رسالة مجمع التقريب وآفاقه
رسالة مجمع التقريب وآفاقه
الدكتور الشيخ إحسان بعدراني
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة تسليماً كما أمر.. على عبده ورسوله خير البشر.. وعلى من اتبعه بـإحسان من آله وأصحابه النجوم الزُّهرِ الزُّهَر.. ما طلعت شمس وغاب قمر..
فالكلام في التقريب بين المذاهب الاسلامية – اليوم – له وجهان. وجه بسيط ينسجم مع العقل السليم الناعم بنور الله، إن نحن رجعنا فيه إلى الأصل القرآني والنبوي، ووجه معقّد ينكره ذوو الألباب، إن نحن تمسَّكنا فيه بما لحق ذلك الأصل من زيادات أضافتها التناحرات السياسية على صعيد الإمارة والخلافة، والضغائن الاجتماعية على الصعيد الأسري والعشائري والقبلي، والخلافات المالية على صعيد التحكم بالموارد والاستئثار بها، والخلافات الفكرية القائمة على الغلوِّ والتطرُّف والتكفير والتنفير، التي تراكمت صورها على مدى قرون وقرون. والنظر في هذين الوجهين، والعودة الى الأصل القرآني والنبوي لرؤية الوجه الصحيح النافع للمذاهب في الإسلام، بند أول من بنود رسالة هذا المجمع، ينطلق من التعارف بين الناس كهدف إلهي ثابت في قوله تعالى: (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا..) (الحجرات/ 13).
والتعارف على إطلاقه يشمل بلا ريب الجانب الفكري والعقائدي والمذهبي. ومن قوله تعالى: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) (البقرة/ 134)، وقوله تعالى: (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا…) (الحشر/ 10). ويلتزم في عودته إلى الأصلين العظيمين قول النبي(ص): (إني قد تركت فيكم شئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي) (المستدرك على الصحيحين، رقم 319 ، جزء 1، ص 172). وقول الإمام جعفر الصادق(رضي الله عنه): (كل شيء مرده إلى كتاب الله والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف).
والكلام في المذاهب الإسلامية له وجهان. وجه محمود يعتبر المذهبية ضرورة عقلية مطلوبة، إضافة إلى أنها – كما يقول الدكتور القرضاوي ضرورة دينية ولغوية وبشرية وكونية (انظر العدد 19، 20 من مجلة (رسالة التقريب) لعام 1998، ص 219)، لأن المذهب بالأصل يمثل فهم صاحبه للنصوص القرآنية والنبوية، ويرسم طريق تطبيقها والعمل بها أمراً ونهياً. ولما كان القرآن والحديث (حمَّال أوجه) حسب تعبير الإمام علي كرَّمَ الله وجهه، كان من الطبيعي أن تختلف الفهوم في تلمس المقاصد والمعاني فيهما. ووجه مذموم زناده العصبية العشائرية والفكرية، ومقداحه الغلو والتطرُّف، يعتبر الاختلافات المذهبية اختلافات على التعامد يناقض بعضها بعضاً في الثوابت والمتغيرات. والنظر في هذين الوجهين، والعودة إلى الاصل في معنى المذهبية، انطلاقاً من أن الخلافات بين المذاهب اختلافات على التوازي يكمل بعضها بعضاً وتكون في التفاصيل والمتغيرات ولا تكون في الثوابت والعموميات، بند ثانٍ من بنود رسالة هذا المجمع.
لقد كان عمر بن عبدالعزيز أموياً، لكن ذلك لم يمنعه من أن يكون عاقلاً مؤمناً. وليست بحاجة إلى استعراض مآثره، وعلى رأسها الامتناع عما كان يُذكر على المنابر، بعد أن أمر به من كان قبله. سأكتفي بخبر صغير له دلالته فيما نحن فيه. روي أن سائلاً سأله أيهما أفضل عندك عثمان أم علي؟ فقال: (ويلك، تسألني في رجلين كلاهما خير مني). فهل يجوز في ضوء ذلك أن نقبل قول من يقول في الشجرة الملعونة في القرآن ]اإسراء/ 60[ إنها شجرة النسب الأموي؟ متجاهلاً قوله تعالى في خمسة مواضع من القرآن الكريم: (ولا تَزِرُ وازرة وزر أخرى)، وغافلاً عن قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره) (الزلزلة/ 7).
