الوحدة الإسلاميّة دراسة في الطريق العمليّة لتحقيقها

الوحدة الإسلاميّة دراسة في الطريق العمليّة لتحقيقها

 

 

الوحدة الإسلاميّة دراسة في الطريق العمليّة لتحقيقها

 

مصطفى قصير العاملي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمّد وآله الطاهرين.

قال تعالى في محكم كتابه:

﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم﴾([1]).

هذه الآيات الشريفة وآيات أخرى ليست قليلةً وردت في الذكر الحكيم تدعو المسلمين إلى الالتفاف حول دين الله سبحانه وتعالى والاعتصام بحبله والتمسك بالكتاب الكريم وما جاء به الرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وآله ـ، كما تأمر هم بنبذ الفرقة والاختلاف والحفاظ على الوحدة والائتلاف.

(290)

﴿وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاقتون﴾([2]).

﴿وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إنّ الله مع الصابرين﴾([3]).

وعلى هذا النهج جرت السنة النبوية الشريفة وسنة الأئمة المعصومين ـ عليهم السلام ـ.

فقد ورد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أنّه قال:

«مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»([4]).وقال: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً»([5]).

وقال: «من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه»([6]).

وهذا النص الأخير روي من طرق الشيعة الإمامية أيضاً بهذا الشكل:

«من فارق جماعة المسلمين ؟ قال: «جماعة أهل الحق وأن قلوا»([7]).

من هذه النصوص يتبين أن الإسلام دين الوحدة، دين الألفة والمودة، دين الاجتماع والتكاليف، الإسلام دين أساسه كلمة التوحيد، والإخلاص، والناس كلهم عباد الله ﴿إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم﴾([8]).

العبادات الإسلاميّة والأحكام الشرعية تجسد هذا المنهج القويم وتكرس هذا الاتجاه.

فصلاة الجماعة مثلاً، عبادة يومية جعلت منها الشريعة المقدسة مظهراً من مظاهر

(291)

الاتحاد والتآلف، فهم يجتمعون عدة مرات في اليوم الواحد في تظاهرة وحدوية تنظم صفوفهم خلف إمام واحد، في اتجاه واحد، وقلوبهم نحو هدف واحد، هو طاعة الله وامتثال أمره وأداء فرضه.

وصلاة الجمعة، مظهر آخر من مظاهر الاتحاد والاجتماع، وهي دورة تعبوية إسلامية، سياسية وعبادية ضمن المنهج الإسلامي.

والأعياد الإسلاميّة العظيمة أيضاً تظاهر اتحاد وتآلف بين المسلمين، فعن الإمام الرضا ـ عليه السلام ـ وقد سئل عن علة جعل يوم الفطر عيداً، قال: «لأن يكون للمسلمين مجمعاً يجتمعون في ويبرزون إلى الله عز وجل فيحمدونه على ما من عليهم، فيكون يوم عيد ويوم اجتماع ويوم فطر ويوم زكاة ويوم رغبة ويوم تضرع»([9]).

ولعل حج بيت الله الحرام من أبرز المظاهر العبادية التي تيجلى من خلالها الجانب الوحدوي، إذ انه أعظم مؤتمر يجتمع إليه المسلمين من جميع أقطار الدنيا تلبية لنداء ربهم، وليؤدوا مناسكهم في عبادة جماعية تضم المسلمين على اختلاف لغاتهم وألوانهم وأجناسهم وأحوالهم، في قلوب خاشعة خاضعة لم يوحدها سوى الإسلام ولم يجمع بينها إلاّ التقوى.

هذه العبادات اليومية والموسمية التي شرعها الدين الإسلامي وغيرها محمّد العبادات والأحكام الأخرى تكشف عن اهتمام الشريعة المقدسة ببناء مجتمع متحد متعاون متكافل كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص ولقد أكد الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ أهمية الألفة والاتحاد منذ للحظات الأولى لدخول المدينة المنورة، ونفذ ذلك عملياً في حركة التآخي الفريدة فآخى بين المهاجرين والأنصار وبين الأنصار أنفسهم والمهاجرين أنفسهم، فقد كان المجتمع الإسلامي آنذاك في مستهل تشكيله وفي بداية نشوئه، وهو مقبل

(292)

على امتحان عسير تفرضه طبيعة الدين الجديد والوضع السياسي المحيط بالمدينة المنورة، فهو أحوج ما يكون إلى الاتحاد ورص الصفوف وإزالة جميع عوالم الاختلاف والتفرق ليتمكن ـ على ضعف امكاناته ـ من الصمود في وجه الأعاصير التي توشك أن تعصف من مختلف الاتجاهات.

