جهود التقريب بين المذاهب الإسلامية في منطقة المغرب الإسلامي أو ما أصبح يسمَّى بالمغرب العربي الكبير

جهود التقريب بين المذاهب الإسلامية في منطقة المغرب الإسلامي  أو ما أصبح يسمَّى بالمغرب العربي الكبير

 

 

جهود التقريب بين المذاهب الإسلامية في منطقة المغرب الإسلامي  أو ما أصبح يسمَّى بالمغرب العربي الكبير

 

الأستاذ عبدالرحمن شيبان/رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

  

 إن ما تتميز به منطقة المغرب الإسلامي  بجميع أقطارها الوحدة الدينية والمذهبية، إذ تعتمد أقطار هذه المنطقة (الجزائر – تونس – ليبيا – المغرب – موريتانيا) – الدين الإسلامي في عقيدتها، وفي تعاملها مع الحياة الثقافية والفكرية والقيم الخلقية، كما يعتمد معظم سكانها المذهب المالكي في مرجعيتهم المذهبية، وفي تفكيرهم الديني، وفي التعامل مع الأَحكام الفقهية والمعاملات الشرعية. ويعتمد بعض من سكان هذه المنطقة الإباضية مذهبا فقهيا وهم إخواننا الإباضيون.

 إن هؤلاء يعتمدون المذهب الإپاضي منذ زمن بعيد؛ أي منذ قيام الدولة الرستمية في الجزائر (تيهارات) في القرن الثاني الهجري = الثامن الميلادي. تلك الدولة التي تأسست في مدينة تيهارت بالجزائر ثم امتدت إلى جهات داخل الوطن وإلى خارج الوطن (تونس – ليبيا) ثم تركزت مواقع هؤلاء الإباضيين بالنسبة إلى الجزائر في (غرداية) والمدن التابعة لها في جنوب الجزائر. مع انتشارهم في جهات عديدة من الوطن.

 إن هؤلاء الاخوة الإباضافيين يتميزون في تنظيم حياتهم الاجتماعية وفي عاداتهم بنمط حياتي متميز، ويعيشون حقائق الدين الإسلامي في حياتهم الجماعية وفق قواعدهم المذهبية ولكنهم غير متعصبين في اتجاههم المذهبي، وفي تفكيرهم الديني،  وفي عقيدتهم، فهم يعتبرون أنفسهم جزءا لا يتجزأ من المجتمع الجزائري الأصيل بالنسبة الى من يعيشون في الجزائر، وجزءا لا يتجزأ من الأقطار الأخرى التي هي جميعا جزء من الأمة الإسلامية، ولديهم غيرة شديدة على الدين واللغة العربية، بحيث يعتبرونهما أساس بناء الشخصية الوطنية، والهوية الدينية، لذلك ينشئون أپناءهم منذ الصغر وفي مدارس يتولون تمويلها وتسييرها على التمسك بالعقيدة الإسلامية، وإتقان اللغة العربية الفصحية، إلى جانب تدريبهم على ممارسة اللهجة المحلية الخاصة بالعشائر الاباضية (اللهجة الأمازيغية) ويغرسون في نفوسهم حبّ العادات والتقاليد المميزة للمجتمع الإباضي.

 تلك العادات والتقاليد التي تجعلهم جماعات متماسكة متعاونة.

 وإلى جانب المنتمين إلى هذين المذهبين: (المالكي – الإپاضي) هناك أفراد قلائل يكادون لا يتميزون عن غيرهم من اتباع المذاهب السنية الأخرى، يعتمدون المذهب الحنفي، ويشجعون استخدام الرأي، ولعل دخول المذهب الحنفي إلى هذه المنطقة استخدام الراي، ولعل دخول المذهب الحنفي إلى هذه المنطقة يرجع إلى العهد العثماني؛ أي إلى العلماء  فالمتتبع لتاريخ هذه المنطقة ولواقع التفكير الديني السائد لدى سكان أقطار المغرب العربي يجد أن أهلها متشبثون بالقيم وأنماط السلوك التي تقرب بين الفئات، وتدعم وحدتها وتماسكها، لأنهم حريصون على التمسك بأصول العقيدة التي تستقي منها المذاهب كلها اتجاهاتها، ويسير عليها أئمة السلف الصالح، عملا بمقولة إمام دار الهجرة (مالك بن أنس (رضي الله عنه): »لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها«.