والكلام في اختلاف التوازي بين المذاهب المؤدي إلى التكامل وبالتالي إلى التوحد، وفي اختلاف التعامد بينها المؤدي إلى التصادم ومنه إلى التفرق، بند ثالث من بنود رسالة هذا المجمع. وإذا كان دأب فرعون في زمنه كما قال تعالى: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا) (القصص/ 4). وإذا كان دأب الفراعين في كل زمان ومكان أن يجعلوا الناس شيعاً ويذيقوا بعضهم بأس بعض، فإن من رسالة هذا المجمع أن يجعل دأبه الدعوة إلى الوحدة والتوحد، تنفيذاً لأمر الله لنبيه في قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء..) (الأنعام/ 159).
كثيرون حين يقولون (لا إله إلا الله) ويطلقون عليها اسم (كلمة التوحيد)، يتوهمون أنها توحيد لله تعالى. ولعمري إن الله واحد أحد لم يتجزأ ليجمع ولم يتفرق ليتوحد. إنما المقصود وحدة الأمة القائلة بها، وتوحيد صفوف الداعين إليها. ولقد أكرمني الله تعالى منذ ثماني سنوات، حين دعيت للمشاركة في المؤتمر العاشر للوحدة الإسلامية بإشراف المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب، تحدثتُ فيه عن (أرضية الوحدة في التقريب بين المذاهب)، وأسهبت في شرح تفاصيل تلك الوحدة التوحيدية المنشودة، لا محل لإعادتها وتكرارها.
هناك بند رابع وخامس وعاشر في رسالة المجمع، يستطيع المرء دون عناء استخراجها من النظام الأساسي للمجمع، كما وردت في الفصل الثاني، المادة الخامسة، تحت عنوان الأهداف. وكان يمكن أن أفعل ذلك، وأتلو على السادة أعضاء المجمع بنود رسالة مجمعهم وأهدافها، لولا أنني سأبدو كبائع التمر في هجر، أو كبائع الماء على ضفاف بردي.
فاسمحوا لي أن أطوي صفحة المجاملات، وقوائم الأهداف، لأبدأ بالقول: المسألة ليست مسألة تقريب مذاهب، بقدر ماهي مسألة تقريب بين أتباع المذاهب، وبقدر ماهي تبعيد للتعصب المذهبي المتطرف الأعمى لدى هؤلاء الأتباع، بعد أن تحوَّل الخلاف عن خطوطه المتوازية إلى خطوط متعامدة، فتحول من التغاير في فهم النصوص – كظاهرة صحية مطلوبة – إلى طائفية مقيتة مدمِّرة، لعلَّ أوضحَ امثلتها ما رواه ياقوت الحموي في معجم البلدان وهو يحكي أسباب خراب مدينة الري بعد أن رآها خاوية على عروشها في القرن السادس الهجري.
لقد ولد هذا المجمع – رسمياً – عام 1411هـ جاعلاً هدفه التقريب بين المذاهب. لكن هذا الهدف ولُدَ قبله بزمنٍ طويل فالإمام أبوحنيفة النعمان رأى أن قراءة الإمام في الصلاة تجزئُ عن قراءة المؤتم، ثم جاء الإمام الشافعي ليرى أنها لا تجزئ، وأن صلاة المؤتم باطلة دون قراءة. وتروي لنا الأخبار أن الشافعي التقى مع أپي يوسف – تلميذ النعمان – حول هذه المسألة. قال أپو يوسف: أرأيت لو دخلنا في جماعةٍ على السلطان أيجوز أم لا يجوز؟ قال الشافعي: يجوز. قال أپو يوسف: أرأيت لو قدَّمنا أحدنا للكلام أيجوز أم لا يجوز؟ قال الشافعي: يجوز. فقال أبو يوسف: وكذلك في الصلاة يرحمك الله. أما عن قولك إن قراءة القرآن بغير العربية لا تجوز في الصلاة، فإن فعل المصلي ذلك بطلت صلاته. فإن الله تعالى وصف المؤمنين المفلحين بأنهم: (الذين هم في صلاتهم خاشعون) (المؤمنون/ 2)، والخشوع لا يحصل إلا بفهم المعنى.
ومازال هذا الهدف ماثلاً في فكر وسلوك العديد من الأئمة والعلماء، ففي كلمةٍ ألقاها الشيخ الدكتور أحمد كفتارو – رحمه الله – في جامعة طهران خلال إحدى زياراته لإيران بعد قيام الثورة الإسلامية، قال: (إذا كانت السنة هي العمل بكتاب الله وسنة رسول الله فكلنا سنة، ومسلم لا يتلزم بالسنة فليس بمسلم. وإذا كانت الشيعة هي محبة أهل بيت رسول الله والانتصار لهم فكلنا شيعة، ومسلم لا يتشيع ليس بمسلم..).