لقد قام ـ صلى الله عليه وآله ـ بالمؤاخاة بين المسلمين ليجعل من الإسلام محور وحدتهم واساس ارتباطهم وقطب حركتهم، وليجعل هذه القرابة الجديدة أقوى من قرابة الرحم والنسب وليجعل هذه الرابطة أوثق من رابطة القبيلة والوطن. لقد قضى بذلك ـ صلى الله عليه وآله ـ على العصبيات الجاهلية والنزعات المختلفة التي كانت تمزق المجتمع آنذاك وأحل محلها حالة من الالفة والاخوة لم يذق ذلك المجتمع طعمها من قبل، فصنع من ذلك المجتمع الناشئ الصغير قوة كبرى دافعت عن الإسلام واحتضنته بقوة وأفشلت كلّ المؤامرات التي استهدفت القضاء عليه، ثم حملت رايته المنتصرة لترفعها فوق ربوع الجزيرة العربية في مدة يسيرة ثم منها إلى أقطار المعمورة. إنّ من فضول القول الحديث عن اهتمام الإسلام بالاتحاد والألفة، ورفضه لعوامل التشتت والنزاع.

 

عوامل التشتت والافتراق:

قد يتصور بعضنا أن الحديث عن «الوحدة الإسلاميّة» في هذا العصر فيه نوع من المثالية وضرب من الخيال، نظراً لما آل إليه المسلمون من التفرق والاختلاف حتّى أصبحوا طرائق قدداً، الأمر الذي يجعل من لم الشمل واعادة اللحمة قضية عسيرة جداً.

وهذه بالحقيقة يدفع الكثيرين إلى اليأس والاستسلام للواقع المرّ، وهو لا يزيد الشقة إلاّ عمقاً والجرح إلاّ اتساعاً.

وفي المقابل هناك العديد من المخلصين الّذين نذروا أنفسهم للتقريب بين المذاهب

(293)

الإسلاميّة وسعوا جهدهم لردم الهوة المصطنعة وتضميد الجراح هؤلاء انطلقوا في جهودهم تلك على أساس من الإحساس بالمسؤولية والشعور بالتكليف الشرعية والحرص على وحدة الصف.

وكل سعي في هذا المجال إذا أريد له النجاح فلابد أن يقوم أولاً على دراسة وافية لعوامل وتحصين المجتمع الإسلامي ضدها، واستبدال دواعي الاتحاد والآلفة بها، ويمكن تقسم تلك العوامل إلى قسمين:

القسم الأول: عوالم داخلية.

والقسم الثاني: عوامل خارجية.

العوامل الداخلية:

فتتمثل في النوازع البشرية المختلفة من قبيل حب الرئاسة والتسلط وحب الذات ولو على حساب حقوق الآخرين مما يدفع إلى الظلم والجور، والإقبال على الدنيا بما يتجاوز الحدود الطبيعية، وهذه الأمور هي الأساس الذي يتولد عنه النزاع والضغائن والأحقاد، وربما جرت إلى التعدي والطغيان وسفك الدماء وسحق الحريات، وما إلى ذلك من التجاوزات التي تفتت المجتمع وتشتت الأمة، كما أن الجهل يشكل عاملاً مهماً في بث الفرقة.

وهذا النوع من العوامل لا يخلو منه مجتمع بشري منذ بداية الخليفة وحتى الآن، ولعل من أهم أهداف الدين الإسلامي بل الأديان السماوية كافة معالجة هذه النزعات البشرية والقضاء عليها وذلك من خلال البرامج التربوية والقوانين الشرعية.

ونظام العبادات في الإسلام يهدف إلى هذه النقطة عندما يربي الإنسان على العبودية لله والطاعة المطلقة ويحرره من قيود الشهوات الحيوانية والنوازع النفسانية.

(294)

كما أن الدراسات الأخلاقية تتكفل بمعالجة هذا الجانب، ووظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حقيقتها تشكل حالة من التكافل الاجتماعي للوقاية من تلك الأمراض، ونظام الحدود والتعزيرات أيضاً شرع لذلك الغرض.

العوامل الخارجية:

ونقصد بها العوامل الدخيلة على المجتمع الإسلامي، والتي تستهدف تجزئته وتحطيم الأواصر، وبث الفرقة، وإثارة النزاعات والحروب لا ضعاف هذا المجتمع والسيطرة عليه، أو تشويه الإسلام والحيلولة دون انتشاره واتساع رقعته.

وقد يستفيد المخططون لهذه الأهداف من القسم الأول من العوامل ويعملون على تنميتها واستغلالها كأدواتٍ فعالة لخدمة مآربهم، ونحن إنما فصلناها لأنها في نفسها تشكل أحياناً عوامل مستقلة وأن كانت أيضاً بالنسبة للقسم الثاني تشكل أرضية ملائمة لها وأدوات فعالة لخدمتها.

وبالطبع فإن أعداء الإسلام الّذين يتربصون بنا الدوائر قد يستفيدون من الكثير من نقاط الضعف وينفذون إلى مخططاتهم من خلال العديد من الثغرات، ويستخدمون من الأدوات ما يتيسر لهم، وقد تختلف هذه الأدوات من زمان إلى زمان ومن مكان إلى آخر، وقد تصبغ الأدوات أحياناً بصبغة دينية، وأخرى بصبغة اقتصادية، وربما استخدمت وسائل محلية تخفى على الكثيرين ولا يدرك حقيقتها إلاّ ذو والبصائر.