 وإذا كان معظم سكان هذه المنطقة يتبعون المذهب المالكي في مسائل الاعتقاد، وفي التعامل مع الأحكام الفقهية، والمعاملات الشرعية، فهم لا ينتقصون مما يدعو إليه إخوانهم الإپاضيون وغيرهم، ولا يرفضون الأحكام الاجتهادية المعللة التي استنبطها أو استخلصها العلماء من أية منطقة في العالم الإسلامي. قد يكون لهم تقدير خاص أو تفضيل للمذهب الذي يعتنقون، والذي نشأوا في حضنه، ولكنهم لا ينتقصون أو يقللون من قيمة المذاهب الأخرى، بل قد يدعو علماؤهم إلى العمل بها في بعض النوازل والمسائل، لأنهم يرونها فروعا لأصل واحد:

فكلهم من رســـول الله ملتمـــس     غرفا من البحر أو رشفا من الدِّيم

 لذلك تراهم يرفضون التعصب الأعمى، ويقاومون عوامل الفرقة والصراع.

 إن أهم ما يميز سكان هذه المنطقة والجزائريين منهم بصفة خاصة هو أنهم شديدو التعلق بالأفكار والمبادئ التي تشكل روح العقيدة وتشرح أصول الشريعة، ومن ثم نراهم شديدي الغيرة على دينهم، قد تلم بهم أزمات، وتعصف بهم ظروف سياسية قاهرة، إلى درجة تجعلهم يفرطون في أرضهم، وفي أملاكهم، ويضحون بما لديهم، ولا يرضون بالمساومة على عقيدتهم؛ قد تدفعهم الظروف والأزمات  إلى مغادرة البلد، والابتعاد عن الوطن، ولا يرضون أن يتنازلوا عن أي مقوِّم من مقومات الشخصية، أو يفرطوا في شيء يربطهم بدينهم وتاريخهم؛ لذلك لم  يتخلوا عن ذاتيتهم، رغم ما ألم بهم أثناء الحكم الاستعماري فلم ينسلخوا عن عقيدتهم، ولم يقبلوا بالحياة التي تبعدهم عن العقيدة، حتى في أحلك الظروف التي فرضت عليهم، والتي دفعت الكثير منهم إلى الهجرة، حفاظا على شخصيتهم، وحماية لعقيدتهم، وهروبا مما يُهدد كيانهم.

 ولعل الظروف الاستعمارية التي مرت بها الجزائر بالخصوص، والتي عاشت فيها تحت قوة استعمارية طاغية، بذلت كل مافي وسعها لتفريق صفوف الأمة، وإضعاف شأنها وتشتيت قواها، وقتل الشعور الوحدوي في  أعماقها، وتدمير القيم والروابط التي تجمع الناس على فكرة واحدة، لعل هذه الظروف هي التي قوّت إيمان الجزائريين بعقيدتهم، وإلى التمسك الشديد بخصوصياتهم، مما افشل مخططات الاستعمار الرامية الى تفريق صفوف الأمة دينيا وثقافيا واجتماعيا ولغويا، وإثارة النعرات القبلية والجهوية، والحساسيات المذهبية، والصراعات الطائفية التي أراد المستعمر أن يجعل منها وسليته لإذكاء روح الخلاف، وتغدية عوامل الشقاق والصراع، وإقامة حواجز وهمية سميكة، تحول دون التفاهم والتقارب، حتى بين عناصر العائلة الواحدة.

 إن أهم ما حرص عليه المستعمر طوال فترة حكمه في الجزائر هو أن يعيش الجزائريون شيعا وفرقا وطوائف متفرقين لا تربطهم رابطة ولا يجمعهم فكر واحد، أو مذهب موحد؛ طوائف متفرقين دينيا ولغويا وثقافيا وعرقيا أيضا. لقد ظل يغذي بأساليبه المختلفة النزعة العرقية بين العرب والبربر (سكان هذه المنطقة) ونزعة التطاحن بين العلماء المنتمين إلى الإصلاح والعلماء المنتمين إلى الطرق الصوفية وبين الأئمة العاملين في المساجد الحرة، والأئمة العاملين في المساجد التابعة للنظام الاستعماري، وحتى بين المثقفين بالعربية والمثقفين بالفرنسية، وظل بصفة عامة يسعى إل إقامة جدار حاجز بين الاخوة الإپاضيين غيرهم من أتباع المذاهب الأخرى.

