الموافقات بين المذاهب الإسلاميّة في الاجتهاد والتقليد

الموافقات بين المذاهب الإسلاميّة في الاجتهاد والتقليد

 

 

الموافقات بين المذاهب الإسلاميّة في الاجتهاد والتقليد

 

احمد المبلغي ـ السيد عبد الأمير الوردي

بسم الله الرحمن الرحيم

نقاط الالتقاء أو التقارب في الاجتهاد والتقليد بين المذاهب:

المقدمة:

لا ريب أن البحث في مسألة الاجتهاد والتقليد من أهم الأبحاث التي يجب تداولها بين علماء المذاهب الإسلاميّة، وذلك لأهميّة الاجتهاد من نواح ثلاث:

الناحية الأولى: تحقيق مصداقيّة خلود الإسلام وعالميّته: أن الإسلام دين الخلود والبقاء على مرّ الزمن، ولم يكن الإسلام هكذا إلاّ بما فيه من المرونة التي تتلاءم مع تغير وتبدّل الظروف ومقتضيات الزن، ومعلوم أن هذه المونة سوف تفقد حيويّتها ودورها إذا لم يكن باب الاجتهاد مفتوحا، حيث أن علميّة الاجتهاد تؤدي إلى كشف مواطن هذه المرونة والاستفادة منها لاستنباط الأحكام الشرعيّة لاسيّما المستجدة منها.

الناحية الثانية: تأثير البحث في الاجتهاد على سائر البحوث سعةً وضيقاً: يعتبر الاجتهاد مفتاحا للدخول في البحوث الأخرى، كنتيجة لهذا فالبحث فيه وتطبيقه عمليّاً بوسع أو ضيق سوف يؤثًر تأثيراً جذريّاً على المسائل الفقهيّة بل وحتّى الأصوليّة.

(274)

الناحية الثالثة: أن جرأة العلماء على القيام بالبحث الحرّ ف مسألة الاجتهاد وقبول تغيير الرأي فيها، اكثر بكثير منها في البحث عن سائر المسائل. وليس ذلك إلاّ لانّ عمليّة الاجتهاد تعتبر منهجاً لكشف الأحكام ومعلوم أن المنهج من جانب يكون البحث عن الكثير من عناصره بحثا نظرياً بحتا، وبديهيّ أن الجرأة في المسائل النظريّة البحتة أكثر من غيرها، ومن جانب آخر أنّ الباحث بما انّه يعرف ولو بصورة اجماليّة أن الخطأ في المنهج سوف يفتح أمامه الأبواب إلى أخطاء كثيرة في مجالات الأحكام فتأخذه ـ في البحث عن المنهج واختيار نوعه ـ حساسيّة شديدة، وهذه الحسّاسيّة تؤدّي به إلى الجرأة في البحث.

ولذلك نرى أن العلماء قد اثبتوا من خلال ابحاثهم حول الاجتهاد أنّهم في هذه المسألة أكثر استعدادا لقبول التغيير، ولقد الشيخ شلتوت يبدي آراء بديعة في هذا المجال، فهو مثلا يقول: «نريد تخريج أئمة في اللغة وفروعها، وأئمة في الفقه وأصوله، نريده تخريجا أساسه النظر العميق والاجتهاد العملي الّذي يكوّن الشخصيّة الفقهيّة والشخصيّة اللغويّة العربيّة، لا نريده تخريجا نلتزم فيه مخلفات الماضي من آراء ومذاهب، بل يجب أن نجتهد وان نؤمن بانّ حاجة اليوم في الفقه واللغة وعقائد الدين غيرها بالأمس، وأن نؤمن بانّ الله في كلّ ذلك لم يكن وقفا على الأولين»([1]).

ولا يخفى ان توفر عنصر الجرأة على إبداء الرأي في هذه المسألة جعلها أوسع ميداناً للتقريب.

