروسو واستوارت ميل وغيرهم، إلا ان خطاب العولمة، يركز على جوانب معينة من الفردانية هي اقرب ماتكون إلى السطحية منها إلى العمق، وقد يكون سبب ذلك ان الفرد الغربي وخلال مسيرة قرون من تطور الفكرة الليبرالية تمكن من تحقيق الكثير من المكاسب التي لايزال الفرد في المجتمعات الأُخرى غير الغربية فاقداً لها وساعياً إلى الحصول على اولوياتها.
ان خطاب العولمة يركز بشكل ينير الدهشة على الفرد باعتباره فرداً وينفي في جزء كبير منه النظرة العضوية للفرد في المجتمع. وقد يكون هذا قمة ماتطمح إليه الليبرالية والفردانية، فالافكار من حيث الابداع والاستهلاك مصدرها الفرد وتعود إليه وهو الحر في اختيار مايناسبه منها إذا كان هناك اختيار طبعاً مع وجود هذا الكم الهائل من الدعاية والاعلام الموجه. ولأن العالم اصبح قرية كما عبروا عنه فأن الافراد وتقاربوا بحيث لاداعي إلى ادخال وسائط أخرى مثل الدولة والمجتمع و.... الخ في العلاقة بين الافراد من حيث المخاطب ـ بكسر الطاء ـ والمخاطب ـ بفتح الطاء ـ. كما ان الوعي والشعور الإنساني وصل إلى مرحلة لايحتاج فيها الفرد إلى قيم من أجل وعي مايدور حوله أو فهم مايتضمنه، وفي هذه النقطة يكمن خطر العولمة الأول والاهم، لأننا شهدنا في الفترات السابقة وفي مراحل متعدد وجود واسطة في الخطاب بين المنتج الغربي والمستهلك من الشعوب الأُخرى في وجود مايسمى " بالمتغرب " أو " المثقف المستعمر " أو " المقلدين للآخر " حيث كانت الواسطة تقوم بتعديل المفهوم المستورد عن طريق اللاوعي الشرقي وبالنسبة للمجتمعات الشرقية التي نحن جزء منها ـ الموجود داخل ذهن تلك الواسطة ومع الاخذ بنظر الاعتبار للتمايزات الكبيرة التي كانت موجودة بين الوضع والعقلية الغربية والشرقية لكن تطور وسائل الاتصال وتطور الحياة المادية ايضاً في الدول الأُخرى جعل خطاب العولمة يتجاوز تلك الوسائط الموجودة لكي ينفذ بشكل مباشر إلى المستمع والمستهلك في التخوم، ودون الاخذ بنظر الاعتبار للتوفيقات التي كانت تنتج عن اللاوعي في عقل الواسطة كما ان الاتصال المتزايد قلل بدوره من التمايزات التي اشرنا اليها في الوضع الحياتي بين وجهي الفكرة المنتج والمستهلك، لذلك جعل من الاسهل والبساطة تقبلها عند مجتمعاتنا التي تعرفت خلال السنوات الاخيرة من القرن العشرين على الكثير من اسباب ووسائل الحياة الغربيـة فقلدتها بقوة واستخدمت وسائلها المعيشية بكثرة، ومن الطبيعي جداص ان تأتي الوسـائل المادية ثقافتها معها، فعلى سبيل المثال، لركوب الطائرة ثقافته الخاصّة أو للبـس البنطلون وربطة العنق ثقافتها الخاصّة التي تختلف عن ثقافة ملابسنا الشرقية و.... الخ.
والخطوة في مباشرة الخطاب للفرد هنا تكمن في ان مصدر الخطاب حوار نفسه من خطاب فردي أو مؤسسي ابتدائي إلى مؤسساتي متطور يستخدم في انتاج فكرة وتصدير خطابه تقنيات هائلة لازال فردنا بعيداً عنها وغير قادراً على استخدامها حتّى في تلقي الخطاب فضلاً عن انتاجه وصياغته. هذه الازدواجية في الصياغة الغربية لفكرة العولمة وهي استفراد الإنسان في المجتمعات الأُخرى مقابل تضخيم وتطوير المؤسسات في مجتمعاتها يسلب الإنسان الآخر قدرته على منازلة أية فكرة ومقاومتها فيضحي فريسة سهلة امام جيوش الدعاية والقصف الدعائي والاعلامي المقابل وهو منزوع من ابسط اسلحته البدائية.
2 ـ مستوى المؤسسات المدنية:
تشير الاحصائيات الاخيرة إلى وجود كم هائل من المؤسسات المدنية غير الحكومية في العالم، هذه المؤسسات التي تنشط على عدة مستويات تشمل جميع جوانب الحياة الإنسانية اصبحت من الظواهر الملازمة لفكرة العولمة. ولأن اغلب تلك المؤسسات على أساس مفهومي معين ظهرت اول ماظهرت في المجتمعات الغربية وعلى أساس أفكار كانت وليدة التطور الاجتماعي الذي شهدته تلك المجتمعات خلال مسيرة تطورها ونموها التي استمرت عشرات بل مئات السنين، فأن المؤسسات التي ظهرات فيما بعد في الدول والمجتمعات الأُخرى اخذت صبغة تقليدية لتلك المؤسسات الاولية، فستعارت الفكرة والهيكلية والمضامين، خاصّة وان ظهور المؤسسات المدنية في الدول غير المتقدمة كان على يد نخبة تلقت تعليمها وتشكل عقلياتها في جامعات غربية من حيث المكان أو المناهج الدراسية. لذلك فقد تكون أحد مستويات خطاب العولمة على مستوى المؤسسات المدنية الحديثة منها في المجتمعات التقليدية، رغم ان المؤسسات المدنية القديمة ابدت نوع من المقاومة تجاه خطاب العولمة لكن قلة عددها انحسار نشاطها في مشروعات غير حيوية على مسرح ادارة المجتمع جعلها غير مؤثرة في مقاومة العولمة، فمقارنة مؤسستين حديثة وتقليدية يبين بوضوح امكانية نشاط الاولى وفاعليتها في رفد خطاب العولمة وانحسار نشاط الاولى وضعف وسائل مواجهتها لفكرة العولمة، فوجود نقابة للصحفيين ينخرط فيها عدد غير قليل من الاقلام الشابة التي ترفد هذا الكم الهائل من الصحف والقنوات القضائية وشبكات الانترنيت لايمكن مقارنته بمؤسسة خيرية خليجية ـ مثلاً ـ تعمل على دعم مشاريع اجتماعية معينة من خلال قروض أو برامج تثقيقية كلاسيكية. فرغم احترامنا لنشاط الثانية إلا ان دائرة فعاليتها وتأثيرها لايمكن ان يكون بحجم الاولى التي تستطيع حتّى اسقاط حكوة واحلال أخرى مكانها بالضغط الاعلامي والدعائي عليها.