 لقد حاول أن يزرع بذور الطائفية الدينية في بلادنا، ولكنه لم ينجح.

 وفي خضم هذه الظروف برزت في الثلث الثاني من القرن العشرين جهود الحركة الإصلاحية التي قادتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين برئاسة الإمام الشيخ عبدالحميد بن باديس رائد النهضة في الجزائر، تلك الحركة التي ابتدأها بمفرده عن طريق التربية والتعليم والصحافة والوعظ الديني وبناء المؤسسات التعليمية ثم عززها بتأسيس جمعية للعلماء جمعت مختلف التيارات والمشارب والمذاهب.

 وكان الهدف من هذه الحركة التي استمرت أكثر من ربع قرن: تربية الناس تربية إسلامية صحيحة، تقيهم عوامل الزيغ والانحراف وتسهم في إصلاح أوضاع المجتمع: الدينية والثقافية والسياسية، وتحفز الناس على التصدي لمقاومة مخططات الاستعمار، الرامية إلى تشويه الدين، وتفريق الصفوف وتشتيت قوى الأمة، وإضعاف إيمانها بذاتيتها وبقدراتها وإقامة الحواجز الوهمية بين مختلف الفئات المتساكنة وتغدية المواقف الجامدة، وإذكاء الآراء المتعصبة التي تقف دون وحدة المسلمين ونهوضهم وتعاونهم، وتفهمهم حقيقة الإسلام وقيمه الخالدة،  التي هي أساس النهضة الإسلامية المنشودة.

 كما كان الهدف من هذه الحركة التي شملت القطر كله (عن طريق المدارس والمساجد والنوادي والصحافة واللقاءات العلمية ) – مقاومة البدع والخرافات، والتأويلات الدينية المخالفة لأصول الشرع، التي كان الاستعمار يغذيها، ويشجع من ينشرها.

  إن مقاومة التفكير الجامد والدعوة إلى تأصيل الحركة الفكرية والاجتهاد الديني الصحيح من خلال دعوة العلماء إلى اليقظة، ونبذ الاهتمام بالأمور الشكلية والجزئيات الخلافية، والعمل الدؤوب على هداية الناس إلى صراط الله المستقيم، وتوجيههم  وفق ما أمر به سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ودعا إليه القرآن الكريم، والابتعاد كل الابتعاد عما يفرق بين المسلمين، ويستعدي بعضهم على بعض، إن هذه المقاومة هي النشاط الإصلاحي الذي ظلت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تخطط له، وتنفذه على مستويات مختلفة لأنه كان أمل كل المخلصين من أپناء هذه المنطقة.

 ومن الأمور التي ركزت عليها الحركة الإصلاحية في الجزائر ــ خلال النصف الأول من القرن العشرين ــ السعي الدائم لتحاشي الخطاب الديني المفرق بين المذاهب والتيارات الفكرية المختلفة من خلال التفتح في الفتوى على مختلف المذاهب تيسيرا على الناس وتبسيطا للتعامل مع فقه الأولويات.

 إن هذا السعي الدائم لتوحيد الصفوف بين علماء الأمة مهما كانت مشاربهم، والتقريب بين الاتجاهات المذهبية في المجال العقائدي، وفي الأحكام الفقهية المرتبطة بالأصول، بهدف دفع الأمة إلى الوقوف صفا واحدا أمام أعداء الأمة في الداخل والخارج، أولئك الذين يتربصون بها ويخططون لضربها في صميم مقومات وحدتها، وتدمير قواها، فلقد ظل ابن باديس وصحبه يهيبون بالعلماء والمفكرين أن يجعلوا وحدة الأمة هاجسهم في كل عمل إصلاحي، يقومون به، وتقوية عزيمتها أساس نشاطهم، ونشر العقيدة الصحيحة غايتهم، فالقيام بهذه الرسالة النبيلة هو نوع من الجهاد المفروض على المسلمين، من أجل إعلاء شأن الأمة ورفع رايتها، وتقوية صفوفها.