وأشد الأدوات فتكاً تلك التي تعمل بوحي الأعداء دون أن تدري، بل ربما تصورت نفسها تخدم الدين وتحرص على مصالح المسلمين.

دور الخلافات الفكرية والمذهبية:

هناك رؤية مفادها أن الخلافات الفكرية والمذهبية على مستوى المعتقد وعلى مستوى المنهج الفقهي والأصولي تشكل عاملاً أساسياً من عوامل التشتت والافتراق،

(295)

وسداً منيعاً أمام كلّ مساعي الوحدة والتقارب بين المذاهب الإسلاميّة، ولأجل هذا كرس أصحاب هذه الرؤية كلّ جهودهم في مجال معالجة هذه الخلافات فراحوا يبحثون تارة عن نقاط الالتقاء وأخرى عن الطرق التي ربما توصل إلى تقريب وجهات النظر في مسائل الخلاف. ولعل بعضهم قد حقق نجاحاً ملموساً في هذا المضمار إلاّ أنّه بقي محصوراً في حدود دائرة ضيقة، ولم تحل المشكل جذرياً.

والحقيقة أن الاختلافات الفكرية لا تشكل عاملاً من عوامل الافتراق بقدر ما هي أداة تستخدم في اثارة النزاعات، وقد استخدمت بالفعل وجعلت أساساً لذلك.

إنّ الخلافات الفكرية بمنزلة اختلاف اللغة واختلاف القومية وأمثال ذلك، ليست في وقاعها من عوامل الافتراق والنزاع، ولكنها تستغل من قبل دعاة التفرقة والتجزئة وتشكل أرضية خصبة لنشاطهم.

الخلافات الفكرية قد تكون في نفسها دليل حياة ودليل قوة شرط أن تكون وليدة حالة طبيعة وأن تبقى في حدود الدائرة الكفرية، فتعدد الآراء والنظريات من شأنه أن يثري الحركة الفكرية ويدفعها نحو التكامل والرشد. نعم هناك حالات من الخلاف الفكري تنشأ من التقليد الأعمى والتعصب البغيض، فتولد حالة القصور الفكري والجمود، وهذه بلاشك من الأمراض التي تتطلب العلاج.

في الساحة الإسلاميّة هناك: نوعان من الخلاف الفكري:

النوع الأول: الخلاف بين المسلمين وغيرهم ممن لا يعتنقون الدين الإسلامي من الملاحدة أو أهل الكتاب، ولا شك أن هذه الدائرة من الخلاف ليست محل كلامنا، ولكنها يمكن أن تؤخذ نموذجاً لدراسة المنهج الذي رسمه الإسلام لنا في كيفية التعامل مع الخلافات الفكرية بشكل عام، وهذا النوع بشكل خاص.

ففي دائرة الخلاف مع الملحدين، لا يقطع الإسلام حبل الوصال معهم وإنّما هو

(296)

يخاطب عقولهم باعتبار أنّه القدر المشترك بين كلّ البشر، ويتابع منهج الحوار الفكري ما دام ذلك ممكنا. إذ أن هدف الإسلام الأساسي هو الوصول بالناس ـ كلّ الناس ـ إلى الحق والارتباط بالحق ليس أكثر.

﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إنّ ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين﴾([10]).

ولم ينكر الإسلام على الناس الشك في شيء إذا كان ذلك في طريق طلب الحقيقة وفي سبيل الوصول إلى اليقين، وإنّما انكر على المشككين الّذين يرفضون الحقيقة دون حجة ولا بينة، يدفعهم إلى ذلك حالة العناد والتقليد الاعمى هذا هو المنهج القرآني في طرح الحقيقة والدعوة إليها؛ فهو تارة يدعوهم للتدبر في الآيات الكونية وأخرى يطلب منهم التأمل بأنفسهم وإعمال عقولهم وثالثة ينقض عليهم دعاواهم، وهكذا يرسم منهج الحوار مع الفكر ومخاطبة العقول.

ولا يلجأ إلى القوة والحسم إلاّ إذا مارسوا الطغيان ولجوا في العناد وتنكروا للعقل والدليل، وهو مع ذلك يترك الباب مفتوحاً إذا ما استجابوا لنداء العقل وتخلوا عن العناد ورضوا بالحق.

ومن النوع الأول أيضاً الخلاف مع أهل الكتاب، لكن المسألة هنا تختلف من حيث سعة دائرة المشتركات، فهم يؤمنون بالله ويصدقون بالمعاد وبوجود الرسالات السماوية ـ بالجملة ـ فالحوار معهم كان مبنياً على أساس المسلمات المشتركة:

﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن، إلاّ الّذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون﴾([11]).

﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلاّ الله ولا نشرك

(297)

به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون﴾([12]).

وكذلك هنا لا يخرج عن دائرة الحوار الفكري ومخاطبة العقول والاحتجاج بالمسلمات عندهم واقامة الدليل والبرهان، إلاّ إذا أعرضوا عن هذا الأسلوب وأخذتهم العصبية ولجوا في العناد، وهو مع ذلك يتدرج معهم في المقارعة والنزاع:

﴿فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين﴾([13]).

فإذا تجاوزوا ذلك ـ وقد تجاوزوه بالفعل، وأخذوا يتآمرون على الإسلام والمسلمين ـ كان لابد من الانتقال إلى ساحة الصراع العسكري واستعمال القوة.

النوع الثاني: الخلاف الفكري بين المسلمين أنفسهم.

هناك أصول مشتركة بين جميع المسلمين وهي الإيمان بالله وتوحيده وبنبوة الرسول محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ وبالقرآن الكريم كتاب الله المنزل وبالمعاد يوم القيامة.

ولا يشك أحد من المسلمين بأن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هما المصدران الرئيسان لمعرفة أحكام الشريعة والمعارف الإسلاميّة، ومع ذلك فهناك الكثير من الخلافات ترجع كلها إلى كيفية فهم الكتاب والسنة أحياناً، والى الطرق التي تثبت بها السنة النبوية الشريفة أحياناً أخرى.

فهي خلافات لا تمس الأصول الأساسية للشريعة وإنّما هي خلافات فكرية داخل إطار تلك الأصول تمليها طبيعة تعدد الأنظار والآراء وتفاوت درجات الإدراك والفهم. وهو من ثم أمر لابد منه في الجملة.

ومن المسلم أن هناك: بعض الظروف التي قد تلعب دوراً في تعميق هذه الخلافات

(298)

وتطويرها، فتخلق الأرضية المناسبة لاستغلالها من قبل أعداء الإسلام، وهذه الظروف كما يلي:

1 ـ التأثر بالأجواء الاجتماعية الموروثة أو الدخيلة على المجتمع الإسلامي والتي تطبع الفكر بطابع خاص وتجعله أسيراً لنهج فكري معين يقوده إلى الوقوع في انحرافات أو سلوك اتجاه قد لا يصيب الحقيقة.

2 ـ التأثر بذوي النفوذ السياسي أو المكانة الاجتماعية الذي يجر عادة إلى اتباع منهجهم الفكري والابتعاد عن المناهج الأخرى، ومن ثم يتحول ذلك إلى مذهب خاص له مؤيدوه والمدافعون عنه.

3 ـ الميول والمصالح السياسية والاقتصادية التي لها تأثيرها الكبير في تبني نوع خاص من الرؤية بما يتناسب مع تلك الميول، وقد تدفع أحياناً إلى تشجيع الوضاعين والدساسين الّذين يتاجرون بالدين لمآرب شخصية، فيقومون بوضع الحديث، أو اختلاف تفسير وتأويل خاص يخدم تلك المصالح، فيؤدي إلى اختلاط الحق على الناس، وينشأ عنه تعدد في النظرات والآراء وربما أدى إلى ولادة فرقة أو مذهب.

4 ـ من أسباب تعميق الخلاف، الحركات السرية للمنافقين واليهود الّذين يهدفون إلى زعزعة أركان الدين الإسلامي وتشويه حقائقه، وذلك عبر أساليب كثيرة، كإثارة الشبهات والتشكيكات، وإدخال بعض الأفكار الغريبة بطريق وآخر، وربما مارسوا عملية الوضع أيضاً بالاتجاه الذي يخدم أهواءهم. وهذا النمط من العوامل أوجد هذه الكمية من الإسرائيليات التي ابتلي بها الحديث عندنا.

5 ـ والأهم من كلّ هذه الأمور، الدور الذي يلعبه أعداء الإسلام، باستغلال هذه العوامل والاستفادة منها في إثارة النزاعات وبذر الشقاق، وبث العداوات، وقد شهد القرن الأخير تصعيداً في هذا النشاط وحقق المستعمرون أغراضهم ومآربهم، عندما

(299)

عمدوا إلى تقسيم العالم الإسلامي على أساس القوميات واختلاف اللغات والأقاليم، وأثيرت الحروب بين المسلمين لأغراض لا تخدم إلاّ الاستعمار، وقد هزم المسلمون يوم تناسوا المشتركات بينهم والمصالح العامة، وتخلوا عن أسس وحدتهم وحبل اعتصامهم الذي يجمعهم ويؤلف بينهم وقدموا الانتساب إلى القومية والى الاقليم والى اللغة على الانتساب إلى الدين، على خلاف تعاليم الكتاب العزيز وسيرة الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وآله ـ.

ولقد استطاع المستعمرون أن يصنعوا من الوطن الإسلامي الكبير كيانات صغيرة متعددة فاقدة لمقومات القوة والحياة والاستمرار، وحرصوا أشد الحرص على إضعافها وخلق المعضلات السياسية والاقتصادية لها لكي تبقى أسيرة الحاجة وفريسة الصراعات، ليتسنى لهم التحكم بمصائر شعوبها والسيطرة على ثرواتها ومقدراتها.

العالم الإسلامي اليوم وبسبب أولئك المستعمرين بات يشكل بؤرة الفقر والفاقة وميدان الصراعات المعقدة، بينما تدار عجلة الصناعة في الغرب بوقوده وزيته، وتقوم الماكنة الاقتصادية على خيراته وكنوزه المودعة فيه.

لم يعد أولئك المستعمرون اليوم بحاجة لإرسال قواتهم والمخاطرة بجيوشهم لقمع حركات التحرر، وتأديب من يفكر بالتمرد، أو يهدد مصالحهم الخاصة، فهم يمسكون بقياد الجيوش في أكثر البلاد الإسلاميّة، ويتحكمون بالدفة السياسية فيها، فعملاؤهم يكفونهم المؤونة ويؤدون المطلوب على أفضل وجه.

ولسنا بحاجة إلى شواهد لإثبات ذلك وفي كلّ يوم لنا شاهد، وكل لحظة لنا دليل.

 

عوامل أم أدوات؟

إنّ تعدد الآراء واختلاف وجهات النظر بين العلماء والمفكرين لا يشكلان حالة مرضية وإنّما هما دليل حياة، دليل حركة العقل والفكر، والمؤسف أن الكثير من

(300)

الناس يعتقد أن اختلاف وجهات النظر هو السبب الكامن وراء الفرقة والتشتت فتراهم يشعرون بالجزع والأسى إذا اختلف الفقهاء في الفتوى مثلاً، أو تباينت الآراء في مسألة معينة، وقد غفلوا عن حقيقة مفادها أن إلغاء مثل هذه الاختلافات لا يتم إلاّ إذا عطل الفكر عند البشر ومنع العقل من ممارسة نشاطه.

نعم إنّ اختلاف وجهات النظر ثغرة قد يستغلها الأعداء وزارعوا الفتن، فيتخذون منها ذريعة لبث الفرقة والنزاع والخصومة. ولأجل هذا يفترض بالمسلمين أن ينتبهوا إلى هذه الحقيقة ويتعاملوا مع الاختلافات الفكرية على أنها ظاهرة صحة، وأنها حالة طبيعية، ومن ثم يحصرونها في إطار البحث العلمي، ولا يسمحوا لها بالتعدي والتجاوز لتصبح أدوات فتك وأسلحة دمار.

ولعل أوضح دليل على ما نقول، ما نجده من اختلاف الآراء بين علماء الفريق الواحد الذي قد يبلغ مقداراً لا يقل عن اختلاف الآراء بين الفرق المتعددة، ومع ذلك لا يؤدي في الحالة الأولى إلى الخصومة والنزاع بينما في الحالة الثانية يشكل مادة لذلك. والسبب يمكنن في طبيعة التعاطي مع تلك الاختلافات واستغلالها تارة في النزاع والخصومة وعدم استغلالها أخرى.

فاختلاف الآراء ليس عاملاً من عوامل الفرقة والتشتت بمقدار ما هو أداة تستغل فيها، مثله مثل السلاح الذي يدخر لحالات النزاع والحرب، فقرار الحرب لا يتولد عن وجود السلاح وإنّما يتخذ لتوفر عوالم أخرى تؤدي إلى إشعال ناره، فإذا اتخذ قرار الحرب لجأ كل فريق إلى أسلحته ليفتك بالآخر.

وما نشاهده اليوم عندما تشهر المسائل الخلافية في النزاعات المذهبية فهو من هذا القبيل.

فلابد إذن أن نميز بين عوامل الافتراق والتشتت وبين الأدوات التي تستخدم فيه.

(301)

ومن ثم يفترض أن ينطلق العلاج على أساس القضاء على العوامل وصيانة الأدوات عن الأعداء وعدم السماح لهم باستغلالها.

 

خطوات عملية في طريق الوحدة:

من خلال الاستعراض المتقدم يمكن أن نخلص إلى وضع برنامج توحيدي يتمثل بخطوات:

أولاً: ليس من الضروري أبداً تركيز الجهود التقريبية على أساس تقريب وجهات النظر، وتعليق كلّ الآمال على النجاح في هذا الجانب، وأن كان تقريب وجهات النظر والتقليل من الخلافات الفكرية في نفسه مطلوباً.

ثانياً: الإسلام واحد والحقيقة واحدة، والاختلافات ناتجة من اختلاف النظر وطريقة الفهم، فهي وليدة قصور الفكر البشري، وأثر الحوار الفكري في الأجواء الطبيعية كبير جداً في تكامل ذلك الفكر واقترابه من الحقيقة، فالمفترض أن يحرص الجميع على توفير الأجواء الملائمة والظروف الصحية للحوارات الفكرية وتشجيعها ورعايتها.

ثالثاً: الخطوات العملية على طريق وحدة المسلمين لا تنتظر نتائج الحوارات الفكرية ولا تتوقف عليها، بل تنطلق على قاعدة المشتركات التي وحدنا الإسلام على أساسها، وهي شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ.

فمن قالها حقن دمه وعصم ماله، وصار له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وهذه أهم قاعدة توحيدية.

رابعاً: قراءة كلّ فريق لغيره من الفرق لابد أن تكون بعين الباحث عن الحقيقة والواقع، لا بعين الباحث عن العيوب والثغرات، وتقصي العثرات، فإن الكثير من الأقلام التي تصدت لدراسة الفرق والمذاهب، لم تتجرد عن عصبياتها وعدائها المسبق للفرق

(302)

الأخرى، فساهمت لتك الكتابات بتعميق الجراحات وتشويه الصور.

في هذا المجال أحب أن أشير إلى أن القراءة الصحيحة للمذاهب والفرق هي التي تعتمد على ما كتبه أصحاب تلك المذاهب وعلماء تلك الفرق، يجب الرجوع إلى أهل الآراء لمعرفة آرائهم، فهم أقدر على عرضها وأدق في تصويرها، وتصوير أدلتها.

أما إذا رجع الباحث في دراسته لفرقة من الفرق ولمذهب من المذاهب إلى مخالفيهم فلن يحصل على نتائج دقيقة ولن يرى تمام الحقيقة ولن يقف على تفصيل معتقداتهم وآرائهم. والمؤسف أن هذا يحدث كثيراً بيننا وبعض منا يبني نظراته تجاه الآخرين على ذلك.

قد تسمع بحادثة بسيطة وشجار مختصر بين اثنين من أصحابك، وتكون في ذهنك صورة من خلال ما سمعت، لكنك ستفاجأ إذا استمعت إلى ذوي العلاقة لمقدار الاختلاف بين الواقع والنقل، هذا مع اتحاد الواسطة فكيف إذا تعددت، وكيف إذا رافق ذلك سوء ظن وعصبية وما شابه.

فنحن ندعو الباحثين إلى التجرد، والتحلي بالإنصاف، وأخذ معلوماتهم من المنابع الصافية والمصادر المباشرة.

وهناك نقاط أخرى يجدر الإشارة إليها، تتعلق بكيفية دراسة فكر الآخرين والتعرف على آرائهم.

الأولى: التفريق بين الرواية والرأي، فإن وجود رواية في كتب قوم لا يدل أبداً على أنهم يفتون بمضمونها أو يعتقدون صحتها ويعملون بها، فكثيراً ما نراهم يثبتون النصوص في مصادرهم ويتركون أمر دراستها إلى مجال آخر أو إلى أهل الفن، فربما ناقشوا سندها أو متنها، وربما كانت معارضة بغيرها، وربما كان تخالف الكتاب أو السنة القطعية مما يقتضي طرحها. والنتيجة أنّه لا تلازم بين الرواية والاعتقاد.

(303)

الثانية: رأي أحد العلماء لا يمثل أبداً رأي الطائفة أو المذهب، وأن كان منتسباً إليهما. فكثيراً ما ينفرد شخص برأي خاص في مسألة من المسائل أو فرع من الفروع بينما يكون رأي الطائفة على خلافه، فلا يصح تحميل الطائفة ذلك الرأي. وهذا الخطأ قد وقع فيه بعض الباحثين، حيث وجهوا انتقاداتهم للطائفة بناء على ذلك القول الشاذ.

ولمعرفة رأي طائفة معينة في مسألة من المسائل لابد من ملاحظة ما يجمعون عليه أو ما يكون مشهوراً بينهم يذهب إليه أغلب علمائهم ومفكريهم، ولا ينظر إلى الشاذ.

الثالثة: يفترض بالباحث أن يعتمد الأسلوب العلمي بالبحث، وأن يتجنب المغالطات، والدخول في النزاعات المبنائية، ونقصد بها المسائل الخلافية التي يرجع الخلاف فيها إلى الاختلاف على المبنى العلمي المعتمد، فمثلاً قد يكون هناك قاعدة أصولية مقبولة عند شخص غير مقبولة عند آخر، أو رواية تصح بحسب قواعد هذا الفريق ولا تصح على وقاعد ذاك الفريق، فلابد من حصر البحث في القاعدة المختلف فيها وسوق الأدلة لإثبات أو نفي ذلك المبنى، دون الدخول في الفروع المرتبة التي ستكون بطبعها تابعة للمباني.

وأخيراً فإنه ليس من الضروري أبداً نقل الخلافات إلى دائرة أوسع والالتزام بما لا يلزم، وترتيب آثار العداء تجاه من نختلف معهم إذا لم نوفق من خلال الحوار للوصول إلى وفاقٍ في الرأي واتفاق في النظر.

وبعبارة أخرى لابد من حصر الخلافات الفكرية في دائرتها وعدم السماح لأعدائنا باستغلالها والاستفادة منها، وعندئذ لن يكون هناك أي محذور من فتح الحوارات وتشكيل الندوات لتدارس نقاط الخلاف، ولابد من تناسي الخلافات المذهبية وكتمانها فيما لو ظهر من أعداء الإسلام أي تحرك للعب على وترها.

ومن الخطوات العملية في مجال التقريب ولم الشمل إزالة الحاجز النفسي المصطنع

(204)

الذي وضعه أعداؤنا بين أتباع الفرق والمذاهب المختلفة، وهذا الأمر له أهمية كبرى للوصول إلى الصورة الحقيقية والرؤية الصحيحة بعضنا لبعض. فإن البعد والجفاء يترك أسوأ الأثر على النفوس ويزرع الضغائن والأحقاد، ومن ثم يمهد الطريق لمثيري الفتن والنزاعات.

