[ 374 ] طاعع ومعصية وسعادة وشقاوة وغيرها ولما كان تقضى العمر شيئا فشيئا باعثا للوصول إلى تلك الدار والورود على ما فيها من خير أو شر كان كل أحد متوجها إليها وإعتبر توجهها إليه أيضا فشبهها بحيوان حامل لأثاث تلك الأحوال مقبلا إليه فعن قريب يتلا قياق * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال شرا يره " وإلى مضمون الفقرين أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله " كل ماض فكان لم وكل آت فكان قد " أي كان لم يكن وكان قد أتى حذف الفعلان لظهورهما (ولكل واحدة منهما بنون) إستعار لفظ البنين للخلق بالنسبة إلى الدنيا والاخرة ولفظ الأدب لهما ووجه الإستعارة أن الإبن لما كان من شأنه الميل إلى الأب بحسب الطبع أو بحسب توقع النفع ومن شأن أبيه إيصال المتوقع وكان الخلق منهم من يميل إلى الدنيا لتوقع النفع وهي يوصله إليه ومنهم من يميل إلى الاخرة لذلك المشابهة المذكورة ولما كان غرضه حث الخلق على الاخرة والميل إليها والإعراض عن الدنيا قال (فكونوا من أبناء الاخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا) لأن منافع الدنيا خيالية باطلة وسموم قاتلة ومنافع الاخرة حقائق دائمة وفوائد باقية أبدا فينبغي أن تكونوا والهين إليها وراغبين فيها وعاملين لها وأشار إلى أن المقصود ليس مجرد رفض الدنيا وترك العمل لها بل هو مع إزالة حبها عن القلب بقوله: (وكونوا من الزاهدين في الدنيا الراغبين في الاخرة) لأن الزهد هو رفض الدنيا ظاهرا وباطنا ولا يتحقق الرغبة في الاخرة إلا به فأشار إلى بعض آثار الزهد وعلاماته بقوله (ألا أن الزاهدين في الدنيا إتخذوا الأرض بساطا والتراب فراشا والماء طيبا وقرضوا من الدنيا تقريضا) البساط فعال بمعنى مفعول كالكتاب بمعنى المكتبوب والفراش بمعنى المفروش والطيب اللذيذ أو العطر والتقريض بمعنى التقطيع وإزالة الإتصال من قرضت الثواب إذا قطعته بالمقراض، أو بمعنى التجاوز من قرضت الوادي إذا جزته أو بمعنى العدول من قرضت المكان إذ اعدلت عنه، وبعض أطوار الزاهد ما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف عيسى على نبينا " وعليه الصلوة والسلام بقوله " فلقد كان يتوسد الحجر ويلبس الخشن، وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجة تفتنه ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذله، دابته رجلاه، وخادمه يداه " قوله " وكان إدامه الجوع " وجهه قيام بدنه بالجوع كقيامة بالادام. وقوله " ظلاله - إلى آخره " وجهه إستتاره عن البرد بها كستتاره بالضلال (ألا ومن إشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات) أي نسيها ومنع نفسه منها (ومن أشفق من النار رجع عن الحمرمات) جميع الحرمة كالغرفات جمع الغرفة، وذلك لأن الإشتياق إلى الشئ يستلزم التوسل بسببه والإشفاق من الشئ يستلزم التحرز من سببه (ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب) لأن ________________________________________