حوار في العمق من أجل التقريب الحقيقي

حوار في العمق من أجل التقريب الحقيقي

 

 

حوار في العمق من أجل التقريب الحقيقي

 

صائب عبد الحميد

بسم الله الرحمن الرحيم

ما أحوجنا اليوم إلى كلمة تلمّ شعثنا، وتؤلف بين قلوبنا...

ما أحرانا باجتياز الحواجز التي ركزت بيننا...

ما أشوقنا إلى لغة الحوار السليم التي تعيننا على ذلك...

إذن لبلغنا المنى، ولاستوت مراكبنا، واجتمعت كلمتنا على ما تركه لنا نبينا المصطفى ـ صلى الله عليه وآله ـ، فلا نضل بعد، ولا نفترق فنسلك سبلاً شتى.

وإذ كان هناك دواعٍ لما حصل بيننا من خلاف، فما أجمل أن نقف عليها بكل حياد وتعقل، مدركين ومستشعرين أن المهم هو ظهور النهج الإسلامي الحنيف، وليس غلبة هذا الاتجاه أو ذاك...

وإن اتفاقنا على الحق الصريح هو الذي سيضمن اجتماعنا وائتلافنا...

وأمّا تعصّب كلّ منّا إلى فرقته، والذي هو عادة ورثها عن آبائه ونشأ عليها وتشرّبت بها عروقه فلا يزيدنا إلاّ تباعداً عن بعضنا، وابتعاداً عن المحجة البيضاء، والشريعة المحمدية السمحة.

(422)

نستطيع أن نقف أمام حقائق الدين والتاريخ وقفة حياد تام كما نقف أمام الظواهر الكونية والنظريات العلمية في الفيزياء والكيمياء والفلك وطبقات الأرض.

لماذا نقف أمام العلوم التجريبية بحيادٍ تامّ، فيما لا نعرف شيئاً من ذلك الحياد تجاه المفاهيم الدينية والحقائق التاريخية؟

لم يكن السّر في ذلك هو اختلاف طبيعة الحقائق الدينية والتاريخية عن طبيعة الحقائق التجريبية، إنّما السر في أننا قد تبنينا مواقف مسبقة تجاة القضايا الدينية والتاريخية، وهذه المواقف المسبقة هي التي تتحكم في طريقة تلقينا للقضايا والحقائق... بينما لم يكن نفس الموقف تجاه القضايا التجريبية.

ومن مزايا هذه المواقف المسبقة أنها أضفت صفة القداسة على كثير من المفاهيم والأشخاص، وهذه القداسة تقف سدّاً منيعاً دون تقبّل أيّة حقيقةٍ تهدم تلك المواقف المسبقة وتنال من هذه القداسة ! هذا مع أن المنهج الذي رسمه الإسلام للحوار والبحث العلمي قد الغي أي نوع من القداسة للمفاهيم وللأشخاص، وفتح أبواب البحث العلمي حتّى حيال اقدس المبادئ والمفاهيم، إلاّ وهو مبدأ التوحيد. فحين رد القرآن الكريم على الّذين جحدوا مبدأ التوحيد لم يصدمهم أولاً بالقداسة، ولم يهول عليهم التشكيك حتّى أتى بالحجة والبرهان القاطع.

قال تعالى:﴿...وما كان معه من إله إذا لذهب كلّ إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض...﴾([1]). فبعد أن قدّم البرهان العلمي الثابت حقّ له أن يبدي ما لهذا الأمر من قداسة، فقال: ﴿... سبحان الله عما يصفون.عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون﴾([2]).

ومثل هذا الأسلوب جاء أيضاً في قوله تعالى: ﴿أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون لو كان فيهما إلهة إلاّ الله لفسدتا...﴾ وبعد هذا البرهان القاطع قال: ﴿فسبحان

(423)

الله رب العرش عما يصفون﴾([3]).

أما النقاش في مبدأ المعاد واليوم الآخر فقد بسط القرآن الكريم فيه القول وفصل وأجاب على الشبهات بأنواع شتى من البراهين، وكذلك الحال مع مبدأ النبوة والكلام في صدق الأنبياء ورسالاتهم، ففي كلّ هذه المبادئ التي تمثل أصول الدين، ولا دين إلاّ بها، لم يصدم القرآن المعاندين بالتهويل والتكفير حتّى ساق الحجج ودافع عن هذه المبادئ والمفاهيم بالبراهين العقلية القاطعة ليوقفهم على حقيقة واضحة وضوح الديهيات التي لا يتنكر لها إلاّ معاند يعشق اللجاجة والجحود.

وكل شيء من العقائد الإسلاميّة هو دون هذه العقائد الثلاث بلا شك، وبلا أدنى خلاف...

إذن لنا كلّ الحق في مناقشة ما هو دون ذلك، ومعنا في حقنا هذا: القرآن والسنة.

نحن نعتقد بعصمة القرآن وعصمة السنة وبأن للتاريخ مساراً ما.

ولكننا نعود فنفرض آراءنا المذهبية على القرآن، فتظهر له معان شتى ووجوه مختلفة وأهداف متناقضة !. ونفرض آراءنا المذهبية على السنة، فتظهر وكأنها سنن شتى، لا سنة واحدة، ونفرض أهواءنا على التاريخ فنصدق منه ما وافقها، ونكذب بما خالفها!

إنّ هذا يعنى أننا في الحقيقة إنّما اعتقدنا بعصمة أهوائنا وآرائنا المذهبية، فجعلناها حاكمةً على كلّ شيء، لا على حقائق الأحداث فقط، بل على القرآن والسنة أيضاً !

وهذا هو السر في نمو النزاع واستفحاله وتفشيه.

هناك مصدر آخر اتخذنا منه أحياناً مصدراً من مصادر العقيدة، ومنحناه العصمة لا ليكون موازياً للقرآن والسنة، بل ليكون حاكماً عليهما.

لقد عمدنا إلى مرحلة من مراحل تاريخنا بعد الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ فأضفينا عليها

(424)

القداسة التامة ومنحناها سمة العصمة، فعمدنا إلى كلّ ما لا ينسجم مع شيء من تفاصيلها من القرآن والسنة نأوله لنصرفه عن ظاهره لكي لا يصطدم مع هذا الأمر الواقع أو ذلك. نعم لو تحقق الإجماع فعلاً على مسألة ما، لكان حجة علينا، ولكن لا يصح أن ينظر إلى الأمر النافذ بالفعل على انه إجماع دائماً!

جذور النزاع:

لقد ابتدأ النزاع في هذه الأمة سياسياً، ثم كان من شأن السياسة أن تقود هذا النزاع إلى ميادين الفكر والاجتماع الأخرى، حتّى توالت على الأمة عهود تتابع فيها حاكمون يتبنون اتجاهاً واحداً يتعصبون له ويوفرون له الحماية وأسباب الانتشار ويواجهون بالعنف كلّ اتجاه آخر.

ثم وجدوا لهم في كلّ عصر رجالاً ممن عرفوا بالفقه فقاموا بالتقرب إليهم واجتهدوا في توطيد سلطانهم بها فتعاظم الشرخ بين فصائل الأمة، وترسخت الحواجز بعد أن أصبحت حواجز دينية بين فئة تعيش في ظل السلطان ثم تمنحه الشرعية في سياساته ومقاصده، وفئات أخرى يطارد رجالها ويؤذى كبراؤها وربما يقتلون ويحجر على أفكارهم وكتبهم.

يقول الإمام الغزالي: «إنه لما انقرض عهد الخلفاء الراشدين أفضت الخلافة إلى قوم تولوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، فاضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء والى استصحابهم في جميع أحوالهم. وقد كان بقي من العلماء من هو مستمر على الطراز الأول وملازم صفو الدين، فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا، فرأى أهل تلك الإعصار عز العلماء وإقبال الأئمة عليهم مع إعراضهم، فاشرأبوا لطلب العلم توصلا إلى نيل العز ودرك الجاه، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزة

(425)

بالإعراض عن السلاطين أذلة بالإقبال عليهم، إلاّ من وفقه الله»([4]).

والحق أن هذا لم يكن وقفاً لجماعة واحدة دون سواها، فصحيح انه استغرق الحقب الأطول والأوسع والأشمل لصالح مذاهب الجمهور على أيدي الأمويين واغلب الخلفاء العباسيين ثم السلاجقة والأيوبيين، إلاّ أن الطوائف الأخرى كان لها دورها أيضاً، فكان للمعتزلة دور أيام المأمون والمعتصم، وللشيعة دور أيام البويهيين، وللإسماعيلية دور أيام الفاطميين، وأنه وإن اختلفت تلك الأدوار في المساحات الزمانية والمكانية ودرجة التطرف وحجم الأضرار، فإن الموضوع واحد في آثاره الاجتماعية الأدبية والدينية.

تلك الأجواء كانت السبب المباشر في ظهور الأخبار المكذوبة والأحاديث الموضوعة والعقائد والدخيلة، التي تسلحت كلّ فرقة بطائفة منها ورمت خصومها بطائفة أخرى.

فهل ذهبت تلك النزاعات ودرست مع الزمن واختفت آثارها؟

إنّ الحقيقة التي لا ينبغي أن تغيب عن أحد أن تراثنا الموجود بين أيدينا إنّما جمع وصنف في تلك الأحقاب، لا غير.. كلّ تراثنا الّذين نقرأه في الحديث، في التفسير، في الفقه، في الأصول، في العقائد، في التاريخ، لكه تراث تلك العهود عهود النزاع السياسي والمذهبي.

إذن لا مناص من أن يأتي تراثنا محملاً بتلك الآثار الخطيرة. وهذه هي الحقيقة التي طغت على تراثنا الإسلامي؛ هذه الحقيقة هي أول ما ينبغي أن نقف عندها، لا لأجل التقريب بين المذاهب فقط، بل على طريق المطالعة الحرة أيضاً، أو على طريق الدرس والتلقي، أو التحقيق أو التصحيح.

(426)

ثم ليس من حقنا أن ننتظر آيه فائدة ترجى من وراء هذه الوقفة ما لم يصاحبها شرطان متلازمان على طول الطريق وحتى النهاية، وهما:

1 ـ الجد في التأمل والنظر والمتابعة.

2 ـ الحياد التام في التعامل مع المفاهيم والأحداث إيماناً منا بأن التقريب لا يتحقق إلاّ عن طريق التصحيح... فالتقريب ثمرة شجرتها التصحيح.

وسوف ننتخب لهذا البحث ثلاث موضوعات، نتناول المصادر الأساسية لكل منها، ونسلط الضوء على جذور النزاع فيها. وسوف نرى في النهاية أن أسباب الخلافات والتباعد بين المسلمين، ومادة تلك الخلافات هي تلك المجموعة من الأخبار المكذوبة والأحاديث الموضوعة والعقائد الدخيلة التي أفرزتها أيام الصراع السياسي ثم أخذت تنمو وتنتشر حتّى دخلت في صلب عقائد المسلمين.

وهذه الموضوعات الثلاثة التي انتخبناها للدرس هنا هي: التاريخ، الحديث، التفسير.

وقبل الدخول في التفصيل نوجز وجهة النظر التي نتبناها في هذا الموضوع، فنقول:

1 ـ إنّ التقريب ثمرة طبيعية للتصحيح، فكما لا يمكننا أن ننتظر ثمرة تنتج بلا شجرة، لا يمكننا كذلك أن ننتظر للتقريب وجوداً ومعنى دون أن نقطع أشواطاً مهمة على طريق التصحيح.

وكما أن جودة الثمرة ورونقها يتوقف على مقدار العناية بالشجرة وتوفير أسباب نموها وحفظها من الآفات، فكذلك هو المستوى المرجو من التقريب، فإنه يتوقف على المقدار المنجز من التصحيح ودرجة نقائه.

2 ـ إنّ التصحيح ثورة حقيقية، ولا يجرؤ على تقحم نيران الثورة إلاّ الثوريون فالثوريون هم الّذين امتلؤوا استعداداً لتقديم الغالي والنفيس على طريق الثورة ولا يشغلهم عن أهدافهم ما سيفقدونه من راحة ونعيم وأموال وبنين وأهل.