ومن هنا فقد ارتأينا في هذه المقالة إبراز نقاط الالتقاء أو التقارب في العناوين الرئيسة للاجتهاد والتقليد بين المذاهب والبحث في موضوعاتها بما يبرز هذه النقاط. ومعلوم أنّ هذا الأمر لن تقتصر فائدته على موضوع الاجتهاد والتقليد خاصة، بل أنّ

(275)

ذلك سوف ينجر إلى التقريب في سائر الموضوعات الأخرى. ونود الاشارد إلى انّ منهجنا في هذه المقالة ـ إضافة إلى الاقتصار على ما اتّفق عليه أو كان الاتّفاق فيه قريباً ـ هو الإيجاز، إلاّ إذا تطلب البحث التوسع في ذلك. والّذي يدعونا إلى التوسع في بعض الموارد ليس الاّ محاولة إبراز وراء العناوين والتعابير والأساليب المختلفة معنى واحدا وغرضا فاردا.

مواطن الاتّفاق أو التقارب في الاجتهاد:

1 ـ معنى الاجتهاد:

عُرّف الاجتهاد اصطلاحا بتعاريف قد تختلف من حيث بعض القيود والإضافات ولكنّها تصبّ في مجرى واحد يتضمن الأُمور التالية:

1 ـ إنّ الاجتهاد هو بذل الوسع بحد الإمكان، والذي يعبر عنه باستفراغ الجهد.

2 ـ إنّ بذل هذا الجهد تكون دائرته ضمن الأدلّة الشرعيّة.

3 ـ إنّ الهدف منه ـ أي: استفراغ الجهد ـ الوصول إلى الحأحكام الشرعيّة.

نعم هناك نكات مت التعريف قد يبدو منها الاختلاف، ولتوضيح الأمر نقول:

اولاً: عبّر بعضهم بقول: العلم بالأحكام الشرعيّة، فيما عبّر الآخرون بالظنّ، وبما انّه ليس للعلم أو الظن خصوصية منظورة هنا، يمكن القول بانّ التعبير عن الاجتهاد بأنّه استفراغ الجهد لدرك الأحكام الشرعيّة كما فعل بعضهم([2])، هو أفضل من غيره، لشموله للعلم والظن.

(276)

ثانياً: عُرّف الاجتهاد في بعض التعاريف بأنّه ملكة تحصيل الحجج([3])، ومعلوم أنّ الاجتهاد على أساس هذا التعريف حالة ترسخ في النفس، بينما المقصود من تعريفه باستفراغ الجهد هو بيانه بما يرتبط بمقام العمل، فكأنّ القائل بأنّه ملكة أراد الفصل بين حقيقة الاجتهاد وعمليّته، فاستفراغ الجهد هو عمليّة الاجتهاد بينما الملكة هي حقيقة الاجتهاد نفسها.

ثالثاً: أضاف بع المحققين من الشيعة إلى الأحكام الشرعيّة قولهم: أو الوظائف العمليّة. وهذا ينطلق مّما وصل إليه فكرهم الأُصوليّ أخيراً بالفصل بين الحكم والوظيفة العمليّة، الفكرة التّي قد سبب حدوث تطورات مهمّة في أُصول الفقه عند الإماميّة.

2 ـ فتح باب الاجتهاد المطلق:

لإبراز الاتفاق بين المذاهب في هذا الجانب نرى لزاما علينا أ نشير إلى نبذة عن تاريخ فتح الاجتهاد عند الإماميّة والسنّة.

فالإماميّة بقي باب الاجتهاد عندهم مفتوحاً حتىّ يومنا هذا، ومازالوا يمارسونه عمليّا.

أمّا السنّة فقد كان الأمر عندهم كذلك في زمن أئمة المذاهب ولكن بعد ذلك مرّت عليهم مدة من الزمن انسدّ فيها باب الاجتهاد واقتصر على التقليد، وقد أطلق بعضهم على هذه المدة الزمنيّة بأنّها(عهد التقليد). وما كان يُسمع فيها صوت ينادي بفتح باب الاجتهاد إلا من قبل بعض الفقهاء([4]).