واسمحوا لي بأن أنتقل إلى القول: المشكلة في التباعد بدعوى المذهبية لا وجود لها عند العلماء والنُّخب العاقلة من الناس، بل هي عند الناس أنفسهم. ومن هنا فإن جميع المتلقيات والمؤتمرات والمجمعات التي يقتصر حضورها والمشاركة فيها على النُّخَپ، لن يكون لها ما نطمح إليه من دور فعَّال في التقريب بين المذاهب. لأن المشكلة – كما قلنا – ليست في المذاهب ذاتها، ولا في أئمة المذاهب وعلمائها، فهؤلاء معروفون باحترام آراء واجتهادات ومذاهب بعضهم بعضاً، طالما أنها تستنير بنور واحد، وتستهدي بأصلٍ واحد، وتغرف من نبع واحد. المشكلة في الذين لم يتبعوهم بإحسان. وفي الذين ارتضوا لأنفسهم مذهب التقليد الأعمى المتطرِّف لظاهر أقوال أئمة المذاهب وحرفيتها، مغلقين بذلك النافذة الوحيدة التي يدخل عبرها نور الله إلى القلوب، ونعني العقل، إما كسلاً أو جهلاً أو عصبية. المشكلة في الخَلَف ولي في السَّلَف، في الذين قرؤوا نهي النبي(ص) عن تفسير وفهم القرآن بالرأي فلم يفهموا أن القصد هو الهوى وليس العقل. وفي الذين وضعوا لأنفسهم قانونا فقهياً عجيباً يقول: إن تعارض قول لأصحابنا مع القرآن أخذنا بما عليه أصحابنا.
واسمحوا لي بأن أنتقل إلى القول: إن مرحلة التنظير، الذي يشير إليه تعالى تحت عنوان التفكُّر والتدبُّر والتفقه، مرحلة لا ريب في أهميتها بداية. لكنها إن طالت، أو تم الاكتفاء بها، ولم تنتقل إلى الممارسة والتطبيق، أو اقتصر التطبيق فيها على الجانب الشكلي التنظيمي والإداري، صار لها اسمً آخر. والمتصفح لألوف الصفحات التي صدرت على مدى عقد ونصف من الزمن من عمر هذا المجمع، على شكل كتب ومجلات وأبحاث ومقالات وتقارير مؤتمرات، سيلحظ معنا بقلق أن معظمها منقولٌ مكرور، يصب في حوض التنظير دون أن يضيف إليه جديداً. وأسأل الله وأتمنى أن لا تتحول مسألة التقريب بين المذاهب إلى (علم نظري)، كعلم الوضوء، نفصل القول فيه بمئات المجلدات، ثم نختصر المفصَّل، لنعود فنشرح المختصر.
أترانا بحاجة إلى قرن لنتفق على أن المذاهب أنشطة عقلية، وعلى أن الخلاف المذهبي في أصله بعيداً عن الغلو والتعصب ضرورة عقلية ودينية ولغوية وبشرية وكونية، وعلى أن التقريب بين المذاهب يدخل تحت عنوان (التعارف) المشار إليه في آية (الحجرات/ 13)، وعلى أن كلمة التوحيد تتضمن معنى توحيد الكلمة، وعلى أن المستهدف بالتقريب هو الإنسان فرداً والناس جماعاتٍ ومجتمعات؟
اسمحوا لي بأن أصل أخيراً إلى القول: علينا ونحن نستهدف الناس بفكر التقريب، أن نولي الاهتمام – حسب فقه الأولويات – لثلاث شرائح: الدعاة، والشباب، والمرأة.
أما الدعاة، ونقصد بهم الأداة المؤهَّلة لنشر فكر التقريب بين الناس، في أسواقهم ومعاملهم وحقولهم، وفي مساجدهم ومدارسهم وحوزاتهم ومجالسهم، فأمامنا عبارة لسماحة آية الله محمد علي التسخيري، أمين عام المجلس الأعلى للمجمع، تقول: (علينا أن نربي فرقاً وكوادر للحوار تستطيع أن تحتفظ بشخصيتها وتؤثر في الطرف الآخر..) (انظر مجلة (رسالة التقريب) العدد 19، 20 ، ص 309). والعبارة على اقتضائها تتضمن أربعة محاور: التربية، والحوار، والشخصية، والتأثير في الآخر. فالكلام في تربية وإعداد الدعاة لفكر التقريب لابُدَّ وأن يتناول الكلام عن مناهج تربوية خاصة تختلف عن الشائع والسائد المعتمد في المعاهد الشرعية والحوزات العلمية التقليدية، وأن يتناول الكلام عن طواقم خاصة من المدرسين والمشرفين على تعليم هذه المناهج.
والكلام في الحوار لابد وأن يتضمن احترام الرأي الآخر، والجدال بالتي هي أحسن، والتخلي نهائياً عن قول من قال (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب). والإيمان فعلاً وحقاً بأن الحقيقة ماسة ذات مليون وجه، قد يرى منها المرؤء وجهاً بحكم موقعه وتغيب عنه منها وجوه يراها الآخرون. والكلام في الشخصية والتأثير في الآخر، له علاقة وثيقة بنوعية المناهج التربوية ومدرسيها من جهة، وبأسلوب تعليمها للطلاب من جهة ثانية. فالنظام التلقيني القامع لروح التدبر والتفكّر عند الطلاّب لبواكير الإبداع في براعمهم الغضة، لن ينتج بالضرورة سوى دعاة تقليديين يملؤون المنابر ويتصدَّرون حلقات التدريس. إننا في مجال التقريب بين المذاهب أحوج ما نكون إلى دعاة: يدعون إلى معرفة الآمر قبل الأمر.. ويرون أن القدوة قبل الدعوة.. ويخاطبون العقل والقلب.. ويحسنون الظنَّ بالله وبالناس.. ويستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.. ويأخذون بالترغيب قبل الترهيب.. وبالإحسان قبل البيان. وبالدليل قبل التعليل.. وبالتطبيق لا بالتنميق.. وبالتحقيق في النبأ لا بالتصديق .. ويهدفون إلى التيسير لا إلى التعسير.. وإلى النصيحة لا إلى الفضيحة.. وإلى الجبر لا إلى الكسر.. ويرون في أنفسهم رحماء لا أوصياء.. ويؤمنون بأن العلم والعمل توأمان.. وأن العلم بلا عمل جنون، والعمل بلا علم لا يكون.
وأما الشباب من الناشئة، ونقصد بهم الخَلَف الذين سيأتون بعدنا ليحملوا رسالة الله تعالى إلى الإنسان والكون وليكونوا خلفاءه فيهما، فأمامنا قوله تعالى: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً) (النساء/ 9)، فالآية رغم ورودها في سياق الحديث عن الإرث، إلا أن في عمومها درساً تربوياً لا يخفى على المتأمل. وأمامنا جملة من أحاديث النبي(ص) وأخبار الأئمة، نادراً – أو قل معدوماً – أن نجد كتاباً جمعها ودرسها ليلقي الضوء على الحاجة الماسّة إلى الاهتمام والعناية بعقول أكباد لنا تمشي على الأرض. فالعقل ليس شجرة سحرية، كما تقول الأساطير، نلقي بذرتها أينما كان وكيفما اتفق في المساء، لنجدها في الصباح وقد أزهرت وأورقت فروعها في السماء وامتدت جذورها في الأرض. العقل وعاء يتجمع فيه ما نقوله وما نفعله نحن اليوم، لينضح غداً بما تجمع فيه. لا يكفي أن نأمر أولادنا بالصلاة ونحملهم عليها، رغم ما في ذلك من أهمية، بل لابدَّ من حملهم إن هم تركوا العقل وعطلوه، واختاروا أن يكونوا إمعات ومقلّدين.
إننا في مجال التقريب بين المذاهب، لنكون امة وسطاً شهداء على الناس، أحوج ما نكون إلى جيل جديد يسأل ويبحث عن الأجوبة، ويناقش ويبحث عن المعرفة، يؤمن بحقه في المعارضة والاحتجاج، ويتعلم كيف يمارس هذا الحق ضمن أطر الأدب وحدود العقل، جيلٍ حديدٍ يحسن الحوار لا الشجار، والتعريف لا التعنيف، والمداراة لا المداهنة، إننا أحوج ما نكون إلى التأسي بالأنبياء في توجههم إلى جيل الشباب، فلا نكتفي بدعوتهم إلى الحوزات والمساجد، بل نذهب إليهم حيث هم، في نواديهم ومدارسهم وملاعبهم وحاراتهم.