(427)

وكذلك من أدرك أن التصحيح ثورة، ومضى على طريقه، فلن يوقف مسيرته ما يراه من تساقط الكثير من المعلومات والمفاهيم التي كان قد ورثها وقرأها وترسخت في ذهنه وأصبحت جزءاً من عواطفه، وربما أصبحت جزءاً من وجوده الاجتماعي أيضاً، لا يهمه أن يرى ذلك كله يتساقط على طريق التحقيق العلمي الدقيق.

إنّ التصحيح بهذا المعنى سيمر من خلال ثورتين:

ثورة على التراث، تثير كوامنه وتكشف حقائقه.

تسبقها ثورة على أوامر عوجاء أو معكوسة شدتنا إلى هذا التراث شداً مغلوطاً حال حتّى دون الإذن بمناقشته.

وهذا لا يعني أننا نستنكر أي نوع من الارتباط العاطفي بالتراث، كلا، فإن الارتباط العاطفي الصحيح المشذب ضروري جداً في ثبات العقيدة.

بعد هذا الإيجاز ننتقل إلى شيء من التفصيل في الميادين الثلاثة التي انتخبناها من بين ميادين التراث الواسعة، بغية فتح أبواب الحوار على طريق التصحيح الذي سوف يكون التقريب ثمرة طبيعية من ثماره.

1 ـ التاريخ:

حين يعنى بتدوين تاريخ أمة وقد ظهرت فهيا الاختلافات، وتوزعت أبناءها المذاهب، وتغلبت الأهواء التي تفرض هيمنتها في صياغة أفكار الناس ورؤيتهم للأحداث، عندئذ أين سيقف التاريخ؟

هل سيكون بعيداً عن معترك الميول والأهواء، منفصلاً عن قيود الزمان والمكان ليسجل الأخبار والأحداث كما هي تماماً، وبكامل أسبابها ومقدماتها وتفاصيلها وما خلفته من آثار، يسجلها كما هي قبل أن تنفعل معها الميول والأهواء؟

(428)

لا شك أن هذا هو الأمل المنشود، وهو الذي تقتضيه الأمانة للتاريخ وللحقيقة ولكن لا شك أيضاً أن التاريخ لم يكتب في الفضاء، ولا كان المؤرخ يستقل بساطاً سحرياً يقله فوق آفاق زمانه ومكانه.

إنه يكتب من على الأرض، وفي زمان ما ومكان ما.

وإنه يكتب ما يسمع وما يرى.

وإنّما يحدثه رجال لهم حيال الأحداث مواقف وميول، فهو لم يسمع في الحقيقة حدثاً مجرداً، وإنّما سمع الحدث ممزوجاً بانفعالات الناقلين، والمورخ نفسه هو واحد من أولئك البشر، يعيش في عصرهم... كما وان لكل عصر لونه ونغماته.

وحين يكون عصر من العصور قاسياً في مواجهة ما لا يتفق ونغماته، فإنما جاءت قسوته من أناسه؛ فالمورخ يكتب حين يكتب وهو يرى عيون الناس وكأنها ترصد أفكاره، وتحصي عليه حتّى مالم يرد بحسبانه !

ففي أحوال كهذه هل يبعد أن يكون المورخ منساقاً من حيث يدري أو لا يدري لواحدة أو أكثر من تلك المؤثرات الواقعية؟

عندئذ سوف يقتطع من الحقيقة التاريخية أجزاء مساوية لمقدار ذلك الانسياق.

ولعل هذا هو أضعف الأخطار الثلاثة التي قد تتعرض لها الحقيقة التاريخية...

أما الخطر الثاني: فيتمثل بالانسياق التام مع نغمات العصر وأهواء أهله.

وأما الخطر الثالث: فيتمثل في كون المؤرخ نفسه من أصحاب الأهواء الّذين لا يقبلون إلاّ ما وافق أهواء هم، ولا ينظرون إلى الأحداث إلاّ بمنظار الهوى.

بعد هذا، فإن التاريخ الذي سيكتبه هذا المؤرخ أو ذاك سوف يصبح مصدراً لثقافة الأجيال، تستقي منه رؤيتها للتاريخ التي ستساهم مساهمة فعالة في صياغة عقائدها.

فحين يجتمع الناس على واحد من هذه المصادر التي استجابت لبعض تلك

(429)

المؤثرات على حساب الحقيقة التاريخية ن فمن البديهي أن تحمل أذهانهم برؤى مغيرة للحقيقة.

ومن هنا تتسرب العقائد الدخيلة إلى الأذهان، فيعتقد الناس بأشياء ومفاهيم ليست هي من الإسلام ومفاهيمه الحقة، وهم يظنون أنها الحق.

وسوف لا يكون العوام وحدهم ضحية هذه الخطيئة، بل العلماء أيضاً حين يوقفون علومهم اعتماداً على هذه المصادر دون محاكمة وتمحيص.

والسؤال:

كيف اجتازت عيون التاريخ الإسلامي تلك الأجواء والمؤثرات لتحفظ لنا حقائقه؟

لا شك أن الوقوف على المشاهد الحية لإثبات حقيقةٍ ما هو أهم بكثير من البحوث النظرية والبراهين الفلسفية.

وهذا ما سنبيه هنا.

مشاهد حية:

المشهد الأول:

قال الزبير بن بكار: قدم سليمان بن عبد الملك إلى مكة حاجاً سنة 82هـ، فأمر أبان بن عثمان أن يكتب له سير النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ومغازيه. فقال له أبان: هي عندي قد أخذتها مصححة ممن أثق به.

فأمر سليمان عشرة من الكتاب بنسخها، فكتبوها في رق، فملا صارت إليه نظر فإذا فيها ذكر الأنصار في العقبتين وفي بدر، فقال: ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل، فإما أن يكون أهل بيتي غمصوا عليهم حقهم،وإما أن يكونوا ليس كذلك !

فقال له أبان: أيها الأمير، لا يمنعنا ما صنعوا أن نقول بالحق، هم على ما وصفنا لك

(430)

في كتابنا هذا.

فقال سليمان: ما حاجتي إلى أن أنسخ ذلك حتّى أذكره لأمير المؤمنين لعله يخالفه.

ثم أمر بالكتاب فخرق، ورجع فأخبر أباه عبدالملك بن مروان بذلك الكتاب، فقال عبد الملك: ما حاجتك أن تقدم بكتاب ليس لنا فيه فضل، تعرف أهل الشام أموراً لا نريد أن يعرفوها؟!

قال سليمان: فلذلك أمرت بتخريق ما نسخته!([5])

المشهد الثاني:

حدث المدائني عن ابن شهاب الزهري أنّه قال: قال لي خالد القسري([6]) اكتب السيرة.

فقلت له: فإنه يمر بي الشيء من سير علي بن أبي طالب، فأذكره؟

قال: لا، إلاّ أن تراه في قعر الجحيم([7]).

وكتب الزهري مغازيه، وجلها رواها عبد الرزاق في مصنفه، فمن قرأها وجد علياً رجلاً غريباً على السيرة ليس له فيها خبر ولا أثر، مع أن الزهري لا يمر على اثر لأبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ إلاّ فصل فيه وزينه أما علي فلا ذكر له في مغازي الزهري لا في العهد المكي بطوله، ولا في الهجرة، ولا في المؤاخاة، ولا في بدر، ولا في أحد، ولا في الخندق، ولا في خيبر، ولا حنين، ولا فتح مكة، ولا في غزوة تبوك، ولا في حجة الوداع، ولا في غير ذلكَ !

ومع هذا فإن الزهري كان يتهم شيخه الأول بالانحراف عن علي وبني هاشم!

(431)

فقد كان اكثر اعتماد الزهري في مغاريه على رواية شيخه عروة بن الزبير، وكانت أكثر رواية عروة عن أم المؤمنين عائشة، فيما كان الزهري يقول فيهما معا: إني اتهمهما في بني هاشم.

قال معمر: كان عند الزهري حديثان عن عروة عن عائشة في علي، فسألته عنهما يوماً، فقال: ما تصنع بهما وبحيثهما؟ الله أعلم بهما ! اني لا تهمهما في بني هاشم([8])

وروى الزهري أيضاً حديث عبد الله بن عبدالله بن عتبة عن السيدة عائشة في مرض رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ إذا قالت: وضع يداً له على الفضل بن العباس ويداً أخرى على رجل آخر، وهو يخط برجليه في الأرض.

قال عبيدالله: فحدثت فيه عبدالله بن عباس، فقال: أتدري من الرجل الّذي لم تسمه عائشة؟ هو علي بن أبي طالب، ولكن عائشة لا تطيب له نفساً بخير([9]).

المشهد الثالث:

إنّ عروة بن الزبير كان من أول من صنف في المغازي والسير.

فإذا كان ذلك هو نصيب علي في مغازي الزهري، فكيف هو في مغازي عروة؟

لقد تجاوزت مغازي عروة نصيب علي إلى نصي غيره من بني هاشم ! فقد حدث يزيد بن رومان عن عروة وهو يروي قصة مهاجرة الحبشة وحديث النجاشي معهم، فقال فيه: إنّما كان يكلم النجاشي عثمان بن عفان!

هذا فيما تسالم أصحاب الحديث والسير أن ذلك كان جعفر بن أبي طالب !

وحديث عروة هذا بين جعفر وعثمان ـ رضي الله عنهما ـ هو من صنف ما سخر منه الزهري من صنيع اتباع بني أمية في التاريخ.

قال معمر: سألت الزهري عن كاتب الكتاب يوم الحديبية، فضحك، وقال: هو

(432)

علي بن أبي طالب، ولو سألت هؤلاء ـ يريد بني أمية ـ لقالوا: عثمان!([10])

المشهد الرابع:

في قصة أبي ذر u مع بني أمية قال الطبري: في سنة 30 هـ كان ما ذكر من أمر أبي ذر و معاوية، وأشخاص معاوية إياه أمور كثيرة كرهت ذكر أكثرها، فأما العذرون معاوية فإنهم ذكروا في ذلك قصة كتب بها إلي السدي يذكر أن شعيباً حدثه سيف... ثم يسرد الطبري هذه القصة مردداً بين فقراتها: قال سيف، حتّى أتى على آخرها، ثم قال: وأما الآخرون فإنهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة وأموراً شنيعة كرهت ذكرها !([11]).

إذن لا شيء عن هذا الحدث الكبير الذي يكشف عن كثير من أسرار التاريخ إلاّ ما يرويه العاذرون معاوية ولا أحد يستند إليه العاذرون معاوية إلاّ سيف بن عمر الذي أجمع أصحاب الجرح والتعديل على أنّه كذاب يضع الحديث وأنه كان يتزندق... ثم من بعد سيف راويته المجهول شعيب ! ولا شيء بعد ذلك.

أما العاذرون أبا ذر فلا شيء عنهم في هذه الموسوعة التاريخية الكبرى !

وكذلك كان مع أهم مراحل التاريخ الإسلامي وأكثرها حساسية، تلك المرحلة التي ابتدأت بوفاة الرسول الأكرم ـ صلى الله عليه وآله ـ، فإني لم أضف إلى ما نقله أبو جعفر شيئاً، وإنّما اعتمدت عليه من بين المؤرخين إذ هو الإمام المتقن حقاً، الجامع لأحكام القرآن علماً وصحة اعتقاد وصدقاً([12]).

هذا مع أن هذه الأحداث قد اقتصد فيها الطبري على رواية سيف الذي عرف بالكذب والوضع والزندقة!

وقال ابن خلدون، بعد ذكر موقعة الجمل: هذا أمر الجمل ملخصاً من كتاب أبي جعفر الطبري، اعتمدناه للوثوق به، ولسلامته من الأهواء الموجودة في كتب ابن قتيبة وغيره([13]).

هذا مع أن الطبري لم يوثق ما رواه بل ذكر اسم الراوي لتعرفه الناس فتصدق روايته إنّ كان صدوقاً، وتردها إنّ كان معروفاً بالكذب واتباع الهوى. وموقعة الجمل قد

(434)

رواها الطبري عن سيف بن عمر !

وقال ابن خلدون أيضاً بعد أن فرغ من الكلام في أمر الخلافة وأخبارها: هذا آخر الكلام في الخلافة الإسلاميّة وما كان فيها من الردة والتفوحات والحروب ثم الاتفاق والجماعة، أوردتها ملخصة عن عيونها ومجامعها من كتاب محمّد بن جرير الطبري فإنه أوثق ما رأيناه في ذلك، وأبعد عن المطاعن والشبه في كبار الأمة من خيارها وعدولها من الصحابة والتابعين، فكيراً ما يوجد في كلام المؤرخين أخبار فيها مطاعن وشبه في حقهم أكثرها من أهل الأهواء، فلا ينبغي أن تسود بها الصحف([14]).

