الأمة الإسلامية و الخطط الإستراتيجية لمواجهة تحديات وحدتها
الدكتور عبد الرزاق قسوم
أستاذ الفلسفة و الفكر الإسلامي - الجزائر
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
ليس من باب جلد الذات، القول بأن الخطاب الفكري الإسلامي عموما، و الخطاب الدعوي على الخصوص، يمثل في فقه الخطاب القانوني، أسوأ محاكم عن أعدل قضية.
ذلك أن الخطاب الفكري الإسلامي يعاني تأزما، و يشكو ذبذبة، ولو شئنا تشخيص هذا التأزم، و تلخيص هذه الذبذبة بكلمتين لقلنا أنها مشكلة أداء، وإشكالية مضمون، ذلك لأننا لم نحسم بعد في أدائية هذا الخطاب، بسبب عوامل عديدة، لعل أبرزها عتاقة الأداء، وضحالة التفكير، و انفعالية المواقف، و سطحية المنهج.
أما من حيث المضمون، فما يزال هذا المضمون خاضعا لأكليشيهات بالية، تطبعها ضبابية من حيث فلسفة المعنى، وتحددها عمومية من حيث المرجعية، و اختلال المرحلية من حيث التعامل مع الزمن.
فهل من قبيل جلد الذات القول بأن لا خصوصية خطابنا الدعوي، هي سيمته المميزة، بحيث غدا تشويها لقيمنا و مفاهيمنا، وهو الموكول إليه تحسين صورتنا، و التأكيد على أفضل ما عندنا، وهو القيمة الإنسانية التي يتحلى بها خطابنا الإسلامي، و هي القيمة شبه المفقودة عند خطابات غيرنا.
في ضوء هذه الأعراض السلبية التي تطبع خطابنا، تأتي هذه الورقة لمحاولة لوضع خطابنا الفكري على طاولة التشخيص الوصفي، التحليلي، النقدي، في محاولة لتجاوز ذلك نحو خطاب إسلامي أفضل، و أنه لتحقيق ذلك لابد من العودة إلى طبيعة هذا الخطاب،ومقوماته، وخصوصياته، بمنهجه يتخذ الشجاعة منطلقا، و الموضوعية غاية، و الواقعية طريقة.
لئن كان الخطاب الفكري الإسلامي ذا طبيعة إلهية في أساسه، لأنه يستمد روحه من النبع الإلهي الذي هو الوحي، و من البلاغة المحمدية التي هي السنة.
ولئن كان هذا الخطاب في الإسلام يمثل حلقة وصل بين السماء والأرض، بمنهجية علمية، وبحجة عقلية، يسلم بها كل عقل إنساني.
ولئن كان هذا الخطاب ذا طبيعة إنسانية في شموليته، هدفه الدعوة إلى الله بالحكمة و الموعظة الحسنة، ومجادلة المخالفين بالتي هي أحسن، فإن الخطاب الفكري الإسلامي اليوم، وخاصة الدعوي منه، تتضاعف مهمته، وتتعقد مسؤوليته، وذلك إنطلاقا من المعطيات التالية:
- التقدم العلمي الذي حققه العقل الإنساني في عالم لم يعد يعتقد بغير البرهان العقلي منهجا، و الخطاب البياني أداء.
- توالد المذاهب و الإيديولوجيات القائمة على أسس مادية، تتنكر لكل ما هو تدين، ولا سيّما إيديولوجية الإسلاموفوبيا التي تقوم على معاداة الإسلام مقصدا.
- ولوج مجال الدعوة، من طرف أدعياء الدعوة، و المدلسين، الذين لا زاد لهم، ولا إعداد.
إن هذه العوامل من شأنها أن تضاعف من رسالة المخاطِب أو الداعية، وتزرع طريقه بالأشواك و العقبات، وهو ما ينعكس سلبيا على الأداء الدعوي في عالم ينشد الدقة و التحديد، وتتزايد فيه التحديات.
أ - مقومات خطابنا:
تلعب الشخصية الإنسانية، دورا أساسيا في تحديد ملامح ذات الداعية، بوصفها مقوما أساسيا، في بلورة وتجسيد معنى الخطاب الفكري، و إسقاط ذلك على شخصية الداعية أو المبلغ، الموكل إليه تجسيد مضامين هذا الخطاب، و تبليغها للناس.