(277)

أمّا المتأخرون من السنّة فانّهم يرون وجوب فتح باب الاجتهاد، يقول الأستاذ المراغي: «إنّي مع احترامي لرأي القائلين باستحالة الاجتهاد أُخالفهم في رأيهم وأقول: إنّ في علماء المعاهد الدينيّة في مصر من توافرت فيه شروط الاجتهاد وحرم عليه التقليد»([5]).

ومن هنا يمكن القول إنّ: الرأي السائد حاليّا عند المذاهب الإسلاميّة: وجوب فتح بابا الاجتهاد وانّه يكاد يكون من المسلمات ولا سيّما مع ازدياد الحاجة إليه بمرور الزمن.

3 ـ المجتهد لو اخطأ فهو معذور:

يكاد يحصل الاتفاق بين جميع من قال بجواز الخطأ على المجتهد ـ أي: المخطئة ـ على أنّ المجتهد غير آثم في خطئه الاجتهادي وهو معذور في ذلك، ولعلّ الّذي دفعهم إلى هذا القول: الرواية الّتي تلقتها الأُمّة بالقبول ـ كما يقول صاحب الفصول([6]) ـ وهي: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب له اجران وإذا حكم فاجتهد فاخطأ فله اجر».

وجدير بالذكر أنّ طائفة من المخطئة وان ذهبت إلى عدم الأجر للمجتهد المخطئ، غير انّها تتّفق مع سائر المخطئة على عدم الإثم وهذا هو ما يعبر عنه بالمعذريّة.

4 ـ لا اجتهاد مع النصّ:

لقد حاصل الاتفاق على حرمة الاجتهاد في حالة وجود نصّ في الكتاب والسنّة... وقد ذكر ابن القيّم قيام الإجماع على ذلك، وعقد لذلك فصلا مستقلاً اثبت فيه ذلك([7]). وذكر فيه من جملة ما ذكر: أنّ الشافعيّ قال: لا قول لأحد مع سنّة رسول الله صلىّ الله عليه وآله. وقال: أجمع الناس على انّ من استبانت له سنّة رسول الله صلىّ الله عليه وآله لم يكن أن يدعها لقول أحد من الناس. وقال: إذا صحّ الحديث فاضربوا بقولي الحائط.

(278)

يقول السيد شرف الدين من الإماميّة مبرزا لهذا الاتفاق: «إنّ من دين امّة محمّد صلىّ الله عليه وآله التعبّد بظواهر الكتاب والسنّة، فضلاً عن نصوصها الصريحة، جروا في الأخذ بهما، والعمل على مقتضاهما مجرة أهل العرف من أهل اللغات كلّها... فليس لمن يؤمن بهذه الآيات أو يصدق نبوة النبيّ صلىّ الله عليه وآله أن يحيد عن نصوصه قيد شعرة فما دونها»([8]).

5 ـ شروط الاجتهاد:

هناك شروط اتّفق عليها الشيعة والسنة ينبغي توافرها في المجتهد، ويمكن أن نذكر المهمّ منها كما يأتي([9]):

1 ـ معرفة الكتاب والسنة.

2 ـ العلم بفنون اللغة العربيّة.

3 ـ العلم بأُصول الفقه.

أما غيرها من الشروط والتي ذكرها بعضهم مثل: الأنس بالمحاورات العرفيّة وفهم الموضوعات العرفيّة([10])، ومعرفة المنطق([11])، والعلم بمواضع الخلاف والإجماع([12])، فهي شروط ثانويّة ولا تمثّل خلافاً جوهريا مع الاتفاق على الشروط الأساسيّة، ولو كان فيه اختلاف فهو على سبيل الاختلاف بين القبض البسط.

6 ـ حرمة تقليد المجتهد لغيره:

اتفق جميع الفقهاء على انّ المجتهد إذا اجتهد فغلب على ظنه الحكم لم يجز له تقليد غيره([13]). يقول السيد الحكيم «والذي يبدو لي ـ في حدود ما رأيت ـ أنّ كلمة الأعلام

(279)

تكاد تتفق على حجّية رأي المجتهد ولزوم العمل به وعدم جواز رجوعه إلى الغير في الجملة»([14]).