فنحن ندعو المجاميع العلمية والحوزات والمعاهد عند المذاهب الإسلاميّة كافة أن تنفتح على بعضها، وتضع حداً لهذا الانغلاق على النفس، نحن ندعو علماء المذاهب والفرق الإسلاميّة لزيارة حوزاتنا العلمية ومعاهدنا وحضور الندوات والمباحثات العلمية، لا نقصد الزيارات الرسمية والدبلماسية، وإنّما نعني الزيارات الاستطلاعية العلمية المفتوحة من حيث الزمان، وبالمقابل نأمل أن يقوم علماء ومفكرو الشيعة بزيارات مماثلة باتجاه المذاهب الأخرى.

الجامعات والمؤسسات العلمية بإمكانها أيضاً أن تؤدي دوراً فعالاً في هذا المجال وذلك بافتتاح أقسام خاصة لدراسة المذاهب الإسلاميّة شرط أن يعهد إلى أساتذة كفوئين من كلّ مذهب إسلامي لتدريس مذهبهم.

لماذا يضع كلّ فريق سداً فولاذياً أمام النتاجات الفكرية للفريق الآخر، ولا تدرس إلاّ بخلفية البحث عن العيوب والثغرات، إذا كنا نريد الحفاظ على نقاوة الفكر وصفائه فلابد من إطلاق عنانه واعطائه حريته.

لا يفوتنا أن نسجل أسفنا لما يعانيه الكتاب الشيعي في العديد من البلاد الإسلاميّة من حصار وحظر. فإن بعضهم يضع الكتاب الشيعي في لائحة الكتب الممنوعة، ويتعامل معه أسوأ مما يتعامل مع كتب الكفر والضلال.

لماذا يمنع الملايين من المسلمين المثقفين من الاطلاع على واقع المذاهب الأخرى بينما يباح لهم قراءة المطبوعات المشحونة بالكفر والانحراف والفساد الأخلاقي؟

(305)

لماذا يسمح للإعلام الغربي المعادي للإسلام بالدخول إلى كلّ بيت ومكتب ومدرسة من بلادنا الإسلاميّة، ولا يسمح للأعلام الإسلامي أن يأخذ مكانه ؟ إنه الواقع الأليم الذي نعيشه في العديد من البلاد.

 

مطلق الاتحاد أو الاتحاد في دائرة الحق:

لاشك أن الاتحاد عامل قوة، وكل مسلم في أعماقه رغبة شديدة وشوق كبير لرؤية الإسلام يشمخ علواً، وترف رايته على كلّ رابية، كلّ مسلم يحب أن يرى العالم الإسلامي قوياً عزيزاً منيعاً. والإسلام عندما يدعو للالتزام بالجماعة وإصلاح ذات البين وينهى عن الفرقة والتشتت يري بذلك التمحور حول الدين وحول الحق الذي جاء به الدين، و إلاّ فإن الاتفاق على كلمة الكفر والالتزام بالجماعة وان كانت على باطل مما لا يمكن أن يدعو إليه الدين ولا يحبه الله.

وقد ورد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أنّه قال:

«جماعة أمتي أهل الحق وأن قلوا»([14]).

وعنه ـ صلى الله عليه وآله ـ أيضاً:

«إنّ القليل من المؤمنين كثير»([15]).

وورد عن أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ قوله:

«الجماعة أهل الحق وأن كانوا قليلاً والفرقة أهل الباطل وان كانوا كثيراً»([16]).

فالكثرة بما هي كثرة ليست غاية في نظر الإسلام وإنّما المطلوب هو التزام سبيل اله والاجتماع على هذا السبيل والاتفاق عليه، لا مجرد الاتفاق والاجتماع كيفما كان وكيفما اتفق، وعلى هذا الأساس يمكن أن نفهم مراد الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ من الجماعة في

(306)

الأحاديث المروية عنه في النهي عن مفارقة الجماعة، فإنه ليس المقصود مطلق الجماعة ولو كانوا جماعة الباطل وأعداء الدين، ولذا كان التعبير الوارد في بعض النصوص «جماعة المسلمين». فالحق هو الملاك، والإسلام هو الغابة، والاجتماع عليه يكسبه قوة ومنعة ويحقق أهدافه.

الوحدة والتبليغ للمذهب:

كلّ فرد منا يحمل قناعات ويتبنى آراءً، ويحب أن يعرض هذه القناعات والآراء على الآخرين إما باعتبار أنها من نتاجات فكره أو لأنها هي الحق والصواب بنظره، وإذا توسعنا قليلاً نجد أن أصحاب المدارس الفكرية كذلك يحبون عرض مدرستهم ودعمها بالأدلة والبراهية والدفاع عنها، وكذلك الأمر على مستوى المذاهب والفرق الكبيرة، فقد يتوهم بعضهم أن التبليغ والدعوة لمذهب معين ينافي الوحدة والاجتماع ويؤدي إلى الفرقة والخلاف.