لذلك خصصت الدوائر المسيرة لفكرة العولمة مساحة كبيرة من نشاطاتها لاستحداث مؤسسات مدنية جديدة تتلائم وجميع انشطة العولمة الشاملة، كما ربطتها أو ربطت بعضها من خلال مفاهيم مشتركة وشعارات واحدة بالمركو المهيمن على كل الفكرة. لذلك اضحت مؤسسات حقوق الإنسان في العديد من الدول غير الغربية ادوات بيد صانعي السياسات الغربية للدعاية والضغط ضد العديد من الدول في حين انها تتغافل عن انتهاكات كبيرة تقع في دول أخرى، فلسطين المحتلة مثلاً، لأن صانعي القرار الام في مؤسسات حقوق الإنسان تكمن مصالحهم في ذلك التغافل.
3 ـ مستوى الدولة:
كما توجه العولمة سهام خطابها إلى فرد والمؤسسات المدينة، لم تنجح الدول ايضاَ بأعتباره مؤسسات مدنية كبرى من سهاب ذلك الخطاب، فقد سعى خطاب العولمة إلى تهميش دور الدول المخاطبة ـ بفتح الطاء ـ لحساب الفرد والمؤسسات المدنية أي ان الخطاب العولمي عمل على رفع المستويين الاوليين على حساب المستوى الثالث ـ الدولة ـ لأن المصالح القومية والسيادة الوطنية تعتبر من الموانع الرئيسية للهيمنة الغربية على المجتمعات والبلدان الأُخرى، ومن أجل الاضرار بمبدء السيادة اصبح التدخل بأسم حماية الفرد والمؤسسات في الشؤون الداخلية سمة بارزة خلال اعوام سيطرة فكرة العولمة. وهنا نأخذ على سبيل المثال الحديث الذي يدور منذ نهاية الثمانينات من القرن العشرين حول تغيير مفهوم المواطنة، فهناك من يحاول خلق مواطنات منتشرة في الدول الأُخرى دون النظر إلى سيادة الدول التي يقيم مواطنوها فيها، ويمكن تشبيه ذلك بما تفعله إسرائيل حالياً في علاقاتها مع ابناء الحركة الصهيونية واليهود في المجتمعات الأُخرى، إذ تعطيهم المواطنة وتدافع عن حقوقهم على حساب سيادة الدول التي يقيمون فيها وتجيثهم ضد بلدانهم لصالحها وهو ماينتج عنه اختراقات واسعة لأمن البلدان وتعرضها لأنتهاكات خطيرة في هذا المجال، وقد لازم ذلك زيادة في صلاحيات الامم المتحدة التي اضحت بدورها بعد انهيار القطب الشرقي مجرد آلة طائعة بيد الميول والرغبات الامريكية في السيطرة على العالم، فالامم المتحدة ـ أمريكا في حقيقة الأمر ـ تقرر التدخل في الصومال لفرض نوع معين من المعادلة السياسية، وهكذا تفرض حصاراً على دولة ـ ليبيا، العراق، ايران، السودان، كوبا، كوريا الشمالية ـ أو تقوم بهجوم عسكري على أخرى بحجة الدفاع عن بعض مواطني تلك الدولة، وهو مالم يكن في فترة النظام السابق وبهذا الشكل نشاهد ان خطاب العولمة موجه إلى نوع جديد من الوحدات السياسية التي اطلق عليها فيما سبق الدولة.
مضمون خطاب العولمة:
اشرنا فيما سبق إلى ان فكرة العولمة (Globelazation) التي ظهرت مؤخراً هي صياغة متكاملة لمشروع هيمنة شاملة من قبل الغرب على المجتمعات والافراد والدول غير الغربية بما يضمن استمرار مصالحها وتدفق ارباحها من خلال استبعاد الآخرين وتسييرهم لصالح المركز على حساب التخوم والدول غير الغربية، لذلك تناول مضمون الخطاب عدة اوجه واكد على مجالات توفر لصاحب المشروع الاهداف التي يطمح ضمن منظومة شاملة من الأفكار والمفاهيم البراقة في ظاهرها. فقد طرحت العولمة جملة مفاهيم في مضمونها مترابطة تسعى من خلالها إلى تجيير العالم لصالح قطب ومركز واحد يكون المستفيد الأول والمهيمن الأول على مقدارت العالم والشعوب الأُخرى، ومنها العالم العربي الذي لم يتح له تطوير نفسه ضمن آليات ذاتية، بل فرضت عليه صياغات خارجة عن اطر عقليته السابقة.
اضافة إلى ذلك فأن التفسير الغربي للمفاهيم التي تطرحها العولمة كانت على الدوام سلاحاً بيد صانعي القرار الغربي وواضعي مشروع العولمة لكي يستخدمون في أي وقت شاءوا ضد النظم والكيانات والافراد الذين قد لايقبلون بأوجه الهيمنة للمشروع.
وعلى هذا نجد خطاب العولمة يركز على مضامين متنوعة ومترابطة، هي نتاج التطور العقلية والحياة الغربية بالدرجة الاولى دون الاخذ بما نتج في المجتمعات الأُخرى من مفاهيم أو تفاسير متباينة احياناً مع التفسيرات التي يطرحها الغرب عن تلك المفاهيم والمضامين، ومن هذه المفاهيم المضمونية للعولمة: ـ
1 ـ الحرية.
2 ـ الديمقراطية.
3 ـ الخصخصة.
4 ـ السوق العالمية.
5 ـ الثقافة العالمية وتنوع الثقافات الأُخرى.
6 ـ اللاحدودية الدولية.
7 ـ الفرد مقابل العالم.
8 ـ الاشتراكية العالمية والاحتكارية الغربية.
وسنأتي فيما يلي إلى بيان وتفسير كل واحدة من تلك المفاهيم التي اشرنا اليها.