7 ـ انحصار صلاحيّة الإفتاء والقضاء بالمجتهد:

اتفق الفقهاء على عدم جواز الإفتاء إلاّ لمجتهد([15]) وأما القضاء لغير المجتهد فالأكثر على منعه([16]) لأن غير المجتهد لم يحصل بعد على ملكة الاجتهاد اللازمة لاستنباط الأحكام الشرعيّة.

 

مواطن الاتّفاق أو التقارب في التقليد:

1 ـ معنى التقليد:

عُرّف التقليد اصطلاحا بتعاريف متعددة، منها:

العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة([17]).

ومنها: قبول الغير من غير حجة([18]).

ومنها: العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج، بلا حجة منها([19]).

وتكاد تلتقي جميع ما ذكرنا من التعاريف حول محور واحد وروح واحدة ـ مع الاختلاف في التعبير عن بعض التفاصيل ـ ويمكن إبراز ذلك في نقاط:

(280)

1 ـ اتّفق الجميع على أنّ عمليّة التقليد هي: رجوع المقلّد ـ أي العامي ـ إلى العالم المجتهد، حيث يجعل عمله مطابقا لفتاوي المقلّد. وعبّر عن ذلك بالقبول ومنهم من عبّر عنه بالعمل وآخرون باأخذ أو الالتزام وغير ذلك.

2 ـ اتّفق الجميع على انّ التقليد يتم من دون مطالبة المقلّد بالدليل والوجه في استنباط الحكم الشرعيبل يأخذه المقلّد أخذ المسلمات، وقد عبّر بعض عن هذا الأمر بقوله: «من غير حجة»، فيما عبّر عنه آخرون بقولهم: «من غير معرفة دليلة»، ومنهم من عبّر عنه بقوله: «تعبّدا»، أو غير ذلك.

3 ـ اتّفق الجميع على أنّ أخذ قول النّبي صلىّ الله عليه وآله ليس تقليدا، فقوله صلىّ الله عليه وآله هو حجة شرعيّة برأسه، وقد أشارت بعض التعريفات إلى هذا الأمر فذكر بعضهم في التعريف قوله: «من ليس قوله إحدى الحجج» فيما عبّر آخرون بقولهم: «من يجوز عليه الخطأ» وبهذا القيد خرج أخذ قول النبيّ صلىّ الله عليه وآله من التقليد.

2 ـ مجال التقليد:

يمكن القول بحصول الاتّفاق ـ عموما([20]) ـ بين العلماء على انّ مجال التقليد هو الأحكام الفرعيّة غير الضرورية. أما أصول العقائد والأحكام الشرعيّة الضروريّة فلا يجوز التقليد فيها.

3 ـ حكم التقليد:

لو تتبعنا الأقوال في حكم التقليد لرأيناها عدة ولكنها بالتحليل والتفصيل يكمن إرجاعها إلى نقطة واحدة أو متقاربة. ولتوضيح الأمر نقول:

انّ هناك ثلاثة أقوال في حكم التقليد هي:

(281)

أولاً: الوجوب التعييني: بمعنى انّه لا يجوز للمكلف التقليد.

ثانياً: الحرمة: بمعنى انّه ليس للمكلف أن يقلد احداً.

ثالثاً: الوجوب التخييري: أي انّ المكلف له أن يسعى للاجتهاد ـ أن كان أهلا لذلك ـ أو أن يكون مقلدا وقد ذُكرت أقوال أخرى نشير إليها خلال البحث.

امّا الوجوب التخييري فعليه الأكثر من الإماميّة والسنة([21])، كما يبدو من تتبع الأقوال.

وقد عبّر عن الوجوب التخييري بمذهب التفصيل([22]) والمقصود منهما واحد، والمصطلح جاء ليكون مقابل الأول ـ أي الوجوب التعيينى ـ بينما المصطلح الثاني يشير إلى انّه تفصيل بين القولين الأولين.

