الشيخ محمد تقي القمي

الشيخ محمد تقي القمي

 

الشيخ محمد تقي القمي
مؤسس دار التقريب بالقاهرة
 

 


 

بسم الله الرحمن الرحيم

له في مجال التقريب مقال تحت عنوان: (أمة واحدة وثقافة واحدة)
جرى الحديث بيني وبين العلامة الشهير المغفور له الامام الشيخ المراغي شيخ الجامع الأزهر وكأني أرى الحديث امامي كما لو كان بالأمس القريب، والحال انه قد مر عليه زمان لا يقل عن عشرة اعوام.
كان موضوع الحديث هو المشكل الخطير الذي على المسلمين أن يعالجوه إذا أرادوا نهضة موحدة تشمل جميع شعوبهم وبلادهم، وهو توحيد المسلمين ثقافيا.
كان الكلام بيننا في أن المسلمين لا يعرف بعضهم البعض، وان الصلة منقطعة بينهم، ولابد من تقربهم ثقافيا، ليعرف كلٌّ ما عند الآخر وبذلك يحصل التوحيد المنشود، وترتفع المنازعات والخلافات في كل المسائل أو في أكثرها، أو تقف ـ على الأقل ـ عند حدودها الحقيقية، ذكرني هذا الكلام يومئذ بقصة ذكرها في أحد كتبه عارف الهي (جلال الدين البلخي الرومي) في كتابه (المثنوى) في سياق أراد به استنتاج بعض المعاني العرفانية السامية. فذكرت لفضيلته هذه القصة: كان أربعة من الفقراء جالسين في الطريق وكل منهم من بلد، أحدهم رومي والثاني فارسي، والثالث عربي والرابع تركي، ومرّ عليهم محسن فأعطاهم قطعة من النقد غير قابلة للتجزئة ومن هنا بدا الخلاف بينهم، يريد كل منهم أن يجعل الآخرين على اتباع رأيه في التصرف في هذا النحو، أما الرومي فقال نشترى بها (رستافيل) والفارسي قال: أنا لا أرى من (الانگور) بديلا، وقال العربي: لا والله لا نشتري به إلاّ (عنبا) وقال التركي متشددا في لهجة صارمة: أن الشيء الوحيد الذي أرضى به هو: (اوزوم) اما ما سواه فاني لا أوافق عليه أبدا، وجرَّ الكلام بين الأربعة إلى الخصام، وكان يستفحل الأمر لولا أن مرَّ عليهم رجل يعرف لغاتهم جميعاً، وتدخل للحكم بينهم.
فبعد أن سمع كلامهم جميعا وشاهد ما أبداه منهم تشدد في موقفه أخذ منهم النقد واشترى به شيئا وما أن عرضه عليهم حتّى رأى كل منهم فيه طلبته، قال الرومي هذا هو (رستافيل) الذي طلبته، وقال الفارسي: هذا هو (الانگور) وقال العربي: الحمد لله الذي أتاني ما طلبت، وقال التركي: هذا هو (اوزوم) الذي طلبته، وقد ظهر أن كلا منهم كان يطلب العنب من غير أن يعرف كل واحد منهم انه هو بعينه ما يطلبه أصحابه.
لسنا في هذا المقام بصدد بيان ما دار في هذه الجلسة أو في جلستنا الممتعة التي كنت اجتمع فيها بفضيلة الامام المراغي، ولسنا أيضاً بصدد بيان ما وصلنا إليه في نفس تلك الجلسة من إقرار تدريس بعض اللغات الإسلاميّة كوسيلة للتفاهم بين البلاد الإسلاميّة المختلفة، كما اننا لسنا بصدد أن نقول: هل واصلنا السير إلى الأمام منذ ذلك الوقت أو رجعنا القهقرى ؟ ومهما يكن من شيء فإن أمامنا في اللجنة الثقافية لجماعة التقريب مشروعا يرمي إلى توحيد المسلمين ثقافيا، أو إن شئت فقل توحيد الثقافة الإسلاميّة بين المسلمين، فكرة ضخمة ومشروع جليل، ينظر إلى المسلمين كأمة واحدة، لغاتها محترمة عند الجميع، آدابها للجميع رجالها للمسلمين عامة.
ليس أحد ينكر على المسلمين أن يعرف الأدب الغربي، لكن عليه في الوقت نفسه أن يعرف شيئا عن أدب رجال نشأوا في الإسلام، وتبغوا في البلاد الإسلاميّة، لا مانع يمنع المسلمين أن يعرف اللغة الغربية ولكن مما ينكر عليه ألاّ يعطي قسطاً من اهتمامه للغات الإسلاميّة ولعل منها ما يتكلم به اكثر من مائة مليون من المسلمين، فتكون لغة التخاطب بين كثير من المسلمين بعضهم وبعض إحدى اللغات الغربية، لأن كلا الطرفين المسلمين لا يعرف من لغة الآخر شيئا، ليس بمنكر على المسلم، بل المستحسن أن يعرف كثيرا عن القارة الأوربية أو الأمريكية أو غيرهما، غير انه بوصفه مسلما عليه أن يعرف اكثر مما يعرفه الآن عن البلاد الإسلاميّة وأقطارها.