فليست مهمة الدعوة، موهبة، كباقي المواهب الإبداعية، الفنية، أو الأدبية أو غيرها، و لكنها عمل طويل المدى، يتطلب إعدادا متعدد الجوانب، يسهم فيه كل من الأسرة، و المحيط، و المؤسسة التعليمية.
فالداعية، الذي هو مبلّغ عن الله، في خلافة النبي صلى الله عليه و سلم، يتطلب شخصية متوازنة الملكات و القوى البدنية و النفسية، إلى جانب، الإعداد العلمي الموسوعي، الممتدة آفاقه إلى ثقافة العصر، و مختلف متطلباتها، يزيِّن ذلك خلق حسن يتمثل في التسامح الفكري، و الصدق المقصدي.
إن المؤهلات العلمية، و المكونات النفسية للداعية، في موكب أداء الخطاب الفكري الإسلامي، توجب عليه أيضا التحلي بالصدق في ما يقول، و القناعة بما يدعو، و الاستعداد للنقاش في أدب، هو أدب الاختلاف، مع الاطلاع على ثقافة المحيط المحلي، و الدولي،وتلك من مقومات الداعية.
ب - خصوصيات المخاطب:
إن الداعية في عمله أشبه ما يكون بالفلاح الناجح، الذي يقوم بتحليل تربة حقله، قبل القيام بعملية الزرع، أو كالمهندس في البناء، الذي يحلل تربة البناء، قبل الإقدام على أي تشييد.
وإذا كان المجتمع الإنساني حقل بالغ التعقيد لا بد من الإلمام لمكوناته الأساسية قبل التعامل معه، فإن ذلك هو ما يمثل مهمة الخطاب الفكري الإسلامي.
فقد علمنا الطب البدني، أن لكل جسم خصوصيته، مما يجعل الطبيب ملمّا بنوع علاج مصابين بنفس الداء، نظرا إلى بنية كل جسم، و اختلاف استعداد كل جسم، قابليته للعلاج.
إن عمل الداعية المجسد للخطاب الفكري الإسلامي، لا يختلف عن عمل الطبيب فكلاهما، لابد وأن يقوم بعملية التشخيص قبل العلاج، لمعرفة خصوصيات الإنسان أو المجتمع المعالج.
فهناك المجتمعات ذات الطبيعة البدوية، وأخرى ذات طبيعة حضرية، و ثالثة ذات خصوصية دينية، و رابعة مادية، الخ... ولكل طبيعة اجتماعية نوع من العلاج، قد لا يصلح لباقي الطبائع الإجتماعية، و من هنا جاءت صعوبة مهمة الداعية، في تعامله مع شخصيات المخاطَبين.
إن الداعية الناجح هو الذي يعمد إلى تحليل خصائص المدعو، كي يسهل عليه التعامل معه انطلاقا من نقاط القوة و الضعف في المجتمع، وهو ما يفسر نجاح بعض الدعاة، وفشل البعض الآخر استنادا إلى هذه المعطيات.
ويخطئ من يعتقد أن رسالة الخطاب الفكري الإسلامي تنحصر في مجرد الدعوة داخل المجتمع الإسلامي، فالتحديات التي يجابه بها الخطاب الإسلامي اليوم ليست تحديات محلية فقط، بل إنها خارجية أيضا، ولعلها الأخطر.
فمواجهة الغزو الثقافي، ومحاولة تشويه المفاهيم، و بث ثقافة الحقد و الكراهية باسم ما أصبح يعرف بالإسلاموفوبيا، و التبشير بفلسفة صدام الحضارات، كلها تلقي على خطابنا الفكري الإسلامي مهمة بالغة التعقيد، ومن غير الداعية الإسلامي بوصفه أحد أخلاء المثقفين الإسلاميين، يمكنه وعي التحديات.
جـ- خصائص الدعوة:
لكي تكون الدعوة ناجحة، و تنفذ إلى عقل و قلب المدعو، لا بد من أن تستجيب لمجموعة من المعطيات و أهمها:
البساطة:
ولا نعني بالبساطة التبسيط الذي يلامس الابتذال، و لكن البساطة المقصودة، هي التي تجعل الداعية يلامس عقول وقلوب مختلف السامعين مع السمو بهذه العقول و القلوب ماديا و معنويا إلى مستوى معرفي متميز.