أولاً ـ الحرية:
يعطي خطاب العولمة في مضمونه قدراً واسعاً من الحرية للافراد في خطابه الموجه اليهم هذه الحرية التي تتناول السلوك والممارسة السطحية بالدرجة الاولى فيما تحب عنه القدرة على حرية الابداع والتنظير خارج اطار مشروع العولمة، تهدف الحقيقة إلى تمرد الفرد على متبنياته الاجتماعية السابقة واخراجه من اطار ثقافته القومية والذاتية نحو ثقافة أخرى يرتبط بها ارتباطاً ظاهراً بما يمكنه في المستقبل من تغيير نمط وشكل عقليته من خلال وسائل مادية تتاح له وتمرين ذهني في قبول الآخر ورفض الذات. فلو كان خطاب العولمة يهتم بالحرية كمفهوم عميق لما حصر الآخر في دائرة ضيقة تمنعه من اختيار صيغة حياته مابين الثقافة الواردة المهاجمة وما كان يمتلكه من ثقافة ذاتية متأصلة في قراءة نفسه ومحبته فالحرية هنا ـ ضمنت مشروع العولمة ـ يعني بالدرجة الاولى التمرد على الذات وقبول الآخر أو القبول بما يفرضه الآخر، وهذا الاهتمام المتزايد بهذا النوع من الحريات السطحية سوف يخلق حالتين لا ثالث لهما:
الحالة الاولى: تشنجات اجتماعية واضطرابات دائمة في المجتمعات الأُخرى وتصارع بين الوافد من الآخر والموروث التقليدي الذي ستحاول بالتأكيد بعض الفاعليات الاجتماعية والافراد الاكثر عمقاً مقاومته والحيلولة دون حصوله، بما يهيء الفرصة لمزيد من النشاط لدى المراكز المنتجة لخطاب العالمية.
الحالة الثانية: تهيء الحالة الاولى فرصة سانحة ومن خلال مفاهيم أخرى لتدخل المراز في دول ومجتمعات التخوم تحت ذريعة حماية ودعم الحرية المهانة في تلك التخوم، ومن خلال ادوات متعددة تبدء عادة بأدانات مؤسسات حقوق الإنسان حتّى تنتهي بالتدخل العسكري المباشر كما حدث في علميات ماسمي بـ " اعادة الامل " في الصومال. وطبعاً هذا يتبع قوة وضعف المجتمع والدولة التي تستهدف خلال ذلك النشاط، فقوة المجتمع والدولة تجعل مراكز نظام العولمة مترددة في التدخل المباشر فيها وتجبرها على استخدام وسائل اولية في ذلك بينما الضعف يعطي الجرأة لصانعي قرار العولمة في التدخل المباشر وحتّى القتل وتطهير جيوب المقاومة ـ حسب ما يصطلح عليه فرانسيس فوكوياما في كتابة نهاية التاريخ ـ.
هذا الأمر يبرر تدخلات القوى الغربية المهيمنة على العالم بعد ضعف وانهيار القطب الاشتراكي السابق في العديد من الدول: احداث ساحة نيان أن مين في الصين عام 1989، احداث انهيار الاتحاد السوفيتي السابق وصعود بورس يلسن إلى الواجه عام 1991، الادانات الدائمة لدول مثل ايران وليبيا والسودان، التدخل في دعم الانفصاليين جنوب السودان، ضرب صربيا بحجة الدفاع عن الالبان في كوسوفا و... الخ مما لايعد ويحصى من التدخلات المباشرة وغير المباشرة التي شهدناها خلال الاعوام العشرة الاخيرة من نهاية القرن العشرين.
وكانت مقولة حقوق الإنسان التي هي في الحقيقة نتاج للتضادر بين المجتمع والفرد من جهة والسلطة في العالم الغربي، هي الحربة الرئيسية في الضغط على الدول ومايدعى من حماية حقوق الفرد في مواجهة السلطة لضمان حريته السطحية في مجالات الحياة المادية دون الاهتمام بتلك الحرية كما اشرنا سابقاً في مجال الفكر والتنوع الثقافي واختيار العقائد المناسبة.
ثانياً ـ الديمقراطية:
رغم ان الديمقراطية عانت منذ بداية انطلاقها كفكرة في اليونان القديمة من اشكالية مقيتة، فهي تعبير عن حكم الاغلبية لكنها في حقيقتها حكم لأقلية ممدوة على اكثرية مهمشة، ظهرت على ايد صانعي مشروع العولمة كحربة قوية لضرب الوجودات التي لاتنسجم معها فكرياً أو التي تقاوم مشاريع الهيمنة الغربية على العالم، فالديمقراطية اضحت مؤخراً ورغم منشأها الشرقي (اليونان) حكراً غربياً تتولى رعايته وتفرضه بقوة على الآخرين، تسمى من ينسجم مع مصالحها من الانظمة ديمقراطياً ـ حتّى لو كان في ذروة دكتاتوريته وفساده السياسي واستبداده ـ وتصف من لاتنسجم معها بالدول غير الديمقراطية. وكأن الديمقراطية وهي منزل لاتستطيع أحد نقده أو تبني مشروع آخر مغاير له يضمن حق الفرد والمجتمع مقابل السلطة. وهذا مايبرر وصف مفكري الغرب بأن الديمقراطية الليبرالية هي ذروة النتاج السايسي الغربي على مستوى انظمة الحكم حتّى لو ان الديمقراطية تحولت خلال القرن الماضي إلى حكم اقلية (اليغاريشية) من خلال احتكارات مالية وصناعية واعلامية على اكثرية مستهلكة للاعلام والبضاعات الصناعية على حد سواء في المجتمعات الغربية نفسها.
ولعلّ قيام مؤتمر الديمقراطيات العالمية مؤخراً في مدينة وارسو ببولندا واستبعاد العديد من الدول المناهضة للهيمنة الامريكية كالصين والعراق وليبيا و.... يوضح المفهوم التي تصوغه وتحاول الاستفادة منه القوى الغربية لمقولة الديمقراطية.
البعد الآخر في خطورة استخدام هذا المفهوم من قبل الخطاب العولمي، هو ان الدوائر الامريالية تحاول من خلال الضغط على الدول في تبني الديمقراطية إلى ظهور نخب جديدة لا تحمل معها مقاومة خاصّة نابعة من المخزون الثقافي والفكري الذاتي مقابل الهجمة الثقافية الغربية، نخب تكون قريبة قريبة جداً من مراكز صنع القرار العالمي من أجل تطبيق واسع له في دول التخوم، فهي تضغط من خلال مقولة الديمقراطية على السلطات التقليدية والتاريخية لكي تترك مراكزها لصالح وجوه جديدة أقل اصالة.. وهكذا ضمن عملية استبدال دائمة (اجدد مقابل جديد وبدل قديم) يتحول صانعوا القرار السياسي في التخوم إلى ادوات طائعة بيد المراكز الغربية.