إن توحيد المسلمين ثقافيا لا ينافي أن تعمل كل طائفة من الطوائف الإسلاميّة، بما ثبت عندها واعتقدته، ما دام هذا لا يمس العقائد الأساسية التي يجب الإيمان بها، ولكن من الواجب أن تعرف كل طائفة من المسلمين حقيقة عقائد الآخرين، لعلها تجد فيها ما تستفيد منه أو ـ على الأقل ـ إذا أراد أحد باحثيها أن يكتب عنهم شيئا. أو ينقل بعض فتاواهم، فلا يكتب (واما ما سمعنا عنهم انهم يقولون كذا وكذا أو انه يقول عنهم كذا وكذا ) ولعمري أن هذا لسبة في جبين العلم، أن لا يتعب رجاله أنفسهم بالبحث عن كتاب يجدون فيه كل ما يبحثون عنه، من غير أن يسندوا أقوالهم إلى السماع وكثيرا ما يجيء هذا القول المسموع من ذوي الأغراض الخبيثة، ومما هو واضح انه ليس معنى توحيد الثقافة توحيد اللغة، وليس هذا أمرا ممكنا، ولعله لا يفكر في هذا ولا يُفوِّه به إلاّ من يريد أن يبعث التعصب للغات أيضاً، أو يريد أن يستعمر الآخرين.
ولكن المهم هنا أن يفهم بعضنا بعضا وهذا ممكن جدا إذا وجد في البلاد العربية مثلا رجال يعرفون لغات الآخرين، وعند الآخرين من يعرف اللغة العربية ويتحدث بها وهذا ما كان في العصر الذهبي للإسلام، شعوب لم يسطبغوا بالصبغة العربية، واحتفظوا بلغتهم القومية إلاّ أن رجالا منهم، وهم علماؤهم عامة كتبوا ودونوا العلوم العربية، وخدموا اللغة العربية نفسها أية خدمة، من دون أي تعصب أو اقل تحيز ألاّ وان الترجمة مما لابد أن يهتم بها، وكثيرا ما نترجم آثار من الغربيين بأنواعها، فنجد فيها ما يفيد ولا ننكره، ونجد فيها ما يفسد الأخلاق وينشر الخلاعة حينا، والإلحاد والمادية حينا آخر، ولا يشك مسلم من خطر هذا النوع على الدين والآداب الإسلاميّة فنتجنّبه.
وما دام عندنا هذا الاستعداد للترجمة، وليس لدينا مانع من أن نعطي لفكرة نشأت في بيئة مغايرة لبيئتنا وصبغت في جو تقاليدنا الدينية والقومية، صورة مناسبة أو أقل بعدا، نقول ما دام عندنا هذا الاستعداد أليس من الخير ان نوجه إلى الصحيح من الأدب الغربي، وأفكار أهله، والى الآثار الإسلاميّة بما في ذلك ترجمة الكتب والدواوين والحكم والقصص وأخبار التاريخ السائرة بين الشعوب الإسلاميّة، وان منها لكتبا لو كان أحدها هو الكتاب الوحيد في لغته ولم يكن سبيل لترجتمه، إلاّ بتعلم اللغة، لكان على الإنسان أن يتعلم تلك اللغة ليعرف هذا أو ذاك الكتاب ويلتذ بما فيه.
إن في البلاد الإسلاميّة معادن وكنوزا، وان للمسلمين رجالا نابغين وعلماء أكفاء عاملين، وآباء قديرين فهل يعرفهم العالم الإسلامي، وهل يعرف عنهم عشر ما يعرف عن بعض علماء المادة وكتاب السوء ؟ وهل سمع عن آثارهم ؟ وهل عرف أن منهم مؤلفين خلفوا مجلدات من الكتب، يُعد كل واحد منها مرجعا من المراجع قائما بذاته، لفكرة ناضجة عند المسلمين.
إن للمسلمين جامعات علمية كبرى في مختلف البلدان، وان فيها لما يجتمع به اكثر من الفين من طلاب العلوم الدينية، وان النظام الدراسي فيها نظام حر فهل عرفت الأغلبية بين المسلمين عنهم شيئاً ؟
لوان التعارف بين المسلمين تم على أساس توحيد الثقافة، بما في ذلك التبادل الثقافي، وتأليف كتب عن كل طائفة لإعطاء صورة صحيحة عنها، وتعليم اللغات الإسلاميّة في جامعاتهم، وترجمة آثارهم ورجالهم، لعرف المسلمون أنفسهم وعلموا قوتهم، وانهم مسلمون قبل كل شيء، مسلمون في كتابتهم وتآليفهم، مسلمون في قصصهم وأشعارهم وانهم أمناء فيما يكتبون (1).
____________________________
1 ـ رسالة الإسلام 1: 36 ـ 258 ـ و2: 164 ـ 374 ـ و3: 35 ـ و4: 256 ـ 361 ـ و5: 146 ـ 377 ـ و 6: 265 ـ و7: 143 ـ و8: 38 ـ 241 ـ و9: 20 ـ 117 ـ و10: 16 ـ 341 ـ و11: 348 و 13: 19 ـ 243 و 14: 187 ـ و15: 28.
لم نحصل على ترجمته في الوقت الحاضر..