وقد عبّر بعضهم بالجواز بدلاً من الوجوب، والظاهر انّ مرادهم منه: الجواز بالمعنى الأعم في مقابل المنع لا الإباحة، أو مرادهم: الإشارة إلى وجودة الطرف الثاني من الواجب التخييري وهو الاجتهاد([23]).

وغير خفيّ انّ التخيير قائم بين التقليد وتحصيل مقدمات الاجتهاد، وإلا فلو بلغ المكلف رتبة الاجتهاد لما بقي هذا التخيير في حقه، بل يحرم عليه التقليد.

أما القول الثاني ـ وهو حرمة التقليد ـ: فقد قال قوم، ومن أبرزهم الشوكاني([24])، وابن حزم([25])، وابن القيم([26])، ومعتزلة بغداد([27])، وعلماء حلب من الإماميّة([28])، وكذلك

(282)

الاخباريون منهم([29]) بل يمكن القول أنّه ظاهر الأئمة الأربعة حيث منعوا الناس من تقليدهم([30]).

ولو أردنا استقصاء، أقوالهم لخرجنا بنتيجة مهمة وهي أن كثيراً من أقوالهم يمكن أن ترد إلى القول الثالث ـ أي: الجواز ـ والا فيكفينا في الرد على قولهم بالاجتهاد العيني ـ أن قصدوه ـ انه يلزم فيه العسر والحرج بل الخلل في نظام الحياة، بل أنّه مما يستحيل على كثير من أفراد المكلفين.

وفيما يلي نذكر ما يمكن أن يجعل عليه مذهبهم بصدد التوفيق بينه وبين القول بالجواز:

أما الشكوكاني وابن القيم([31])، فإنهما منعا من التقليد من دون معرفة الدليل والوجه في الحكم الشرعي، الأمر الذي يجعل المكلف عرضة لتقليد من دون معرفة الدليل والوجه في الحكم الشرعي، الأمر الذي يجعل المكلف عرضة لتقليد رأي المجتهد، وهذا الذي قصداه هو ما يسمى الإتباع وهو جائز عكس التقليد الذي هو حرام.

وقد تبعهم بوجوب الإتباع جمع، منهم: ابن عبد البر، وابن خويز منداد كما حكاه عنهم السيوطي([32])، وهو الظاهر من كلام أحمد بل بقية أئمة المذاهب الأربعة([33]).

واما الأخباريون، فالظاهر أنهم حصروا الاجتهاد فيمن يقتصر في استنباطه على الكتاب والسنة([34])، نعم كان الأوائل منهم يرون حرمة الاجتهاد والتقليد معا([35]).

وأما الظاهر من علماء حلب فهو أن مرادهم من وجوب الاجتهاد وتحريم التقليد

(283)

هو الوجوب والتحريم على من اتصف بشرائط الاجتهاد وأمكنه القيام به، و إلاّ فالأغلب من الناس لو بذل عمره وأعطى أضعافه لما حصل له الترقي إلى درجة الاجتهاد([36]).

أما ابن حزم فالظاهر منعه عن التقليد بقدر ما يمكن للمكلف من الاجتهاد([37]).

وبهذا يتبين قول بعضهم ممن قال بالمنع يلتقي مع القول بالجواز كما يبدو من ابن حزم وعلماء حلب، فيما يرجع قول بعضهم الآخر إلى الجواز مع إضافة قيد أما إلى التقليد نفسه كقول الشوكاني وابن القيم اللذين عبرا عنه(بالإتباع)، أو إلى المجتهد الذي يجوز تقليده كما هو قول الأخباريين من الإمامية.