خاصّة وان السياسة في التخوم سياسة ارتجالية عادة تتعلق بشخص الحاكم بالدرجة الاولى دون وجود استراتيجية ثابتة يسير عليها رجال السياسة كما هو موجود في الغرب حيث ان ذاهب شخص ومجيء آخر لايؤثر على استراتيجية القرارات المتخذة، فقد تحولت ادارة الدولة لديهم إلى مؤسسة لايمثل الفرد فيها سوى مساحة ضيقة جداً من التحرك، وهذا خلاف ماموجود في المجتمعات الأُخرى ومن ضمنها العالم العربي، ففي العديد من دول عالمنا العربي لاتزال مؤسسة الدولة غير راسية وثابتة لأن عمرها في كثير من الاحيان لم يتجاوز نصف قرن ناهيك عن عدد الانقلابات والثورات والثورات المضادة التي حدثت في بعض دولنا خلال عمر الدولة الذي لايتجاوز في كثير من الاحيان وكما قلنا من قبل ـ نصف قرن !
ان مخططي مشروع العولمة ينتظرون في كثير من الاحيان ذهاب قيادات عالمنا العربي التاريخي لكي يخلوا لهم مع جيل جديد من الشباب فمن لم تكونهم سنوات المحن ولم يعيشوا تفاصيل الصراع مع الآخر، وقد تحقق لصانعي العولمة في السنوات الاخيرة بعض الذي اراده في هذا المجال، انتصاراً للديمقراطية التي غيبها عنهم القادة التاريخيين لشعوب امتنا العربية.
هنا اود ان اشير إلى انني لا أريد ان ادافع عن جميع ممارسات تلك القيادات التاريخية العربية، لأن الكثير من سياساتها قابل للنقد أو للرد ايضاً، فقد مارست السلطة بروح سنوات ماضية ولازالت في العديد من الدول غير منسجمة مع روج التطورات الاخيرة التي شهدها العالم ودولها. لكن تلك القيادات ورغم كثرة سلبيات العديد منها لاتزال تحمل اصالة الماضي وتمثل الذات المقاومة في مقابل استسلام رجال السياسة الجدد. فلربما تنحسر في المستقبل غير البعيد على وجودها في ملمات ومواقف تكون بحاجة كشعوب عربية إلى وجود امثالها للدفاع عن كيان الامة وشخصيتها، والحكم هنا للزمن والتاريخ.
ثالثاً ـ الخصخصة:
عملت عملية اللبرلة التجارية والصناعية المالية إلى ربط البرجوازيات المحلية بالبرجوازية العالمية خلال مشروع تاريخي يهدف إلى زيادة نفع المراكز الرأسمالية العالمية على حساب مصالح الدول والمجتمعات الأُخرى. فعملية تدويل رؤوس الأموال قضت إلى حد ما على مصالح الدول الأُخرى بما يخدم رؤوس الأموال ومراكز الانتاج الصناعي العالمي. لذلك تسعى العولمة على التركيز إلى اخراج مؤسسات الانتاج والاستهلاك وجميع اوجه النشاط الاقتصادي وايضاً الثقافي والاعلامي من نطاق الدولة إلى دائرة المؤسسات التابعة للقطاع الخاص. وبما ان الدول تحاول من خلال سيطرتها على المؤسسات إلى ضمان مصالحها القومية بالدرجة الاولى والتقليل من إضرار الآخرين بها من خلال تمركز القوى الانتاجية والمالية فأن الخصخصة هنا تعني دمج اكبر وسريع للمؤسسات في الدول الأُخرى بمنظومة السوق العالمية وشبكة العولمة التي تسيطر عليها الرأسمالية العالمية.
ان سيادة ومصالح الدول لاتزال تشكل عائقاً امام مصالح الدول الغربية في نهب الثروات المادية للبلدان الأُخرى، لذلك فأن الخصخصة تعني من وجهة نظر العقلية الغربية صاحبة مشروع العولمة استفراد مراكو الانتاج والتجارة الضعيفة امام احتكارات عالمية كبرى تحولها إلى اداة بأيدها لضمان اكبر حجم من الربح من جهة ولاستخدام هذه المؤسسات الخاصّة ذات النفوذ في دول التخوم لاختراق قرارات الدول بما يضمن سيادة وهيمنة الدول الام.
وعلى هذا الأساس نشاهد تركيزاً والحاحاً متزايداً بالقيام بعمليات الخصخصة من خلال اوراق ضغط تستخدمها الدول الكبرى بواسطة مؤسسات ذات طابع دولي مستقل في الظاهر مثل صندوق النقد الدولي وبنك التنمية و... الخ ولأن العديد من دول العالم الثالث، بما فيها الدول العربية بحاجة متزايدة إلى رؤوس اموال واستثمارات اجنبية فقد جعلت هذه المؤسسات أحد شروطها لتقديم قروض هو القيام بعمليات الخصخصة المتسارعة، التي لم تعط على مدى عقدين من الزمن نتائج مرضية للدول التي قبلت بتلك الشروط واستفادة من قروض تلك المؤسسات.
ان عملية ربط البرجوازيات المحلية بالرأسمالية والبرجوازية العالمية يفرغ الدولة من الكثير من اسباب سلطتها على المستوى الاقتصادي يما يؤهلها لسهولة الاختراقات السياسية والامنية بعد ظهور شرائح برجوازية تطالب بحصتها في ادارة الدولة والمجتمع على أساس عدم امكانية فصل مساري التنمية الاقتصادية عن التنمية السياسية، ولن عمليات الخصخصة واستثمار رؤوس الأموال تحتاج تطبيعها إلى دعم تشريعي من خلال المؤسسات الدستورية في الدولة. وبهذا الشكل يظهر الترابط المنطقي في محتوى خطاب العولمة بيد المضامين التي تناولناها لحد الآن وهي (الحرية، الديمقراطية، الخصخصة).