إشارات:

1 ـ ما هو الميزان الذي يعرف به صدق الأخبار وكذبها ؟

أيعرف ذلك من مساندتها للوضع السياسي في مرحلة من المراحل وموافقتها لأهواء العامة ورغباتها ؟ أم الصحيح أن يعرف صدقها أو كذبها من خلال معرفة أحوال الرواة أنفسهم، ومطابقتها لحقيقة أحوال الناس من صحابة وغيرهم؟

2 ـ أيهما أكثر شناعة: الخبر الذي يفيد بأن صحابياً ما كان مائلاً إلى الدنيا، ولم يتوخ العدل في حكمه، أم الخبر الذي يصف الصحابي بأنه كان من أتباع اليهود والنصارى؟

إنّ الأخبار التي أعرض عن ذكرها هؤلاء المؤرخون وعدوها من أخبار أهل الأهواء الّذين يأتون بالكلام الشنيع إنّما كانت تضع الحق مع أبي ذر الغفاري وتصف خصومه السياسيين بالميل إلى الدنيا وعدم توخي العدل في الحكم.

أما الأخبار التي رواها الطبري وعنه ابن الأثير وابن خلدون فقد دافعت حقاً عن خصوم أبي ذر ولكنها وصفت أبا ذر بكل صراحة، ومن بعده عمار بن ياسر، بأنهما كانا

(435)

أول المخدوعين باليهودي الزنديق عبدالله بن سبأ والمتأثرين بأفكاره والمندفعين وراءها في الفتنة!

فأي الخبرين أكثر طعناً على كبار الصحابة لو كان هذا هو الميزان المتبع في قبول الأخبار وردها؟

بين التاريخ والسنة الشريفة:

الأنصار رفعت السنة الشريفة منزلتهم، فقال فيهم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ «الأنصار لايحبهم إلاّ مؤمن، ولا يبغضهم إلاّ منافق»([15]).

وقال فيهم «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار»([16]).

وأخبرت السنة الشريفة أن بغض الأنصار سيظهر عند قوم عن قريب، وهؤلاء القوم غلبة، فسوف يستأثرون على الأنصار ويحبسون عنهم حقوقهم ويصرفونهم عن مكانتهم، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ للأنصار: «ستلقون بعدي إثرة، فأصبروا حتّى تلقوني على الحوض»([17]).

فملا ظهر هؤلاء القوم وتغلبوا على الأمور وأبعدوا الأنصار واستأثروا عليهم، جاء التاريخ فاستأثر على الأنصار وحالف خصومهم، ناسياً أن حب الأنصار آية الإيمان، وبغضهم آية النفاق!

وهكذا كان مع أبي ذر!

وقفت السنة الشريفة إلى جنبه، فقال ـ صلى الله عليه وآله ـ: «ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة من أبي ذر»([18]). لكن حين كذبه الحاكمون كذبه التاريخ، وحالف

(436)

خصومه يصنع لهم الأعذار ولو على ألسن الكذابين.

وعمار حين أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه([19])، وجعله النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ آية للفرقة المحقة إذا افترق الناس؛ جاء خصومه فاتهموه باتباع الشيطان وركوب الفتنة، فجاء التاريخ يصدق خصومه ويكذب فيه السنة الشريفة.

ولما كان علي هو العنوان المستهدف من قبل خصومه المتغلبين، كان هو وفئته عرضه لجور التاريخ على الدوام، فقد حالف التاريخ خصومه على الدوام يلم لهم الأعذار من هنا وهناك، ناسياً أن السنة الشريفة قد ثبتت أحكامها، بأن حب علي فرقان بين الإيمان والنفاق، ومعاداة علي معاداة لله ورسوله، وحرب علي حرب لله ورسوله!

فقد عهد النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ لعلي عهداً: «لا يحبك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق»([20])

وقال فيه: «من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه»([21]).

وقال فيه وفي أهل بيته: «انا حرب لمن حاربهم، وسلم لمن سالمهم»([22]).

وهكذا رسمت السنة مساراً، وسلك التاريخ مساراً آخر!

فما لنا لا ننظر إلى السنة الثابتة في محاكمة التاريخ؟

وإذا كان التاريخ قد كتب في أجواء صعبة أرغمته على متابعة المتغلب دائماً، والإعراض عن أخبار الثقات من خصومه، بل حتّى عن السنة الثابتة التي قد تكون سياسة المتغلب أحياناً حرباً صريحةً عليها؛ إذا كانت تلك هي ظروف التدوين، فما لنا نحن الّذين أتينا من بعد لا نتنبه لذلك ؟

مالنا لا نتنبه لأسرار هذه السنة الشريفة التي امتدت إلى المستقبل لتكشف آفاقه؟

(437)

فلماذا كان الأنصار مخصوصين بهذه العناية؟

ولماذا كان أبو ذر وحده أصدق لهجة من كلّ من أقلت الغبراء وأظلت الخضراء ؟

ولماذا كان عمار وحده مجاراً من الشيطان، وآية لأهل الحق؟

ولماذا كان علي فرقناً بين الإيمان والنفاق، ومن حاربه فقد حارب الله ورسوله؟

ألا نفهم من ذلك أن السنة قد جاءت لتهدينا إلى الحق الذي يجب محالفته ونكون معه حين يفترق الناس وتظهر النزاعات؟

لقد قالت السنة بلسان صريح:

إذا رأيتم من يكذب أبا ذر فاعلموا أنّه هو الكاذب أياً كان، فليس على هذه الأرض أحد أصدق لهجةً من أبي ذر!

وإذا رأيتم من يستأثر على الأنصار ويبعدهم، فأعلموا أن تلك واحدة من علامات النفاق!

وإذا رأيتم من يتهم عماراً مبادراً إلى الفتنة وغواية الشيطان، فأعلموا أن أولئك هم حزب الشيطان، لأن عماراً قد أجاره الله من الشيطان وأنه على الحق أبداً لا يفارقه !

وإذا رأيتم من عادى علياً وحاربه فأعلموا أنّه إنّما يحارب الله ورسوله!

أليست تلك هي نداءات السنة ؟!

إذن فالسنة قد أدانت التاريخ مرات ومرات.

ولقد أدرك الكثيرون حقيقة أن معظم المؤرخين الّذين صاغوا هذا التاريخ هم من الموالين للسلطات سياسياً في عهود تأجج فيها النزاع السياسي وازدادت حدته حتّى امتد إلى كلّ ميادين الحياة، فكان اقل ما يفعله المؤرخون هو تبرير أعمال الخلفاء والأمراء والكف عن ذكر ما يزعجهم وإن كان هو الحق...

كما أن معظم المؤرخين كانوا أيضاً موالين للسلطات مذهبياً في عهود كان فيها

(438)

النزاع المذهبي على أشده فكان كلّ فريق لا يروي عن مخالفيه إلاّ ما يشينهم، وقد لا يروي عنهم إلاّ الكذب والبهتان...

مصادر تاريخية مضادة:

ظهر في مقابل المصادر المتقدمة مصادر أخرى مالت عن الحق ولكن في الاتجاه المعاكس وكأنها ردة فعل ومثال هذا النوع من الكتب: كتاب أبي القاسم علي بن احمد الكوفي الذي عرفه النجاشي. باسم(كتاب البدع المحدثة) ورأيته مطبوعاً باسم(كتاب الاستغاثة).

وقد قال النجاشي في هذا المؤرخ وفي سائر كتبه ما نصه: «أبو القاسم الكوفي رجل من أهل الكوفة كان يقول إنه من آل أبي طالب، وغلا في آخر أمره وفسد مذهبه، وصنف كتباً كثيرةً أكثرها على الفساد».

ثم ذكر منها كتاب البدع المحدثة، وكتاب تناقض أحكام المذاهب الفاسدة، ووصفه النجاشي بأنه تخليط كله([23]).

وقال فيه ابن الغضائري: «أبو القاسم الكوفي المدعي العلوية كذاب غال صاحب بدعة ومقالة، رأيت له كتباً كثيرة خبيثة»([24]).

فكتاب كهذا لا يعد في تراث المسلمين أصلاً، وإنّما هو من تراث الغلاوة، وعده في تراث الشيعة خطأ كبير وجناية مضاعفة.

خلاصة:

من كلّ ما تقدم، وكثير مثله، نخلص إلى حقيقةٍ لا شك فيها، وهي: أن معلوماتنا عن التاريخ بحاجة إلى مراجعة جادة، ودراسة في ضوء رؤية شمولية للتاريخ الإسلامي؛

(439)

رؤية تحيط بجوهر رسالة الإسلام. رؤية تكون فيها الشريعة الإسلاميّة بمصدريها الأساسين(القرآن والسنة) هي المعيار الذي تقوم على أساسه الأطراف والمنازعات والفئات المختلفة.

وبدون ذلك لا نستطيع أن نتقدم خطوة واحدة نحو الفهم الصحيح لحقائق تاريخنا ومعرفة الصدق والكذب والحق والباطل فيه.

وبدون ذلك لا نستطيع أن نتقدم خطوة واحدة نحو التقريب، إلاّ أن يكون تقريباً وهمياً يتداعى أمام ادنى إثارة !! وإني لأخشى أن تكون إثارتي هذه وحدها كافية لتداعيه!

إنّ الدهشة لتأخذني حقاً حين ينشد التقريب من بين كتابين حشي أحدهما بأخبار النواصب، وامتلأ الآخر بأخبار الغلاة ! وأكثر من هذا ينتابني حين ألمس تردداً في قبول ضرورة تصحيح تراثنا الإسلامي العزيز وتنقيته مما تراكم فيه من الأخبار والآثار !

2 ـ الحديث

سير الصحابة ومناقبهم هو المحور المهم في محاور الصراع المذهبي. ثم كان منشأ العقائد المختلفة المحور الآخر لهذا الصراع...

وقد بلغ الصراع حول هذه ين المحورين أوجه في مطلع العهد الأموي، وعلى امتداده...

وتكمن خطورة الأمر في أن هذا العهد هو العهد الذي وضعت فيه اللبنات الأولى للتدوين والتي صارت أساساً لتدوين ما بعدها.

ولم تكن السياسة آنذاك تدع الثقافة تجري بعيداً عن سلطانها، بل بسطت عليها سلطانها كما بسطته على شؤون الإدارة والأجناد.

(440)

وقد رأينا أثر ذلك في التاريخ، أما أثره في الحديث فكثير أيضاً، نظرقه هنا بإيجاز من خلال ثلاثة أبعاد:

البعد الأول ـ في العقائد:

لقد ظهرت في هذا العهد ومجاراة للسياسة الأموية عقيدتان، هما: القول بالجبر، والقول بالإرجاء، وفي مقابل القول بالجبر ظهرت عقيدة مناقضة تقول بالتفويض، أما الإرجاء فكان يقابل قول الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة، فظهر بين القولين القول بالمنزلة بين المنزلتين.

وفي لجة النزاع ظهر كثير من الحديث الموضوع تدعم به كلّ طائفة أقوالها وتهدم به أقوال خصومها، وهذا ظاهر في أدنى مراجعة لكتاب اللآلى المصنوعة مثلاً.

وقد كان الخوارج أكثر صراحة حين قال قائلهم: كنا إذا كان لنا هوى في شيء جعلناه حديثاً.

البعد الثاني ـ في الفضائل:

وهذا البعد قد أولته الدولة الأموية اهتمامها منذ البداية حيث مثل جزءاً مهماً في سياستها وفق برنامج محكم ثم عبر مراحل، وقد حفظ لنا التاريخ صورة هذه المراحل عن غير واحد من الأئمة الثقات، ومنهم الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ والمدائني، ونفطويه، وقد عين المدائني خاصة تلك المراحل فقال:

كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: «أن برئت الذمة ممن روى شيئاً في فضل أبي تراب وأهل بيته».

هذه هي أولى مراحل المشروع الجديد.

قال: «وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة».

(441)

وهذه ثاني مراحل المشروع... فمن كانت هذه حاله فلو حدث بحديث فحديثه مردود، فكيف تؤخذ أحاديث الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ ممن لا تقبل شهادته ؟!