ولعلل التشديد عند هؤلاء في أمر التقليد وعدم إطلاق القول بالجواز هو: تمسك جماعات من المسلمين بمجتهد معين وتفويضهم إياه أمر دينهم، والتزامهم العمل بمذهبه فيما دق وجل وتقديمهم ما جاء عنه على بعض الأحاديث التي صحت عند غيرهم وعدم بحثهم عن صحتها بمجرد ترك الإمام لها، ظنا بأن عدم أخذهم بها دليل على ضعفها، وتصدر أناس من أصحاب المذاهب للفتوى ممن لا فرق بينهم وبين العامة إلاّ قليلا، والتلاعب بالفتوى من بعض هؤلاء، كلّ هذا من غير أن يبحثوا ومن غير أن ينظروا في آراء غيرهم من العلماء بعين الاعتبار([38]).

بقي القول الأول ـ أي الوجوب التعييني ـ وهو قول الحشوية والتعليمية، وكذلك ما حصل في عهود التقليد عند السنة التي أعلن فيها غلق باب الاجتهاد([39]).

والظاهر شذوذ هذا القول عن جمهور الأمة ولا يقول به الآن أحد.

ومن خلال ما ذكرنا من البحث يتبين لنا أن القول الثالث ـ أي الوجوب التخييري ـ هو قول أكثرية الأمة.

(284)

4 ـ أدلة التقليد:

ذكر العلماء لجواز التقليد أدلة سمعية وعقلية، ونحن نذكر بعض ما اتفقوا فيه من هذه الأدلة:

1 ـ الكتاب الكريم: لعل ابرز آية استدل بها على جواز التقليد هي قوله تعالى ﴿... فاسألوا أهل الذكر إنّ كنتم لا تعلمون﴾([40]) وقد ذكرها الكثير من العلماء([41])، مستدلين بها على جواز رجوع العامي إلى المفتي.

2 ـ الإجماع: ذكر الأكثرون([42]) من علماء الأمة أن الإجماع قام على جواز رجوع العامي إلى المجتهد والظاهر منهم أنّه إجماع سكوتي حصل من عدم وجود تناكر لما اعتاده العوام من الرجوع إلى المفتين.

3 ـ العقل: هناك صياغتان لدليل العقل:

الأولى ذكرها اغلب العلماء وهي: أنّه لو وجب على العامي النظر في أدلة الفقه لزم الضرر بأمر المعاش المضطر إليه، بل اختلال النظم وانقطاع الحرث والنسل([43])، فلابد له من تقليد المجتهد في احراز امتثال التكاليف الالزامية الشرعية.

الصياغة الثانية: انفرد بها بعض الإمامية، وسموه(دليل الانسداد) وخلاصته: أن التقليد إذا لم يكن جائزاً يلزم سد باب العلم على العامي لعجزه غالبا عن استنباط

(285)

الأحكام الشرعي([44]).

وهناك نقاط أخرى من الاتفاق أو التقارب في مسألتي الاجتهاد والتقليد تركناها حذراً من الإطالة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

([1]) رسالة الإسلام، المجلد 14: 215.

([2]) انظر: نهاية السؤل للاسنوي 2: 524، وتقريب الوصول لابن جزّي: 151، وقواعد الأصول لصفيّ الدين الحنبلي 43، وشرح طلعة الشمس للسالمي 2: 274، ومعارج الأصول للمحقق الحلّي: 179 والقول المفيد للشوكاني: 95، وشرح تنقيح الفصول للقرافي: 429، ومرآة الأصول للاستانبولي 2: 313.

([3]) الأصول العامة للفقه المقارن للسيد الحكيم: 563.

([4]) ـ لقد كان يظهر من حين لآخر بعض علماء المذاهب الّذين ينادون بفتح باب الاجتهاد، والاعتماد على الكتاب والسنة والأدلّة الاأخرى حتّى لو أيي ذلك إلى مخالفة آراء أئمة المذاهب، ولعل اكثرهم كانوا من فقهاء الحنابلة حيث إنّهم يرون عدم خلو عصر من العصور من وجود مجتهد. انظر: المدخل إلى مذهب احمد بن حنبل لابن بدران: 192.

([5]) ـ رسالة الإسلام 1: 351.