فما نلاحظه في منظومتنا المعرفية الإسلامية اليوم شيوع فكر قاتل هو "فكر لا يجوز" بإطلاقية كاملة، أو ما يمكن وصفه بفكر العدمية كما هو سائد في الفلسفة الأوروبية الحديثة.
ولعل مرد ذلك هو التمكين لمصطلحات مظلومة في مبناه و معناها بمصطلح السلفوية. فلقد شوه البعض هذا المصطلح بحيث حولوه إلى سجن الإنسان المسلم في الماضي، وعدم السماح له بالتطلع نحو المستقبل كما بعضهما، ويقدمها البعض، في حين أن السلفية كما نفهمها، و يشاركنا كل العقلاء من أمتنا، هي قاعدة ثابتة من قواعد خطابنا الإسلامي، منها نستلهم المواعظ و العبر، و في ضوئها نبني المستقبل الأفضل الذي يمكن من التعايش مع الآخر، على أساس الفهم المتبادل للخصوصيات و الهويات، وعلى قاعدة الندّية، و الاحترام المتبادل للخصوصيات الحضارية.
إلى ذلك نضيف أن انتماءنا للسلف لا يعني التقوقع، و الانحباس، بل على العكس من ذلك، يمثل الانتماء حافزا ودعوة إلى العلم، و الانفتاح على الآخر عملا بمبدأ "أطلبوا العلم و لو في الصين"
الواقعية:
إن الواقعية هنا ليست تلك التي تشبه الآلة الفوتوغرافية التي تنقل صورا دونما وعي، بل نعني بالواقعية هنا، الاستلهام بما هو واقع معيش مع تدخل خيال الداعية، و إبداعه العقلي لصياغة المقولات، ونحت المفاهيم على نحو يكسبها القبول و الثبات.
النموذجية:
يجب أن تستمد الدعوة الإسلامية خصائصها من المرجعية الإسلامية في أسمى قيمها الإنسانية، و أجمل معانيها الإسلامية.
ولنا في ما يزخر به سلفنا الصالح من تجارب نماذج يمكن أن نستهدى بها في تقديم الأمثلة، و استخلاص الموعظة.
4 - المنهجية:
غالبا ما يفتقر الخطاب الدعوي الإسلامي، إلى المنهجية في التقديم سواء من حيث التنظيم الفكري، أو التبويب المعرفي، أو الحس النقدي الذي ينزع عن البحث العقلي طابع القداسة، و الصنمية.
يتميز الداعية اليوم، بكونه يعيش وسط محيط معرفي يعج بالاكتشافات العلمية و التكنولوجية إلى حد تهديد الإنسان في وجوده، و معتقده، و قيمه.
لذلك كان لا بد للداعية من القيام بعملية تحصين للذات، من شأنها أن تقاوم أنواع الفيروسات العاملة على سلب المناعة من شخصية الإنسان المسلم.
على أن عملية تحصين الذات هذه ليست بالعملية السهلة التحقيق، فدونها عقبات ومطالب لا بد من تجاوزها أو تحقيقها.
وتبدأ ثقافة الداعية باكتساب عدة محصنات كفيلة بتسهيل مهمته وأهمها:
- الصدق والقناعة و الجدية:
إنها ثلاث قيم لا بد للداعية من اتخاذها مبادئ أساسية في تقديمه للخطاب الإسلامي.
فالصدق مقولة تكسب الداعية مصداقية لدى سامعه... فتحدث لديه المقصد الأسمى... ولا مجال لتحقيق هذا الصدق لدى الداعية، دون الاقتناع بمضامين القول، فليس هناك أنكى على الدعوة وعلى الخطاب الإسلامي من ازدواجية الشخصية، و محاولة إقناع الناس بشيء لا يقتنع به قائله، وتبقى مقولتا الصدق و الاقتناع مرتبطتين في تحقيقهما، بضمان وجود مقولة ثالثة لازمة لهما، وهي الحرية.
فتكبيل عقل الداعية، أو تقييد لسانه هو الإعاقة التي تحول دون أي إبداع، و بذلك يفقد الداعية كل قيمة له، ويسقطه في مزاد سقط المتاع، كما يشوه صورة الخطاب الفكري الإسلامي، ويقزِّم أبعاده، ويجفف ينابيعه.