وننتهي أخيراً إلى المرأة، هذا النصف الذي تتشكل به ومنه – من الناحية العددية الإحصائية – كل المجتمعات البشرية والإنسانية في كل زمان ومكان، لكن لها مع ذلك الدور الأهم في كل مجتمع وجدت فيه، أما وأختاً وزوجةً وبنتاً، وعلى وجه الخصوص في تربية الأجيال. وإذا كان الهدف الأول والوحيد لهذا المجمع هو التقريب بين المذاهب، فأين هي المرأة بين البنود الستة للمادة الخامسة من النظام الأساسي؟ أليست المرأة بحد ذاتها موضوعاً تعارضت فيه الرؤى وتضاربت فيه المذاهب التي تحتاج إلى تقريب؟
الحديث النبوي يشير إلى أن صلاح المجتمع يكون بصلاح علمائه وأمرائه، وهذا صحيح بلا ريب، لكنه لا يمنعنا من القول قياساً، بأن صلاح المجتمع يكون أيضاً بصلاح نسائه.
والسؤال الآن: كيف يمكن للمرأة أن تقوم بدورها في تربية الأجيال وهي ناقصة عقل ودين([1]).؟ وكيف يمكن أن تكون راعيةً في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها – حسب التعبير النبوي – ؟ أليس فاقد الشيء لا يعطيه؟ أليس إن صح أنها ناقصة عقل ودين الأولى أن يرتفع عنها التكليف، عملاً بقاعدة (إن أخذ ما أوهب أسقط ما أوجب).
لقد جاء الإسلام ليعيد لأول مرة في تاريخ البشرية مكانتها في الكون وكرامتها كإنسان في المجتمع. وإذا كنا نرى اليوم مسألة الإرث أمراً عادياً، فقد كان قوله تعالى: (.. وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيباً مفروضا) (النساء/ 7)، ثورة اقتصادية واجتماعية في زمنه في موضوع توزيع الثروات وتداولها وانتقالها، لا تقل عن أية ثورة أخرى في زمنها، فما الذي حدث؟
الذي حدث أن القرآن نزل لا يرد فيه لفظ الذَّكر إلا مقروناً بالأثنى، وكُرَّم بني آدم وفيهم الذكور والإناث، ومع ذلك نجد الذكورة تغلب في الكثير من فتاوى الفقهاء وأحكامهم، وتحكم الكثير من معاني ومقاصد الآيات والأحاديث عند الله ورسوله. يقول الله تعالى: (كتب عليكم القتال) (البقرة/ 216)، وميم الجمع فيها تشمل الذكور والإناث، ومع ذلك نجد كثيراً من الفقهاء في المجال التطبيقي والعملي يميلون إلى قول الشاعر:
كُتِب الحربُ والقتال علينا وعلى الغانيات جرُّ الذُّيُـــــولِ
ويقول تعالى عن العمل: (وقل اعملوا) (التوبة/ 105)، والواو فيها تشمل الذكور والإناث، ويقول رسوله(ص) عن العلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) ومع ذلك نجد الكثيرين يميلون إلى قول الشاعر:
ما للنساء وللعمالة والكتابة والخطابة؟ هذا لنا، ولهن منا أن يبتن على جنابة
حتى أن بعضهم يذهب إلى منع تعليم المرأة الكتابة والقراءة – من باب سد الذرائع – كيلا تكتب الرسائل الغرامية.
قد يتوهَّم البعض أن شواهدي تراث من العصور الخوالي، وأننا اليوم أوسع وعياً وأعمق إدراكاً لدور المرأة عند الله ورسوله، لهؤلاء أسوق الخبر التالي دون تعليق، نقلاً عن وكالات الأنباء بتاريخ 28 كانون الثاني 2005، 18 ذي الحجة 1425: (قررت المملكة العربية السعودية السماح للمرأة بحضور مجالس الشورى كمستمعة).
[1] - وردت العبارة في حديث نبوي، ونحن لا نناقش هنا صحة الحديث أو عدم صحتِهِ، بل نشير إلى توظيفه في غير ماينبغي، وقراءته على غير ماقصد منه، واتخاذه حجة وذريعة لعزل المرأة عن المجتمع، وجعله من ثوابت الإسلام. والعجيب بالمقابل أن أحدهم – وقد رأى مخاطر الاتكاء على ظاهر الحديث – زعم أن النبي(ص) قال ذلك على سبيل الفكاهة!!