وهكذا فعلاً ردت أحاديث أهل هذه الطائفة، وكذبوا، فلما جاء أهل الجرح والتعديل في فترة لا حقة وقد بلغهم عنهم التكذيب، جعلوهم في عداد الضعفاء والكذابين والمتروكين، وعللوا ذلك بأنهم كانوا يتشيعون!

قال: وكتب إلى عماله «أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل بيته والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقربوهم واكتبوا لي بكل ما يروي كلّ رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته».

قال: ففعلوا ذلك حتّى اكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما يبعثه إليهم معاوية ويفيضه عليهم، وكثر ذلك في كلّ مصر، فلبثوا في ذلك حيناً...

قال: ثم كتب إلى عماله: «إنّ الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كلّ مصر وفي كلّ وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحب إلي واقر لعيني وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته واشد عليهم من مناقب عثمان وفضائله».

فقرأت كتبه على الناس، فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعله لا حقيقة لها وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتّى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وألقي إلي معلمي الكتاتيب فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتّى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن، وحتى علموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا في ذلك ما شاء الله.

قال: فظهر حديث كثير موضوع، وبهتان منتشر، ومضى على ذلك الفقهاء

(441)

والقضاة والولاة، والقراء المراؤون والمستضعفون الّذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند الأئمة يصيبوا به الأموال والضياع والمنازل، حتّى انتقلت تلك الأخبار والأحايث إلى الديانين الّذين لا يستحلون الكذب والبهتان، فقبلوها ورووها وهم يظنون أنها حق، ولو علموا أنها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها!([25])

والى مثل هذا القول انتهى حديث الإمام الباقر ـ عليه السلام ـ وهو يصف تلك المرحلة، حيث قال في آخر كلامه: «حتّى صار الرجل الذي يذكر بالخير، ولعله يكون ورعاً صدوقاً، يحدث بأحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من قد سلف من الولاة، ولم يخلق الله تعالى شيئاً منها، ولا كانت وقعت وهو يحسب أنها حق لكثرة من رواها ممن لم يعرف بالكذب ولابقلة ورع»!([26]).

والى نحو هذا انتهى كلام نفطويه حيث يقول: «إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة اختلقت في ايام بني أمية تقرباً إليهم في ما يظنون أنهم يرغمون به أنوف بني هاشم»!([27]).

تلك إذن كانت مرحلة طويلة وسعي حثيث ثبت فيه حديث كثير. قال الشيخ محمّد حين الذهبي: كان مبدأ ظهور الوضع في الحديث سنة 41 هـ، ولكن فشو الوضع وتفاقم خطره كان في عصر التابعين([28]).

ثم جاء اللاحقون من أهل التدوين والجرح والتعديل فاعتمدوا على ما ثبت في ذلك العهد من أحاديث وأخبار مدونة أو مروية يتناقلها الناس ـ وفيهم الثقات وأهل العلم ـ على أنها أحاديث صحيحة، فقبلوها وصححوها وأدخلوها في دواوينهم، فصاروا

(443)

ينظرون إلى كلّ ما خالفها على أنّه حديث منكر، ومن أكثر منه صار عندهم في عداد الوضاعين !

إنها حقيقة يؤيدها التاريخ بكل جزئياته... وهي الحقيقة التي تنسجم تماماً مع ما تقدم ذكره حول التاريخ وإنها بلاشك حقيقة مرة.. ولابد أن نتجرع مرارتها فنحاكم تلك القواعد الخاطئة حتّى يتسنى لنا معرفة الغث من السمين، والوقوف على تراثنا الإسلامي في صورته الناصعة.

من ناحية أخرى ظهر اتجاه معاكس في الوضع إنه اتجاه الفرق الغالي، فقد تعددت الفرق الغالية في ذلك العهد، وظهر منها كم كبير من الحديث الموضوع الذي نسبوا أكثره إلى الأئمة من أهل البيت وأكثر حديثهم كان في فضائل أهل البيت بما يتضمن المغالاة فيهم، وفي مطاعن خصومهم، وفي العقائد المنحرفة التي أتوابها.

وفي هذه الميادين جميعاً أكثروا من الحديث الموضوع ونسبوه إلى أهل البيت ـ عليهم السلام ـ.

قال الإمام الصادق u: «كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه المتسترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة فكان يدس فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي ثم يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أن يبثوها في الشيعة... فكل ما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو فذاك ما دسه المغيرة بن سعيد في كتبهم»([29])

وقال الصادق u أيضاً: «إنّ المغيرة كذب على أبي فسلبه الله الإيمان، وإن قوماً كذبوا علي، ما لهم أذاقهم الله حر الحديد ! فو الله ما نحن إلاّ عبيد الذي خلقنا واصطفانا، ما نقد على ضر ولا نفع، وإن رحمنا فبرحمته، وإن عذبنا فبذنوبنا، والله ما لنا على الله من

(444)

حجة، ولا من الله براءة، وإنا لميتون ومقبورون ومنشورون ومبعوثون وموقوفون ومسؤولون، ويلهم، مالهم، لعنهم الله ! فقد آذوا الله وآذوا رسوله في قبره»([30]).

وهكذا كثر هذا النوع من الحديث وانتقل إلى كتب الشيعة... ولا يكفي في مواجهتها كون الرواة من الغلاة مذكورين في كتب الرجال، فهذا قدر لا ينتفع به إلاّ أهل التحقيق الّذين تجردوا من كلّ هوى وهم الندرة دائماً في كلّ عصر ومصر...

وأمام هذين الاتجاهين من الوضع تبدو المسألة أكثر يُسراً، حين كانت كتب الرجال قد عرفت النواصب والغلاة..

وحين كان النواصب بحكم المنافقين على ما في الحديث الصحيح «لا يبغضك إلاّ منافق».. والغلاة بحكم الكفار لسوء معتقدهم... ولا خلاف في أن المنافقين والكفار معاً لا يؤتمنون على هذا الدين.

فلو ابتدأ المشروع التصحيحي بطرح أحاديث النواصب والغلاة من تراثنا الإسلامي وبكل حزم وبعيداً عن التساهل لقطعنا شوطاً عظيماً على الصعيدين معاً: صعيد التقريب وصعيد التصحيح.

البعد الثالث ـ مصادر التدوين:

النظرة إلى مصادر التدوين تكشف كثيراً من الغبار المثار بوجه الحقيقة... وبكل سرعة وإيجاز...

فحين أو عز إلى ابن جريح وأبي بكر بن حزم بجمع الحديث النبوي، كان بينهما محمّد الباقر وزيد ابنا علي بن الحسين ـ عليه السلام ـ فكان الأولان هما المعنيان بذلك فقط مع أنهما لم يكونا أكثر علماً وأمانة من الآخرين!

وحين أو عز إلى الزهري أن يدون الحديث والسيرة كان محمّد الباقر وأخوه زيد

(445)

وابنه جعفر بن محمّد أحياء علماء أمناء ولم يكن الزهري بأكثر منهم علماً ولا أمانةً على هذا الدين!

وحين أو عز إلى مالك بن انس أن يكتب الحديث والفقه ليعمم على بلاد المسلمين كان في تينك السنتين موسى بن جعفر قد غيب في السجن فلا يصل إليه أحد يسمع منه حديثاً وينقل عنه علماً، وأمضى على هذه الحال أربع عشرة سنة حتّى توفي في سجنه.

إنّ هذه الحقائق وحدها لتكفي في الدعوة إلى التفكير الجاد في محاكمة مصادر ثقافتنا...

لقد جاء ابن حزم وغيره ليقولوا إنه لم يصح عن علي u سوى خمسمائة حديث وبضعة أحاديث...

إنهم نظروا إلى ما أخرجه أصحاب السنن عند أهل السنة وحدهم...

إنه ليس من الإنصاف أن نضرب بالكامل على كلّ ما رواه محمّد الباقر وزيد بن علي مسنداً عن علي u.

3 ـ التفسير:

سلك التفسير طرقاً ومفاهيم متعددة يمكن حصرها بمايلي:

1 ـ التفسير بالمأثور.

2 ـ التفسير بالرأي.

3 ـ التفسير بالقرآن

4 ـ التفسير الباطني.

5 ـ التفسير الصوفي الإشارتي.

6 ـ تفاسير حديثة غلبت عليها صبغ معينة، كالصبغة العلمية، والصبغة الأدبية،

(446)

والصبغة الاجتماعية.

التفسير بالمأثور:

1 ـ يعد التفسير بالمأثور أول أشكال التفسير ظهوراً وسمته الثابتة الاقتصار في تفسير الصن القرآني على ما ورد في الأثر من ذلك عن الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ أو الصحابة وأهل البيت والتابعين.

ويمكن أن يلاحظ أن أصحاب هذا المنهج قد سلكوا فيه مسلكين:

الأول: توقف عند حدود الرواية فلم يزد فيه المفسر على إيراد الروايات شيئاً يذكر، وربما ذكورا أسانيد رواياتهم وربما حذفوها اختصاراً.

ومن هذا القسم: تفسير العياشي، تفسير فرأت الكوفي، تفسير القمي، تفسير الطبري(الزيدي) تفسير الثعلبي، تفسير البرهان، الدر المنثور للسيوطي، نور الثقلين.

والقسم الثاني:زاد على إيراد الروايات فوائد مهمة، كالترجيح بين الروايات ونقد أسانيدها وانتخاب الأصح منها والأنسب بالمعنى القرآني والأكثر موافقة للأصول، وكإدخال فوائد لغوية مهمة في محلها.

ومن تفاسير هذا القسم: تفسير الطبري، وتفسير ابن كثير.

وللتفسير بالمأثور عامةً آفتان خطيرتان:

الأولى: كثرة الأحاديث الضعيفة والموضوعة فيها، لأن غرض أصحابها عادةً هو جمع كلّ ما ورد من روايات في معنى النص القرآني بدون النظر في أسانيدها، ولا في اضطراب متونها أو مخالفتها للأصول الثابتة في الشرع.

الثانية: عرضها للإسرائيليات الدخيلة على ثقافتنا وعقائدنا.

ولا يكاد ينجو تفسير روائي من هاتين الآفتين.

أما قول ابن تيمية في تفسير الطبري: «إنه لا يروي الموضوعات، ولا يروي عن

(447)

المتهمين»([31]) فهي مجازفة واضحة لا يوافقه عليها أحد حتّى الطبري نفسه إذ رد كثيراً من الروايات التي أوردها في تفسيره، وروايات أخرى لم يردها ولم يعقب عليها قال فيها الدكتور محمّد السيد حسين الذهبي: «ابن جرير يروي في تفسيره أباطيل كثيرة يردها الشرع ولا يقبلها العقل، ثم هو لا يعقب عليها بما يفيد بطلانها اكتفاء بذكر أسانيدها»([32]).

وذا كان الدكتور الذهبي يركز هنا على الإسرائيليات فإن قوله هنا جار أيضاً على روايات تفسير السلف بل إنّ ابن تيمية نفسه الذي قال:«إنّ الطبري يروي تفاسير السلف بالأسانيد الثابتة»([33]) لم يلتزم قوله هذا ولم يعرف لتفسير الطبري هذا الحق في مجادلاته العقائدية...

فمرة وصف أحاديثه بأنها موضوعة ولم يروها أحد من أهل العلم، في حين رواها الطري من طرق متعددة نحو تصدق علي u بالخاتم وهو راكع ونزول قوله تعالى: ﴿إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون﴾([34]) قال ابن تيمية: هذه من الموضوعات باتفاق أهل العلم([35]). في حين رواها الطبري بأسانيده عن السلف من خمسة طرق، لا من طريق واحد!

وغير هذا كثير ذكرنا منه نماذج في كتابنا «ابن تيمية حياته وعقائده ـ موقفه من الشيعة وأهل البيت» الذي صدر حديثاً.

ومرة أخرى رأى ابن تيمية أن خصماً له يحتج لمذهبه برواية للطبري في تفسيره، فقال ابن تيمية في الرد عليه: «إذا كان في بعض كتب التفسير التي ينقل فيها الصحيح والضعيف، مثل: تفسير الثعلبي والواحدي والبغوي بل وابن جرير وابن أبي حاتم لم يكن

(448)

مجرد راوية واحد من هؤلاء دليلاً على صحته»([36]).