 إننا حين نتتبع جهود ابن باديس منذ أن رشح نفسه للعمل الإصلاحي والتربوي نجد تفكيره تفكيرا إسلاميا وعربيا وإنسانيا، فلم يكن تفكيره قطريا، أو إقليميا، بل كان تفكيره يرتقي إلى مستوى الشخصيات العلمية العالمية، التي تريد أن يرتقي الإنسان في تفكيره وسلوكه ليعي رسالته في هذا الكون مصداقاً للحديث الشريف: »إن الله يرسل في كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها«.

 إن المتتبع لتاريخ الحركة الإصلاحية الدينية في منطقتنا عامة، وفي الجزائر خاصة، نجد انسجاما تاما بين المذاهب التي تعيش في هذه المنطقة، كما نجد تكاملا وتفاهما ملحوظا بين المذهب المالكي الذي هو مذهب الأكثرية، والمذهب الإپاضي الذي هو مذهب الأقلية، وبين هذين المذهبين وبين من لهم آراء واتجاهات تتصل بالمذهب الحنفي أو الظاهري الذي كان منتشرا في الأندلس، فقد تآزرت هذه الاتجاهات وتلاحمت منذ فجر الحركة الإصلاحية التي قادها الإمام ابن باديس والتي شاركت فيها عناصر هامة من علماء المذهب الإباضي؛ أمثال الشيخ إبراهيم بيوض، والشيخ أبو اليقظان، والشيخ عبدالرحمن بكلي وغيرهم، فقد عمل هؤلاء مع علماء المذهب المالكي جنبا إلى جنب، من غير أن يكون هناك ما يفرق بينهم، ولم يذكر التاريخ شيئا عن تأثير الخلاف المذهبي على التفاهم والتعاون طوال المرحلة الإصلاحية.

 ولقد ازداد التفاهم بين المذهبين بفضل جهود الحركة الإصلاحية التي جندت جميع العلماء، تلك الحركة التي كان هاجسها الأول هو تقوية وحدة المسلمين، ومقاومة العوامل المفرقة أو المشتتة لهذه الوحدة، وتجنب التفكير المذهبي الضيق. ومن الأدلة على هذا الانسجام بين مختلف الاتجاهات في الجزائر هو أن الناس مالكيين وإباضيين أصبحوا يتعاملون دينيا واجتماعيا جنبا إلى جنب، حيث يصلي بعضهم وراء بعض، وفي مسجد واحد، ويصاهر بعضهم بعضا، وأصبحوا بمثابة الأسرة الواحدة بحيث لم يبق هناك ما يفرق بين الطائفتين إلا بعض العادات والتقاليد التي تفرضها البيئة الاجتماعية المحلية والتنظيم الاجتماعي المميز، الذي دأب عليه إخواننا في منطقة (مزاب).

 وما ينبغي الإشارة إليه في آخر هذه الكلمة هو أن أتباع المذهب المالكي في الجزائر بصفة خاصة لهم تقدير وجداني خاص لآل البيت، ولكل من ينتمي إلى الشجرة النبوية المباركة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، نراهم يحسون بنوع من الشعور الوجداني المميز حينما يجري الحديث عن الخليفة الرابع أمير المؤمنين علي بن أپي طالب كرم الله وجهه، وعن ابنيه الكريمين الحسن والحسين وزوجه فاطمة الزهراء، رضي الله عنهم أجمعين.

 وينبغي هنا أن نعيد إلى الأذهان أن الدولة العُبيدية تأسست في  الجزائر وتركت بصماتها على سكان الجزائر وعلى عواطفهم واتجاهاتهم قبل أن تنتقل إلى القاهرة.

 هذا؛ وإن حب الجزائريين لآل البيت جعلهم يسمون أپناءهم وبناتهم بالأسماء التي ترتبط بهذه الشجرة النبوية الشريفة، يسمون سيد علي، وفاطمة، والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين.