دور الأخلاق الإسلامية في إيجاد الوحدة والأخوة الإسلاميّة

دور الأخلاق الإسلامية في إيجاد الوحدة والأخوة الإسلاميّة

 

 

دور الأخلاق الإسلامية في إيجاد الوحدة والأخوة الإسلاميّة

 

 

محمّد علي الطريفي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمّد صاحب الخلق العظيم وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد..

فإني أقدم بين يدي القارئ الكريم هذا البحث المتواضع تحت عنوان دور الأخلاق الإسلاميّة في إيجاد الوحدة والأخوة الإسلاميّة وقد جعلت ذلك ضمن مقدمة تمهيدية، وثلاثة أبواب وكل باب يحتوي على فصلين، ثم خاتمة، وعلى النحو الآتي:

الباب الأول: في أخلاق المجتمعات قبل الإسلام.

الباب الثاني: في أخلاق المجتمع بعد الإسلام.

الباب الثالث: في أخلاق المجتمعات من غير المسلمين.

المقدمة:

الأخلاق هي تلك الخلال والأحوال التي يتصف بها الفرد أو الجماعة حميدة كانت أو ذميمة، وتعتبر الأخلاق من الصفات والسجايا التي تكون ملازمة لصاحبها ولكن

(312)

على ضوء الحديث الذي ورد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ «وخالق الناس بخلق حسن» يمكن للإنسان أن يقول أن التعبير بالمخالفة يفيد أن أخلاق الفرد وسلوكه قد تتحول وتتبدل من قبح إلى حسن، ومن حسن إلى قبح، يقول بعضهم:

لإن كانت الدنيا انالتك ثروة فأصبحت ذا يسر وقد كنت ذا عسر لقد كشف الإثراء عنك مخازيا من اللؤم كانت تحت ستر من الفقر فالشاعر يعني بذلك تغير أخلاق الشخص الذي هجاه ويقول آخر:

كتبت إليهم كتباً مراراً فلم يرجع إلي لها جواب وما أدرى أغيرهم تناء وبعد الدار أم مالاً اصابوا فالأخلاق هي التي تميز مكانة الأفراد والجماعات، والأمم والشعوب، من حيث الرفع والوضع، والسمو والخفض، ومن حيث البقاء والفناء، فما سمت أمة من الأمم إلاّ بعظيم أخلاقها، وما انحطت أمة من الأمم إلاّ بذميم أخلاقها ولله در من يقول:

وإنّما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

فإن ساءت أخلاق أمة أو شعب من الشعوب فقد هوى إلى منحدر سحيق، قال الشاعر:

وإذا أصيب القوم من أخلاقهم فأقم عليهم مأتماً وعويلا

هذا ولمكانة الأخلاق من النظر والاعتبار وعلو الشأن والأذكار فإننا نجد رسول الإسلام ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول في حديثه الشريف: «إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ويقول ـ صلى الله عليه وآله ـ أيضاً في مقام الحمد والشكر: «الحمد لله الذي جمل خلقي وخلقي» وقد مدحه ربه في محكم تنزيله بقوله: ﴿وانك لعلي خلق عظيم﴾([1]).

فما من شك أو ارتياب أن الأخلاق الحميدة ترتقي بها الأمم وترتفع بها أقدارها،

(313)

ويعز بها شأنها، ويهاب جانبها، ويقوى سلطانها، وتكتسب السمعة الطيبة، والثقة المطلقة في التعامل في العقود والمواثيق والعهود، وبذلك تسعد أفرادها، وتنمو مواردها، وتزدهر حياتها مما يكسب الفرد والجماعة، بل والأمة بين شعوب العالم حاضرهم وباديهم، مسلمهم وغير مسلمهم تلك الخصائص الأخلاقية من صدق وأمانة وعدل وإنصاف وجد واجتهاد وحزم وعزم وعهد ووفاء ووعد وإنجاز، وبذلك يتمتع أهل تلك الصفات برفعة فعساء فوق هامة الجوزاء، وسيكتب لهم بإذن الله حسن الأحدوثة وجميل الخلود والبقاء.

 

الباب الأول ـ أخلاق المجتمعات قبل الإسلام:

وفيه فصلان:

الفصل الأول ـ حميتهم وعصبيتهم:

لقد كانت المجتمعات قبل الإسلام تسودها حمية ثائرة، وعصبية هائجة تضطرب أمواجها بالفتن، وتعج بالبلايا والمحن، إذا أنها لم تكن تحتكم إلى قانون ينظم حياتها، ولم تنصع للائحة تخضع لضوابطها، فكانت حميتهم تثور لأدنى سبب من الأسباب وحروبهم تشتعل لأتفه الأمور، فرب بيت من الشعر يشعلها حرباً ضروساً يكون وقودها النساء والرجال، والشباب والأطفال، ولعلهم بذلك يطبقون قول القائل:

متى تحمل القلب الزكي وصارماً وأنفاژً حمياً تجتنبك المظالم

فكان التعدي والتقول على الآخرين سمة مميزة لهذه المجتمعات وكان تعشقهم للظلم واستخفافهم بحقوق الآخرين ومظاهر حياتهم من أبرز صفاتهم ونجد ذلك واضحاً في قول بعضهم:

فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا

(314)

ومن ربط الجحاش فإن فينا قناً سلباً وأضراساً حسانا

وكن إذا أغرن على قبيل فنعوذهن نهباً حيث كانا

وأحياناً على بكر أخينا إذا مالم نجد إلاّ أخانا

كما نجد ذلك في قول الآخر:

إذا نزل السماء بدار قوم رعيناه وان كانوا غضابا

فياترى أي أخلاق هذه لم يراع فيها حق الآخرين وحرمة الإنسان، ومراعاة حقوقه ولو كان ذا قربى، وأي عصبية هذه سولت لأصحابها أن يمنعوا من دخول دار الندوة ـ وهي الدار التي بناها قصي ـ إلاّ من بلغ سن الأربعين مالم يكن قرشياً فله دخولها ولو كان دون ذلك، وأي عصبية هذه التي دعت أصحابها أن يمنعوا مصاهرة بعض القبائل من بعض، أنها العنجهية التي حدت بأصحابها إلى أن يوسعوا غيرهم هجاء وذماً واسفافاً، وان يجعلوا لقبيلتهم فضل المحامد والمفاخر، وقد نجد هذه الصور والتصديقات في كثير من أقوالهم وأشعارهم فالشعر هو ديوان العرب الذي يعكس كلّ ما هم عليه.

الفصل الثاني ـ معاملتهم واستبداهم:

لقد كانت معاملة المجتمعات قبل الإسلام يسودها الظلم والاستبداد، والهضم والاستعباد، وتغطيها سحب قائمة كقطع الليل المظلم، وقد امتد استبدادهم بدخانه المظلم على من حولهم كافة فاستبد الأقوياء على الضعفاء، والمحظوظون على البؤساء، والأغنياء على الفقراء، والأحرار على الأرقاء يسومونهم الخسف والذل، وكانت معاملة هؤلاء معاملة لا يقرها عرف ولا يرضاها ضمير، فهذا أمية بن خلف يعذب مولاه بلالاً بن رباح، فبلال يعذب في الله على يد مولاه أمية بن خلف لا لسبب إلاّ لأنه آمن برسول الله محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ وبرسالته ونبوته، وهذا عمار بن ياسر هو وأبواه يعذبون على أيدي أسيادهم بلا رحمة ولا هوادة، وهذا صهيب الرومي يجرد من ماله عندما اعتزم الهجرة لله ورسوله

(315)

ولم يقف الأمر عند ذلك بل امتد الظلم بحجمه المحرق إلى الأسر وأفرادها، فهذه المرأة من النساء تهضم حقوقها وتنتهك إنسانيتها، فتعضل عن الزواج لمجرد هوى في النفوس، وتمنح من الميراث لأنه لا يكون إلاّ لمن يحمل السلاح وينازل الأبطال في ساحات الوغى والحروب بل وتمتديد البغض والعدوان لتصل إلى الأبرياء من الفتيات والفتيان، فهؤلاء الصبيات يدفن حيات، قال الله تعالى: ﴿وإذا المودة سئلت، بأي ذنب قتل﴾([2]).

وما قصة سيدنا عمر بن الخطاب قبل إسلامه بغائبة عن الأذهان فقد قيل عن ابنته هذه انه كان يحفر لها ليغيبها تحت التراب، فكان التراب يتطاير عليه وهي تنفضه من لحية أبيها، حقاً أنّه موقف يثير الحزن والألم.

وسوء معاملة مشركي مكة من مقاطعة لرسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وأصحابه الّذين آمنوا به ليست بعيدة عنا، ولا يخفى على أحد تلك المعاملة التي تدل على جفاف الطبع ويبسه، والتي تتجافى مع أبسط قوانين الأخلاق التي كانت تصدر من أبي جهل وعمرو بن هشام وأبي لهب وزوجته أم جميل عليهم جميعاً غضب من الله، وقد كانت أم جميل تأخذ الشوك والقمامة لترمي بها في طريق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ إلى المسجد وبالقرب من منزله، ويأخذ النبي الكريم بيده الشريفة هذه المؤذيات ويلقيها بعيداً ولا يزيد على أن يقول ـ صلى الله عليه وآله ـ: «أي جوار هذا يا بني عبد مناف».

أضف إلى ذلك ما كان من أهل الطائف(ثقيف) الّذين أغروا سفهاءهم وعبدانهم وصبياتهم فرموه بالحجارة حتّى أدموه، إلى غير ذلك من أمثال الوليد الذي يسيء المعاملة مع كتاب الله المنزل على نبيه المرسل فيمزقه وينشد قائلاً:

تهد كلّ جبار عنيد وها أنذاك جبار عنيد إذا ما جئت ربك يوم حشرٍ فقل يا رب مزقني الوليد (316)

إنها أخلاق وسلوكيات لو لم يكن هناك شرع ينهى عنها أو دين يحذر من التخلق بها لكان العقل السليم، والفكر القويم واقفاً ضدها منادياً بالابتعاد عنها.

 

الباب الثاني ـ أخلاق المجتمع المسلم:

ويحتوي على فصلين:

الفصل الأول ـ ما عليه سلف الأمة من الأخلاق والسلوك الفردي:

ولنبدأ بسيد الأخلاق ورمز كمالها، ثم نثني بخيرة أهل القرون فيها، ولكم يطيب لي أن أذكر شيئاً عن خلق سيد أهل الكمال وما عليه من كريم الصفات، وجميل الخصال ليكن لنا القدوة المصطفاة في جميع سلوكنا الفردي والجماعي.

ولأجل أن نستمد منه الإشعاع الروحي، والقبس النوري فلابد لنا من ذكر شذرات من أخلاقه النبوية العظيمة لنتزود منها بزاد طيب، وقبل ذلك كله نقول: أي شيء نذكره عن خلقه ودينه بعد قول الله عز وجل: ﴿وانك لعلي خلق عظيم﴾ وقوله تعالى في رسوله الكريم: ﴿لقد جاءكم رسول الله من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم﴾([3]). وقد قال ـ صلى الله عليه وآله ـ هو عن نفسه الشريفة: «أدبني ربي فأحسن تأديبي» كما قال ـ صلى الله عليه وآله ـ: «إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». وقد كان ـ صلى الله عليه وآله ـ المثل الأعلى والقدوة المثلى في الصدق والأمانة حتّى لقبه قومه بالصادق الأمين كما كان ـ صلى الله عليه وآله ـ رمزاً عظيماً في الجود والكرم فكان أجود بالخير من الريح المرسلة، وما سأله سائل قط فرده خائباً، فإن كان عنده شيء أعطاه، وأن لم يكن عنده أمره بالاقتراض، وعليه الوفاء والسداد، وكان ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول: «أنا أولى بكل مؤمن من

(317)

نفسه فمن ترك مالاً فلأهله، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فعلي وإلي» وقد قال عنه ربه: ﴿النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه امهاتهم...﴾([4]) كما مدحه الشاعر ليبين سماحة نفسه ـ صلى الله عليه وآله ـ بقوله:

ما قال لا قط إلاّ في تشهده لولا التشهد كانت لاءه نعم

وأما خلق الشجاعة فيه، وخلق التسامح والصفح والتواضع والعطف فحدث عنه ـ صلى الله عليه وآله ـ ولا حرج، قال مادحه:

فانسب إلى ذاته ما شئت من شرف وانسب إلى قدره ما شئت من عظم

فشجاعته ـ صلى الله عليه وآله ـ يوم بدر وحنين كانت مضرب الأمثال وقدوة الأبطال من الرجال، فقد بدل الموقف من فر إلى كر، ومن شتات إلى ثبات، ومن هزيمة إلى نصر، وهكذا ديدن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في جميع ميادينه وحروبه ومغزيه، وأما تسامحه وصفحه ـ صلى الله عليه وآله ـ فيتجلى لنا بكل وضوح في يوم فتح مكة مع قومه الّذين أخرجوه من بلده ومسقط رأسه طريداً وحيداً وقد أظفره الله بهم يوم الفتح، ومكنه من رقابهم، والقبض على أيديهم، والاستيلاء عليهم فما كان من أمره إلاّ أن قال لهم كلمته الشهيرة التي يرددها الزمان لتسمعها كلّ أذن: «وما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا: خيراً أخ كريم وابن اخ كريم، فقال: أقول لكم ما قال أخي يوسف لأخوته: ﴿... لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم...﴾([5]) اذهبوا فأنتم الطلقاء».

ولنذكر موقف حلمه ـ صلى الله عليه وآله ـ مع الأعرابي الذي جاء فوجده مضطجعاً تحت ظل شجر وقد علق سيفه عليها فأخذ هذا الأعرابي السيف وقال للرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ: من يمنعك مني اليوم ؟ فقال الرسول المعصوم: الله، فسقط السيف من يد الأعرابي، فأخذه رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ثم قال للأعرابي: من يمنعك مني اليوم ؟ فناشده بحق القرابة والرحم أن يتركه

(218)

فصفح عنه وتركه وكذلك موقفه مع الرجل الذي جاء يتقاضاه ديناً فأخذه من تلابيبه وجره حتّى أثر الثوب في عنقه الشريف فهم أصحاب رسول الله أن يأخذون فمنعهم، وأمرهم أن يعطوه خيراً من دينه.

وأما خلق التواضع فيه ـ صلى الله عليه وآله ـ فقد بلغ في ذلك شأواً بعيد المنال، فقد كان ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول في دعائه: «اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين» فسئل ـ صلى الله عليه وآله ـ عن كثرة ما يدعو بذلك فأجاب بقوله: «لأن رحمة الله لا تفارقهم» فكان ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول: «آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» كما أنّه يقول للرجل الذي أرسل إليه فوقف أمامه وارتعدت فرائصه: هون على نفسك إنّما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد، كما أنّه لا يتميز عن جلسائه، ويجلس حيث ينتهي به المجلس تواضعاً منه في غير مذلة، ويجيب دعوة الداعين، ويشارك الضعفاء في أمورهم وقضاء حوائجهم، ويقبل الهدية ولو كانت كراع شاة.

وأما أخلاق سلف أمتنا من خيرة أهل القرون سواء كان ذلك من ناحية الخلق الفردي أم الجماعي فأولئك هم من الّذين قال عنهم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «خيركم قرني ثم الّذين يلونهم، ثم الّذين يلونهم» وقد قال ـ صلى الله عليه وآله ـ في أصحابه، وقرنهم خير القرون «الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي لو انفق أحدكم مثل جبل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ونصيفه».

فهذا أبو بكر يمدحه الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ بلين الجانب: «أبو بكر كإبراهيم ألين من اللين » وهذا عمر بن الخطاب يمدحه الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ «عمر كنوح أشد من الحجر» وذلك لقوته في الحق، وهذا سيدنا عثمان يمدحه الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ بخلق الحياء «ألا استحي من رجل تستحي منه ملائكة الرحمن ؟ » وهذا علي رابع الخلفاء يمدحه النبي بقوله: «أقضاكم علي» ـ عليه السلام ـ، والقضاء عدل وأنصاف، فأي خلق أعظم من العدل يتخلق به أهل الحكم والقضاء؟

(319)

وناهيك ما جاء في مدحهم في كتابه الكريم حيث يقول الله جل من قائل: ﴿محمّد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرعٍ أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الّذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات مغفرة وأجراً عظيماً﴾([6]).

وأما أخلاق سلفنا الصالح من الأُمة من حيث الشجاعة والإقدام، ومن حيث الأريحية والسخاء، ومن حيث الجود والعطاء، والصفح والتسامح، والحلم والتواضع فهناك نماذج لا يتسع المجال لذكرها: فهذا الإمام أبو حنيفة يكون له جار يهودي اسكافي يصنع الأحذية ويعافر الخمر طوال ليلة فيتعمد هذا اليهودي فتح مجرى داره ليصب القذر على دار أبي حنيفة ويظل عامّة ليله يحتسى الخمر وينشد قائلاً:

أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر

وصبر عند معترك المنايا وقد نشيت أسنتها بنحر

فانقطع صوته يوماً فلم يسمعه أبو حنيفة فسأل عنه فقيل له: قبض عليه الشرطي وسجن لخروجه ليسأله عنه، فأطلق سراحه بقدوم أبي حنيفة، وأطلق سراح من قبض عليه في تلك الليلة إكراماً لأبي حنيفة، فيأخذ أبو حنيفة بيد اليهودي ويقول له هل أضعناك؟ هل أضعناك؟ فكان ذلك سبباً لإسلام اليهودي ودخوله في دين الله.

وهذا الامام الشافعي في تواضعه وهو الامام الشريف يقول لتلاميذه وقد تحلقوا حوله: ذلكم الرجل أستاذي ويشير إلى شخص به رثاثة حال فيقول له تلاميذه في دهشة: فكيف؟ ماذا عملك؟ فيرد عليهم علّمني علامة بلوغ الكلب شنق رجله، وفي

(320)

ذلك البيت الشعري:

الحر من يرعى وداد لحظه وينتمي لمن أفاد لفظه

ومن خلق الأمة ماله في هذا المجال الأخلاقي أمثلة لا يستطيع قلم كاتب أن يحصيها عدّاً أو أن يبلغ بها حدّاً، ولكن ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه وحسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق.

الفصل الثاني ـ الأخلاق الاجتماعية:

وتنضوي تحتها هذه العناصر من الأخلاق: التعاون ـ المواساة ـ التكافل ـ الاهتمام بأمور المسلمين.

مما سقناه وضربناه مثلاً لامتنا سلفها وخلفها يتوجب علينا أن نقف عنده مليّاً وان نستوضحه جليّاً لنستشعر بذلك هذه الأخلاق العالية، والقيم السامية التي كانت سمة مميزة لهذا الرعيل من أجيال مجتمعنا المسلم، لنتزود منها بخير زاد في دنيانا التي نعيشها وليوم الميعاد، ولنستعين بها في مسارنا إلى طريق الهدى والصلاح، والفوز والنجاح.

وانه ليتحتم علينا أن نتّخذ أخلاقنا الاجتماعية سبيلاً إلى التعاون بيننا في جميع شؤوننا وكل مظاهر حياتنا فيعين قوينا ضعيفنا، ويساعد غنينا فقيرنا، ويتفقد صحيحنا مريضنا، ويعلّم عالمنا جاهلنا ونحن مطالبون بمد يد التعاون فيما بيننا بأمر الله عز وجل حيث يقول الله تبارك وتعالى: ﴿... وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان...﴾([7]) ويقول الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» كما أنّه يجب علينا مواساة بعضنا عند نزول الكوارث والمحن، وحول النوائب والفتن فلا نقف من أبناء جلدتنا وعقيدتنا مكتوفي الأيدي.

ومما عليه الأخلاق الحميدة التكافل بيننا في مهام الحياة كلّها بجمع شمل الأمة

(321)

وجلب ما يسعدها في جميع المرافق التي تعز أفرادها وتلم أشتاتها، وتملي علينا أيضاً أخلاقنا الاجتماعية وعقيدتنا الدينية الاهتمام بأمور المسلمين في كلّ صوب وحدب في الحرب والسلم، في الشدّة والرخاء، والامتحانات والبلاء «من أصبح لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم».

ونحن الآن في وضعنا كمسلمين نرى ما يتنافى مع الأخلاق التي شرعها لنا الدين وأرادها لنا رب العالمين ـ يظهر ذلك ويتضح من غض الطرف عن الاهتمام الواجب نحو اخوة الإسلام ـ وغض الطرف من شعوب بأكملها حكاماً ومحكومين لهم من الظروف المتاحة والفرص المهيأة ما يمكنهم به أن يحركوا ما سكن بنفوسهم وان يحيوا هذه الأخلاق الاجتماعية الرائدة في قلوبهم بحيث تكون عاملاً لهم لتخفيف ويلات الحياة التي يعيشها غيرهم من إخوانهم الّذين عضتهم أنياب العوز والحاجة وألهبت ظهورهم قسوة الحياة، وتكالب عليهم الأعداء من كلّ صوب وحدب بغير رحمة ولا هوادة.

ونحن نرجو من أبناء الأمة الإسلاميّة أن يناشدوا ضمائرهم، وان يحكموا عقولهم ويتناسوا عواطفهم وما وقر في صدورهم لسبب أو لآخر، فأخلاقنا الدينية الاجتماعية والتأسي بسلوك أسلافنا وديننا الحنيف يناشدنا أن نكون كما أرادنا ربنا أخوة متحابين متعاونين متناصرين متكافلين مهتمين بشؤون المسلمين في كلّ وقت وجهة ن وفي كلّ بلد وقطر من أهل عقيدتنا الدينية وعلى الله قصد السبيل.

الباب الثالث ـ أخلاق المجتمعات غير المسلمة:

ويحتوي أيضاً على فصلين.

الفصل الأول ـ أخلاقهم في حالة السلم:

أقول: إنّ نظرة واحدة إلى أخلاق غير المسلمين في ظروف السلم تظهر لنا هذه

(322)

الحقائق الأخلاقية التي تجافي العقل والطبع وتأباها الفطرة القويمة، والذوق السليم، ويتجلى ذلك في هذه الحرية المطلقة التي لا تقيدها ضوابط، وهذه الإباحية والانحلال في كثير من مظاهر الحياة من حانات للخمور، وموائد للعب الميسر، وتهتك وتعر، وسفور وفجور. حتّى وصل الأمر إلى درجة أن قوانين بعض الدول أباحت الحرية للفرد وللجماعة بلا استثناء ولا حدود.

كما أن التعامل بالربا بكل أنواعه يعتبر أساساً للاقتصاد وقاسماً مشتركاً بين الجماعة والأفراد. وأما ظاهرة أخلاق المجتمع غير المسلم من ناحية العلاقات الجنسية واتخاذ الأخلاء والخليلات وارتكاب الموبقات والمهلكات فحدث عنها وسجل على صفحات أوراقك ما يجود به قلمك.

وأما الحظر المفروض في قوانينهم من تعدد الزوجات هو الآخر يعد طامة كبرى أدت إلى انتشار كثير من الأوبئة والأمراض التي استعصى على الطب علاجها مع تقدم كشوفه وتطور وسائله، وأدنى تأمل في سلوك وأخلاق المنتجين لبعض هذه الآلات والأجهزة التي تنقل الأصوات والصور المرئية، وأقل نظرة في صفحات بعض المجلات والروايات المثيرة لغريزة الجنس، والأفلام القذرة وما فيها من رقص وقبل وصور خليعة ما جنة، كلّ ذلك يدلنا بوضوح على مدى ما وصلت إليه هذه المجتمعات غير المسلمة إلى مستوى هابط وترد بعيد.

ولعل الغرض الأكيد والطمع الشديد لهؤلاء أن تنتقل هذه الحضارة الزائفة المتحررة من كلّ قيد إلى من سوالهم من المجتمعات المسلمة ليصابوا بهذا المرض الوبيل والداء العياء الذي يفقد العقل إنتاجه وتفوقه في فنون الحياة، ولعل غير المسلمين نجحوا في نقل عدواهم هذه إلى كثير من دول العالم المسلم وغير المسلم بتصدير هذه المهلكات والسموم القاتلات فتأثروا بذلك ورأوا أن مثل هذه البهارج التي ترد إليهم إنّما هي

(323)

حضارة وازدهار، وتقدم ورقي يواكب الحياة الحضارية التي تتمشى مع وسائل الحياة ومتعها ورفاهيتها، وما دروا أن في ذلك هدماً لمقومات حياتهم ووأداً لمقدراتهم وعظيم نشاطهم، ومحواً لأخلاق أسرهم وأولادهم، وضياعاً لعزيز أوقاتهم، ولعينا نحن معاشر المسلمين أن نعيد النظر وان نجيل الفكر في كلّ ما يرد إلينا من الخارج مما يراد به صرفنا عن جادة الطريق السوي الموصل إلى خيري الدنيا والآخرة والله هو ولينا وناصرنا نعم المولى ونعم النصير.

الفصل الثاني ـ أخلاق غير المسلمين في حالة الحرب:

لأول وهلة برى الإنسان المتبصر والمتأمل في أخلاق غير المسلمين في ظروف الحرب والأعداد له يرى بكل وضوح أن الأخلاق العدائية هي الصفة المميزة لذلك النوع من أصناف البشر، فهذا العتاد من أسلحة الدمار، وهذه التحوطات التي نراها متمثلة في السيطرة والتعالي على شعوب العالم، وهذه المناورات التي تجري هنا وهناك، وهذا التحوز على مقدرات الأمم والشعوب، وهذه الأموال الطائلة، والثروة الهائلة التي تنفق في إنتاج الأسلحة الفتاكة التي تقضي على أبناء البشر ولا تبقي ولا تذر، بل وتقضي على كلّ كائن حي وعلى الأخضر واليابس.

وهذا كله إنّما يدل على أن أخلاق غير المسلمين تحمل في معناها ومغزاها كلّ ناحية شريرة لا تريد لغيرها أن تسعد أو تنعم بعيش كريم، فهذه المخترعات ووسائل الدمار إنّما أنتجتها عقول وقلوب قاسية تحمل ألواناً وصنوفاً من الحقد الدفين لغيرهم ممن هم ليسوا على شاكلتهم طغياناً وحسداً من عند أنفسهم وما كان لهذه الوسائل المدمرة التي صنعتها يد العدوان أن تصنع لتراق بها الدماء وتهدر بها أرواح النساء والأطفال والعجزة والعزل من الرجال، وما كان لتنفق الأموال الطائلة في اختراعها وانتاجها، ولو جعل ما ينفق على ذلك من أموال لتخفيف ويلات الحياة، وشظف العيش

(324)

مما يعانيه كثير من الأمم، والشعوب لأسعدهم، ورفه حياتهم.