ومثل هذا الكلام يرد في حق من يذهب إلى تصحيح كلّ ما جاء في تفسير القمي ـ بحجة أن القمي قد وثق مشايخه ـ فيرد عليه:

ألف ـ إنّ توثيق القمي لمشايخه لا يعد توثيقاً لسائر رجال السند وهذه مسألة لا يخالف فيها أحد.

ب ـ أن تفسير القمي قد ضم في مروياته روايات لا تستقيم مع القرآن ولا مع اللغة ولا مع الأصول، ولا يمكن حملها على أي محمل، فمن ذلك.

عند قوله تعالى: ﴿إنّ الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها...﴾([37]).

قال القمي في رواية ذكر إسنادها: إنّ هذا مثل ضربه الله تعالى لأمير المؤمنين، فالبعوضة: أمير المؤمنين وما فوقها: رسول الله !([38]) فعلى أي وجه يمكن أن يحمل هذا الكلام ؟!

عند قوله تعالى: ﴿مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان... يحرج منهما اللؤلؤ والمرجان﴾([39]).

قال القمي: البحران: علي وفاطمة، والبرزخ: رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ واللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين ـ عليهما السلام ـ.

وعلى هذا الكلام الأخير بالخصوص، وعلى اصل الموضوع ـ وهو التفسير بالباطن ـ عامة، قال الشيخ محمّد جواد مغنية بالحرف الواحد: «نسبت إلى الشيعة الإمامية أنهم يعتقدون بأن المراد بالبحرين: علي وفاطمة وبالبرزخ: محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ وباللؤلؤ

(449)

والمرجان: الحسن والحسين وأنا بوصفي الشيعي الإمامي أنفي هذه العقيدة عن الشيعة الإمامية على وجه الجزم والإطلاق، وأنهم يحرمون تفسير كتاب الله تفسيراً باطنياً»([40]).

فهذا رد صريح لهذه الرواية ولسائر ما في هذا التفسير وغيره من الباطن.

وليست هي كلمة محمّد جواد مغنية وحده، بل من تتبع ما قرره أهل العلم من الأصوليين وجد أنها كلمة إجماع عندهم، فإلى هذا ذهب الشيخ المفيد وعلم الهدى الشريف المرتضى والشيخ الطوسي والعلامة الطبرسي والشيخ محمّد جواد البلاغي والسيد الخوئي وغيرهم.

ج ـ رد الشيخ البلاغي كثيراً من روايات القمي في تفسيره معللاً ذلك بضعفها، وقد تكرر هذا في عدة مواضع من تفسيره « آلاء الرحمن».

وخلاصة القول: انه لا تخلو التفاسير الروائية من الأحاديث الموضوعة والأخبار الدخيلة. ولهذه الأحاديث والأخبار آثارها السلبية الكبيرة في زيادة تعقيد الخلافات المذهبية بما تحمله من عقائد غريبة دخيلة قد يتدين بها بعض المسلمين دون بعض، فتظهر بذلك سلسلة جديدة من النزاعات بين الفريقين، وبملاحظة أن الأخبار حملت عقائد شتى ووردت في مصادر كثيرة، فإن الانقسامات ستزداد فتزداد النزاعات تبعاً لها، وتتسع الهوة.

وكل هذا خلق من تلك الأخبار الدخيلة والأحاديث الموضوعة التي شحنت بها كتب التفسير الروائي بالخصوص، لو استطعنا تنقية تراثنا التفسيري من هذه الشائبة لدفعنا عن أمتنا شراً عظيماً كان ولا يزال واحداً من مصادر النزاع والخلافات بين المسلمين.

3 ـ هناك محاولات علمية قيمة قام بها بعض المفسرين، فناظر في تفسيره بين

(450)

الروايات المنقولة عن مصادر الفريقين وحاكم بينها مستعيناً بالنص القرآني والسياق والأصول لينتخب الأنسب منها، فربما اتفقت عنده روايات الفريقين فأقرها جميعاً، وربما ردها جميعاً، وربما رجح رواية أحد الفريقين وفق القواعد المذكورة بعيداً عن التحيز والهوى والعصبية المذهبية.

وهذا المنهج منهج حق، جدير أن يقتدى به.

وفي حدود مطالعتي لم أجد أحداً يتقدم في هذا المنهج على الشيخ البلاغي في تفسير «آلاء الرحمن».

ثم هو منهج تقريبي ممتاز، جاء البعد التقريبي فيه تابعاً للبعد العلمي التحقيقي السليم، وهذا هو التقريب الحقيقي.

وهو منهج متقدم على ما سلكه الشيخان الطوسي والطبرسي في تفسيريهما حيث حاولا إيراد المهم والمعتمد مما قاله أصحاب المذاهب المختلفة في تفسير كلّ آية، مع ما في هذا الذي ملكه الشيخان من اعتداد ظاهر بآراء المذاهب على اختلافها، أو على الأقل فهو منهج ينطوي على تقدير لتلك الآراء، فلا إنكار ولا تهجم ولا ازدراء ولا تناس!

وفي هذا من الاثر التقريبي ما لا يخفي.

4 ـ تتمة مهمة أثيرها، ولا أمتلك جواباً عنها، الآن على الأقل، وهي:

إنّ أصحاب التفسير الّذين نقلوا تفاسير السلف قد تسالموا على أن أكثر الصحابة تفسيراً عبدالله بن عباس، ونقلوا عن ابن عباس أنّه أخذ تفسيره عن علي u.

قال ابن عطية: أما صدر المفسرين والمؤيد فيهم فعلي بن أبي طالب، ويتلوه عبدالله بن عباس وهو تجرد للأمر وكمله، وقال ابن عباس: ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب([41]).

(451)

والسؤال الذي أثيره هنا، هو: أن هذه النقطة تمثل موضعاً مهمّاً وكبيراً من مواضع الوفاق والتي تشغل المساحة الأوسع في التفسير، وكان هذا لابد أن يظهر في تفاسير المسلمين عامة، وفي التفاسير الروائية التي اعتمدت المأثور خاصة.

لكن لم يظهر شيء من ذلك، فما هو السر في ضياع هذه المساحة الواسعة من مساحات الوفاق ؟ وهل من سبيل إلى تدارك هذا الأمر؟

أرى أن هذه إثارة جادة، جديرة بأن تحظى بعناية المتخصصين في هذا الباب، بالدرس والتحقيق الموضوعيين، وسوف تعود تلك المساعي على الأمة بنتائج حسنة بلاشك.

التفسير بالرأي:

1 ـ التفسير بالرأي المقبول عند المسلمين عامة هو ما كان قائماً على الاجتهاد الصحيح المستند إلى الأصول الثابتة في الشريعة وإلى اللغة والبلاغة والبيان.

وقد شاع هذا المنهج بين المسلمين وسار عليه أكابر المفسرين، وقد اختلفت هذه التفاسير في مدى اعتمادها على المأثور، وفي طبيعة استفادتها من اللغة، وطبيعة رجوعها إلى العقل.

وفي هذا النوع من التفسير تختفي أو تعار آفات التفسير بالمأثور من كثرة الموضوعات والإسرائيليات غير أنها من ناحية أخرى كانت مسرحاً لظهور العقائد والنزاعات المذهبية.

وقد تجسدت آفتها الكبرى حين أصبح القرآن فيها تابعاً لعقائد المفسرين منقاداً لها، بدلاً من أن يكون مصدراً لها حاكماً عليها فكثر فيها التأويل وصرف النص عن ظاهره والتحكم بالمعاني والمفردات لأجل موافقة المذاهب والانتصار لها.

وهذا طريق خاطئ بلا شك، لا يقره أحد أبداً، لكن هذا الطريق الخاطئ أصبح

(452)

واحداً من مصادر النزاع بين المسلمين.

2 ـ ومنشأ الخلاف الظاهر في هذه التفاسير يعود إلى مصدرين أساسين داخلين في هذا النوع من التفسير، هما: اللغة، والعقل.

اللغة:

بلا شك أن اللغة مصدر من مصادر التفسير الصحيحة، فالقرآن إنّما يتكلم بلغة، ففهم معانيه موقوف على المعرفة بهذه اللغة ومفرداتها واستخداماتها وخصائصها.

ولقد كان الرجوع إلى اللغة كمصدر من مصادر التفسير قديماً على عهد الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ.

ومن الشروط الأولية التي اتفق عليها أهل العلم في المفسر: معرفته التامة باللغة العربية، فليس لغير العالم بها حق الدخول في تفسير شيء من كتاب الله العزيز، ولا يكفي في حقه تعلم اليسير منها([42]).

لكن طبيعة وحدود الاستفادة من هذا المصدر الصحيح اظهرت خلافات جديدة صارت فيما بعد مصدراً من مصادر النزاع الطائفي. مثال ذلك:

اختلافات المفسّرين في مجازات القرآن:

ففريق أوغل في استخدام المجاز وبالغ فيه مع كلّ نصّ غير قطعي الدلالة تقريباً، فكثر عندهم الانتقال من الحقيقة إلى المجاز كما هو ملاحظ في تفاسير المعتزلة غالباً.

وفريق آخر منع من قبول المجاز في القرآن والتزم بظاهر اللفظ وهؤلاء هم أهل الظاهر.

بينما توسط فريق آخر بين الفريقين، فقبل الانتقال من المعنى الحقيقي إلى المجازي لكن باعتدال ووفق شروط واضحة وعلى هذا المنهج سارت أهم التفاسير المعروفة

(453)

عند الفريقين.

وهذا الخلاف الذي ظاهره الاستفادة من اللغة هو في الأصل نابع عن المصدر الثاني ـ المصدر العقلي ـ كما سنرى.

العقل:

لما كان العقل عند المعتزلة مستقلاً في الحكم، مقدماً على الشرع، فقد كثر عندهم الرجوع إلى العقل في التفسير، وآلتهم في ذلك اللغة ومفرداتها ومفهوماتها.

ورأى الإمامية أن العقل طريقاً موصلاً إلى العلم القطعي، فلذلك لا يصح عندهم أن يكون شاملاً للظنون([43]). كما عدوا الرجوع إلى العقل بلا دليل يدل عليه عدوه من اتباع الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً، وأن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يصح إلاّ بدليل صحيح وحجة قاطعة([44]).

وأهل الظاهر على خلاف الفريقين معاً.

والمهم في هذا الموضوع مسألتان نشير إليهما بإيجاز:

المسألة الأولى:

إنّ الاختلاف في الفهم وفي التفسير ضمن الحدود التي تستوعبها اللغة العربية ويتحملها النص القرآني أمر لا غرابة فيه، ولا يستنكره الدين ولا تأباه العقول، بل يمكن أن يقال إنه أمر لابد من وقوعه، كما أن وقوعه خير من عدم وقوعه، لأن فيه من التوسعة والتيسير ما لا يخفى، ولأنه وليد طبيعي لحرية التفكير ولحياة الأمة.

ولكن الذي يستنكره الدين بلا ريب أن تصبح هذه الاختلافات المباحة

(454)

والطبيعية محاور للنزاع والصراع الطائفي، فإذا بتلك الرحمة تنقلب نقمة، وذاك اليسر عسراً، وتلك السعة ضيقاً، وإذا بالحياة صورة من صور الموت.

والواقع الذي ينبغي أن ينقد بكل دقة وحياد وموضوعية، أن هذه الصورة المستنكرة هي التي وقع عليها اختيار الأمة، فغلبت على مصادر ثقافتنا في التفسير وغيره، حتّى أصبحت النتيجة الوحيدة التي يخرج بها الدارس لهذا الواقع هي أنّه حتّى هذا النوع من الاختلاف في الفهم المستفاد من اللغة ـ كما يبدو في ظاهره ـ إنّما هو في الأصل خلاف مذهبي!

فقد كان في الأصل مواقف مسبقة إزاء المفاهيم، وهذه المواقف هي التي تحكمت في طبيعة الاستفادة من اللغة وحدودها.

فالذي يذهب إلى التشبيه يصر على إجراء معاني الألفاظ على ما يفهم من ظاهرها... والذي يذهب إلى التنزيه يوجب العدول من الحقيقة إلى المجاز في كلّ موضع لا يتفق والتنزيه الذي اعتقده، والذي يذهب إلى جواز المتعة يفسر قوله تعالى ﴿... فما استمتعتم به منهن...﴾([45]) على ما يفهم من ظاهر اللفظ واستعماله، والذي لا يجيز ذلك يصرفه عن هذا المعنى مستفيداً من اللغة... وهكذا.