رابعاً ـ السوق العالمية:
بهذه الشبكة الواسعة من التنظيم الاقتصادي والسياسي والثقافي المدعومة بواسطة دعاية عالمية متطورة وكبيرة يتحول العالم بأسره إلى سوق كبيرة مستهلكة لنتاجات المراكز الرأسمالية العالمية. فالفرد والمؤسسة والدولة في مجتمعات التخوم ماهي إلا مستهلك واسع لبضائع ونتاجات الآخر الذي يأتي من خلف الحدود وبتوفر تيار احادي الجانب ضمن دائرة تبدأ بالمركز الام وتنتهي إليه. فالمواد الخام في جميع المجالات تبدأ انطلاقها من دول التخوم لتصب في هيكلية معقدة لمؤسسات دول المركز من ثم تعود كبضائع للاستهلاك المحلي والعالمي بعد اجراء عمليات تكرير وانتاج وقولبة لها في مراكز العولمة. وهذا مانشاهده على اصعدة مختلفة اقتصادية وثقافية وسياسية وعسكرية وامنية. وفي هذا المجال تقوم مؤسسات كبرى وضخمة بعملية الواسطة ان صح التعبير أو السمسرة مثل كبرى الشركات متعددة الجنسية ومؤسسات الاعلام والدعاية. لكن المشكلة في خلق مثل هذه السوق العالمية يكمن في وجود قوانين الدول للحد من تدفق البضاعات والمواد الاستهلاكية الاجنبية، لأن ذلك يعني بالنسبة لها تدبر بناها الاقتصادية والانتاجية التقليدية، فهي مضطرة ومن أجل الحفاظ على مواقع انتاجها الوطنية إلى فرض رساميل جمركية وضرائب كبيرة على المستوردات لكي تمنح مؤسساتها الداخلية القدرة على التنافس مع البضائع الاجنبية في دائرة اسواقها المحلية، ولحل المشكلة فأن الدول الغربية الرأسمالية تفرض جملة مقررات على الدول التي تريد الانظمام إلى منظمة التجارة العالمية والتي تريد دخول مجال التنافس الصناعي والتجاري لحماية منتوجاتها الداخلية، هذه المقررات اولها رفع الرساميل الجمركية أو تخفيظها امام المنتجات الاجنبية وبهذا الشكل تقع الدول النامية ومنها الدول العربية بين فكي كماشة، فأما ان ترضى بعزلتها الاقتصادية والتجارية وتقبع منزوية على نفسها واسواقها مما يعني تدني مستمر لمنتوجاتها والحد من التداول والتنافس بين ماموجود لديها ولدى الآخر، أو ان تفتح ابوابها خلال عملية انفتاح على بضائع الدول الأُخرى المتقدمة ذات الجودة العالمية والفائقة لكي تخلق نوع من التنافس الداخلي يأمل ان ترتقي صناعاتها مستقبلاً وتجد طريقاً إلى اسواق العالم، وهو سراب لم تصل إليه الكثير من الدول التي جربت عملية الانفتاح على العالم الرأسمالي. فقد شهدنا في دول كثيرة ومنها مصر على سبيل المثال خوض تلك التجربة المرة.
كما ان الالتحاق بالسوق العالمية سيفرض على الدول النامية القيام بنوع معين من الانشطة التجارية والصناعية تعتبر مكملة وهامشية بالنسبة لنشاطات الدول الرأسمالية الكبرى والمتقدمة صناعياً. لذلك فهي ستبقى على الهامش دوماً دون ان تستطيع اللحاق أو التنافس مع الدول المتقدمة، وكيف يكون التنافس بين اطراف غير متساوية أو متعادلة من حيث القدرة الاقتصادية والمالية والسياسية، بين دول تمتلك كل شيء ودون تفتقر إلى كل شيء حتّى في حرية قرارها السياسي الداخلي، بين دول تعتبر تجمع لمنظومة متكاملة من المؤسسات ومجتمعات لاتزال تعيش اشكالية الحراثة والتقليد بعد ان جرب الغرب الحداثة وظهرت تيارات فيه ملّت منها فقال بما بعد الحداثة (Postmodernism).
ولقد دعى صناع مشروع العولمة هذه الحقيقة الجلية بشكل دقيق مخططوا لفرضها بشكل منمق على الدول النامية بما يضمن لهم السيادة على القرار العالمي دائماً.
خامساً ـ الثقافة العالمية وتنوع الثقافات الأُخرى:
يتضمن مشروع العولمة في مضمونع استنهاضاً للثقافات الأُخرى حتّى المندثرة منها بشكل كامل، هذه الازدواجية في الشعار تنطوي على اهداف خبيثة تهدف بالدرجة الاولى إلى تدمير الثقافات التي استطاعت لحد الآن الصمود امام موجة التحديث والتغريب التي جاءت بها الليبرالية والرأسمالية العالمية.
فأحياء نزعات ثقافية قديمة من خلال التركيز الاعلامي عليها وخلق مؤسسات تنشيطها وصرف اموال طائلة لبعثها، يهدف في الحقيقة التي تدمر الاطر الموجودة التي تضم بشكل عفوي وطبيعي تلك الثقافات، ولتوضيح ذلك نأخذ الثقافة الاسلامية مثالاً على ذلك.
لقد اكد الكثير من مفكري الغرب على ان المواجهة القادمة ستكون بين الثقافات والحضارات العالمية بدل اوجه الصراع والمواجهة السياسية والايديولوجية التي كانت قائمة خلال فترة نظام القطبين العالميين الرأسمالي الغربي والاشتراكي الشرقي. والحضارة الاسلامية تشكل خط المواجهة الاولى بين الشرق والغرب جغرافياً على الأقل. هذا التحليل الذي طرحه صاموئيل هانتنغتون في كتابه صدام الحضارات، يستوجب على واصفي مخطط العولمة تدمير العوائق الموجودة لفرض نوع من الثقافة، عالمية، شمولية تستطيع توحيد عقليات مشاعر جميع افراد العالم على اختلاف انتماءاتهم العرقية والمجتمعية.