- تعميق التكوين العلمي و تأصيله:
يلتقي الداعية اليوم في مجال علمه الدعوي بفآت مختلفة التكوين، موسوعية المعرفة، متعددة الاختصاصات، وهي كلها تأوي إلى المساجد، أو إلى النوادي الثقافية لتلقيح فكرها، وتصحيح مفاهيمها، فلا يغفل الداعية هذه المعاني عندما يدعى إلى القيام بدعوته، لذلك كان على الداعية أن يعنَى بتعميق تكوينه العلمي، و المعرفي، خصوصا في المجالات التي بأن تتقاطع فيها هذه العلوم مع اهتمامات الإنسان المعاصر.
لكن ما ينبغي التنبيه إليه، هو أن التكوين العلمي المحايد، لا يؤدي رسالته المطلوبة ما لم يستند إلى تأصيل إسلامي.
معلوم أن علوم العصر اليوم، أصبحت تقدم جامدة بل وميتة، لأنها فاقدة لكل روح دينية، وهو ما يفقدها حيويتها، فإذا تفادى الداعية المسلم هذا الخلل العلمي، فأقام تكوينه على أسس وقيم أخلاقية و إنسانية نبيلة، أمكنه تفادي الخلل وقدم للإنسان اليوم، للإنسان المسلم بصفة خاصة الغذاء العقلي المفقود.
- فقه ثقافة العصر:
لا بد للداعية الناجح من أن يستحم في محيط عصره، وذلك بفقه ثقافة العصر، و أولى محددات فقه الثقافة المعاصرة لدى الداعية، الوعي بالتحديات، و مواكبة الأحداث.
نحن نعيش في عالم يعج بالتحديات الإيديولوجية و الاقتصادية، والثقافية و السياسية، و الداعية الناجح فيها، هو من يستطيع فقه كُنه هذه التحديات، فيتعامل معها من موقع الواعي بخطورتها، المعد لمواجهتها، الساعي من أجل نزع فتيلها.
إن البوابة التي يدخل الداعية منها إلى ثقافة العصر، بعد وعيه بالتحديات المختلفة تتمثل في مواكبة الأحداث لا في محيطه المحلي أو الإقليمي فحسب، بل في المحيط العالمي كله.
لم تعد ثقافة العصر -إذن- مقولات تحفظ، أو مفاهيم تتداول، و لكنها تكنولوجيا تشمل مختلف جوانب الحياة بدأ بثقافة الاتصال، و انتهاء بثقافة البث و الإرسال السمعية البصرية.
فلا يعقل أن لا يستخدم الداعية ثقافة الاتصال، التي تضع العالم كله بين يديه، وذلك هو فقه الفقه الذي يجب على الداعية أن يلم به.
- الإنفتاح على العالَم بلغاته:
لقد أدخلت ثقافة العصر تعديلا على كل المفاهيم السائدة.
فالأمية في ثقافة اليوم، لم تعد هي الأمية الأبجدية، ولا حتى الأمية الثقافية، وإنما أصبحت الأمية بلغة اليوم هي الأمية التكنولوجية، و أحادية اللغة، و الجهل بالمذاهب الأخرى.
لقد غدت المعلوماتية -اليوم- لغة العلم، و العالم، و التكنولوجيا... وويل لمن ينغلق على نفسه داخل لغة واحدة.
ففي عالم لا مكان فيه للأمية التكنولوجية، التي تحكم على صاحبها بالانغلاق و التقوقع، وذلك هو الموت البطيء في عالم يزحف بخطى سريعة نحو اللحاق بأهم الاكتشافات العلمية والتكنولوجية في كل الميادين، على الداعية المسلم أن يجعل من بين اهتماماته العاجلة، الاطلاع على المذاهب و الإيديولوجيات السائدة، ولم لا يكون لنا في هيآتنا و منظماتنا متخصصون في الإيديولوجيات و المذاهب، و الثقافات، حسب التموقع العالمي، و التخصص اللغوي والثقافي، فندخل إلى عالم الآخرين من الباب الأوسع، متحكمين في لغاتهم، متعمقين في مكونات دياناتهم، ومذاهبهم، وإيديولوجياتهم، حتى يمكن محاورتهم من داخل تكوينهم العقلي، و النفسي.