ومما يمكن أن يضرب مثلاً لأخلاق غير المسلمين ما يقوم به جيش الاحتلال في بلاد فلسطين والأراضي المحتلة الأخرى ومن يعينه بالإمدادات الحربية والمعونات المادية غاضاً طرفه عن عمل لا يرضاه الضمير ولا تقره الأعراف.

وما يجري الآن في جمهورية البوسنة من أعمال الصرب ضد المسلمين على مرأى ومسمع من العالم يكشف لنا بوضوح أن أخلاق غير المسلمين في حالة الحرب أخلاق يحالفها الظلم والعدوان ويسودها الكيد والطغيان، والتعدي والانتقام وليس ذلك عجيباً ولا غريباً على أمة كفرت بأنعم الله وجحدت آيات الله ورأت أن أسلوب القوة والتحدي والتعدي هو المنهج القويم في نظرها وقاموس حياتها، وأن أية قوة مادية تمدها من خلفها ليس عجيباً عليها هي الأخرى أن تتخلق بهذه الأخلاق المشينة التي سلف ذكرها.

اللهم أحينا على الإسلام، وأمتنا على الإيمان إنك سميع مجيب.

خاتمة البحث ـ نداء وشكر:

في خاتمة بحثي هذا أنادي بأعلى صوتي، وأناشد بكل مشاعري وإحساسي أفراد أمة محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ التي قال الله فيها: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله...﴾([8]).

أناشدكم حكاماً ومحكومين رؤساء ومرؤوسين، طلاباً ومعلمين، عمالاً وموظفين، صناعاً وزراعاً، أناشدكم الالتزام والتخلق بأخلاق سلفكم الصالح والتمسك بكتاب ربكم، والعمل بسنة نبيكم قال ـ صلى الله عليه وآله ـ: «أطيعوني ما كنت بين أظهركم، وعليكم كتاب الله أحلوا حلاله، وحرموا حرامه» وقال ـ صلى الله عليه وآله ـ: «من أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان

(325)

معي في الجنة».

فليكن العدل مبدأكم، والإنصاف سمتكم، والصدق شعاركم، والأمانة دثاركم، والكرم شيمتكم، والشجاعة ديدنكم، والحكمة طريقكم، والرفق والرأفة سبيلكم، والتعاون فيما بينكم أسمى مقاصدكم، وتصافي القلوب أصدق غاياتكم، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر أبرز أهدافكم، والتقريب بين الفكر ووجهات النظر أجمل أعمالكم، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿والعصر أن الإنسان لفي خسر إلاّ الّذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر﴾([9]) وقال تعالى: ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون﴾([10]).

ولا يفوتني في هذه العجالة المتواضعة أن أتقدم بأسمى آيات الشكر والاحترام وأجل معاني التقدير والعرفان لجمهورية إيران الإسلاميّة حكومة وشعباً على الدعوة الكريمة التي وجهت لنا لحضور هذا الملتقى «مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلاميّة» الذي سينعقد في شهر ربيع الأول 1415 هـ كما نخص بالشكر القائمين بإعداد هذا المؤتمر على إتاحة هذه الفرصة للقاء السادة الأخيار من رجال الرأي والفكر والعلم والفضل والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

([1]) ـ القلم: 4.

([2]) ـ التكوير: 8، 9.

([3]) ـ التوبة: 128.

([4]) ـ الأحزاب: 6.

([5]) ـ يوسف: 92.

([6]) ـ الفتح: 29.

([7]) ـ المائدة: 2.

([8]) ـ آل عمران: 110.

([9]) ـ العصر.

([10]) ـ التوبة: 105.