وبما ان الثقافة الاسلامية بحد ذاتها هي في الحقيقة خليط متوافق لثقافة الوحي التي جاءت بها الشريعة الاسلامية مع الموروثات الثقافية الخاصّة بالاقوام والشعوب التي دخلت الاسلام، فأننا نجد تأكيداً متزايداً لاحياء بعض الثقافات القومية والعرقية الخاصّة من أجل تفتيت الاطار الاوسع الذي تمثله الثقافة الاسلامية، فأحياء الامازيغية في شمال افريقيا والجزائر بوجه خاص ليس الهدف منه احباء الامازيغية نفسها بل الهدف في ذلك تفتيت القوة البشرية والسكانية التي تحل الثقافة الاسلامية العامة، ومن ذلك اثارة النعرات القومية والطائفية بين المسلمين، فهذا هندي في مقابل باكستاني وهذا ايراني في مقابل عراقي وذلك يمثل الغرب الاسلامي ذو العقل الحسابي أو المحاسباتي مقابل من يمثل العقلية الاسلامية الشرقية المشحونة بالخيانية والسوريالية والصوفية. حتّى داخل البلد الواحد، هناك ماروني عربي وسني عربي وشيعي ودرزي عربي (لبنان على سبيل المثال). وتشير احصائيات عديدة ان العديد من الثقافات والالسن المحلية رغم كثر الصراعات العولمة قد انتهت وانمحت عن الوجود. فهذا التناحر والتباين والتركيز على الفواق داخل اطر الثقافات الأُخرى انما الهدف منه تفتيتها مقابل صياغة وحدة متماسكة للثقافة الغربية الليبرالية الرأسمالية التي تجاوزت بقبولها للتعديدة مشاكل ومفارقات كبيرة لو اذكيت من قبل دول الشرق لاصبحت مشكلة لدى العالم الغربي اليوم.
هذه الوحدة التي نشاهدها عند دول صناعة مشروع العولمة يواجهه سعي متزايد منها لتفتيت الكيانات خاصّة الثقاية منها الأُخرى، فالوحدة الاوروبية التي تجمع ثقافات وديانات وتوجهات عرقية وثقافية حصلت رغم الحروب الدينية التي استمرت ثلاثين عاماً ورغم حربين عالميتين ذهبت ضحيتها عشرات بل مئات الملايين من البشر. إلا ان دولة القطب الواحد تقف بوجه أي اتحاد لدول العالم العربي حول موضوع معين واحد. حتّى اصبحت الوحدة العربية حلماً لايمكن تحقيقه تراجع إلى اعتبار ظهور الدولة القومية خطوة للوحدة العربية كما يعبر أحد المفكرين العرب!
ان الغرب يعيش نفاقاً كبيراً ويمارسه بوقاحة في تعامله مع نفسه والآخر، هذا النفاق يمكن مشاهدته بالقليل من البصيرة وتجاوز السطحية في التعامل مع شعارته البراقة والمخادعة. لذلك وجب علينا التعامل بحذر مع جميع المقولات المستوردة من قبلة لكي لانعيد تجربة الاستعمار التي عشناها بشكل اكثر مرارة واشد وطأة علينا.
سادساً ـ اللاحدودية:
يركز الخطاب الغربي على مقولة في غاية الخطورة، وهو التقارب العالمي بسبب تطور وسائل الاتصال ودفع الكثير من الحدود الموجودة بين الدول. ففي حين نشهد في الغرب تميييزاً متزايداً للحدود الخارجية مع تقليل الحدود بين كياناتها الداخلية يحاول جاهداً اصحاب مشروع العولمة خلق حدود واضحة بين الكيانات الصغيرة في المجتمعات النامية على مستوى علاقتها فيما بينها من جهة ومن جهة أخرى تمييع هذه الحدود في علاقتها بالكتلة الغربية المتماسة وجعلها شفافة إلى حد يمكن اختراقها بوسيلة مقولات متعددة بسهولة متناهية.
لقد اوجدوا حول انفسهم اسواراً كبيراً من خلال مفاهيم لايمكن اختراقها والوصول اليها فيما هم يحاولون تدمير أي سور أو حصن يبنيه الاخرون للحفاظ على منجزاتهم التي حصلت خلال مسيرة دامية مع قوى الاستعمار والهيمنة الغربية، هم يريدون دولاً بلاحدود يتصلون مباشرة بأفرادها ومؤسساتها وفي المقابل يضعون انفسهم في حضون لايمكن لافراد الدول الأُخرى النظر إلى داخل مجتمعاتهم من خلالها. وعلى هذا الأساس تأتي الدعوة إلى التقليل من قيمة السيادة والقوانين الوطنية لصالح سيادة المجتمع العالمي والقواني الدولية الشمولية يسيطر الغرب على مؤسسات ومراكز صناعتها والتلاعب بها.
سابعاً ـ الفرد مقابل العالم:
ان مفهوم القرية الكونية الذي يعد من مبادئ العولمة التي يقول بها الغرب يجعل الفرد امام الواقع العالمي الواسع مباشرة متجاوزة بذلك اطر قديمة اعتبرت فيم سبق درجات وسلم اتصاله بالعالم من هذه الاطر القديمة التي تحاول العولمة بجد إلى نفيها هي المجتمع والدولة، فالعضوية الفردية في المجتمع والدولة تحولت إلى فردانية مطلقة مقابل حالة عالميةـ هذه العالمية الشمولية الواسعة تصغر وتحجم دور الفرد بالنهاية مقابل أي حدث أو وضع قائم ينتج مقابله. وبهذا الشكل تستفيد المراكز الصانعة لبرنامج العولمة من حالتين:
الاولى: ففي الوسائط المحددة من اتصال الفرد مباشرة بمركز القرار العالم وتحجم دور الدولة والمجتمع مقابل الافراد الذين يشكلون لبناتها الرئيسية وبالتالي يفقد الفرد قدرته على المناورة امام زخم هائل من القصف الدعائي والاعلامي، كما تفقد الدولة ويفقد المجتمع قدرته على استخدام عناصر قوته الحقيقة وهم القوى البشرية الذي يؤلفه الاجتماع الإنساني من خلال خروجهم عن نطاق سيطرته.
والثانية: يفقد الفرد المناعة المكتسبة التي كانت تأتيه من خلال تصفية وتعديل الفكر والممارسة الواردة عن طريق قوانين الدولة وقيم المجتمع المحلي، فيتحول إلى وجود مسلوب الارادة والقدرة امام هجمة شمولية شرسة تتناول جميع اوجه حياته، وتسلك بكل المتبنيات السابقة التي كان يؤمن بها اويراها من قبل.
ان نفي نظرية العضوية الفردية في المجتمع وتحويل الفرد إلى كائن متأين قابل للاستقطاب عن طريق ادوات متعددة ووسائل للعولمة هو من المضامين التي تركز عليها فكرة العولمة الغربية.
ثامناً: الاشتراكية العالمية والاحتكارية الغربية:
نفهم ونستخلص مما تقدم ان الصيغة التي جاءت بها العولمة لترتيب القرية الكونية التي تقول بها، تعتمد على مبدئين وتكون لها نتيجة واحدة لا ثالثي لها، اما المبدئين فهو خلق نوع من الاشتراكية في مصالح المجتمعات والدول الأُخرى تتقاسم ريعها وارباحها جميع الدول بما فيها الغربية التي وعلى أساس قدراتها المادية وتطور تقنياتها ستكون لها حصة الاسد في ذلك، فلاحدود بين الدول، ولاسيادة حقيقية للدولة ولاسيطرة للدولة على افراد مجتمعاتها ولااسواق داخلية مغلقة و.. الخ وهكذا يصب جميعه لصالح الدول الأُخرى قبل ان تستفيد منه الدولة ذاتها. وفي الطرف الآخر هناك احتكارية واضحة لعمليات الانتاج الفكري والنقابي والمعلوماتي والصناعي، هناك وحدة متماسكة امام ذلك التشرذم الذي اشرنا إليه، هناك حدود اكثر وضوحاً ازاء من يريد التسلل إلى العالم المتطور، هناك شمال بعيد المنال مقابل جنوب يقبع في ادنى سلالم التطور البشري.
وعلى هذا تكون النتيجة صياغة نظام عالمي جديد يستبدل الاستقطاب الثنائي أو المتعدد بأستقطاب واحد ايجابي وثنائي من حيث السلبية والايجابية فهناك دولة تتربح على عرش العالم وتشكل الدول الحليفة لها بلاطها التي تفيض عليه بفتات مصالحها مقابل الولاء الدائم والانصياع لاوامرها ونواهيها، وفي المقابل هناك خيل من الدول لاتعد ولاتحصى تتجاوب مضطرة على أساس الواقعية السياسية والدولية لقرارات صاحبة العرش ـ الامريكي ـ منتظرة غير افضل ومستقبل زاهر مقابل الانفتاح أو فتح الابواب على مصاريعها امام صاحبة العرش، متناسين قول الله تعالى " ان الملوك إذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا اعزة اهلها اذلة وهكذا يفعلون " صدق الله العظيم.
ان الفرد الامريكي بالقرار العالمي ومحاولة محاصرة أي قطب بالقوة قابل للظهور الفعلي هو من اهم مضامين العولمة، فالولايات المتحدة ونتيجة لنمط عقليتها الذي يعتبر ان ذلك نتيجة طبيعية لدولة عظمى ربحت الصراع بين القطبين وقامت بتدمير القوة المنافسة لها، هو ان يكون لها حق الاستحواذ على مناطق نفوذ القطب المنهار ووضع اليد على تركته اضافة إلى تعزيز اماكن حصتها السابقة.
لكن الحقيقة التي غبت عن عقلية رجال في أمريكا أو انهم تغافلوا عنها، هي هل تستطيع أمريكا بمفردها القيام بذلك الدور، وهل تسمح لها حليفاتها بذلك خاصّة وان بعض حليفاتها حالياً كانت تدعي فيما سبق من الزمن غير البعيد الانفراد بالعالم ايضاً، فهذه اليابان تحاول استعادة دورها على المسرح الدولي سياسياً وعسكرياً وتلك المانيا وريثة الرايخ الثالث الذي كان يسعى دوماً لامتلاك المجال الحيوي ويفرض على الاخرين افضلية العرق الجرماني بما يعني ان يكونوا هم اسياد والعالم والاخرين بما فيهم الامريكان العبيد، ناهيك عن فرنسا التي تشترط دوماً على من يتقلد منصب امين عام الامم المتحدة حتّى ان يتكلم الفرنسية.
اما روسيا الجريحة والتي لازالت تحاول تضميد ترفها الذي بدء بأنيهار امبراطورية السوفيت التي كانت على رأسها والتي شكلت القطب المنافس لصاحبة العرش الحالية على مدى نصف قرن من الزمن. فلها دوافعها وطموحاتها واهدافها الخاصّة. وإلى جانب اولئك جميعهم هناك قوتين اخريتين لايمكن التغاضي عنهما سواء من حيث السكان، فهما بمجموعها يشكلان اكثر من ربع سكان العالم ولديها قدرات اقتصادية هائلة اضافة إلى قدراتها النووية، هاتان الدولتان هما الصين الاشتراكية والهند الديمقراطية. فبتصوري ان العالم لن يسمح لأحد بأن يستفرد به لكن المرحلة الانتقالية من عالم القطبين إلى آخر متعدد الاقطاب يحتاج إلى وقت لبلورة تلك التعددية التي قال بها الغرب وستفرض عليه سياسياً ودولياً.
الهوامش:
([1]). الدكتور فاروق سعد، تراث الفكر السياسي قبل الامير وبعده، بيروت: دار الآفاق الجديدة، ط 12، 1985، ص 230 ـ 231.
([2]). الفصل الثالث (1927)Will Durant The Story Of Philosophy ,
([3]). مارسيل بريلو وجورج ليسكييه، تاريخ الأفكار السياسية، بيروت: الاهلية للنشر والتوزيع، 1993، ص 112.
([4]). ول دورانت، مصدر سابق.
([5]). راجع في ذلك: دولاندلن، The World History، ج 2، القسم الثامن، الحرب الايطالية.
([6]). المصدر نفسه، القسم الثامن، الاكتشافات الكبرى.
([7]). المصدر نفسه، الاصلاح الديني. وكذلك مارسيل بريليو وجورج ليسكييه، مصدر سابق، ص 139 ـ 140.
([8]). مارسيل بريليو وجورج ليسكييه، مصدر سابق، ص 139 ـ 140.
([9]). المصدر نفسه، ص 140 ـ 142.
([10]). المصدر نفسه، ص 91 ـ 93.
([11]). ول دورانت، مصدر سابق.
([12]). دولاندلن، مصدر سابق، القسم الثامن، الاصلاح الديني.
([13]). Max Weber The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism, Translated by: Talcolt parsons , 1958.
([14]). الدكتور فاروق سعد، تراث الفكر السياسي قبل الامير وبعده، بيروت: دار الآفاق الجديدة، ط 12، 1985، ص 230 ـ 231.
([15]). الفصل الثالث (1927)Will Durant The Story Of Philosophy ,
([16]). المصدر نفسه، (ص 167).
([17]). د. مصطفى عبد الله خشيم، موسوعة علم السياسة، (ص 277 ـ 280).
([18]). دولاندلن، مصدر سابق، القسم العاشر، الحضارة الاوروبية.
([19]). ول دورانت، مصدر سابق، الفصل الخامس (فولتير وروسو).
([20]). المصدر نفسه.
([21]). دولاندلن، مصدر سابق، القسم الحادي عشر.
([22]). المصدر نفسه، القسم العاشر.
([23]). جان جاك شوفالييه، تاريخ الفكر السياسي، (ج 2، ص 20 ـ 25).
([24]). د. عبد الكريم احمد، دراسات في التيارات السياسية الحديثة، (ص 103 ـ 110).
([25]). دولاندلن، مصدر سابق، القسم الحادي عشر.
([26]). المصدر السابق، القسم الثاني عشر (الثورات والمعارك).
([27]). جان جاك شوفالييه، مصدر سابق، (ص41 ـ 42).
([28]). المصدر نفسه، (ص 193 ـ 195).
([29]). المصدر نفسه، (ص 195 ـ 200).
([30]). مارسيل بريلو وجورج ليسكييه، مصدر سابق، (ص 269 ـ 272).
([31]). المصدر نفسه، (ص 338 ـ 339).
([32]). د. مصطفى عبد الله خشيم، مصدر سابق، (ص 249)
([33]). مارسيل بريلو وجورج ليسكييه، مصدر سابق، (ص 349 ـ 350). وكذلك: د. مصطفى عبد الله خشيم، مصدر سابق، (ص 347 ـ 348).
([34]). راجع في ذلك الفصل الاول من (Momsen, Imperialism Theory).
([35]). د. سمر امين، في مواجهة ازمة عصرنا، (ص 104 ـ 105)
([36]). د. مصطفى عبد الله خشيم، مصدر سابق، (ص 169 ـ 170).
([37]). Joseph A. Schumpeter, Imperialism and Social Classes (Dxford, 1951) " نقلاً عن مومسن، مصدر سابق، (الفصل الاول).
([38]). موريس دو فرجييه، اسس علم السياسة، المقدمة (مصدر اجنبي).
([39]). Max Weber, Economy and Socity (University of California press, 1978), VOL.2, p. 920 نقلاً عن موسه ، مصدر سابق.
([40]). انظر الفصل الثاني من: Momsen، مصدر سابق، التفسير اللينيني للامبريالية.
([41]). د. سمير امين حول هذا الموضوع في كتاب " مواجهة ازمة عصرنا " (ص103 ـ 104)
([42]). د. مصطفى عبد الله خشيم، مصدر سابق، (ص 342 ـ 343).
([43]). د. سميرا امين، مصدر سابق، (ص 13 ـ 15)
([44]). المصدر نفسه، (ص 15).
([45]). العرب والعولمة، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1998، ص 70.
([46]). سميرامين، في مواجهة ازمة عصرنا، مصدر سابق، ص 94 ـ 95.
([47]). ميشيل كلوغ، ((اربعة اطروحات حول عولمة أمريكا))، مجلة الثقافة العالمية، العدد 85، بتـاريخ (الحرث ـ الكانون) (نوفمبر ـ ديسمبر) 1997، ص 59.
([48]). مجلة الثقافة العالمية، افتتاحية العدد 85، مصدر سابق.
([49]). السيد يسين، ((في مفهـوم العولمـة)) ورقة مقدمة الى ندوة مركز دراسات الوحدة العربية، بعنوان: ((العرب والعولمة))، العرب والعولمة، مصدر سابق، ص 23 ـ 34.
([50]). المصدر نفسه، ص 28.
([51]). المصدر نفسه، ص 26 ـ 27.
([52]). سيار الجميل، ((العولمة: اختراق الغرب للقوميات الآسيوية))، مجلة المستقبل العربي، العدد 217، بتاريخ / الربيع / (مارس) 1997، ص 53.
([53]). نايف علي عبيد، ((العولمة والعرب))، مجلة المستقبل العربي، العدد 221، بتاريخ /ناصر/ (تموز)، ص 27 ـ 34.
([54]). اسماعيل صبري عبد الله، الكوكبة: الرأسمالية العالمية مابعد الامبريالية))، مجلة المستقبل العربي، العدد (222)، / هانيبال/ (آب) 1997، ص 15.
([55]). المصدر نفسه، ص 16 ـ17
([56]). دكتور عبد الله هدية ودكتور خالد محمد خالد ودكتور محمد السيد سعيد، حوار الشمال والجنوب وازمة تقسيم العمل الدولي والشركات متعددة الجنسية، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر والتوزيع (مجد)، 1986، ص 43.
([57]). المصدر نفسه، ص 44.
([58]). صباح ياسين علي، العرب والعولمة، مصدر سابق، ص 71.
([59]). المصدر نفسه.
([60]). دافيد روثكوبف،((في مديح الامبريالية الثقافية))، ترجمة: احمد خضر، مجلة الثقافة العالمية، مصدر سابق، ص 28 ـ 29.
([61]). المصدر نفسه، ص 30 ـ 31.
([62]). البروفسور ف. يرلوف، ((نهاية التاريخ ام البحث عن طريق جديد؟))، مجلة الثقافة العالمية، مصدر سابق، ص 10 ـ 11.
([63]). دانييل دريزنز، ((ياعولمي العالم.. اتحدوا !))، ترجمة: عبد السلام رضوان، مجلة الثقافة العالمية، مصدر سابق، ص 42 ـ 43.
([64]). موسى الزغبي، أنظام دولي جديد ام هيمنة امبريالية جديدية؟، دمشق: المنار، 1993 الفصول 15،16، 17.
([65]). سمير امين، في مواجهة ازمة عصرنا، مصدر سابق.
([66]). موسى الزغبي، مصدر سابق، ص 104.
([67]). زكي الميلاد، المسألة الحضارية: كيف نبتكر مستقبلياً في عالم متغير؟، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1999، ص 28 ـ 29.
([68]). المصدر نفسه، ص 29.
([69]). المصدر نفسه، ص 30.
([70]). العرب والعولمة، مصدر سابق، ص 164 ـ 165.
([71]). الدكتور نبيل دجاني، ((البعد الثقافي والاتصالي والنظام العالمي الجديد))، مجلة المستقبل العربي، العدد 224، بتاريخ / التمور / (اكتوبر) 1997، ص 58 ـ 67.
([72]). المصدر نفسه، ص 61.
([73]). Nabeel Dajani Sisoriented Media in Fragmented Society (Beirut: Amercan Vniversity of Barut ,1992) , P.134 - 140.
([74]). أ. كندروف، الاصوات والاشارات، ترجمة: شوقي جلال، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1972، ص 67.
([75]). د. نبيل دجاني، ((البعد الثقافي والاتصالي والنظام العالمي)) مصدر سابق، ص 61.
ارسال نظر