وفي سائر هذه الاختلافات لم يكن المفهوم من اللغة هو الأصل الذي نشأت منه الاعتقادات، وإنّما العكس هو الذي كان.

من هنا أصبحت هذه الاختلافات محاور بارزة في الصراع المذهبي الذي دخل سائر كتب التفسير التي تجاوزت حدود الرواية، خلا التجربتين الفريدتين في تفسيري «التبيان» و«مجمع البيان» ومواقف متفرقة أضافها الرازي في تفسيره.

(455)

المسألة الثانية:

وهي مسألة مهمّة في رصيد التقريب، خلاصتها:

أن المتتبع ليجد توافقاً كبيراً في تفسير الآيات التي ذكر فيها «الوجه» و «العين» و«اليد» التي تنسب إلى الله تعالى إنّ النهج العقلي ظاهر في هذا الوفاق عند الفريقين، وخاصة حين يبدو أن موضع الخلاف الذي ظهر بين الفريقين في واحدة من آيات الصفات كان مصدره النقل، لا العقل.

ذلك الخلاف وقع عند قوله تعالى ﴿وجوه يؤمئذ ناضرة إلى بها ناظرة﴾([46]) فأهل السنة حين جوزوا الرؤية استندوا في ذلك إلى النقل، والشيعة حين منعوا من ذلك وذهبوا إلى خلاف الظاهر استندوا في مذهبهم إلى النقل أيضاً، أما البراهين العقلية فقد جاءت تابعةً لذلك.

ولم يخرج عن هذا الوفاق سوى أهل الظاهر والحشوية.

استغراب:

مما يثير الاستغراب: الدعوى التي أطلقها ابن تيمية وأحاطها بعبارات تفيد القطع والتأكيد اللذين يمتنع معهما الرد والجدل.

تلك هي دعواه في عدم ورود التأويل في شيء من آيات الصفات في تفاسير الصحابة والسلف، فقال ما نصه:

«إنّ جميع ما في القرآن من آيات الصفات، فليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها، وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث، ووقفت على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنّه تأول شيئاً من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف

(456)

مقتضاها المفهوم المعروف»

وأول ما يقوض هذه المقولة ويصدم قراءها ما نقله الطبري في تفسيره الذي هو اصح التفاسير في رأي ابن تيمية عن ابن عباس في تفسير آية الكرسي التي هي من أولى آيات الصفات وروداً في القرآن الكريم.

فقد نقل الطبري عن ابن عباس من طريقين انه قال: كرسيه علمه، ثم انتخب الطبري هذا المعنى وأيده بما رواه من استخدام الكرسي بمعنى العلم في الشعر العربي.

ويزيد في الصدمة أن من تتبع التفاسير لم يجد عن أحد من الصحابة أنّه فسر الوجه أو اليد أو العين عند ورودها في الآيات الكريمة منسوبة إلى الله تعالى وفق مقتضاها المفهوم المعروف الذي يذهب إليه ابن تيمية، بل ذهبوا إلى التأويل وعدلوا إلى المجاز في جميع هذه المواضع ففسروا «اليد» بالقوة و«الوجه» بالثواب، في ستة مواضع وهي:

قوله تعالى: ﴿... وما تنفقون إلاّ ابتغاء وجه الله...﴾([47]).

و: ﴿والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم...﴾([48]).

و: ﴿ذلك خير للذين يريدون وجه الله...﴾([49]).

و: ﴿... وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله...﴾([50]).

و: ﴿إنّما نطعمكم لوجه الله...﴾([51]).

و: ﴿إلاّ ابتغاء وجه ربه الأعلى﴾([52]).

وفي موضعين آخرين، هما:

قوله تعالى: ﴿... كلّ شيءٍ هالك إلاّ وجهه...﴾([53]).

(457)

و: ﴿ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ﴾([54]).

نقل المفسرون أقوال السلف فيهما. فكان لهم قولان لا ثالث لهما:

أولهما: أن المراد بالوجه في الموضعين هو الله تعالى، فقوله ﴿كلّ شيءٍ هالك إلاّ وجهه﴾. معناه: كلّ شيء هالك إلاّ هو. وقوله: ﴿ويبقى وجه ربك ﴾ معناه: ويبقى ربك.

والثاني: أن المراد في الآية الأولى فقط هو ك كلّ شيء هالك إلاّ ما أريد به وجهه أي ثوابه من الأعمال الصالحات([55]).

وأما الموضع الأخير الذي ورد فيه ذكر الوجه، وهو قوله تعالى: ﴿... فأينما تولوا فثم وجه الله ﴾([56]).؛ فقد اقر ابن تيمية بما نقل فيه عن السلف من أن المراد بالوجه هنا: الجهة، وقال بعد ذلك: هذه ليست من آيات الصفات([57])، وهكذا مع سائر الآيات.

والحقيقة أن هذا ليس الموضع الوحيد الذي أنكر فيه ابن تيمية ما يخالف عقيدته، فكثيراً ما أنكر أحاديث صحيحة وأقوال السلف ووقائع التاريخ من أجل الانتصار لمذهبه، وليس هذا موضع ذكرها، وإنّما الغرض التنبيه إليها، والى أن متابعته عليها من غير نظر ولا تحقيق تعد مجانبة للعلم ولحقائق الدين، ولن تكون في صالح التقريب البتة.

خلاصة:

خلاصة القول: أن أكثر مواضع الخلاف المنتشرة في التفاسير التي اعتمد فيها العقل والرأي الملتزم بالضوابط الأصولية قد نجمت عن خلافات مسبقة في الاعتقادات، لذا لا ينبغي النظر إليها وكأنها حقائق دينية ثابتة لا يتطرق إليها الخطأ.

وهذه حقيقة لسنا أول من يقول بها، بل إنّ سائر المفسرين قد أدركوها؛ لذا نجدهم

(458)

لا يعتبرون أقوال من سبقهم من أهل التفسير حجة، فربما خالفوهم وربما استشهدوا بأقوالهم واستأنسوا بها من غير أن تكون عندهم حجة قاطعة غير قابلة للنقاش.

التفاسير الحديثة:

ظهرت في العصر الحديث مدارس جديدة في التفسير سلكت طرقاً جديدة في الكشف عن معاني النصوص، وركزت على أبعاد جديدة نادراً ما نجد نتفاً منها في التفاسير القديمة.

وابرز هذه المدارس:

1 ـ مدرسة محمّد عبده ـ رشيد رضا: وقد ظهرت في تفسير المار لسيد رضا، وتفسير جزء عم لمحمد عبده وقد ركزت على جانب الهداية في القرآن وما عرضه القرآن من سنن نمو الأمم والمجتمعات وترقيها، أو انحدارها وتدهورها، وحملت حملاً عنيفاً على الإسرائيليات والانحرافات المبثوثة في أغلب التفاسير القديمة، وعلى إخضاع النص القرآني للمصطلحات التي ظهرت عن الفلاسفة والمتكلمين إثر الاختلاط الثقافي بين المسلمين وغيرهم، وعلى إخضاع النص القرآني للآراء المذهبية وآراء الفلاسفة والمتكلمين وإشارات الصوفية ونحو ذلك وحل محل هذا كله مواكبة التفكير العقلي الجديد الذي عاصره رواد هذه المدرسة.

2 ـ مدرسة سيد قطب: في تفسيره(في ظلال القرآن) الذي استفاد من البعد الأدبي في تصوير المعاني القرآنية تصويراً حياً ومتحركاً، وتفاعل مع الهدف القرآني الأكبر وهو الهداية، ليتحرك مع النصوص في قيادة التغيير الاجتماعي الثوري، وقيادة الإصلاح الديني الأمثل. فالقرآن كتاب يقود الحياة ويعنى بنظام المجتمع وليس هو مفردات جامدة محدودة تحيط بها كتب التفسير.

لقد كان الشهيد سيد قطب موفقاً في تحقيق نظريته في التفسير والتي جعلت من

(459)

تفسير القرآن «حياة وليست حكاية الحياة» كما عبر عنها هو.

كلّ ذلك بعيداً عن التعقيدات اللغوية والتأويلات البعيدة، بعيداً عن الخرافات والإسرائيليات، بعيداً عن البواطن والإشارات.

3 ـ مدرسة التفسير العملي للقرآن: وقد ظهرت في أكمل صورها في تفسير(الجواهر) للطنطاوي، وقوامها تفسير الآيات القرآنية على ضوء الكشوفات العلمية الحديثة.

مؤاخذات على المدراس الحديثة:

تعرضت المدارس الحديثة لكثير من الانتقادات والطعون من قبل كثير من العلماء والدارسين ومن تلك الطعون:

1 ـ أنها ظهرت بأنواع من التوفيق بين الإسلام والحضارة الغربية.

2 ـ أنها انساقت وراء الاتجاه العقلي الحديث، فغاب فيها البعد الروحي أو كاد يغيب.

3 ـ أن التفاسير العلمية خاصة أساءت حين جعلت النص القرآني مقيد اً بهذه الكشوفات العلمية، لأن هذه الكشوفات عرضة للتغير والنقض، فعندئذٍ سنكون ملزمين في توجيه النص توجيها آخر لمتابعة الكشف الجديد، وليس بعيداً أيضاً أن تصبح بعض هذه الكشوفات العلمية المعتمدة اليوم، تصبح غداً في عداد انحرافات وأخطار الذهن البشري.

4 ـ طعون أخرى منشؤها الاختلاف في المصادر النقلية.

دفاع عن المدارس الحديثة:

ينبغي أن يقال انسجاماً مع الموقف العلمي الدقيق: إنه حين تكون هذه الانتقادات دقيقة ووجهة وجديرة بالاعتبار، فلا يعني ذلك ضرورة إبطال هذه التفاسير الحديثة

(460)

بالكامل، وذلك لعدة أسباب:

1 ـ إذا نظرنا إلى هذه التفاسير على أنها محاولات جديدة في فهم معاني القرآن وأهدافه من غير أن تكون كبدائل حتمية عن التفاسير القديمة.

2 ـ أن القرآن الكريم لم يكن وقفاً على عصر واحد أو عصور محددة، بل هو كتاب الهداية إلى يوم الدين، ولقد نجحت التفاسير الحديثة في مخاطبة أبناء عصرها باللغة التي تناسب الأغلبية الساحقة من أبناء الوسط القارئ، إذ لا ينكر أن التفاسير القديمة تكاد تكون محصورة بين أصحاب التخصص والتحصيل العالي لما اشتملت عليه من بحوث معقدة في اللغة أو الفقه أو الكلام.

ومن المسائل الجديرة بكل عناية هي مخاطبة عموم الأمة لا خصوص طبقة معينة فيها، وهذه الميزة تعد من أهم مزايا التفاسير الحديثة.

3 ـ التفاسير الحديثة نقية من الإسرائيليات، والانحرافات التي ابتليت بها جل التفاسير القديمة.

4 ـ استطاعت التفاسير الحديثة إلى حد كبير أن تتخلص من العصبيات المذهبية، وإن كانت الهوية المذهبية لكل واحد من هذه التفاسير ظاهرة دائماً، غير أنها أقل حدة وأهدأ لهجةً وأضيق مساحةً مما هي عليه في تفاسير المتقدمين، وهذا وجه إيجابي ممتاز.

تفاسير حديثة أخرى:

هنا مجموعة من التفاسير الحديثة التي التزمت بعض مناهج المتقدمين، فجاءت فيها تلك المناهج بثوب جديد تحلى بمحاسن كثيرة منها:

1 ـ سهولة اللغة وملاءتها للعصر بعيداً عن التعقيدات النحوية والكلامية ونحوها.

2 ـ نقاؤها من الإسرائيليات والانحرافات والأوهام الباطنية

(461)

والتأويلات البعيدة.

3 ـ احتفاظها بمصادر القوة في التفسير، من اللغة، والمصادر النقلية الأكثر ثقة في الغالب، والرأي الملتزم بأصول الاجتهاد الصحيح.

4 ـ نجح بعض هذه التفاسير في التخلص من العصبيات المذهبية إلى حد بعيد، بل استطاع بعضها أن يخطو خطوات واسعة جداً في اتجاه التقريب بين المسلمين، وهذه فاتحة عهد جديد في التفسير نستطيع أن نقول إنّ رائدها هو الشيخ محمّد جواد مغنية في تفسيره الكاشف.