والحقيقة أن التبليغ والدعوة في جوهرهما لا يؤديان إلى ذلك ما لم ترافقهما حالة من التعصب، وحالة من الجمود الفكري، وإذ تجاوز الداعية والمبلغ حدود الحوار الفكري إلى التربص بالآخرين والسعي لحذفهم وإسقاطهم.

ونعم ما قيل في أن «الصراع الفكري دليل صحة ودليل يقظة مالم يؤد إلى انشقاق في صفوف الأمة ومواجهة عدائية»([17])، وهذا مما لا يحصل عادة في الأطر الصحيحة لعرض الأفكار والآراء وفي أجواء الحوار الفكري الخالص من شوائب الحقد والتعصب.

وهل يمكن للأمة أن تبلغ رشدها الفكري إذا أوصدت باب حرية الفكر وسدت منافذ الحوار وجمدت الطاقات المخزونا ً في العقول البشرية؟

(307)

والفرق كبير بين الاقتناع بالفكرة وتبني الرأي وبين التعصب لهما، بين قبول العقيدة لأن الدليل ساقه إليها وبين التقليد الأعمى، بين الحوار من أجل الوصول إلى الصواب وبين الجدال بهدف إفحام الآخرين وتبكيتهم واسقاطهم.

والنتيجة أنا لا نرى أن من الشروط العملية للوحدة منع أرباب الفرق والمذاهب من الدعوة والتبليغ، بل ندعو لنبذ العصبية، والتجرد عن النظرة العدائية لبعضنا تجاه بعضنا الآخر، ثم ليعرض كلّ إنسان فكره وعقيدته، وليكن ميزان العقل هو الأساس في قبول ذلك أورده.

لقد اتبع هذا الأسلوب اكبر العلماء من مختلف المذاهب، لم يحل الاختلاف الفكري بين اجتماعهم وتحاورهم وأخذ بعضهم عن بعض وإذا كان الاجتهاد قد قاد بعضهم إلى رأي، فإنه قد ساق الآخرين إلى رأي آخر، وما دام الدليل هو المحكم فالأمر في إطاره الصحيح وطريقه السليم نعم عندما يحاول أحد أن يفرض رأيه فرضاً، وأن يقبل الدليل والبرهان إذا كانا يؤيدان فكرته ويرفضهما إذا لم يكونا كذلك، فعندئذ يمكن أن يقال أن هذا النحو من الصراع ـ الذي قد يسمى فكرياً وليس كذلك ـ أول الطريق نحو التشتت والفرقة وليس الإعلان بالرأي والدعوة إليه هو السبب في ذلك، وإنّما المشكلة مشكلة أولئك الذي لا يتحملون الحوار الفكري القائم على القواعد الاستدلالية، ويتأذون ممن لا يقبل آراءهم أو ينقدها.

وكلمة أخيرة:

إنّ زرع وتنمية روح الأخوة وتقبل الحقيقة وغسل القلوب مرحلة متقدمة رتبة على الحوارات الفكرية، بل هي أرضية لابد منها لإنجاحها وتحقيق مآربها، و إلاّ كانت الحوارات ساحة لإشعال نار النزاعات وتغذية الصراعات.

(308)

أن دعاة التفرقة مرجفون ـ حسب تعبير الشيخ شلتوت ـ يتربصون بنا الدوائر ولا يعجبهم أن يروا المسلمين يداً واحدة على أعدائهم، وصفاً واحداً في مواجهتم.

إذا كان «إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصوم»([18])، فلأن فيه حفظ الإسلام وقوته وتماسك أهله. ولأجله قال ـ صلى الله عليه وآله ـ في تتمة الحديث:

وان المبيرة الحالقة للدين فساد ذات البين، ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم([19]).

([1]) ـ آل عمران: 103 ـ 105.

([2]) ـ المؤمنون: 52.

([3]) ـ الأنفال: 46.

([4]) ـ صحيح مسلم بشرح النووي 16: 140.

([5]) ـ صحيح مسلم بشرح النووي 16: 139.

([6]) ـ كنز العمال للمتقي الهندي 1: 886، وفي معناه بألفاظ متقاربة 1: 1039 ـ 1045.

([7]) ـ المجلسي: بحار الأنوار 27: 67.

([8]) ـ الحجرات: 13.

([9]) ـ المجلسي: بحار الأنوار 90: 362.

([10]) ـ النحل: 125.

([11]) ـ العنكبوت: 46.

([12]) ـ آل عمران: 64.

([13]) ـ آل عمران: 61.

([14]) ـ المجلسي: بحار الأنوار 2: 265 و 27: 67.

([15]) ـ المجلسي، بحار الأنوار 2: 266.

([16]) ـ المجلسي، بحار الأنوار 2: 266.

([17]) ـ في سبيل الوحدة الإسلاميّة: 59.

([18]) ـ المتقي الهندي، كنز العمال 2: 5487، والمجلسي، بحار الأنوار 76: 43 عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ.

([19]) ـ الكليني، الكافي 7: 5130.