- أسلوب الخطاب الدعوي:
أ - العاطفية...و الانفعالية:
إن مما يؤخذ على أسلوب خطابنا الدعوي، اتصافه بالعاطفية، و الانفعالية، فالهدوء في مخاطبة الناس، و الاتجاه إلى العقل بدل العاطفة، و التحكم في الأعصاب أثناء الحديث، و استخدام الصوت الهادئ المقنع، لهي مما يمثل قوة شخصية الداعية، و يبعث على تأثيره في سامعه.
لكن ما نعيشه في معظم نماذج خطابنا، هو هذه الانفعالية المفرطة، التي تُخرج الداعية عن سمته، وذلك ما يوحي بضحالة ما يقدم، و الاستعانة بالانفعال، بدل الحجة و البرهان، لإقتاع السامع.
كما أن من سلبيات الخطاب الإسلامي، إغراقه في العموميات وهو منهج لم يعد يقنع السامع الذي يؤم المساجد و المحافل الإسلامية، مزودا بخلفيات ثقافية هامة، لا يجعله يجعله يقنع بما يقدم له من عموميات، بل إننا نجد في معظم الأحيان من يأتي حاملا شكوك، وضبابية، يأمل أن يجد لها في الخطاب الإسلامي، ما يزيلها، و يحل اليقين بدلها، فيخيب أمله.
ومما يؤخذ على الخطاب الدعوي أيضا، إغفاله لشريحة هامة تغشى المساجد اليوم، و هي فئة الشباب، و النساء، و لكل فئة من هذه الفئات اهتماماتها الخاصة بها، و التي تأمل أن يشاركها الداعية فيها، فيتكفل بمشاكلها بتوعية الناس بأهميتها، و المساعدة على إيجاد الحلول لها.
وهنا لا بد من إشراك الداعيات في هذا المجال، فهن أحق بالحديث عن خصوصيات مشاكلهن.
ب - حشد النصوص:
ليس من علامات القوة في الخطاب الدعوي، اللجوء إلى حشد النصوص، وتقديمها في شكل شلال من الكلام، و الاستعانة على تقديم ذلك بالفصاحة و البيان.
لئن مثلت الفصاحة و البيان عاملين أساسيين في صياغة الخطاب الدعوي الإسلامي، فإن الاقتصار عليهما في أسلوب إقناع الناس، لم يعد كافيا.
فالسامع اليوم يتطلع إلى نوع من التحليل، و استخدام المنهج النقدي للواقع المعيش، و الاستعانة بما عند الآخرين من أمثلة صالحة، إلى جانب عدم إعطاء الأحكام المطلقة التي لم يتم الحسم فيها، أو هي ذات أحكام مختلف فيها، مما يخرج الداعية عن التقوقع داخل أحادية الفهم، وأحادية الايديولوجيا، وهو ما قد يعاكس علمية، وعالمية الخطاب.
جـ - الإعلاء الخُلقي:
أن النعمة التي ميّز الله بها الخطاب الإسلامي هي الإعلاء لقيمة الخُلُق، و الالتزام بما في هذا الخُلُق من قيم إنسانية.
غير أن من أبجديات هذا الإعلاء الخُلُقي و الالتزام به من جانب الداعية، تقديم القدوة السلوكية في القول و الفعل من الداعية نفسه.
فنموذجية الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا المجال، يجب أن تكون خير مثل يقتدي به الداعية، فقد وصف الله نبيّه محمد بقوله: "إنك لعلى خلق عظيم"
إن مما نتفق عليه جميعا، أن المهمة الأولى للداعية، هي السمو بالمستوى الفكري للمدعو، بتوسيع مداركه، ووضع يده على جوانب الضعف، ومعالم القوة في ما يملك من قيم، متجاوزا ما سماه الشيخ الغزالي بالحوَل الفكري.
ولتحقيق ذلك، فالداعية مدعو إلى استبدال ثقافة النقل بثقافة العقل، مما يتطلب الإحاطة بمكونات عقل المدعو.
نحن نعتقد أن الجامع و الجامعة على الخصوص، هما المجالان المؤهلان لاستقبال القضايا الساخنة، ونزع فتيل التوتر منها، ومعالجتها معالجة علمية و خُلقية، تبعدها عن كل تشنج قد يؤدي إلى تفاقم الخلاف حولها.
كما أن الجامع و الجامعة، إن كانا يعملان بمبدأ التجزئة ضمن التحليل العلمي، فإنهما بالمقابل يجب أن يبتعدا عن التجزيئية التي هي إحدى السلبيات، و الاتجاه بدل ذلك إلى الكليات، في القضايا، لا إلى العموميات.
إن التجزيئية، داء منهجي خطير، إذا أصاب ثقافة ما وصفها بالإعاقة. و التجزيئية، قد تكون في الفضاء الجغرافي فتنتج عنها الجهوية المقيتة التي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنها، وقال "دعوها فإنها مُنتِنة"، وقد تكون في المجال الثقافي فتعمل على إحياء اللهجات الإقليمية الميتة، لتغيص بها لغة الوحدة الوطنية، وقد تكون في المجال العَقدي، فنعمد إلى بعث الخلافات المذهبية، مما يعمل على تصدع وحدة المسلمين، بل نجد هذه التجزيئية، تنفذ أحيانا إلى الميدان الاجتماعي فتقسم الناس شيوخ وشباب، أو إلى رجال و نساء، مع محاولة بث الفتنة بين الفئات بالنفخ في مطالب لكل فئة، ما نزَّل الله من سلطان.
إن هذا مثل لتحديد أسلوب الخطاب الدعوي في عالم أصبح الملتقى فيه مدللا، تتجاذبه مختلف الوسائل الثقافية، و الإعلامية، فتوشك أن تزهده فيما يقدمه له الخطاب الدعوي في المسجد، أو النادي الثقافي، أو في المدرسة و الجامعة.
- معوقات الخطاب الدعوي:
أ - الاستبداد:
هناك مجموعة من العوائق، تحول دون إشعاع الخطاب الإسلامي، بل وتمثل حاجزا لتحقيق أهدافه ومقاصده.
ولعل من هذه العوامل المعيقة، الاستبداد الفكري، أو الإيديولوجي، أو السياسي.
فالوثنية، و الصنمية، و التقديسية، كلها مفاهيم تلهب عقل الداعية، و تحاصر قناعته، وتحوله من الالتزام القائم على الاقتناع، إلى الالتزام القائم على الخوف.
إن الداعية الإسلامي قد يصطدم بهذا في حقله التنظيمي، وقد يجده في منظومة القوانين التي تحدد عمله الوطني، وقد يواجه ذلك في شكل جماعات ذات قناعات معينة، أو نفوذ مالي و سياسي، ولكل هذه النماذج، غالبا ما تمثل استبدادا عائقا دون أداء الخطاب الدعوي الإسلامي لمهامه على أكمل وجه، وهو ما ينعكس سلبا على ثقافتنا الإسلامية، بطمس وجهها الناصع، و محو منهجها المقنع.
ب - الاتباعية بدل الإبداعية:
إن استقلالية الداعية في فكره وما تأتيه من مواقف، لا يخشى فيها إلا الله، هي الضامن الحقيقي للأخذ بيد المدعوين لتحقيق استقلاليتهم أيضا، وإثبات وجودهم و شخصيتهم.
فمن الآفات المستبدة بالمجتمعات المسلمة، هذه التبعية بدل الإبداعية، و هي ما سماها أبو
Les mouton de panurge حامد الغزالي ب"ذهنية القطيع"، أو ما يعرف عند الأجانب
ذهنية القطيع هذه، عندما تستبد بعقل ما، تعيقه عن الإبداع، وتجعل منه إمعة تضع كل قناعاته، ومنتوجات عقله في سلة اللامعقول.
وبالموازاة مع هذه الاتباعية، هناك ما يسميه الداعية الإسلامي المغَري عبد السلام ياسين Sortes de déchets "الغثائية"
إن "الغثائية"، هي هذا "الغاشي" بلغتنا في الجزائر، و الذي لا جدوى منه، لأنه فقد أهم خاصية فيه، وهي الإرادة العقلية، فتوقف عن تخطيط حياته، أو المساهمة في صنع مصيره، ومن هنا تبدأ مهمة الداعية بتخليص هذه الفئة المسحوقة من هذه المعاناة العدمية كما يقول الفلاسفة، وتمكينها من تجاوز سطحيتها، إلى البحث عما في أعماقها من كنوز.