نقد مناهج التفسير وأثره في التقريب:

لم يكن النقد في التفسير موضوعاً حديث الولادة، فلقد عرف النقد عند المتقدمين من شيوخ التفسير، فكثيراً ما يتناول المفسر أقوال غيره من المفسرين بالدرس والتحليل، مفنداً أو مؤيد اً أو مقارناً.

والنقد بهذا المدى ما زال شائعاً في كتب التفسير الحديثة أيضاً، وربما لا يخلو واحد من التفاسير من وقفات نقدية موزعة على جوانب متعددة.

غير أن هذا الموضوع قد أصبح حديثاً موضوعاً مستقلاً قائماً بذاتة، وقد صنفت فيه كتب عديدة اتسم بعضها بالشمول، وتخصص بعضها بباب معين أو طبقة معينة، لكن الغالب على هذه الدراسات أنها اتخذت طابعاً مذهبياً بحتاً سلبها كثيراً من الموضوعية في الدراسة والدقة في التقييم، فهي في الأغلب الأعم لا تتناول تفاسير المسلمين على حد سواء لتزنها بميزان واحد، وتقوم بدراستها وفق قواعد ثابتة مشتركة.

إذن عادت الآراء المذهبية لتفرض نفسها على المنهج النقدي أيضاً، وهذه مشكلة كبيرة تحول دون وقوف القارئ المسلم وغير المسلم على الحقيقة المجردة من الأهواء والنزعات الطائفية.

(462)

إنها ظاهرة انتقلت إلى المنهج النقدي الذي كان ينبغي أن يكون علمياً نزيهاً، فجعلت منه فناً جديداً من فنون الطائفية، وطريقاً جديداً لظهورها!

ولعل أبرز عيوب هذه الدراسات النقدية، مايلي:

1 ـ اعتمد بعضها التصنيف المذهبي الطائفي للتفاسير، بدلاً من التصنيف على أساس الطبقات، أو على أساس المناهج المعتمدة في التفسير.

مثال ذلك: كتاب(التفسير والمفسرون) للشيخ محمّد حسين الذهبي.

2 ت حين اعتمد بعضها التصنيف على أساس المناهج المعتمدة في التفسير، عاد فحصر الدراسة في تفاسير طائفة واحدة من طوائف المسلمين وهي طائفة أهل السنة مثال ذلك:(كتاب تطوير تفسير القرآن) للدكتور محسن عبد الحميد. بملاحظة أن جل الدراسات النقدية في هذا الفن قام بها أساتذة من هذه الطائفة، والحق أني بحدود اطلاعي لم أقف على دراسة نقدية تتسمم بالشمول لأحد من الأساتذة الشيعة باستثناء دراسة الدكتور محمّد حسين علي الصغير في كتابه(المبادئ العامة لتفسير القرآن) وقد سلك فيه هذا الأسلوب، فدرس المناهد ولم ينظر إلى الطوائف.

وانه ينبغي لأجل الأمانة وإتمام الدقة أن يقال: إنّ الدكتور محمّد حسين علي الصغير قد كان موفقاً جداً في كتابه هذا في قهر النزعة الطائفية ونسفها إلى الوراء حين قد عرضاً متزناً موضوعياً دقيقاً تحكمت فيه النظرة العلمية وحدها فلم تدع للبعد الطائفي موضع قدم، فدرس التفاسير على اختلافها دراسة علمية لا ميل فيها لطائفة ولا تحامل على أخرى.

وإني لا رجو أن يعتني مجمع التقريب بين المذاهب الإسلاميّة بهذا الكتاب فهو تجربة ناجحة ورائدة على هذا الطريق.

3 ـ حين عنى بعضهم بدراسته التفاسير لدى طبقة واحدة من طبقات المفسرين،

(463)

نظر لها أيضاً بالمنظار المذهبي، فعنيت بالتفاسير التي تعود ـ في الحقيقة ـ إلى طائفة واحدة وتركت غيرها من التفاسير بالمرة.

مثال ذلك: كتاب(اتجاهات التفسير في العصر الراهن) للدكتور عبد المجيد عبد السلام المحتسب.

فلم يرو الدكتور المحتسب فيه من تفاسير العصر الراهن سوى:(محاسن التأويل) للقاسمي، و(التفسير الحديث) لمحمد عزة دروزة، و(التفسير القرآني للقرآن) لعبد الكريم الخطيب، و(المنار) الذي جمع مدرسة محمّد عبده ورشيد رضا، ثم تناول التفاسير العلمية في حين حفل العصر الحديث بتفاسير أخرى جديرة بالدراسة عاصرت تلك التي ذكرها، أو هي أحدث منها، ومن هذه التفاسير:(آلاء الرحمن) لمحمد جواد البلاغي و(الميزان) للسيد الطباطبائي، و(الكاشف) لمحمد جواد مغنية، و(البيان) للسيد الخوئي الذي وضع فيه معالم منهجه في التفسير بشكل نهائي.

4 ـ تسليط الضوء على واحد أو أكثر من تفاسير هذه الطائفة أو تلك ـ بغض النظر عن قيمته العلمية التحقيقية ـ وإطلاق الوصف عليه بأنه يمثل المنهج التفسيري عند هذه الطائفة.

إنه لا يوفق للصواب من ينتخب تفسير الثعلبي مثلاً ليحدد من خلاله منهج أهل السنة في التفسير ـ إنّ صح هذا التعبير ـ، ومن خلال موقفه من هذا التفسير يطلق أحكامه فيقول: إنّ أهل السنة لم يتخطوا التفسير بالمأثور، وإنهم أغرقوا في الإسرائيليات، وتذبذبوا بين الظاهر والباطن والتنزيه والتجسيم، ونحو هذا من الأحكام التي قد تصدق على فسير الثعلبي، لكنها لا تصدق على غيره.

ونفس القدر من الخطأ يرتكبه من يجعل المنهج الإمامي في التفسير ممثلاً بتفسير القمي مثلاً أو تفسير العياشي من دون أن يلتفت إلى أن هذه ين التفسيرين وتفاسير

(463)

أخرى مثلهما هي من التفاسير الروائية التي يجمع فيها أصحابها الغث والسمين بدون نظر ولا تحقيق.

وأشد من هذا يرتكبه من يعتمد تفسيراً أجمع أهل العلم والمحققون على أنّه مكذوب مردود لا اعتداد به ولا يجوز الرجوع إليه.

هذا ما فعله بعضهم حين يسلط الضوء على التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري ويطيل فيه الكلام دون أن يعرج على أقوال ا÷ل التحقيق من أئمة المذهب فيه وفي قيمته العلمية.

هذا النوع من الدرس ليس هو من صنف النقد العلمي، ولا التحقيق، بل قد لا يكون منشؤه إلاّ إثارة النزعات الطائفية.

فخلاصة قول علماء الإمامية في هذا التفسير أو جزها السيد الخوئي بقوله: التفسير المنسوب إلى الغمام العسكري ـ عليه السلام ـ إنّما هو برواية علي بن محمّد بن سيار وزميله يوسف بن محمّد بن زياد، وكلاهما مجهول الحال، هذا مع أن الناظر في هذا التفسير لا يشك في أنّه موضوع، وجل مقام عالم محقق أن يكتب مثل هذا التفسير، فكيف بالإمام ـ عليه السلام ـ ؟([58]).

وكذر الشيخ البلاغي في الفقرة الأخيرة من مقدمته على تفسيره(آلاء الرحمن) أنّه صنف رسالة خاصة في إثبات أن هذا التفسير موضوع مكذوب على الإمام.

هذه المواقف المبنية على التحقيق العلمي هي التي يجب أن تعتمد في الدراسة النقدية، لا غير.

في مثل هذا الموضوع وقف الدكتور محسن عبد الحميد موقفاً علمياً رصيناً حين تعرض لبعض الروايات الباطنية في بعض كتب الشيعة ففندها لكن لا من وجهة نظر طائفية يحمل فيها على شطر الأمة، بل كان علمياً في موقفه حين قدم آراء كبار علماء

(465)

الإمامية بتلك الأخبار الباطنية المعتمدة في التفسير وغيره، كالشيخ المفيد والمرتضى والطوسي والطبرسي ومن مضى على طريقتهم من أهل التحقيق.

وهكذا ينبغي أن يكون النقد العلمي.

الخاتمة:

بعد هذه الجولة نوجز وجهة نظرنا في المشروع التقريبي بمايلي:

1 ـ إنّ التقريب الحقيقي الأمثل هو التقريب الذي يتحقق عن طريق تصحيح التراث الإسلامي وتنقيته من الأخبار والمفاهيم الدخيلة التي تراكمت في عصور النزاع ولعبت الدور الأساس في تحويل النزاع السياسي إلى نزاع ديني طائفي.

2 ـ إنّ وجود الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة في مصادر المسلمين أمر مسلم به عند الجميع، وإن التدين بها أمر محرم عند الجميع أيضاً.

3 ـ لقد لعب الغلاة والنواصب دوراً بالغ الخطورة في تأصيل النزاع بين الفريقين، فقد صاغوا أهواء هم وعقائدهم الصالة في أحاديث وضعوها ونسبوها إلى النبي وأهل البيت والصحابة، فانتقلت هذه الأحاديث إلى مصادر المسلمين، فكان من الطبيعي إذن أن تترك آثارها على آفاق التفكير العقائدي وكثير من المفاهيم، فما زالت أحاديثهم مبثوثة في مصادرنا، ومازالت الناس تقرؤها: علماؤهم ومثقفوهم وطلبتهم وأوساطهم العامة، ويسمعها بسطاوهم وجهالهم، حتّى كانت سبباً رئيساً في هذا التشويش ولاضطراب الملموس في عقائد الناس وتصوراتهم لكثير من المفاهيم، وهذا واقع ملموس قديماً وحديثاً.

وللتفصيل في هذه الظاهرة نبتدئ بمقولة الشيخ عبد الحسين مغنية: «إ، الداعين من السنة إلى التهجم على الشيعة يحتجون بأقوال الغلاة المرفوضين أصلاً من الشيعة، وإن

(466)

الداعين من الشيعة إلى التهجم على السنة يحتجون أيضاً بأقوال الغلاة من السنة ـ يريد بهم النواصب ـ لهذا يبدو أن الغلاة من الطرفين يشكلون فريقاً واحداً يصح فيه تسمية «الفريق الثالث» مهمته ضرب الإسلام وتزيق المسلمين»([59]).

والحق أن هذه الصورة تمثل النصف فقط من الصورة الكاملة للأثر الذي تركه هذا الفريق الثالث وأما نصفها الثاني: فيتمثل بتأثر كلّ فريق بأحاديث غلاته المنتسبين إليه في تصوره للفريق الآخر.

فالشيعي قد ينظر إلى بعض المفاهيم التي تتصل بأهل السنة من خلال مجمل التراث الشيعي الذي امتزجت فيه أحاديث الغلاة وعقائدهم «ليس أدل على ذلك من سبب بعض الصحابة الذي يجري على ألسنة العوام وليس له مصدر قطعاً إلاّ أحاديث الغلاة([60]). والسني الذي امتزجت فيه أحاديث النواصب وعقائدهم، وليس أدل على ذلك من جهل عامتهم بمنزلة أهل البيت وتفضيل آخرين عليهم ممن هم أدنى منهم كثيراً، علماً وديناً وفضلا وكرامة، حتّى أن منهم من يضيق ذرعاً لذكر أهل البيت ـ عليهم السلام ـ مع كثرة ما يقرؤه من آيات كريمة وأحاديث صحيحة في منزلتهم الخاصة عند الله ورسوله، وهكذا اصبح الصحابة وأهل البيت وكأنهما محوران متضادان لعقيدتين لا يمكن أن تلتقيا في يوم ما.

وباجتماع هذين الشطرين تكتمل الصورة الحقيقية لأثر الغلاة والنواصب في عقائد المسلمين ورؤاهم.

(467)

4 ـ إنّ حرية الفكر حق للجميع، والاجتهاد حق لمن تأهل له، لكن هل يصح أن يتمتع دعاة الفتنة بهذا الحق، فلا يقف أحد بوجه دعوتهم أو يستنكر عليهم ذلك بما يمتلك من أساليب الاستنكار؟

وإذا كانت مواجهتهم والاستنكار عليهم مطلوبة، فهل من سبيل إلى تنظيم هذه المواجهة؟

فلعل تنظيم هذه المواجهة ـ إنّ صحت ـ سيكون لمسة من لمسات التقريب واثراً من آثاره.