([6]) ـ الفصول في الأصول للأصفهاني: 403.

([7]) إعلام الموقعين لابن قيم 2: 199.

([8]) الاجتهاد في مقابل النص للسيد شرف الدين: 84، 85.

([9]) الرسائل للإمام الخميني قدس سره 2: 97 ـ 98، وأصول الفقه لأبي زهرة: 380.

([10]) الرسائل للامام الخميني قدس سره 2: 69.

([11]) الاجتهاد والتقليد لرضا الصدر: 32، والاجتهاد لمحمد موسى: 173.

([12]) المدخل إلى مذهب احمد لابن بدران: 182.

([13]) روضة الناظر لابن قدامة: 202.

([14]) الأصول العامة للفقه المقارن للسيد الحكيم: 609.

([15]) راجع موسوعة الفقه الإسلامي: 17: 284، ومستمسك العروة الوثقى 1: 69. والظاهر من المذاهب الأربعة عدم اشتراط كونه مجتهدا مطلقا.

([16]) مواهب الجليل 6: 88، جواهر الكلام 40: 15، والمغني لابن قدامة 11: 382.

([17]) الأحكام للامدي 4: 445.

([18]) معارج الأصول للمحقق الحلي: 199، وروضة الناظر: 205.

([19]) تيسير التحرير لابن الهمام 4: 241 ـ 242.

([20]) شذّ الحشويّة والتعليميّة في ذلك حيث جوّزوا بل اوجبوا التقليد حتّى في الأصول، الأحكام للامدي 4: 446.

([21]) ـ الأصول العامة للفقه المقارن، محمّد تقي الحكيم: 641.

([22]) ـ أصول الفقه للزحيلي 2: 1127، وإرشاد الفحول للشوكاني: 267.

([23]) ـ ذكر المتأخرون من الأماميّة طرفاً ثالثاً في التخيير وهو الاحتياط(العروة الوثقى 1: 4).

([24]) ـ إرشاد الفحول للشوكاني: 267.

([25]) ـ الأحكام لابن حزم 6: 227.

([26]) ـ أعلام الموقعين 2: 192.

([27]) ـ مبادئ الوصول: 247، ومفاتيح الأصول: 589.

([28]) ـ مفاتيح الأصول: 589، والأصول العامة، الحكيم: 642.

([29]) ـ الفوائد المدنية: 40.

([30]) ـ إرشاد الفحول للشكوكاني: 267، والاجتهاد في الإسلام للمراغي: 32.

([31]) ـ أعلام الموقعين 2: 190، والقول المفيد للشوكاني: 69.

([32]) ـ الرد على من اخلد إلى الأرض للسيوطي: 44، 46.

([33]) ـ الاجتهاد في الإسلام للمراغي: 37.

([34]) ـ الدرر النجفية للبحراني: 256.

([35]) ـ الفوائد المدنية: 40.

([36]) ـ منع الحياة للجزائري: 14.

([37]) ـ الأحكام لابن حزم 6: 296.

([38]) ـ الاجتهاد، سيد محمّد موسى: 574.

([39]) ـ الأصول العامة للحكيم: 461.

([40]) ـ النحل: 43.

([41]) ـ تيسير الترحير 4: 246، 247، ومقالات الأصول للعراقي 2: 207، ومنتهى الأصول والأمل: 220، وأحكام الأحكام للامدي: 4: 450 و 452، وروضة الناظر: 206.

([42]) ـ المحصول 2: 527، والذريعة للمرتضى: 796، وتيسير التحرير 4: 247، ومنتهى الأصول والأمل: 220، وشرح الكوكب المنير: 411، وشرح الأزهار للمرتضى 1: 5.

([43]) ـ المعارج: 197، وحقائق الإيمان: 199، صفة الفتوى والمفتي: 53، وروضة الناظر: 206، ومنتهى الأصول والأمل: 202، وأحكام الفصول: 726 ـ 728، والتبصرة: 414، والأحكام للآمدي 4: 450، ولم يذكره الأحناف.

([44]) ـ