ج - الغلو ... و التنطع:
إن مما بات مسلما به -أيضا- لدى بعض دعاة الخطاب الإسلامي، شيوع ما يسميه فيلسوفنا مالك بن نبي، بالأفكار الميتة أو القاتلة.
وأخطر آفة من هذه الأفكار القاتلة الغلو الديني، والغلو الحزبين و الغلو الطائفي أو العقدي، و كلها قنابل موقوتة توشك أن تقضي على كيان الأمة.
وما نصطدم به عند بعض الدعاة من الغلو، استغلال منبر الدعوى، لتخويف الناس و ترهيبهم، بمختلف الوسائل، وهو ما أدى إلى الكوارث التي ما زلنا نعاني تبعات محنتها.
لذلك صاح القرآن في أهل الغلو، بقوله "لا تغلو في دينكم غير الحق، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ظلوا من قبل، وأظلوا كثيرا و ظلوا عن سواء السبيل"«سورة المائدة الآية ».
إن مهمة الداعية الإسلامي بدعوته، أن يؤخذ بيد المدعو إلى شاطئ النجاة، وأن يزيل عن عقله غشاوة الأمية بجميع ألوانها، و الجهل بمختلف مستوياته، وتحصين الذات ضد كل ألوان الفيروسات المفقدة للمناعة الحضارية، و بذلك يتقوى الطالب و المطلوب، و الداعية و المدعو، فيتحقق هدف الخطاب الدعوي في أنبل و أسمى، وأدق معانيه.
أيها الإخوة!
في زمن تتضاعف فيه التحديات، و تتداعى علينا فيه الأمم، و الإيديولوجيات، بدء بإعلانه العدوانية الفكرية على ثقافتنا و معتقدنا، و انتهاء بشن الحروب على أوطاننا، و تهديد وجودنا وحدودنا، نصبح مثل هذه الملتقيات العلمية العالمية، مناسبة للقيام بوقفة تأملية دقيقة وعميقة، نقوم فيها بتقييم و تقديم مقومات خطابنا الإسلامي، ومنهجية حملة هذا الخطاب، في ضوء ما تعيشه أمتنا الإسلامية، من تهديد لوحدتها و إهدار لقوتها، و كيد لمحاولة إحيائها و نهضتها، وتجديد عطائها.
ولقد تبين لنا كيف أن أمتنا على ما تزخر به من عوامل الإخاء و البناء، و ما حباها الله به من كنوز ورموز، لا تزال تعاني أزمة وصل، و أزمة قطع في عملية النهوض و الإحياء.
أما أزمة الوصل فتتجلى في هشاشة خط الإمتداد مع السلف، هذا الكنز الذي نستلهم منه القيم التي تمثل مصباحا أمامنا نبني على ضوئه الغد الأفضل.
أما أزمة القطع، فتتمثل في الدعوة إلى التنصل من الماضي، و الكفر به كما هو الحال عند بعض المنسلبين عندنا، من دعاة من يسمون بدعاة القطيعة مع الماضي، والذين هم على قلة عددهم، فهم يمثلون خطرا على ثقافتنا من حيث مواقعهم و تنفّذهم.
والحقيقة أن ما ندعو إليه هو المحافظة على ماضينا، دون غلو فيه، والاعتماد على هذا الماضي التليد في تحقيق تقدمنا، و لسنا في هذا بدعا من الأمم، فهناك أمم سبقتنا إلى هذا، وحققت تقدما ملموسا، لمحافظتها على خصوصياتها الحضارية، وخوضها معركة التنمية، و البناء، و التقدم، والأمثلة على ذلك كثيرة، ففي أمتنان نجد الجمهورية الإسلامية الإيرانية، و ماليزيا، وفي الأمم الأخرى، نجد اليابان، و الصين، و ألمانيا، و كلها عانت الويلات، و لكنها بفضل ثباتها على شخصيتها، حققت التقدم المطبوع بطابعها الخاص.
فعسى أن يكون لنا في ما نقوم به من تأمل، ومن تشخيص للداء بحثا عن الدواء، مناسبة نستغلها لإحداث التحول لخطاب إسلامي نموذجي يمكن العلماء، و المفكرين، و الدعاة من تحقيق تقدم بعد تخلف، ووحدة بعد شتات، وضعف بعد قوة، وهداية بعد ضلال، و ما ذلك على الله بعزيز.
ارسال نظر