إنّ الخطر الكبير الذي يواجه المسلمين اليوم من الداخل هو هذه الدعوات الشيطانية إلى تأجيج النزاع الطائفي خدمة لأعداء الإسلام الّذين تكالبوا على الإسلام والمسلمين وبالخصوص في السنوات الأخيرة وبعد انهيار التوازن الدولي وبدلاً من أن يتوجه المسلمون نحو تنظيم قواهم وتوحيد صفوفهم أمام هذا العدوان المتواصل ـ وهم قادرون على ذلك لو أرادوا ـ ترى هذه الدعوات التمزيقية تتصاعد وتشتد مع تأزم أوضاع المسلمين وازدياد حاجتهم إلى التآلف.

ولما كانت الصحوة الإسلاميّة وجهاً لامعاً من وجوه الأمل، وعلامةً كبرى على حياة المسلمين وقوة الإسلام، ولا سيما بعد تحسين قوى الصحوة الإسلاميّة في مختلف البلدان روابطها مع الثورة الإسلاميّة في إيران حين رأت فيها نصاراً ومعيناً ومؤرازراً، ولما كانت إيران بلداً شيعياً، كان لزاماً على دعاة التمزيق أن يضربوا على هذا الوتر، فبالغوا كثيراً في هذه الأعوام الأخيرة بالتهجم على الشيعة والتشيع.

والذي نرجو أن يكون واضحاً هو أن هدفهم الأول ليس الشيعة والتشيع، وإنّما هدفهم تلك الصحوة الإسلاميّة الفتية أولاً؛ ولربما رأوا أنهم بهذا قد أصابوا طائرين بحجر ! والذي يؤكد ما ذهبنا إليه أنهم حين اعتمدوا تراث ابن تيمية مادة لحملتهم هذه

(468)

ومنهجاً لها ـ هذا التراث الذي يكاد يخلو من أية كلمة تنفع التقريب ـ حين فعلوا ذلك نراهم قد حصروا هجومهم على الشيعة، في حين أن ابن تيمية لم يدع واحدة من فرق المسلمين إلاّ وبالغ في الطعن عليها ومهاجمتها، ولم يكن كلامه في الشيعة بأكثر من كلامه في الأشعرية من أهل السنة على سبيل المثال؛ فلماذا يفرد الشيعة وحدهم في هذا الهجوم لو لم تكن الصحوة الإسلاميّة والكيان الإسلامي وعزة المسلمين جميعاً هي الهدف الأول لهذه الحملة.

لكنها على أية حال حملة يقودها كم ينتسب إلى طبقة علماء الدين!

فلا بد أن يكون لدعاة التقريب ـ وعلى رأسهم علماء الدين والحركات الإسلاميّة المجاهدة ودور التقريب والمثقفون الإسلاميون ـ الدور الكافي في التصدي لأولئك وكشف حقائق أغراضهم الشيطانية وإحباط مخططاتهم.

5 ـ وأخيراً...

فإن المشروع التقريبي الأمثل الذي يتم عبر ثورة التصحيح لابد أن يمرّ أوّلاً بمرحلة التمهيد، ليجتاز فيها مجموعة من المقدمات العملية التي تضمن له إمكان الانتقال من حدود الأفكار والتخطيط إلى حيز التنفيذ والتطبيق.

ومن أهم هذه المقدمات التي تشكل مرحلة التمهيد:

أ ـ تحقيق المستوى الكافي من الوعي بمسؤولياتنا تجاه الإسلام والأمة المسلمة.

ب ـ أحياء مبدأ وحدة المصير الذي يربط جميع المسلمين في إنحاء الدنيا مهما اختلفت مواقعهم على الواقع والخارطة السياسية الآن.

ج ـ إزاحة الحواجز النفسية المتراكمة فينا تجاه بعضنا، والتي لم تركز على دليل من علم ولا حجة من عقل ولا أساس من دين.

د ـ توجيه النقد العلمي الهادئ لأسباب النزاع الطائفي ومصادره.

(469)

هـ التركيز على المبادئ المشتركة بين المسلمين، وأوجه التقارب والجهود التقريبية الكثيرة عبر التاريخ.

و ـ التصدي للدعوات التخريبية المضادة وتوعية الجماهير ضدها، توعية كفيلة بإحباط آمالها.

ز ـ مناصرة وتأييد الصحوة الإسلاميّة بكل الأساليب والوسائل الممكنة لحمايتها والحؤول دون سقوطها، لأن سقوطها يعني سقوط هذه الأمة من جديد في الهوة السحيقة التي يعدها الغربيون لها اليوم، والكف عن توجيه اللوم والتقريع لبعض مواقع هذه الصحوة بسبب خطأ يرتكبونه عبر طريقهم الشاق والذي لا يدرك تعقيداته إلاّ من يعمل فيه، فإن هذه النغمات التي تبدو إصلاحية تزيد في الخناق المسلط عليهم، كما أنها سوف ترضي أعداءنا عنا.

﴿ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتّى تتبع ملتهم قل إنّ هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير﴾([61]).

ح ـ تتم معالجة الفقرات المتقدمة عن طريق: الخطب المباشرة، وأشرطة التسجيل، وصفحات الصحف والمجلات الإسلاميّة والثقافية الأخرى وإن لم تكن ذات طابع إسلامي، والنشرات الصغيرة الكثيرة الانتشار، والكراسات الصغيرة، والكتب، والاتصالات المباشرة وغير المباشرة بين المهتمين بهذا المجال.

وينبغي لمجمع التقريب أن يتبنى دوراً فاعلاً في خلق ودعم وإدامة هذه الخطوات، ونستطيع أن نقول واثقين بأن تلك المقدمات لو تحققت لوحدها لتحقق واقع جديد، ولأحسسنا بروح جديدة تجري بين جوانحنا، ولرأينا مستوى من التقارب وحسن الظن

(470)

بين أبناء هذه الأمة يرفع من مكانتها بين الأمم، ويفوت على أعدائها كثيراً من فرص النفوذ المهيأة لهم الآن في ظل هذا الواقع المعاش اليوم.

﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا...﴾([62]).

­﴿...ولينصرن الله من ينصره...﴾([63]).

﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا..﴾([64]).

6 ـ هنا نقطة مهمة غابت عن أذهان كثير من الدارسين، وهي أنّه لم يلتزم مفسرو أهل السنة منهجاً واحداً بعينه فلا يتخطاه أحدهم ليقال هذا هو منهج أهل السنة في التفسير، ولم يكن مفسرو الشيعة كذلك.

بل الصحيح أن هناك مدارس ومناهج في التفسير توزع عليها المفسرون بغض النظر عن انتماءاتهم المذهبية وعلى أساس هذا الفهم يجب أن تدرس مناهج التفسير.

فكما كان في أهل السنة مفسرون وقفوا عند المأثور، كذلك كان في الشيعة، وكما ظهر الاتجاه الباطني عند بعض مفسري الشيعة فقد ظهر قبله عند بعض مفسري أهل السنة.

وكما ذهب بعض مفسري الشيعة إلى التفسير بالقرآن أو بالرأي الملتزم، فقد ذهب بعض مفسري أهل السنة إلى هذا أيضاً.

فهناك مدارس في التفسير، لا طوائف.

7 ـ فيما فرضنا أن التراث المعتزلي يوجد من خلال تفسير الكشاف للزمخشري وتفسير القاضي عبد الجبار، يلاحظ أ، التراث الزيدي قد أهمل بالكامل حتّى في أوسع الدراسات النقدية، وهذا بلا شك تفريط بقدر لا يستهان به من التراث الإسلامي.

نرجو أن تكون دعوتنا هذه قد أخذت موقعها، والحمد لله رب العالمين.

([1]) ـ المؤمنون: 91.

([2]) ـ المؤمنون: 91، 92.

([3]) ـ الأنبياء: 21، 22.

([4]) ـ حجة الله البالغة: 1.

([5]) ـ الموفقيات، للزبير بن بكار: 222.

([6]) ـ والي مكة للوليد بن عبد الملك ثم لسليمان بن عبد الملك، وولي العراق لهشام بن عبد الملك.

([7]) ـ الأغاني 22: 21 أخبار خالد بن عبدالله القسري.

([8]) ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 64.

([9]) ـ المصنف 5: 429، 430.

([10]) ـ المصنف 5: 343، 9722.

([11]) ـ تاريخ الطبري 4: 283، 284.

([12]) ـ الكامل في التاريخ 1: 3.

([13]) ـ تاريخ ابن خلدون 2 ك 622.

([14]) ـ تاريخ خلدون 2: 650.

([15]) ـ صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب 34: 3572.

([16]) ـ صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب 34:3573.

([17]) ـ صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب 38: 3581 – 3583.

([18]) ـ سنن الترمذي 5: 3801، 3802، سنن ابن ماجه 1: 156.

([19]) ـ صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب 20.

([20]) ـ صحيح مسلم 2: 131 كتاب الإيمان، سنن الترمذي 5: 3736، سنن ابن ماجه 1: 42/114.

([21]) ـ مسند أحمد 1: 119، 152 و 4: 281، 370، 372، سنن ابن ماجه 1: 43 /116.

([22]) ـ مسند أحمد 2: 442، سنن الترمذي 5: 699 / 3870 سنن ابن ماجه 1: 52 /145.

([23]) ـ رجال النجاشي: 260 ـ 266.

([24]) ـ الرجال، لابن داود: 259 ـ 260، وانظر أيضاً: معجم رجال الحديث 11: 246، 247/7876.

([25]) ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 44 ـ 46 في كتاب الأحداث للمدائني.

([26]) ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 44.

([27]) ـ المصدر نفسه 11: 46 عن تاريخ نفطويه.

([28]) ـ الإسرائيليات في التفسير والحديث: 27.

([29]) ـ رجال الكشي 2: 401، ترجمه المغيرة بن سعيد.

([30]) ـ رجال الكشي 4: 409.

([31]) ـ مقدمة في أصول التفسير: 51.

([32]) ـ مقدمة في أصول التفسير: 51.

([33]) ـ مقدمة في أصول التفسير: 51.

([34]) ـ الإسرائيليات في التفسير والحديث: 125.

([35]) ـ المائدة: 55.

([36]) ـ منهاج السنة 4: 80.

([37]) ـ البقرة: 26.

([38]) ـ تفسير القمي: 1.

([39]) ـ الرحمن: 19، 20، 22.

([40]) ـ التفسير الكاشف 7: 208، 209.

([41]) ـ تفسير القرطبي 1: 27.

([42]) ـ البرهان في علوم القرآن للزركشي 2: 165.

([43]) ـ أصول الفقه للمظفر 3: 125.

([44]) ـ الشيخ المفيد: القرآن الكريم في مدرسة الشيخ المفيد لصاحب هذا البحث، الشيخ المفيد مفسراً لصاحب هذا البحث، مجلة رسالة القرآن.

([45]) ـ النساء: 24.

([46]) ـ القيامة: 22، 23.

([47]) ـ البقرة: 272.

([48]) ـ الرعد: 22.

([49]) ـ الروم: 38.

([50]) ـ الروم: 39.

([51]) ـ الدهر: 9.

([52]) ـ الليل: 20.

([53]) ـ القصص: 88.

([54]) ـ الرحمن: 27.

([55]) ـ راجع هذه الآيات في تفسير الطبري، والبغوي، والدر المنثور، والقرطبي وغيرها.

([56]) ـ البقرة: 115.

([57]) ـ العقود الدرية في مناقب ابن تيمية، لا بن عبدالهادي: 247 ـ 248.

([58]) ـ معجم رجال الحديث 12: 147.

([59]) ـ مقدمة كتاب الجوامع والفوارق بين السنة والشيعة: 9.

([60]) ـ انظر: أصل الشيعة وأصولها للإمام محمّد حسين آل كاشف الغطاء: 84 ـ 94، بحث حول الولاية، للشهيد الصدر: 48 في 11: 8. المجموعة الكاملة الشيعة في الميزان، محمّد جواد مغنية: هوية التشيع، الدكتور احمد الوائلي 38 ـ 39.

([61]) ـ البقرة: 120.

([62]) ـ العنكبوت: 69.

([63]) ـ الحج: 40.

([64]) ـ آل عمران: 103.